الاجابه الثانيه:
في قوله تعالى(غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) فوائد:
الفائدة الأولى: المشهور ان المغضوب عليهم هم اليهود, لقوله تعالى (من لعنه الله وغضب عليه) المائدة:60 . والضالين: هم النصارى لقوله تعالى (قد ضلّوا من قبل واضلّوا كثيرا وضلّوا عن سواء السّبيل) المائدة: 77. وقيل هذا ضعيف, لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى, فكان الاحتراز عن دينهم أولى...
ويحتمل أن يقال: المغضوب عليهم هم الكفار, والضالون هم المنافقون, وذلك لأنه تعالى بدأ بذكر المؤمنين والثناء عليهم في خمس آيات من أول البقرة, ثم أتبعه بذكر الكفار وهو قوله (انّ الّذين كفروا) البقرة: 6. ثم اتبعه بذكر المنافقين وهو قوله (ومن النّاس من يقول آمنّا) البقرة: 8. فكذا ههنا بدأ بذكر المؤمنين وهو قوله (أنعمت عليهم) ثم اتبعه بذكر الكفار وهو قوله (غير المغضوب عليهم) ثم اتبعه بذكر المنافقين وهو قوله (ولا الضّالّين).
الفائدة الثانية: لما حكم الله عليهم بكونهم ضالين امتنع كونهم مؤمنين, وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا, وذلك محال, والمفضي إلى المحال محال.
الفائدة الثالثة: قوله (غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) يدل على أن أحدا من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم, لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق, لقوله تعالى (فماذا بعد الحقّ الّا الضّلال) يونس: 32. ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم, ولا الاهتداء بطريقهم, ولكانوا خارجين عن قوله (أنعمت عليهم) ولما كان ذلك باطلا علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام.
الفائدة الرابعة: الغضب: وغايته إرادة إيصال الضرر إلى المغضوب عليهم...
الفائدة الخامسة: قالت المعتزلة: غضب الله عليهم يدل على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم وإلا لكان الغضب عليهم ظلما من الله تعالى, وقال أصحابنا: لما ذكر غضب الله عليهم واتبعه بذكر كونهم ضالين دل على ذلك على أن غضب الله عليهم علة لكونهم ضالين, وحينئذ تكون صفة الله مؤثرة في صفة العبد, أما لو قلنا أن كونهم ضالين يوجب غضب الله عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى, وذلك محال.
الفائدة السادسة: أول السور مشتمل على الحمد لله والثناء عليه والمديح له, وآخرها مشتمل على الذم للمعرضين عن الإيمان به والإقرار بطاعته, وذلك يدل على أن مطلع الخيرات وعنوان السعادات هو الإقبال على الله تعالى, ومطلع الآفات ورأس المخافات هو الإعراض عن الله تعالى والبعد عن طاعته والاجتناب عن خدمته.
الفائدة السابعة: دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق: أهل الطاعة, واليهم الإشارة بقوله: (أنعمت عليهم), وأهل المعصية واليهم الإشارة بقوله (غير المغضوب عليهم), وأهل الجهل في دين الله والكفر واليهم الإشارة بقوله (ولا الضّالّين).
الفائدة الثامنة: في الآية سؤال, وهو أن غضب الله إنما تولد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه, فهذا العلم إما أن يقال انه قديم, أو محدث, فان كان هذا العلم قديما فلم خلقه ولما أخرجه من العدم إلى الوجود مع علمه بأنه لا يستفيد ممن دخوله في الوجود الا العذاب الدائم, ولأن من كان غضبان على الشيء كيف يعقل إقدامه على إيجاده وعلى تكوينه ؟ وأما إن كان ذلك العلم حادثا كان الباري تعالى محلا للحوادث, ولأنه يلزم أن يفتقر أحداث ذلك العلم إلى سبق علم آخر, ويتسلسل, وهو محال, وجوابه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
الفائدة التاسعة: في الآية سؤال آخر, وهو أن من انعم الله عليه امتنع أن يكون مغضوبا عليه وان يكون من الضالين, فلما ذكر قوله (أنعمت عليهم) فما الفائدة في أن ذكر عقيبة (غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين) ؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف, كما قال عليه السلام: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا, فقوله (صراط الذّين أنعمت عليهم) يوجب الرجاء الكامل, وحينئذ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه, وينتهي إلى حد الكمال.
الفائدة العاشرة: في الآية سؤال آخر, ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة وهم الذين أنعم الله عليهم والمردودين فريقين: المغضوب عليهم, والضالين ؟ والجواب أن الذين كملت نعم الله عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به, فهؤلاء هم المرادون بقوله (أنعمت عليهم), فان اختل قيد العمل فهم الفسقة وهم (المغضوب عليهم) كما قال الله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه) النساء: 93. وان اختل قيد العلم فهم الضالون لقوله تعالى (فماذا بعد الحقّ الّا الضّلال) يونس: 32.
الاجابه الثالثه: ابن كثير
وقوله تعالى: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) [قرأ الجمهور: "غير" بالجر على النعت، قال الزمخشري: وقرئ بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير، وذو الحال الضمير في ( عليهم ) والعامل { أنعمت } والمعنى]
اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله، وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، [وهم]الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بلا ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقتا اليهود والنصارى.
وقد زعم بعض النحاة أن ( غير ) هاهنا استثنائية، فيكون على هذا منقطعًا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم، وما أوردناه أولى، لقول الشاعر
كـأنَّك مـن جِمـال بني أقَيش
يُقَـعْقَعُ عند رِجْلَـيْه بشَـنِّ
أي: كأنك جمل من جمال بني أقيش، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة ، وهكذا، ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) أي: غير صراط المغضوب عليهم.
اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، وقد دل عليه سياق الكلام، وهو قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ثم قال تعالى: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) ومنهم من زعم أن(لا) في قوله: ( ولا الضالين ) زائدة، وأن تقدير الكلام عنده: غير المغضوب عليهم والضالين، واستشهد ببيت العجاج:
في بئْـر لا حُورٍ سـرى ومـا شَعَر
أي في بئر حور. والصحيح ما قدمناه. ولهذا روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أنه كان يقرأ: " غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَغَيْر الضَّالّين". وهذا إسناد صحيح، [وكذا حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك]وهو محمول على أنه صدر منه على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء بها لتأكيد النفي، [لئلا يتوهم أنه معطوف على ( الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ]، وللفرق بين الطريقتين، لتجتنب كل منهما؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم؛ ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لأن من علم وترك استحق الغضب، بخلاف من لم يعلم. والنصارى لما كانوا قاصدين شيئًا لكنهم لا يهتدون إلى طريقه، لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الرسول الحق، ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب [كما قال فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ] [المائدة: 60] وأخص أوصاف النصارى الضلال [كما قال: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ]</B>[المائدة: 77]، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار. [وذلك واضح بين].قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، قال: سمعت سِماك بن حرب، يقول: سمعت عبَّاد بن حُبَيش، يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا عمتي وناسًا، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صُفُّوا له، فقالت: يا رسول الله، ناء الوافد وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمُنّ علي مَنّ الله عليك، قال: "من وافدك؟" قالت: عدي بن حاتم، قال: "الذي فر من الله ورسوله!" قالت: فمنَّ علي، فلما رجع، ورجل إلى جنبه، ترى أنه علي، قال: سليه حُمْلانا، فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني فقالت: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبي، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال:"يا عدي، ما أفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ قال: ما أفرك أن يقال: الله أكبر، فهل شيء أكبر من الله، عز وجل؟". قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: "المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى".وذكر الحديث، ورواه الترمذي، من حديث سماك بن حرب، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. قلت: وقد رواه حماد بن سلمة، عن سماك، عن مُرِّيّ بن قَطَريّ، عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) قال: "هم اليهود" ( ولا الضالين ) قال: "النصارى هم الضالون". وهكذا رواه سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم به.وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن بُدَيْل العُقَيْلي، أخبرني عبد الله بن شَقِيق، أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرَى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ قال: " المغضوب عليهم -وأشار إلى اليهود-والضالون هم النصارى".وقد رواه الجُرَيري وعروة، وخالد الحَذَّاء، عن عبد الله بن شقيق، فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمر، فالله أعلم.
وقد روى ابن مَرْدُويه، من حديث إبراهيم بن طَهْمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال: "اليهود"، [قال]قلت: الضالين، قال: "النصارى".وقال السُّدِّي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) هم اليهود، ( ولا الضالين ) هم النصارى.
وقال الضحاك، وابن جُرَيْج، عن ابن عباس: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) اليهود، ( ولا الضالين )[هم] النصارى.
وكذلك قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد، وقال ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافًا.
وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون، الحديث المتقدم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة : بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90]، وقال في المائدة قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 60]، وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].
وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال: أنا من غضب الله أفر. وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سَخَط الله فقال: لا أستطيعه. فاستمر على فطرته، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل، حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن بما وجد من الوحي، رضي الله عنه.
(مسألة) </B>: والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما؛ وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم. وأما حديث: "أنا أفصح من نطق بالضاد" فلا أصل له والله أعلم.
فصل
اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات، على حمد الله وتمجيده والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنـزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يُفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة، ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون. وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية [المجادلة: 14]،وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به، وإن كان هو الذي أضلهم بقدَره، كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17]. وقال: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقوله الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغي، وقد ورد في الحديث الصحيح: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". يعني في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ [آل عمران: 7]، فليس -بحمد الله-لمبتدع في القرآن حجة صحيحة؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقًا بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض ولا اختلاف؛ لأنه من عند الله، تنـزيل من حكيم حميد .
فصل
يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين [مثل: يس]، ويقال: أمين. بالقصر أيضًا [مثل: يمين]، ومعناه: اللهم استجب، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، عن وائل بن حجر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) فقال: "آمين"، مد بها صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وروي عن علي، وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) قال: "آمين" حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود، وابن ماجه، وزاد: يرتج بها المسجد، والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن.
وعن بلال أنه قال: يا رسول الله، لا تسبقني بآمين. رواه أبو داود.ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل: آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة: 2].
قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفردًا أو إمامًا أو مأمومًا، وفي جميع الأحوال، لما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه" ولمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه" .[قيل: بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل: في الإجابة، وقيل: في صفة الإخلاص].وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعا: "إذا قال، يعني الإمام: ( ولا الضالين ) ، فقولوا: آمين. يجبكم الله".وقال جُوَيبر، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قلت: يا رسول الله، ما معنى آمين؟ قال: "رب افعل".وقال الجوهري: معنى آمين: كذلك فليكن، وقال الترمذي: معناه: لا تخيب رجاءنا، وقال الأكثرون: معناه: اللهم استجب لنا، وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن كيسان: أن آمين اسم من أسماء الله تعالى وروي عن ابن عباس مرفوعًا ولا يصح، قاله أبو بكر بن العربي المالكي.وقال أصحاب مالك: لا يؤمن الإمام ويؤمن المأموم، لما رواه مالك عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا قال، يعني الإمام: ( ولا الضالين ) ، فقولوا: آمين". الحديث. واستأنسوا -أيضا-بحديث أبي موسى: "وإذا قرأ: ( ولا الضالين ) ، فقولوا: "آمين".
وقد قدمنا في المتفق عليه: "إذا أمن الإمام فأمنوا" وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية، وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدًا، وإن أمَّن الإمام جهرًا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن مالك؛ لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة. والقديم أنه يجهر به، وهو مذهب أحمد بن حنبل، والرواية الأخرى عن مالك، لما تقدم: "حتى يرتج المسجد".
ولنا قول آخر ثالث: أنه إن كان المسجد صغيرًا لم يجهر المأموم، لأنهم يسمعون قراءة الإمام، وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين مَنْ في أرجاء المسجد، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود، فقال: "إنهم لن يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين"، ورواه ابن ماجه، ولفظه: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين"، وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: آمين، فأكثروا من قول: "آمين" وفي إسناده طلحة بن عمرو، وهو ضعيف.
وروى ابن مَرْدُويه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آمين: خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين".وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فاختموا الدعاء بآمين، فإن الله يستجيبه لكم" .
قلت: ومن هنا نـزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس: 88، 89]، فذكر الدعاء عن موسى وحده، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمَّن، فنـزل منـزلة من دعا، لقوله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس: 89]، فدلّ ذلك على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله؛ فلهذا قال من قال: إن المأموم لا يقرأ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنـزلة قراءتها؛ ولهذا جاء في الحديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"، وكان بلال يقول: لا تسبقني بآمين. فدل هذا المنـزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية، والله أعلم.
ولهذا قال ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن كعب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام: ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) فقال: آمين، فتوافق !! آمين أهل الأرض آمين أهل السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه، ومثل من لا يقول: آمين، كمثل رجل غزا مع قوم، فاقترعوا، فخرجت سهامهم، ولم يخرج سهمه، فقال: لِمَ لَمْ يخرج سهمي؟ فقيل: إنك لم تقل: آمين" .
خالص ودى
شيماء