النشر الرقمى في مواجهة عالم الأوراق المطبوعة
نشهد حاليا بداية مواجهة بين الصحافة الرقمية والصحافة التقليدية
لهؤلاء الذين يخشون أن يكون انحسار المطبوعات الورقية نذيرًا بأفول الكلمة المكتوبة عامة، ثمة جيل جديد من التقنيات ربما يحمل لهم أخبارًا سعيدة.
للكتّاب ولعٌ مفهوم بالأسطر المنسابة على الورق. وهو ولع يشوبه القلق الناتج عن تراجع مستمر للكتب والمطبوعات الورقية عامة. ويلخص الصحافيّ المرموق محمد حسنين هيكل هذا الشعور في تصدير سلسلته "عمر من الكتب": "الكلمة المكتوبة على الورق باقية؛ والكلمة المسموعة على الإذاعة والتليفزيون عابرة؛ والكلمة المكهربة على الكمبيوتر فوارة، وهي مثل كل فوران متلاشية".
وليس السبب الوحيد للإقبال المتعاظم على شبكة الإنترنت -خاصة لقراءة الصحف أو الكتب- أن الحواسيب صارت وجهًا لنمط الحياة اليومي. صحيح أنه صار للحواسيب حضور راسخ في العمل وفي المنزل وما بينهما، ولكن التقاء الصحف والكتب بالحواسيب والإنترنت أجلّ من أن ينظر إليه كوجه آخر لـ"موضة" إنشاء نسخ "إنترنتية" لمحال البقالة ونوادي كرة القدم ومصنّعي الطلاء، وما إلى ذلك. إنه التقاء ابتكاري، ربما يجعلنا نود لو أن الصحف والكتب الورقية اختفت منذ أمد بعيد.
من أجل الأشجار
لنعرف أهمية هذا اللقاء بين الكلمة المكتوبة والحواسيب، لا بد من إلقاء نظرة تاريخية سريعة على تطور طريقة تسجيل البشر لأفكارهم وتاريخهم. في البدء كان الحجر، حفرًا ونحتًا، رسمًا وكتابة. ولوقت طويل من وجود البشر على الأرض ظل الحجر أكثر وسائل التسجيل كفاءة، إلى أن اخترع الصينيون الورق، قبل نحو 105 أعوام من مولد المسيح عليه السلام، وذلك حسب دائرة المعارف البريطانية.
يوم التاسع من أغسطس بالعام 1995 كان إذن بداية النهاية لـ"حقبة الورق" من تاريخ البشر. ولم يكن ذلك لأن الورق قد نضب -تمامًا كما لم تكن الأحجار نضبت حين اختُرع الورق- ولكن لأن وسيطا جديدا بزغ، يفوق سلفه بدرجة فارقة.
ليس حبرًا على ورق
أبعاد جديدة للنشر الإلكتروني
إذًا أدركت صحف مثل نيويورك تايمز والإكونومست أنه ليس كافيا إعادة إنتاج نسخة مطابقة للورقية على الإنترنت. فدأبت في الاستفادة من كل ما يوفره الوسط الجديد. من ذلك مثلا أن الانخفاض الشديد لكلفة نشر المزيد من النصوص على الإنترنت (مقارنة بالطباعة على الورق) شجع الصحف على نشر مواد أطول، مثل فصول كاملة من كتب، أو أبحاث ودراسات، تعضد وتدعم المقالات المنشورة.
واستفادة أخرى من إمكانات الإنترنت، شجعت الصحف صحافييها على إنتاج
نصوص مرنة وأخرى جامدة
ما الفارق الرئيس إذن بين الكلمة المطبوعة على الورق والكلمة المخزنة في صورة رقمية على حاسوبك الشخصي (أو هاتفك النقال مثلا)؟ يجيب على هذا السؤال نيكولاس نجروبونتي، العالم الذي شارك في تأسيس مختبر الإعلام التابع لجامعة (MIT)، في كتابه "الحياة على الطريقة الرقمية" (Being Digital) الصادر عام 1995. يقول نجروبونتي: إن المعلومات تظل مرنة وقابلة للتشكل إلى صور عدة طالما ظلت في صورتها الرقمية.
فلو أن لديك مقالا، تستطيع أن تحوله إلى ملف صوتي (عبر برنامج القراءة الآلية)، أو إلى خريطة تبين العلاقات بين الكلمات ومرات ورودها من خلال برامج المعالجة الإحصائية والتنقيب في النصوص، أو إلى نص مطبوع على الورق، وهنا يكون النص قد تحول لصورته الجامدة.
وثمة مثال آخر. من الشائع الآن استخدام برامج الجداول المحاسبية (مثل "إكسل" من مايكروسوفت) لتحويل عدد كبير من المدخلات العددية إلى رسوم بيانية. وهنا أيضا تمثل الأرقام المادة الخام التي تقبل التشكل إلى أشكال توضيحية. ويعرف المتعاملون مع "إكسل" فائدته في استكشاف علاقات جديدة وغير متوقعة بين المدخلات العددية.
حتى اللحظة، لا تزال إمكانات التكنولوجيا المتاحة عاجزة في الاستفادة من النصوص المرنة عن إثارة دهشتنا بأنواع غير متوقعة من المنتجات المعرفية (كالنصوص المقروءة آليا). ولكن يبدو أن هذا بعينه الطريق الذي تنحوه صحف المستقبل، أي باتجاه تسخير نصوصها المرنة في إتاحة مواد معرفية جديدة، ربما بحسب رغبة كل مستخدم على حدة. أكان ممكنا تخيل هذه الآفاق عبر النصوص الجامدة إبان حقبة الورق؟