سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :

رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و أكواب موضوعة ) أي : أوانٍ ممتلئة من أنواع الأشربة اللذيذة , قد وضعت بين أيديهم , و أعدت لهم , و صارت تحت طلبهم و اختيارهم , يطوف بها عليهم الولدان المخلدون . و الكوب هو إناء لا أُذن له .

( و نمارق مصفوفة ) وسائد من الحرير و الإستبرق و غيرهما مما لا يعلمه إلا الله , قدصُفت للجلوس و الإتكاء عليها , و قد أريحوا عن أن يضعوها , و يَصُفُّوها بأنفسهم .

( و زرابي مبثوثة ) أي : البسط الحسان , مملوءةبها مجالسهم , مفروشة هنا و هناك لمن أراد الجلوس عليها .

يقول الله تعالى حثًّى للذين لا يصدقون الرسول صلى الله عليه و سلم , و لغيرهم من الناس , أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على توحيده :

( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) فإنها خَلق عجيب , و تركيبها غريب , فإنها في غايةالقوة و الشدة , و هي مع ذلك تلين للحمل الثقيل , و تنقاد للقائد الضعيف , و تصبرعلى الجوع و العطش , و تكتفي بما يتيسر لها من شوك و شجر و غير ذلك , مما لا يكاديرعاه سائر البهائم , و تؤِكل , و ينتفع بوبرها , و يشرب لبنها . و قد نبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل .

( و إلى السماء كيف رفعت ) أي : كيف رفعها الله عز و جل , عن الأرض هذا الرفع العظيم , بغير عمد يدعمها و لا سند يسندها . و كيف رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى , و أمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره و لا يفسد نظامه .

( و إلى الجبال كيف نصبت ) أي : جعلت منصوبة قائمة ثابتة راسية , بهيئة باهرة , حصل بها استقرار الأرض و ثباتها عن الإضطراب بأهلها , و جعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن .

( و إلى الأرض كيف سطحت ) أي بسطت و مهدت , حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق , فمدت مدًا واسعًا , و سهلت غايةالتسهيل . ليستقروا على ظهرها , و يتمكنوا من حرثها و غرسها , و البنيان فيها , وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها .
و اعلم أن تسطيحها لا ينافي أنهاكرة مستديرة , قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها , كما دل على ذلك النقل والعقل و الحس و المشاهد , كما هو مذكور معروف عند أكثر الناس , خصوصا في هذه الأزمنة , التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد , فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدا , الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر . و أما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر و السعة , فيكون كرويا مسطحا , و لا يتنافى الأمران , كما يعرف ذلك أرباب الخبرة .

ففي هذه الآيات -" أفلا ينظرون .... سطحت "- نبّه الله تعالى البدوي على الإستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه , و السماء التي فوق رأسه , و الجبل الذي تجاهه , و الأرض التي تحته , على قدرة خالق ذلك و صانعه , و أنه الرب العظيم الخالق المتصرف المالك , و أنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه . قال الزمخشري: و المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق , حتى لاينكروا اقتداره على البعث , فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه و سلم و يؤمنوا ويستعدوا للقائه .

( فذكّر إنما أنت مذكّر , لست عليهم بمسيطر ) أي فذكّر – يا محمد – الناس بما أرسلت به إليهم , فإنما عليك البلاغ و علينا الحساب , و لهذا قال " لست عليهم بمسيطر" أي لم تبعث مسيطرا عليهم , مسلطا موكّلا بأعمالهم , فإذا قمت بما عليك , فلا عليك بعد ذلك لوم , قال تعالى " و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" .
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله , فإذا قالوها عصموامني دماءهم و أموالهم إلا بحقها , و حسابهم على الله عز و جل " , ثم قرأ " فذكّر إنما أنت مذكّر , لست عليهم بمسيطر" رواه مسلم .

( إلا من تولى و كفر ) أي : تولى عن العمل بأركانه , و كفر بالحق بجنانه و لسانه , و هذه كقوله تعالى " فلا صدق و لا صلى , و لكن كذّب و تولّى"

( فيعذّبه الله العذاب الأكبر ) أي : الشديد الدائم , و هو عذاب الآخرة

( إنّ إلينا إيابهم ) أي رجوعهم إلينا لا إلى غيرنا , بالموت و البعث .

( ثم إنّ علينا حسابهم ) أي : نحن نحاسبهم على أعمالهم و نجازيهم بها , إن خيرا فخير , و إن شرا فشر . لذافلا يضرك يا رسولنا إعراضهم و لا توليهم , و حسبك تذكيرهم فمن اهتدى نجا و نجاته لنفسه , و من ضلّ فإنما يضل عليها إذ عاقبة ضلاله و هي الخسران التام عائدة عليه .
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الأعلى

مكية و آياتها تسع عشرة آية

( سبح اسم ربك الأعلى ) أي نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد و الشريك و نحوهما , كقوله " سبحان ربك ربّ العزّة عمّا يصفون" . و الأعلى صفة للرب تبارك و تعالى دالة على علوه على خلقه فالخلق كله تحته و هو قاهر له و حاكم فيه .

( الذي خلق فسوّى ) أي أوجد من العدم المخلوقات و سوّى خلقها كل مخلوق في أحسن الهيئات , فعدل أجزاءه و سوّى بينها فلا تفاوت فيها , و يدل هذا على أنه صادر عن عالم , و إنه صنعة حكيم كما قال الزمخشري .

( و الذي قدر فهدى ) أي قدّر الأشياء في كتاب المقادير من خير و غيره و هدى كل مخلوق إلى ما قدره له أو عليه فهو طالب له حتى يدركه في زمانه و مكانه و على الصورة التي قدر عليها . قال صلى الله عليه و سلم : " إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات و الأرض بخمسين ألف سنة , و كان عرشه على الماء " رواه مسلم.

( و الذي أخرج المرعى ) أي : أنزل من السماء ماء فأنبت به أنواع النبات و العشب الكثير , فرتع فيها الناس و البهائم و كل حيوان .

( فجعله غثاء أحوى ) أي جعله بعد خضرته و نضرته جافا يابسا تطير به الريح , و " أحوى " أي أسود , لأن النبات إذا يبس تغيّر إلى " الحوّة " و هي السواد .

هذه خمس آيات , الآية الأولى تضمنت الأمر بتنزيه اسم الله , و الأربع بعدها في التعريف به سبحانه و تعالى حتى يعظم إسمه و تعظيم ذاته و تنزه عن الشريك و الصحابة و الولد .

( سنقرئك فلا تنسى ) قال الزمخشري : بشره الله بإعطاء آية بينة , و هي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي , و هو أميّ لا يكتب و لا يقرأ , فيحفظه و لا ينساه .
و هذه بشارة كبيرة لعبده و رسوله محمد صلى الله عليه و سلم , أن الله سيعلمه علما لا ينساه . قال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين : - إحداهما : إنه كان رجلا أميّا فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة و لا تكرار و لا كتبة , خارق للعادة , فيكون معجزا . – ثانيهما : إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة , فهذا إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل , و قد وقع , فكان هذا إخبارا عن الغيب , فيكون معجزا .

( إلا ما شاء الله ) مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة , مثل قوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير "

( إنه يعلم الجهر و ما يخفى ) أي : يعلم ما يجهر به العباد و ما يخفونه من أقوالهم و أفعالهم , لا يخفى عليه من ذلك شيء .

( و نيسرك لليسرى ) أي نسهل عليك أفعال الخير و أقواله , و نشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا , لا اعوجاج فيه و لا حرج و لا عسر .

( فذكّر إن نفعت الذكرى ) أي ذكّر بشرع الله و آياته مادامت الذكرى مقبولة , و الموعظة مسموعة , سواء حصل من الذكرى جميع المقصود أو بعضه .
و مفهوم الآية أنه إن لم تنفع الذكرى , بأن كان التذكير يزيد في الشر , أو ينقص من الخير , لم تكن الذكرى مأمورا بها , بل منهيا عنها , فالذكرى ينقسم الناس فيها قسمين : منتفعون و غير منتفعين .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

فأما المنتفعون , فقد ذكرهم الله بقوله ( سيذّكر من يخشى ) أي سيذكّر و يتعظ من يخشى عقاب الله لإيمانه به و معرفته له .

و أما غير المنتفعين فذكرهم بقوله ( و يتجنّبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ) أي يدخل النار الكبرى نار يوم القيامة .

( ثم لا يموت فيها و لا يحيى) أي لا يموت فيستريح و لا يحيا حياة تنفعه , بل هي مضرة عليه , لأن بسببهايشعر ما يعاقب به من أليم العذاب , و أنواع النكال . قال الله تعالى " لا يُقضى عليهم فيموتوا و لا يُخفف عنهم من عذابها" , و قال صلى الله عليه و سلم "أما أهل النار الذي هم أهلها , فإنهم لايموتون فيها و لا يحيون ... " رواه مسلم .

( قد أفلح من تزكى ) أي فاز و ظفر من تطهرمن دنس الشرك و المعاصي , و عمل بما أمره الله به .

( و ذكر اسم ربه فصلى ) أي : اتصف بذكر الله , و انصبغ به قلبه , فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله , خصوصا الصلاة , التي هي ميزان الإيمان .

( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) أي تقدمونها على الآخرة , و تختارون نعيمها المنغص المكدر الزائل على الآخرة .

( و الآخرة خير وأبقى ) أي : ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا و أبقى , فإن الدنيا دنيّة فانية , و الآخرة شريفة باقية , فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى , و يهتم بما يزول عنه قريبا , و يترك الإهتمام بدار البقاء و الخلد ؟!

( إن هذا لفي الصحف الأولى , صحف إبراهيم و موسى ) أي إن قوله تعالى " قد أفلح من تزكى" إلى قوله " خير وأبقى" مذكور في كل من صحف إبراهيم و كانت له عشر صحف و لموسى التوراة .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الطارق

مكية و آياتها سبع عشرة آية

( والسماء و الطارق ) هذا قسم إلهي – قال العلماء : افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم و تشويق إليه – حيث أقسم تعالى بالسماء و ما جعل فيها من الكواكب النيرة .

( و ما أدراك ما الطارق ) تفخيم من شأنه بالإستفهام عنه الدال على تهويله و تعظيمه . ثم فسره بقوله " و النجم الثاقب" .

( النجم الثاقب ) قال قتادة و غيره: إنما سمي النجم طارقا , لأنه إنما يرى بالليل و يختفي بالنهار , و يؤيده ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري" نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا " , أي : يأتيهم فجأة بالليل . و " الثاقب " : أي المضيء . كأنه يثقب ظلمة الليل و ينفذ فيه , فيبصر بنوره و يهتدي به . و قال السدي: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها . و قال عكرمة: هو مضيء و محرق للشياطين .

و المقسم عليه هو قوله تعالى ( إن كل نفس لّمّا عليها حافظ ) أي أن كل نفس عليها حافظ – أي مهيمن عليها رقيب , و هو الله تعالى كما في آية " و كان الله على كل شيء رّقيبا" – يحفظ أعمالها فيحصى عليها ما تكسب من خير أو شر لتحاسب عليها و تجزي بها و هذا إثبات للبعث الآخر بطريقة الكناية .

( فلينظر الإنسان مّما خلق ) فليتدبر خلقته و مبدأه و من أي شيء خلقه . و هذا تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خُلق منه , و إرشاد له إلى الإعتراف بالمعاد , لأن من قدر على البَدَاءة فهو قادر على الإعادة بطريق أولى , كما قال " و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه " .

( خُلق من ماء دافق ) يعني : المني , يخرج دفقا من الرجل و من المرأة فيتولد منهما الولد بإذن الله عز و جل .

( يخرج من بين الصلب و التّرائب ) قال الإمام: الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار . و يعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر . و قد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقا لاسم الجزء على الكل , و الترائب موضع القلادة من الصدر .
قال بعض علماء الطب: الترائب جمع تريبة و هي عظام الصدر في الذكر و الأنثى . و يغلب إستعمالها في موضع القلادة من الأنثى .
قال الإمام: و معنى الآية أن المنيّ باعتبار أصله و هو الدم , يخرج من شيء ممتد بين الصلب – أي فقرات الظهر في الرجل – و الترائب أي عظام صدره . و ذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر " الأورطي " و هو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب و يمتد إلى آخر الصلب تقريبا . و منه تخرج عدة شرايين عظيمة , و منها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين , و ينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين , فيغذيانهما . و من دمهما يتكون المنيّ في الخصيتين و يسميان شرياني الخصيتين , أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المنيّ " يخرج من بين الصلب و الترائب " لأنه يخرج من مكان بينهما و هو الأورطي أو الأبهر . و هذه الآية على هذا التفسير , تعتبر من معجزات القرآن العلمية .

( إنه على رجعه لقادر ) فالذي أوجد الإنسان من ماء دافق , يخرج من هذا الموضع الصعب , قادر على رجعه في الآخرة , و إعادته للبعث و النشور و الجزاء .

( يوم تبلى السرائر ) أي تظهر و تعرف خفيات الضمائر , و يبقى السر علانية و المكنون مشهورا , فيظهر برّ الأبرار , و فجور الفجار . و قد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " يرفع لكل غادر لواء في إسته , يقال : هذه غَدْرة فلان بن فلان" .

( فما له من قوة و لا ناصر ) أي ليس لهذا الكافر و المكذب بالبعث و الحياة الثانية ما له قوة يدفع بها عن نفسه عذاب ربّه و لا ناصر ينصره فيخلصه من العذاب .

ثم أقسم الله تعالى قسما ثانيا على صحة القرآن فقال :

( و السماء ذات الرجع ) أي المطر , يسمى رجعا لأنه تعالى يرجعه وقتا فوقتا إلى العباد , و لولاه لهلكوا و هلكت مواشيهم .

( و الأرض ذات الصدع ) أي و الأرض ذات التشقق عن النبات و الزروع المختلفة .

( إنه لقول فصل ) أي إن القرآن حق و صدق , بيّن واضح , و حكم عدل في كل مختلف فيه من الحق و الباطل .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و ما هو بالهزل ) أي و ليس القرآن باللعب الباطل , بل هو الحق من الله الذي لا باطل معه .

( إنهم يكيدون كيدا) أي إن المكذبين بالقرآن و الجاحدين لحقه يمكرون مكرا لإبطال أمر اللهو إطفاء نوره .

( و أكيد كيدا ) أي و أنا أمكر بهم وأكيد لهم كيدا , لإظهار الحق , و لو كره الكافرون . و لدفع ما جاؤوا به من الباطل , و يعلم بهذا مَنِ الغالب , فإن الآدمي أضعف و أحقر من أن يغالب القوي العليم فيكيده .

( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) أي لا تستعجل لهم عقابهم و أنظرهم قليلا , و سترى ماذا أحل بهم من العذاب و النكال و العقوبة والهلاك – كما قال تعالى " نمتّعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ" - , فقد كتبنا في كتاب عندنا " لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز" .
و قد أنجز الله وعده لرسوله و المؤمنين فلم يمض إلاّ سنوات قلائل , و لم يبق في مكة من سلطان إلا الله , و لا معبود يعبد إلا الله .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة البروج

مكية و آياتها إثنتان و عشرون آية

( والسماء ذات البروج ) هذا قسم من أعظم الأقسام إذ أقسم تعالى فيه بالسماء ذات المنازل المشتملة على منازل الشمس و القمر , و الكواكب المنتظمة في سيرها , على أكمل ترتيب و نظام دال على كمال قدرة الله تعالى و رحمته , و سعة علمه و حكمته . قال ابن جرير: هي منازل الشمس و القمر , و هي إثنا عشر برجا , تسير الشمس في كل واحد منها شهرا , و يسير القمر في كل واحد يومين و ثلثا , فذلك ثمانية و عشرون منزلا , و يستتر ليلتين .

( و اليوم الموعود ) و هو يوم القيامة , الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه , و يضم فيه أولهم و آخرهم , و قاصيهم و دانيهم , ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون .

( و شاهد و مشهود) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " اليوم الموعود يوم القيامة و اليوم المشهود يوم عرفة و الشاهد يوم الجمعة " حسنه الإمام الألباني.

و المقسم عليه , ما تضمنه هذا القسم من آيات الله الباهرة , و حِكمه الطاهرة , و رحمته الواسعة , و قيل : إن المقسم عليه قوله " قتل أصحاب الأخدود " .

( قتل أصحاب الأخدود) أي لعن أصحاب الأخدود و الدعاء عليهم بالهلاك , و الأخدود حفرة في الأرض مستطيلة .
و هذا خبر عن قوم من الكفار عَمَدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله , عز و جل , فقهروهم و أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم , فأبوا عليهم , فحفروا لهم في الأرض أخدودا و أججوا فيه نار , و أعدوا لها و قودا يسعرونها به , ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم , فقذفوهم فيها , و لهذا قال تعالى " قتل أصحاب الأخدود , النّار ذات الوقود , إذ هم عليها قعود , و هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود " .

( النار ذات الوقود) النار ذات الحَطب الجزل الموقد به .

( إذ هم عليها قعود ) أي على حافات الأخدود قاعدين يتشفون من المؤمنين .

( و هم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) و هم على ما يفعلون بالمؤمنين من الإلقاء في النار و الإرتداد عن الإسلام حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية و ما تفعل بها النيران , لا يرقّون لهم , و هذا من أعظم ما يكون من التجبر و قساوة القلب , لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله و معاندتها , و محاربة أهلها و تعذيبهم بهذا العذاب , الذي تنفطر منه القلوب , و حضورهم إياهم عند إلقائهم فيها .

( و ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) أي و ما عابوا عنهم شيئا سوى إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه , المنيع الحميد في جميع أفعاله و أقواله و شرعه و قدره , و إن كان قد قدّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به , فهو العزيز الحميد , و إن خفي سبب ذلك على كثير من الناس .

( الذي له ملك السماوات و الأرض ) من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات و الأرض و ما فيهما و ما بينهما , ليس لغيره ملك في شيء معه .

( و الله على كل شيء شهيد ) أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة أصحاب الأخدود و غيرهم , شاهد شهودا لا يخفى عليه منه مثقال ذرة , و هو مجازيهم عليه .
أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله , أن يبطش بهم العزيز المقتدر , أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله , ليس لأحد على أحد سلطة , من دون إذن المالك ؟ أو خفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم , مجازٍ لهم على فعالهم ؟ كلا إن الكافر في غرور , و الظالم في جهل و عمى عن سواء السبيل .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) أي فتنوهم عن دينهم فأحرقوهم بالنار , و الآية عامة ليست خاصة بأصحاب الأخدود , و لا بكفار قريش , و إنما عامة في كل من يفتن المؤمنين و المؤمنات في دينهم فيصرفهم عنه بأنواع من التعذيب , و جزاؤهم ما ذكر في الآية و هو عذاب جهنم و عذاب الحريق , إلا من تاب قبل موته .

( ثم لم يتوبوا) بعد فتنتهم للمؤمنين و المؤمنات , لم يتوبوا عن كفرهم و فتنتهم , و لم يقلعوا عما فعلوا , و يندموا على ما أسلفوا .
قال الحسن البصري : أنظروا إلى هذا الكرم و الجود , هم قتلوا أولياءه و أهل طاعته , و هو يدعوهم إلى التوبة و المغفرة .

( فلهم عذاب جهنم و لهم عذاب الحريق ) أي العذاب الشديد المحرق , و ذلك أن الجزاء من جنس العمل .

( إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات) أي من هؤلاء المفتونين و غيرهم ( لهم ) أي في نشأتهم الأخرى ( جنات تجري من تحتها الأنهار) أنهار من الماء و اللبن و الخمر و العسل ( ذلك الفوز الكبير) أي التام الذي لا فوز مثله , لأنه نجاة من النار أولا و دخول الجنة ثانيا , قال تعالى " فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " .

لما ذكر تعالى ما توعد به الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات من أجل إيمانهم أخبر رسوله – صلى الله عليه و سلم – معرّضا بمشركي قومه و طغاتهم الذين آذوا المؤمنين في مكة من أجل إيمانهم أخبره بقوله :
( إن بطش ربك لشديد ) أي إن عقوبته لأهل الجرائم و الذنوب العظام لقوية شديدة , فإنه تعالى ذو القوة المتين .

( إنه هو يُبدئ و يُعيد) أي من قوته و قدرته التامة يبدئ الخلق ثم يعيده كما بدأه , بلا ممانع و لا مدافع . قال الإمام : " و هو في كل يوم يبدئ الخلق من نبات و حيوان و غيرهما , ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى , ثم هو يعيد الناس في اليوم الآخر على النحو الذي يعلمه " . و الذي يبدئ و يعيد لا يكون بطشه إلا قويا شديدا .

( و هو الغفور الودود)
" الغفور " الذي يغفر الذنوب جميعا لمن تاب – و لو كان الذنب من أي شيء كان – و يعفو عن السيئات لمن استغفره و أناب .
" الودود " أي المحب لمن أطاعه و أخلص له .
و في اقتران الودود بالغفور سر لطيف , حيث يدل ذلك على أن أهل الذنوب إذا تابوا إلى الله و أنابوا , غفر لهم ذنوبهم و أحبهم , فلا يقال : بل تُغفر ذنوبهم , و لا يَرجع إليهم الود , كما قاله بعض الغالطين .

( ذو العرش المجيد) أي : صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق . فمن عظمته أنه وسع السماوات و الأرض و الكرسي , فهي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة , بالنسبة لسائر الأرض , و خص الله العرش بالذكر , لعظمته , و لأنه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى , و هذا على قراءة الجر , يكون " المجيد " نعتا للعرش , و أما على قراءة الرفع , فإنّ "المجيد" نعت لله - و كلاهما معنى صحيح - , و المجد سعة الأوصاف و عظمتها .

( فعّال لما يريد) أي لا يريد شيئا إلا فعله , فلا يحول بينه و بين مراده شيء , لأنه لا معقب لحكمه , و لا يسأل عما يفعل , لعظمته و قهره و حكمته و عدله .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( هل أتاك حديث الجنود , فرعون و ثمود) أي : هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس , و أنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد , لما طغوا و بغوا و كفروا و عصوا ؟ نعم قد أتاك , قال ابن جرير: " قد أتاك ذلك , و علمته , فاصبر لأذى قومك إياك , لما نالوك به من مكروه , كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي , و لا يثنينّك عن تبليغهم رسالتي , كما لم يثن الذين أرسلوا إلا هؤلاء , فإن عاقبة من لم يصدقك و يؤمن بك منهم , إلىعطب و هلاك , كالذي كان من هؤلاء الجنود " .
فالجملة تقرير لقوله " إن بطش ربك لشديد" أي : إذا أخذ الظالم أخذه أخذا أليما , أخذعزيز مقتدر .

( بل الذين كفروا في تكذيب) أي : لايزالون مستمرين على التكذيب و العناد , لا تنفع فيهم الآيات , و لا تُجدي لديهمالعظات , لأنه تكذيب ناشئ من الكبر و الحسد و الجهل فلذا هم لم يؤمنوا بعد .

( و الله من ورائهم مُّحيط) أي : هم في قبضته وتحت قهره و سلطانه لا يخفى عليه منهم شيء , و لا يحول بينه و بينهم أحد , فمتى ماأراد أخذهم فعل .

( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) يرد بهذا على المشركين الذين قالوا في القرآن إنه سحر و شعر و أساطير الأولين فقال : ليس هو كما قالوا و ادّعوا و إنما هو قرآن مجيد بالغ الغاية في المجد و الشرف والسمو و العلو في ألفاظه و معانيه , و ما يحمل من هدي و تشريع و أنه في مناعته لاتصل إليه أيدي الخلق بالتحريف و التبديل إذ هو في لوح محفوظ من التغيير و الزيادة والنقص , محفوظ من الشياطين فلا تمسه و لا تقربه , و هذا يدل على جلالة القرآن وجزالته , و رفعة قدره عند الله تعالى .
و اللوح المحفوظ هو الذي أثبت الله فيه كل شيء , و هو في الملأ الأعلى .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الانشقاق

و تسمى كذلك سورة إذا السماء انشقت , و هي مكية و آياتها خمس و عشرون آية .

يقول تعالى مبينا لما يكون في يوم القيامة من تغيير الأجرام العظام :

( إذا السماء انشقت ) أي انصدعت و تقطعت , و تمايز بعضها من بعض , و انتثرت نجومها , و خسف بشمسها و قمرها .

( و أذنت لربّها ) أي : استمعت لربها و أطاعت أمره فيما أمرها به من الإنشقاق .

( و حقّت ) أي : و حق لها أن تطيع أمره , لأنه العظيم الذي لا يُمَانَع و لا يغالب , بل قد قهر كل شيء و ذل له كلّ شيء .

( و إذا الأرض مدت ) أي بُسطت ووسعت و جعلت مستوية , و ذلك بنسف جبالها و آكامها , حتى صارت تسع أهل الموقف على كثرتهم .

( و ألقت ما فيها ) أي ما في جوفها من الكنوز و الأموات .

( و تخلّت ) حتى لم يبق شيء في باطنها .

( و أذنت لربّها و حقّت) أي : انقادت له في التخلية , و حق لها ذلك , و إعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهيّ و قهره و مشيئته .

( يا أيها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه ) قال ابن جرير: " أي إنك عامل إلى ربك عملا فملاقيه به , خيرا كان أو شرا " . ثم تلاقي الله يوم القيامة , فلاتعدم منه جزاء بالفضل إن كنت سعيدا , أو بالعدل إن كنت شقيا . و لهذا ذكر تفصيل الجزاء بعد هذه الآية . و المعنى المراد به في الآية : فليكن عملك مما ينجيك من سخطه , و يوجب لك رضاه , و لا يكن مما يسخطه عليك فتهلك .

( فأما من أوتي كتابه بيمينه) و هم من آمن و عمل صالحا و اتصف بما وصف به الأبرار , في غير ما آية .

( فسوف يحاسب حسابا يسيرا) قال ابن جرير: بأن ينظر في أعماله فيغفر له سيئها و يجازي على حسنها . فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في بعض صلاته : " اللهم حاسبني حسابا يسيرا " . فلما انصرف قلت : يا رسول الله , ما الحساب اليسير ؟ قال : " أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه , إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلَك " قال ابن كثير صحيح على شرط مسلم . " قلت ( عبد الحي) : قال الشيخ شعيب الأرنؤوط و رفاقه في تحقيق مسند الإمام أحمد حديث صحيح دون قوله : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول في صلاته اللهم حاسبني حسابا يسيرا ( 24215/40 )" .
و عنها أيضا قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من نوقش الحساب عذب" قالت : فقلت : أليس قال الله : " فسوف يحاسب حسابا يسيرا" قال : " ليس ذاك الحساب , و لكن ذلك العَرْض , من نوقش الحساب يوم القيامة عذب" رواه البخاري و مسلم .

( و ينقلب إلى أهله مسرورا ) و يرجع إلى أهله – و هم الحور العين و النساء المؤمنات و الذرية الصالحة , أو قومه ممن يجانسه و يقارنه من أصحاب اليمين – فرحان مغتبطا بما أعطاه الله عز و جل .

( و أما من أوتي كتابه وراء ظهره ) أي : أعطي كتاب عمله بشماله – حيث تغل اليمنى مع عنقه – من وراء ظهره , و هو على هيئة المغضوب عليه .

( فسوف يدعو ثبورا ) أي يُنادي بالهلاك – و هو أن يقول : واثبوراه ! و واويلاه ! – من الخزي و الفضيحة , و ما يجد في كتابه من الأعمال التي قدمها و لم يتب منها .

( و يصلى سعيرا) أي يدخل نارا مستعرة شديدة الإلتهاب تحيط به من كل جانب و يقلب على عذابها حتى ينضح فيها لحمه المرة بعد المرة و أبداً و العياذ بالله .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( إنه كان في أهله مسرورا ) لا يخاف الله و لا يرجو الدار الآخرة يعمل ما يشاء و يترك ما يشاء , لا يفكر في العواقب . منعما مستريحا من التفكر في الحق و الدعاء إليه و الصبر عليه . لا يهمه إلا أجوفاه , بطراً بالنعم , ناسيا لمولاه .

( إنّه ظنّ أن لا يحور) أي لن يرجع إلى ربه , أو إلى الحياة بالبعث , لاعتقاده أنه يحيى ويموت و لا يهلكه إلا الدهر . فلم يكُ يرجو ثوابا و لا يخشى عقابا و لا يُبالي ماركب من المآثم , على خلاف ما قيل عن المؤمنين " إنّا كنّا قبل في أهلنا مشفقين" " إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه" .

( بلى ) أي ليحورن و ليرجعن إلى ربه حيّا كما كان قبل مماته , و يجازيه على أعماله خيرها و شرها .

( إنّ ربه كان به بصيرا) أي عليما خبيرا , لا يخفى عليه من أمره شيء , و نتيجة لذلك تمّ له هذا الحساب و العقاب .

( فلا أقسم بالشّفق) قال ابن جرير: " أقسم الله بالنهار مدبرا , و بالليل مقبلا " . و الشفق هو الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة , قال صلى الله عليه و سلم : " وقت المغرب مالم يغب الشفق " . رواه مسلم.

( و الليل و ما وسق ) أي و ما جمع من كل ذي روح من سابح في ماء و طائر في السماء و سارح في الغبراء , لأنه إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه .

( و القمر إذااتسق ) أي اجتمع و تم نوره و صار كاملا و ذلك في الليالي البيض .

وجواب القسم قوله تعالى ( لتركبنّ طبقا عن طبق ) أي حالا بعد حال الموت الحياة , ثم العرض ثم الحساب , ثم الجزاء فهي أحوال و أهوال فليس الأمركما تتصورون من أنه موت و لا غير .

( فما لهم لا يؤمنون ) أي ما للناس لا يؤمنون , أي شيء منعهم من الإيمان بالله و رسوله والدار الآخرة مع كثرة الآيات و قوة الحجج و سطوع البراهين .

( و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ) أي : لا يخضعون للقرآن , و لاينقادون لأوامره و نواهيه .

( بل الذين كفروا يكذبون ) أي : يعاندون الحق بعدما تبين , فلا يستغرب عدم إيمانهم و عدم انقيادهم للقرآن , فإن المكذب بالحق عنادا , لا حيلة فيه . قال الإمام: لاتظن أن قرع القرآن لم يكسر أغلاق قلوبهم , و لم يبلغ صوته أعماق ضمائرهم , بلى , قدأبلغ و أقنع فيما بلغ , و لكن العناد هو الذي يمنعهم عن الإيمان , و يصدهم عن الإذعان , فليس منشأ التكذيب قصور الدليل . و إنما هو تقصير المستدل و إعراضه عنهدايته .

( و الله أعلم بما يوعون ) أي : بما يسرون في صدورهم من حقية التنزيل , و إن أخفوه عنادا , أو بما يضمرون من البغي و المكر , فسيجزيهم عليه و لذا قال ( فبشرهم بعذاب أليم ) أي : فأخبرهم – يا محمد – بأن الله عز و جل قد أعد لهم عذابا أليما جزاء على تكذيبهم وإعراضهم و بغيهم .
و سميت البشارة بشارة , لأنها تؤثر في البشرة سرورا أو غما .

( إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غيرممنون ) هذا استثناء منقطع , يعني : لكن الذين آمنوا بقلوبهم , و عملواالصالحات بجوارحهم لهم أجر في الدار الآخرة غير منقوص و لا مقطوع , بل هو أجر دائممما لا عين رأت , و لا أذن سمعت , و لا خطر على قلب بشر .
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة المطففين

مدنية الأوائل مكية الأواخر و آياتها ست و ثلاثون آية

قال ابن عباس : " لما قدم نبي الله صلى الله عليه و سلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا , فأنزل الله " و يل للمطففين " , فحسَّنوا الكيل بعد ذلك " صححه الألباني.
و قال أحد الأنصار رضي الله عنه : كُنَّا أسوأ الناس كيلا , حتى إنه ليكون لأحدنا مكيالان مكيال يشتري به و آخر يبيع به و ما إن نزلت فينا ويل للمطففين حتى أصبحنا أحسن كيلا ووزنا . قال الفرّاء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا .

( ويل للمطففين ) يتوعد الله تعالى المطففين بالخسار و الهلاك . و التطفيف ها هنا : هو البَخْس في المكيال و الميزان , إما بالإزدياد إن اقتضى من الناس , و إما بالنقصان إن قضاهم .

( إذا اكتالوا على الناس يستوفون) إذا اشتروا من الناس يأخذون كيلهم وافيا و زائدا , على إيهام أن بذلك تمام الكيل . و إذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أجلّ مقدارا , ففي الوزن بطريق الأولى .

( و إذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون ) أي كالوا للناس أو وزنوا لهم , ينقصونهم حقهم الواجب لهم – و هو الوفاء و التمام – سواء بمكيال و ميزان ناقصين , أو بعدم ملء المكيال و الميزان , أو نحو ذلك .

فهذا سرقة لأموال الناس في الأخذ و الدفع , و لو في القليل , لأن من دَنُؤَت نفسه إلى القليل دل على فساد طويته و خبث ملكته , و أنه لا يقعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة .
و قد أمرنا الله تعالى بالوفاء بالكيل و الميزان فقال " و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا " , و قال " و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لا تكلّف نفسا إلاّ وسعها " , و قال " و أقيموا الوزن القسط و لا تُخسروا الميزان " . و أهلك الله قوم شعيب و دمّرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال و الميزان .

( ألا يظن أولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم ) أما يخاف أولئك من البعث و القيام بين يديّ من يعلم السرائر و الضمائر , في يوم عظيم الهول كثير الفزع , جليل الخطب , من خسر فيه أدخل نارًا حامية ؟ .

( يوم يقوم النّاس لرب العالمين ) يقومون حفاة عراة غُرْلاً – قلت " عبد الحي " : أي غير مختونين- , في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم , و يغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى و الحواس عنه .
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " ( يوم يقوم النّاس لرب العالمين ) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " رواه البخاري و مسلم .
و روى الإمام أحمد عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " ( يوم يقوم النّاس لرب العالمين ) لعظمة الرحمن عز وجل يوم القيامة , حتى إن العرق ليُلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم " قال الشيخ أحمد شاكر إسناده صحيح .
و عن المقداد بن الأسود الكندي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " إذا كان يوم القيامة أُدْنِيَت الشمس من العباد , حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين , قال : فتصهرهم الشمس , فيكونون في العرق كقدر أعمالهم , منهم من يأخذه إلى عقبيه , و منهم من يأخذه إلى ركبتيه , و منهم من يأخذه إلى حَقْوَيه , و منهم من يلجمه إلجاما " رواه مسلم.

فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر , و إلا فلو آمنوا به , و عرفوا أنهم يقومون بين يدي الله , يحاسبهم على القليل و الكثير , لأقلعوا عن ذلك و تابوا منه .

( كلاّ) ردع عن التطفيف الذي يقترفونه لغفلتهم عن يوم الحساب و ضعف اعتقادهم به .

( إنّ كتاب الفُجّار ) و هذا شامل لكل فاجر من أنواع الكفرة و المنافقين و الفاسقين , و الكتاب ما كتب فيه من عملهم السيء و أحصي عليهم .

( لفي سجّين ) موضع في أسفل الخلق به أرواح الكافرين و الظالمين و كتب أعمالهم . و هو سجن مقيم و عذاب أليم . قال القاشانيّ: " لفي سجّين" في مرتبة من الوجود مسجون أهلها في حبوس ضيقة مظلمة أذلاء أخساء في أسفل مراتب الطبيعة و دركاتها . و هو ديوان أعمال أهل الشرّ .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و ما أدراك ما سجين ) أي و ما أعلمك يا رسولنا ما سجين . و الإستفهام للتهويل و تفخيم من شأن سجين .

( كتاب مرقوم) أي مسطور بيّن الكتابة , مذكور فيه أعمالهم الخبيثة . و هو كتاب مفروغ منه , لا يزاد فيه أحد و لا ينقص منه أحد .

( ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين ) أي العذاب الأليم بوادي الويل يوم القيامة للمكذبين بالله و آياته و لقائه , المكذبين بيوم الجزاء و الحساب . و فيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف , لأن إصرارهم على التعدي و الإجترام يدل على عدم الظن بالبعث .

( و ما يكذب به إلا كل معتد أثيم ) و ما يكذب بيوم الجزاء و الحساب إلا كل معتد ظالم متجاوز للحد بالإفراط في أفعاله بالبغي و العدوان , مبالغ في ارتكاب أفانين الإثم و أنواع المعاصي .

( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ) هذا بيان لذلك المعتدي الأثيم و هو أنه إذا قُرئت عليه آيات الله تذكيراً له و تعليمًا ردًّها بقوله أساطير الأولين أي هذه الحكايات من ترهات المتقدمين و أخبار الأمم الغابرين , ليس من عند الله تكبُّرا و عنادًا .

( كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسون ) أي : ليس الأمر كما زعموا و لا كما قالوا , إن هذا القرآن أساطير الأولين , بل هو كلام الله ووحيه و تنزيله على رسوله صلى الله عليه و سلم , و إنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّين – قال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب , حتى يعمى القلب , فيموت . و كذا قال مجاهد و قتادة , و ابن زيد , و غيرهم – الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب و الخطايا . قال النبي صلى الله عليه و سلم : " إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكت في قلبه نكتة , فإن هو نزع و استغفر و تاب صُقل قلبه . فإن عاد زيد فيها حتى يعلو قلبه , فهو الران الذي قال الله تعالى ( كلاّ بل ران على قلوبهم مّا كانوا يكسبون ) " صححه الألباني .

( كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) أي ردعا لهم و زجرا عن أقوالهم الباطلة و أعمالهم الفاسدة , أو بمعنى حق , إنهم محجوبون عن رؤية ربهم و خالقهم . قال ابن جرير : أي فلا يرونه و لا يرون شيئا من كرامته , فهم محجوبون عن رؤيته و عن كرامته . و تخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب فيرى الله تعالى و يرى كرامته . قال الإمام الشافعي : في هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ . قال ابن كثير : و هذا الذي قاله الإمام الشافعي , رحمه الله , في غاية الحسن , و هو استدلال بمفهوم هذه الآية , كما دل عليه منطوق قوله ( وجوه يومئذ ناضرة , على ربها ناظرة ) . و كما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة , رؤية بالأبصار في عَرَصات القيامة , و في روضات الجنات الفاخرة .

( ثم إنهم لصالوا الجحيم) ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران , مصطلون بحرها معذبون بأنواع العذاب فيها .

( ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) ثم يقال لهم على وجه التقريع و التوبيخ , و التصغير و التحقير " هذا " أي العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون حتى واصلتم كفركم و إجرامكم فحل بكم هذا الذي أنتم فيه الآن فذوقوا فلن تزدادوا إلا عذابا .

لما ذكر الله تعالى أن كتاب الفجار في أسفل الأمكنة و أضيقها , ذكر أن كتاب الأبرار في أعلاها و أوسعها و أفسحها , فقال تعالى :

( إن كتاب الأبرار لفي عليين ) أي حقا إن كتاب أعمال هؤلاء الأبرار الذين كانوا لربهم طائعين - بأداء فرائضه و اجتناب نواهيه - في أعلى الجنة . قال القاشانيّ: أي ما كتب من صور أعمال السعداء و هيآت نفوسهم النورانية و ملكاتهم الفاضلة , في عليين . و هو مقابل للسجين , في علوه و ارتفاع درجته , و كونه ديوان أعمال أهل الخير .

( و ما أدراك ما عليون ) إستفهام للتفخيم و التعظيم بشأن عليين , إذ هو في أعلى مرتبة و أسمى منزلة .

( كتاب مرقوم ) أي محل شريف رقم بصور أعمالهم .

( يشهده المقربون ) أي يحضره المقربون من حضرة ذي الجلال , من الملائكة , و أرواح الأنبياء , و الصديقين و الشهداء , و ينوِّه الله بذكرهم في الملأ الأعلى .

( إن الأبرار لفي نعيم ) إن الأبرار – و هم أهل الطاعة و الصدق فيها , و هم أصحاب الكتب المودعة في عليين – لفي نعيم – و هو إسم جامع لنعيم القلب و الروح و البدن – عظيم دائم , و جنات فيها فضل عميم .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( على الأرائك ) أي على السرر المزينة بالفرش الحسان .

( ينظرون) في ملكهم و ما أعطاهم الله من الخير و الفضل الذي لا ينقضي و لا يبيد , و ينظرون إلى وجه ربهم الكريم .

( تعرف في وجوههم نضرة النعيم ) أي : تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم بهاء النعيم و نضارته و رونقه , فإن توالي اللذة و السرور , يكسب الوجه نورًا و حسنا و بهجة .

( يُسقون من رحيق ) يسقون من خمر من الجنة , صافية لا دنس فيها و لا غش . و الرحيق : من أسماء الخمر .

( مختوم) أي : خُتم على أوانيه تكريما له لصيانته عن أن تمسه الأيدي على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم و يصان .

( ختامه مسك ) آخر هذا الشراب يفوح برائحة المسك الأذفر فهي طيبة الرائحة للغاية . قال ابن عباس: طيب الله لهم الخمر , فكان آخر شيء جعل فيها مسك , خُتم بمسك . و القصد لذة القطع بذكاء الرائحة و أرجها , على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم و الرائحة .

( و في ذلك) أي النعيم المقيم , الذي لا يعلم مقداره و حسنه إلا الله .

( فليتنافس المتنافسون ) أي : يتسابقوا في المبادرة إليه و الأعمال الموصلة إليه , فهذا أولى ما بذلت فيه نفائس الأنفاس , و أحرى ما تزاحمت للوصول إليه فحول الرجال .

( و مزاجه من تسنيم ) أي إن ذلك الرحيق يمزج لأصحاب اليمين بماء تسمى التسنيم .

( عينا يشرب بها المقربون ) هذا التسنيم يشربه المقربون صرفا أي خالصا بدون مزج , فهو أعلى أشربة الجنة على الإطلاق , لذلك كانت خالصة للمقربين , الذين هم أعلى الخلق منزلة , و ممزوجة بالرحيق و غيره من الأشربة اللذيذة لأصحاب اليمين .

( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون , و إذا مروا بهم يتغامزون ) يخبر تعالى عن المجرمين – الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك و المعاصي – أنهم كانوا في الدنيا يسخرون بالمؤمنين و يستهزؤون بهم , و يضحكون منهم , و يتغامزون بهم عند مرورهم عليهم , احتقارا لهم و ازدراء , لأنهم آمنوا بالله وحده و بما أوحاه إلى رسوله صلوات الله عليه , و نبذوا ما أَلْفَوْا عليه آباءهم . قال السيوطي : و في هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين , و الضحك منهم , و التغامز عليهم .

( و إذا انقلبوا إلى أهلهم إنقلبوا فاكهين ) أي : رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم , مسرورين مغتبطين , متلذذين بالسخرية و حكاية ما يعيبون به أهل الإيمان , أو ما هم فيه من الشرك و الطغيان و التنعم الدنيا . و هذا من أعظم ما يكون من الإغترار أنهم جمعوا بين الإساءة و الأمن في الدنيا , حتى كأنهم قد جاءهم كتاب من الله و عهد , أنهم من أهل السعادة , و قد حكموا لأنفسهم أنهم أهل الهدى , و أن المؤمنين ضالون , افتراء على الله , و تجروا على القول عليه بلا علم .

( و إذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ) أي : و إذا رأى أولئك المجرمون المؤمنين أشاروا إليهم و قالوا " إن هؤلاء لضالون " بتركهم دينهم و اعتناق دين محمد الجديد في نظرهم .

( و ما أرسلوا عليهم حافظين ) أي : و ما أرسلوا وكلاء على المؤمنين ملزمين بحفظ أعمالهم , حتى يحرصوا على رميهم بالضلال , و ما هذا منهم إلا تعنت و عناد و تلاعب , ليس له مستند و لا برهان , و لهذا كان جزاؤهم في الآخرة من جنس عملهم .

( فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ) أي : يوم القيامة يضحكون حين يرونهم في غمرات العذاب يقلبون , و ضحكهم من الكفار ضحك المسرور بما نزل بعدوّه من الهوان و الصغار , بعد العزة و الكبر .

( على الأرائك ينظرون) على السرر المزينة ينظرون إلى ما أوتوا من النعيم , و ما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم .

( هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون ) أي : هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الإستهزاء و التنقيص أم لا ؟ نعم قد جوزوا أوفر الجزاء و أتمه و أكمله .

و نظير هذه الآيات قوله تعالى " إخسئوا فيها و لا تكلمون , إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربنّا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت خير الراحمين , فاتخذتموهم سِخريا حتى أنسوكم ذِكري و كنتم منهم تضحكون , إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تفسير سورة الانفطار
مكية و آياتها تسع عشرة آية

( إذا السماء انفطرت) أي انشقت كما في آية " ويوم تشقّق السّماء بالغمام" .

( و إذا الكواكب انتثرت ) أي انفضّت و تساقطت .

( و إذا البحارفجّرت ) أي : اختلط ماؤها بعضه ببعض ملحها بعذبها لانكسار ذلك الحاجز الذي كان يفصلهما عن بعضهما لزلزلة الأرض إيذانا بخراب العالم .

( و إذا القبور بُعثرت ) إنقلب باطنها ظاهرها و أخرج ما فيها منالأموات .

( علمت نفس ما قدّمت و أخرت ) أي علمت كل نفس مكلفة ما قدمت من أعمال حسنة أو سيئة , و ما أخرت من أعمال لحقتها بعدها وذلك ما سنته من سنن الهدى أو سنن الضلالة . و هذا العلم يحصل للنفس أولا مجملا و ذلك عند ابيضاض الوجوه و اسودادها , و يحصل لها مفصلا عندما تقرأ كتاب أعمالها .

( يا أيّها الإنسان ما غرّك بربك الكريم) أي : أي شيء خدعك و جرّأك على الكفر بربك الكريم و عصيانه بالفسق عن أمره و الخروج عن طاعته . و هو القادر على مؤاخذتك و الضرب على يديك ساعة ما كفرت به أو عصيته .
قال ابن القيّم: .. و إنّما غرَّه بربه الغَرور , و هوالشيطان , و نفسه الأمّارة بالسوء , و جهله و هواه . و أتى سبحانه بلفظ " الكريم " , و هو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الإغترار به و لا إهمال حقه .

( الذي خلقك فسواك فعدلك ) أي : جعلك سويّا معتدل القامةمنتصبها , في أحسن الهيئات و الأشكال .

( في أي صورة ما شاء ركبك ) إن شاء بيضك أو سودك , طولك أو قصرك , جعلك ذكرا أو أنثى , إنسانا أوحيوانا , قردا أو خنزيرا , هل هناك من يصرفه عما أراد ذلك ؟ و الجواب لا أحد . إذاكيف يسوغ لك الكفر به و عصيانه و الخروج عن طاعته .

( كلاّبل تكذبون بالدين) كلاّ ما غركم كرم الله و لاحلمه , بل الذي جرأكم على الكفر و الظلم و الإجرام , تكذيب في قلوبكم بالمعاد و الجزاء و الحساب .

( و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) و إن عليكم لملائكة حفظَة كراما يحفظون عليكم أعمالكم و يحصونها لكم و يكتبونها في صحائفكم . يعلمون ما تفعلون – و دخل في هذا أفعال القلوب , و أفعال الجوارح – في السر و العلن , فاللائق بكم أن تكرموهم و تجلوهم و تحترموهم .

( إن الأبرار لفي نعيم ) قال ابن جرير : أي إن الذين برّوا بأداء فرائض الله , و اجتناب معاصيه , لفي نعيم الجنان ينعمون فيها .

( و إن الفجار لفي جحيم ) إن الذين قصروا في حقوق الله و حقوق عباده , الذين فجرت قلوبهم , ففجر أعمالهم , لفي عذاب أليم في دارالدنيا و دار البرزخ و في دار القرار.

( يصلونها يوم الدين) يعذبون بها أشد العذاب و ذلك يوم الجزاء على الأعمال . قال القرطبي : يصيبهم حرها و لهيبها و هذا قطعا بعد دخولها .

( و ما هم عنها بغائبين) أي : لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة , و لا يخفف عنهم من عذابها , و لا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة , و لو يوما واحدا .

( و ما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ) ففي هذا تهويل و تفخيم لأمر ذلك اليوم و تعظيم لشأنه .

( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله ) أي : لايقدر أحد على نفع أحد و لا خَلاصه مما هو فيه , إلا أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى . و نذكر ها هنا حديث : " يا بني هاشم , أنقذوا أنفسكم من النار , لا أملك لكم من الله شيئا" رواه مسلم. و لهذا قال " الأمر يومئذ لله " , كقوله " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " , و كقوله " الملك يومئذ الحق للرحمن" , و كقوله " مالك يوم الدين " . قال الرازي : و هو وعيد عظيم , من حيث إنه عرّفهم أنه لايغني عنهم إلا البر و الطاعة يومئذ , دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا , من مال وولد و أعوان و شفعاء .
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة التكوير

و تسمى سورة " إذا الشمس كورت " و هي مكية و آيها تسع و عشرون .

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين فليقرأ " إذا الشّمس كورت " و " إذا السّماء انفطرت " و " إذا السماء انشقت " صححه الألباني

( إذا الشمس كورت) أي أُزيلت من مكانها , و ألقيت عن فلكها , و مُحي ضوؤها . قال ابن جرير: التكوير جمع الشيء بعضه إلى بعض , و منه تكوير العمامة و جمع الثياب بعضها إلى بعض , فمعنى قوله " كوّرت " : جمع بعضها إلى بعض , ثم لفت فرمى بها , و إذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها . قال صلى الله عليه و سلم : " الشمس و القمر يكوران يوم القيامة" رواه البخاري.

( و إذا النجوم انكدرت ) أي تغيرت و تناثرت و تساقطت من أفلاكها على الأرض .

( و إذا الجبال سيّرت ) أي زالت عن أماكنها و نُسفت من أثر الرجفة و الزلزال الذي قطع أوصالها .

( و إذا العشار عطّلت ) أي تركت مهملة لا راعي لها و لا طالب , لما أصاب أهلها من الهول و الفزع . و العشار جمع عُشَراء و هي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم لا يزال إسمها كذلك حتى تضع , و خصها , لأنها أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم , على ما هو في معناها من كل نفيس .

( و إذا الوحوش حشرت ) أي جمعت من كل جانب و اختلطت , لما دهم أوكارها و مكامنها من الزلزال و التخريب , فتخرج هائمة مذعورة من أثر زلزال الأرض و تقطع أوصالها .

( و إذا البحار سجّرت ) أي أوقدت فصارت – على عظمها – نارًا تتوقد .

( و إذا النفوس زوّجت ) أي قرنت بأجسادها – بعد خلق الأجساد لها – ثم قرن كل صاحب عمل مع نظيره , فجمع الأبرار مع الأبرار , و الفجار مع الفجار , و زوج المؤمنون بالحور العين , و الكافرون بالشياطين , و هذا كقوله تعالى " و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا" " و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " " احشروا الذين ظلموا و أزواجهم " .

( و إذا الموءودة سئلت , بأي ذنب قتلت ) يوم القيامة تسأل الموؤودة على أي ذنب قتلت , ليكون ذلك توبيخا و تقريعا و تهديدا لقاتلها , فإذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا ؟! و قال ابن عباس" و إذا الموءودة سئلت" أي : سألت , و كذا قال أبو الضحى: " سألت " أي : طلبت بدمها . و عن السدي و قتادة مثله.
و عن حسناء إبنة معاوية الصُّريمية , عن عمها قال : قلت يا رسول الله , من في الجنة ؟ قال : " النبي في الجنة , و الشهيد في الجنة , و المولود في الجنة , و الموؤودة في الجنة " صححه الألباني.
و الموؤودة هي المقتولة الصغيرة التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات , و خشية العار و الفقر , أو لنذرهم إياهم للآلهة , أو يقولون إن الإناث بنات الله , فألحقوا البنات بالله فهو أحق بها منا .
و كان للعرب تفنن في الوأد , فمنهم من إذا صارت بنته سداسية يقول لأمها : طيّبيها و زيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها , و قد حفر لها بئرا في الصحراء , فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها , ثم يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض . و منهم من كان إذا قربت امرأته من الوضع , حفر حفرة لتتمخّض على رأس الحفرة , فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة , و إن ولدت إبنا حبسته .
و قد اشتهر صعصعة بن ناجية بن عقال , جد الفرزدق بن غالب , بأنه كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية , و نهى عن قتلهن . قيل إنه أحيا ألف موءودة , و قيل دون ذلك .
فالوأد كان عادة من أشنع العوائد في الجاهلية , مما يدل على نهاية القسوة و تمام الجفاء و الغلظة . قال الإمام : أنظر إلى هذه القسوة و غلظ القلب و قتل البنات البريئات بغير ذنب سوى خوف الفقر و العار , كيف استبدلت بالرحمة و الرأفة بعد أن خالط الإسلام قلوب العرب ؟ فما أعظم نعمة الإسلام على الإنسانية بأسرها بمحوه هذه العادة القبيحة .

( و إذا الصحف نشرت ) قال ابن جرير: " أي صحف أعمال العباد نشرت لهم , بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات و السيئات " , فآخذ هذا كتابه بيمينه , و آخذ ذاك كتابه بشماله , أو من وراء ظهره .

( و إذا السماء كشطت ) أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة عند سلخها .

( و إذا الجحيم سعّرت ) أي : أوقد عليها فاستعرت , و التهبت إلتهابا لم يكن لها قبل ذلك . قال قتادة : و إنما يسعرها غضب الله و خطايا بني آدم
يتبع...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و إذا الجنة أزلفت ) أي قرّبت لأهلها ليدخلوها .

( علمت نفس ما أحضرت ) أي : إذ وقعت هذه الأمور , علمت كل نفس عند ذلك , ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة , أو شر فتصير به إلى النار , أي تبيّن لها عند ذلك ما كانت جاهلة به , و ما الذي كان فيه صلاحها من غيره .

( فلاأقسم بالخنس , الجواري الكنس ) قال الشيخ عبد العظيم بدوي : الخُنَّس هي النجوم تخنس – أي تختفي و تغيب عن الأنظار نهارا – بالنهار , و تظهر بالليل . " الجواري الكنّس " التي تجري في بروجها و منازلها و مواقعها طول الليل ثم تغيب مع طلوع الفجر .

( و الليل إذا عسعس ) أي أدبر و لم يبق إلا اليسير , و ذلك وقت السحر .

( و الصبح إذا تنفس ) قال ابن جرير : يعني وضَوْءُ النهار إذا أقبل و تبيّن .

و جواب القسم قوله تعالى ( إنّه لقول رسول كريم ) يعني : إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم , أي : ملك شريف حَسَن الخلق , بهي المنظر , و هو جبريل عليه الصلاة و السلام .
فالله تعالى قد أقسم بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه و سلم , و ما يقول محمد صلى الله عليه و سلم هو كلام الله ووحيه صدقا و حقا .

( ذي قوّة ) أي على تحمل أعباء الرسالة , و على كل ما يؤمر به .
و من قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم . فهو شديد الخَلْق , شديد البطش و الفعل .

( عند ذي العرش مكين ) أي جبريل عليه السلام مقرب عند الله تعالى , له منزلة رفيعة , و خصيصة من الله اختصه بها . قال أبو صالح في قوله " عند ذي العرش مكين" قال : جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن .
فجبريل عليه السلام له مكانة و منزلة فوق منازل الملائكة كلهم .

( مُطاع ثَمَّ) له وجاهة , و هو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى , قال قتادة : " مطاع ثمّ " أي : في السماوات , يعني : ليس هو من أفناء الملائكة , بل هو من السادة و الأشراف , مُعْتَنى به , انتخب لهذه الرسالة العظيمة .

( أمين) صفة لجبريل بالأمانة , و هذا عظيم جدا أن الرب عز و جل يزكي عبده و رسوله الملكي جبريل عليه السلام .
و هذا كله يدل على شرف القرآن عند الله تعالى , فإنه بعث به هذا الملك الكريم , الموصوف بتلك الصفات الكاملة . و العادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات , و أشرف الرسائل .

( و ما صاحبكم بمجنون ) أي : محمد صلى الله عليه و سلم ليس ممن يتكلم عن جِنَّة و يهذي هذيان المجانين " بل جاء بالحقّ و صدّق المرسلين" و هذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه , صلى الله عليه و سلم , حسدا و لؤما . قال الشهاب : و في قوله " صاحبكم " تكذيب لهم بألطف وجه . إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن , فأنتم أعرف به و بأنه أتم الخلق عقلا و أرجحهم نبلا و أكملهم و أصفاهم ذهنا . فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق و الجنون .

( و لقد رآه بالأفق المبين ) أي : رأى محمد صلى الله عليه و سلم جبريل عليه السلام بالأفق البيِّن – الذي هو أعلى ما يلوح للبصر – على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح و قد سدّ الأفق كله . و هي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء , و هي المذكورة في قوله تعالى " علّمه شديد القوى , ذو مرّة فاستوى , و هو بالأفق الأعلى , ثُمّ دنا فتدلّى , فكان قاب قوسين أو أدنى , فأوحى إلى عبده ما أوحى "
يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و ما هو على الغيب بضنين ) و ماهو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه , بل هو صلى اللهعليه و سلم أمين أهل السماء و الأرض , الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين . فلميبخل بشيء منه , بل بلَّغه و نشره و بذله لكل من أراده .

( و ما هو بقول شيطان رجيم ) و ما هذا القرآن بقول شيطان رجيم . وهو نفي لقولهم إنه كهانة , قال تعالى " و ما تنزّلت به الشياطينو ما ينبغي لهم و ما يستطيعون" .

( فأين تذهبون) ينكر عليهم مسلكهم الشائن في تكذيب رسوله محمد صلى الله عليه و سلم وإتهامه بالسحر , و القرآن بالشعر و الكهانة و الأساطير .

( إن هو إلاّ ذكر للعالمين ) أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس , يتذكّرون به خالقهم و رازقهم و محييهم و مميتهم , و ما له عليهم من حق العبادةوواجب الشكر , و يتعضون به فيخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائض عليهم و لا بارتكابما حرمه عليهم .

( لمن شاء منكم أن يستقيم ) أي : منأراد الهداية فعليه بهذا القرآن , فإنه منجاة له و هداية , لا هداية فيما سواه .

( و ما تشاءون إلا أن يشاء ربّ العالمين ) أي و ماتشاءون شيئا من فعالكم , إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم , و إقداركم عليها , و التخلية بينكم و بينها . و فائدة هذا الإخبار , و هو الإعلام بالإفتقار إلى الله تعالى , و أنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عز و جل , فهو خاضع لسلطان مشيئته , مقهور تحت تدبيره و إرادته .
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة عبس

و تسمى سورة الصاخبة , و هي مكية و آيها اثنتان و أربعون .

ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش , و قد طمع في إسلامه , فبينما هو يخاطبه و يناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم – و كان ممن أسلم قديما – فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شيء و يلح عليه , وَوَدَّ النبي صلى الله عليه و سلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل , طمعا و رغبة في هدايته . و عبس في وجه ابن أم مكتوم و أعرض عنه , و أقبل على الآخر , فأنزل الله عز و جل " عبس و تولى" .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أنزلت " عبس و تولى " في ابن أم مكتوم الأعمى , أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يقول : أرشدني . قالت : و عند رسول الله صلى الله عليه و سلم من عظماء المشركين . قالت : فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يُعرض عنه و يقبل على الآخر , و يقول : أترى بما أقول بأسا ؟ فيقول : لا , ففي هذا أنزل ) قال الشيخ الألباني صحيح الإسناد .
و إبن أم مكتوم هذا إسمه عبد الله , قال الشهاب : و هو مكيّ قرشيّ من المهاجرين الأولين , و كان النبي صلى الله عليه و سلم يستخلفه على المدينة في أكثر غزواته , و كان ابن خال خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها .

( عبس و تولى) أي النبي صلى الله عليه و سلم , و معنى عبس قطب ما بين عيينه كراهية لما نَابه و حصل له مما أزعجه , " و تولى" أعرض عنه .

( أن جاءه الأعمى ) أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإسلام .

( و ما يدريك لعله يزّكى) أي يريد زكاة نفسه و تطهير روحه بما يتعلمه منك .

( أو يذّكر فتنفه الذكرى) أي يعتبر و يتعظ فتنفعه موعظتك .

( أمّا من استغنى) أي بماله و قوته و شرف قومه عن سماع القرآن و الهداية و الموعظة .

( فأنت له تصدّى) أي تتعرض له مُقبلا عليه رجاء أن يسلم و يهتدي .

( و ما عليك ألاّ يزّكى ) أي و ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام , إنْ عليك إلا البلاغ . قال الرازي : أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم , إلى أن تعرض عمن أسلم , للإشتغال بدعوتهم .

( و أمّا من جاءك يسعى و هو يخشى) جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحبّ الأسماء إليك يا رسول الله , و الحال أنه يخشى الله تعالى و يخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب و العذاب .

( فأنت عنه تلهى) أي تُعرض و تتشاغل بغيره .

و من هاهنا أمر الله عز و جل رسوله صلى الله عليه و سلم ألا يخص بالإنذار أحد , بل يساوي فيه بين الشريف و الضعيف , و الفقير و الغني , و السادة و العبيد , و الرجال و النساء , و الصغار و الكبار . ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم , و له الحكمة البالغة و الحجة الدامغة .
قال السيوطي في الإكليل : في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء و الإقبال عليهم في مجالس العلم و قضاء حوائجهم , و عدم إيثار الأغنياء عليهم . قال الزمخشري : لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا , فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء .

( كلاّ) لا تفعل مثل هذا مرة أخرى .

( إنّها تذكرة) أي هذه الآيات و ما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة , يجب الإتعاظ بها و العمل بموجبها
يتبع...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( فمن شاء ذكره ) أي عَمِل بهذا الوحي و التنزيل كقوله تعالى " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر " .

( في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة ) صحف آيات التنزيل و سوره معظمة و موقرة عند الله تعالى , مرفوعة القدر و الرتبة , مطهرة من الدنس و الزيادة و النقص , و منزهة عن مس الشياطين لها .

( بأيدي سفرة , كرام بررة ) بأيدي ملائكة , خُلقهم كريم حسن شريف , و أخلاقهم و أفعالهم بارة طاهرة كاملة .
و من هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله و أقواله على السداد و الرشاد .

( قتل الإنسان ) لعن الإنسان – الكافر – و هذا الجنس الإنسان المكذب , لكثرة تكذيبه بلا مستند , بل بمجرد الإستبعاد و عدم العلم .

( ما أكفره ) أي ما حمله على الكفر و الكبر .

قال الرازي : " قتل الإنسان" تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب . و قوله " ما أكفره" تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح و المنكرات .

( من أي شيء خلقه ) أي من أي شيء حقير مهين خلقه ؟ و هذا تحقيرا له .

( من نطفة خلقه) خلقه الله من ماء مهين , من نطفة قذرة .
أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر و يتكبر و يستغني عن الله ؟ فلينظر إلى مبدئه و منتهاه و ما بينهما . مبدأه نطفة مذرة و آخره جيفة قذرة , و هو بينهما حامل عذرة . كيف يكفر و كيف يتكبر ؟

( فقدّره ) أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة , ثم هيأه لما يصلح له و يليق به من الأعضاء و الأشكال , فسواه بشرا سويا . و كذلك قدّر أجله و رزقه و عمله و شقي أو سعيد .

( ثم السبيل يسّره) ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه – اختاره ابن جرير - , أو يكون المعنى : يسر له الأسباب الدينية و الدنيوية , و هداه السبيل و بيّنه و امتحنه بالأمر و النهي قال تعالى " إنا هديناه السبيل إمّا شاكرا و إمّا كفورا " و هذا رجحه ابن كثير .

( ثم أماته فأقبره) أي أكرمه بالدفن , فهيأ له من يقبره , و لم يجعله كسائر الحيوانات التي تكون جيفها على وجه الأرض .

( ثم إذا شاء أنشره) أي بعثه بعد موته للجزاء .

( كلاّ لمّا يقض ما أمره ) فيها قولان للعلماء: الأول : أن الإنسان لم يقض ما أمره الله به , فهو مُقَصِر في حق الله , لأنه مهما اجتهد في طاعة الله فهو مقصر في حق مولاه – قاله الشيخ عبد العظيم بدوي - . الثاني : أن الله تعالى لن يقوم بالبعث و النشور الآن حتى تنقضي المدة , و يفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى له أنه سيوجد منهم , و يخرج إلى الدنيا , و قد أمر به تعالى كونا و قدرا , فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق و أعادهم كما بدأهم . و هذا اختاره ابن كثير .

( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) أي فإن لم يشهد خلق ذاته , و عمي عن الآيات في نفسه , و أصر على جحوده توحيدَ ربه , فلينظر إلى طعامه و مأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه . ماذا صنعنا في إحداثه و تهيئته لأن يكون غذاء صالحا لعله يذكر فيشكر . و كذلك فيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية و ترابا متمزقا .

( إنا صببنا الماء صبّا ) أنزلنا المطر من السماء على الأرض بكثرة .

( ثم شققنا الأرض شقّا ) أي صدعناها بالنبات , حيث أسكنّا المطر فيها فدخل في تُخُومها و تخلّل في أجزاء الحبِّ المودَع فيها , فنبت و ارتفع و ظهر على وجه الأرض .

( فأنبتنا فيها ) أصنافا مصنفة من أنواع الأطعمة اللذيذة , و الأقوات الشهية .

( حبّا ) و هذا شامل لسائر الحبوب على اختلاف أصنافها , كالقمح و الشعير و الذرة .

( و عنبا و قضبا ) العنب معروف , و القضب هو : كل ما أكل من النبات رطبا , كالقثاء و الخيار و نحوهما . و سمي قضبا لأنه يقضب , أي يقطع مرة بعد أخرى .

( و زيتونا و نخلا ) الزيتون يؤكل حبا , و يدهن به زيتا , و يستصبح به . و نخلا يؤكل بلحا بسرا , و رطبا , و تمرا , و نيئا , و مطبوخا , و يعتصر منه رُبٌّ و خل .

يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( وحدائق غُلبا) أي بساتين ذوات الأشجار المثمرة , عليها حوائط تحيط بها , " غلبا " أي ضخمة عظيمة , و عظمها إما لاتساعها البالغ حد البصر , أو لغلظ أشجارها وتكاثفها و إلتفافها .

( و فاكهة و أبّا) و فاكهة أي مما يؤكل من ثمار الأشجار , من تين و عنب و خوخ و رمان , و غير ذلك . و الأبُّ هوالمرعى الذي تأكله البهائم من العشب و النبات .

( متاعا لكم و لأنعامكم ) أي عيشة لكم و لأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة .

فمن نظر في هذه النعم , أوجب له ذلك شكر ربه , و بذل الجهد في الإنابةإليه , و الإقبال على طاعته , و التصديق بأخباره .

( فإذاجاءت الصّاخة ) و هي صيحة القيامة و صوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان , المزعج للأفئدة يومئذ , مما يرى الناس من الأهوال و شدة الحاجة لسالف الأعمال .

( يوم يفرّ المرء من أخيه , و أمّه و أبيه , و صاحبته وبنيه ) أي : يراهم , و يفر منهم , و يبتعد عنهم , لأن الهول عظيم , و الخطب جليل , و لاشتغاله بنفسه , و علمه بأنهم لا ينفعونه . و معنى صاحبته أي زوجته .

( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) أي قد أشغلته نفسه , و اهتم لفكاكها , و لم يكن له إلتفات إلى غيرها .
عن عائشة رضي اللهتعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " يبعث الناسيوم القيامة حفاة عراة غرلا" فقالت عائشة : يا رسول الله , فكيف بالعورات ؟فقال : " لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" صححه الإمام الألباني . و غرلا : أي غير مختونين .

( وجوه يومئذ مسفرة , ضاحكة مستبشرة ) وجوه يومئذ مضيئة مشرقة , قد ظهر فيها السرور و البهجة , من ما عرفوا من نجاتهم , و فوزهم بالنعيم . و هذه الوجوه هي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه , و قدموا من الخير والعمل الصالح ما ملأوا به صحفهم .

( ووجوه يومئذ عليها غبرة , ترهقها قترة ) ووجوه يومئذ عليها غبار و كدورة , تغشاها ظلمة و سواد , فهي وجوه سوداء مظلمة مدلهمة , قد أيست من كل خير , و عرفت شقاءها و هلاكها .

( أولئك هم الكفرة الفجرة) أي : الكفرة قلوبهم , الفجرة في أعمالهم , الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله , و ركبوا من محارمه , فجوزوا بسوء أعمالهم و خبث نياتهم .
 

أحدث المواضيع

أعلى