سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :

رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفسير سورةالقدر

مكية و آياتها خمس آيات

( إنّاأنزلناه في ليلة القدر) أي أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين , بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر , و هي الليلة المباركة التي قال الله عز و جل " إنا أنزلناه في ليلة مباركة" و هي من شهر رمضان , كماقال تعالى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" .
قال ابن عباس و غيره: أنزل الله القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة من السماء الدنيا , ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث و عشرين سنةعلى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و سميت ليلة القدر لعظم قدرها و فضلها عند الله , و لأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الآجال و الأرزاق و المقادير القدرية .

( و ما أدراك ما ليلة القدر ) أي أن شأنها جليل ومقدارها عظيم .

( ليلة القدر خير من ألف شهر ) أي تعادل من فضلها ألف شهر , فالعمل الذي يقع فيها , خير من العمل في ألف شهر خالية منها , و هذا مما تتحير فيه الألباب , و تندهش له العقول , حيث منّ تبارك و تعالى على هذه الأمة الضعيفة القوة و القوى , بليلة يكون العمل فيها يقابل و يزيد على ألف شهر , يعني ثلاث و ثمانون سنة و أربعة أشهر .
و لما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر , ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه " .

( تنزّل الملائكة و الروح فيها بإذن ربّهم ) أي يكثر تنزّل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها , و الملائكة يتنزلون مع تنزل البركة و الرحمة , كما يتنزلون عند تلاوة القرآن و يحيطون بحلق الذكر , و يضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له . و أما الروح فقيل : المراد به هاهنا جبريل عليه السلام , فيكون من باب عطف الخاص على العام , و قيل : هم ضرب من الملائكة . كما تقدم في سورة النبأ , و الله أعلم .

( من كل أمر ) قال قتادة و غيره: تقضى فيها الأمور , وتقدر الآجال و الأرزاق , كما قال تعالى " فيها يُفرق كل أمر حكيم" .

( سلام هي حتى مطلع الفجر ) أي سالمة من كل آفة و شر , إذ هي كلها خير من غروب الشمس إلى طلوع فجرها إنها كلها سلام , سلام الملائكة على العابدين من المؤمنين و المؤمنات و سلامة من كل شر . و الحمد لله الذي جعلنا من أهلها .

و من تحرى ليلة القدر فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر , قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " رواه البخاري و مسلم , و اللفظ للبخاري.
و قالت عائشة رضي الله عنها " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر , أحيا الليل , و أيقظ أهله , و شدالمئزر" رواه البخاري و مسلم , و لمسلم عنها" كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره" .
و ليجعل دعاءه " اللهم إنّك عفو تحب العفو فاعف عني" لما رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت : يا رسول الله , إن وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ قال : قولي " اللهم إنّك عفو تحب العفو فاعف عني" صححه الألباني .
و ليلةالقدر هذه باقية في كل سنة إلى قيام الساعة .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفسير سورة العلق

مكية و آياتها تسع عشرة آية

( إقرأ باسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , إقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم , علّم الإنسان ما لم يعلم )

عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( كان أوّل ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم , فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , ثمّ حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه الليالي أولات العدد , قبل أن يرجع إلى أهله , و يتزوّد لذلك , ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها , حتى فَجَئَهُ الحق و هو في غار حراء , فجاءه الملك فقال : إقرأ . قال ما أنا بقارئ , قال فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجَهد . ثم أرسلني فقال : إقرأ . قال قلت : ما أنا بقارئ . قال فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد , ثم أرسلني فقال : إقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطّني الثالثة حتى بلغ منّي الجهد . ثم أرسلني فقال : " إقرأ باسم ربك الذي خلق , خلق الإنسان من علق , إقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم , علّم الإنسان ما لم يعلم " فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادره ...) رواه البخاري و مسلم و غيرهما و اللفظ لمسلم. فأول شيء نزل من القرآن الكريم هذه الآيات الكريمات المباركات , و هنّ أول رحمة رحم الله بها العباد , و أول نعمة أنعم الله بها عليهم .

( إقرأ باسم ربك ) يأمر الله تعالى رسوله أن يقرأ بادئا قراءته بذكر اسم ربّه أي باسم الله الرحمن الرحيم .

( الذي خلق ) أي خلق الخلق كله و خلق آدم من طين . قال أبو سعود: ووصف الرب بقوله تعالى " الذي خلق " لتذكير أول النعماء الفائضة عليه الصلاة و السلام منه تعالى , و التنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة و ما يتبعها من الكمالات العلمية و العملية , من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات , قادر على تعليم القراءة للحيّ العالم المتكلم .

( خلق الإنسان من علق )
" خلق الإنسان " من أولاد آدم عليه السلام .
" من علق " و العلق اسم جمع واحدة علقة , و هي قطعة من الدم غليظة , كانت في الأربعين يوما الأولى في الرحم نطفة ثم تطورت إل علقة تعلق بجدار الرحم ثم تتطور في أربعين يوما مضغة لحم , ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق و إما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم .
و تخصيص خلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات , لاستقلاله ببدائع الصنع و التدبير و تفخيما لشأنه , إذ هو أشرفها و إليه التنزيل , و هو المأمور بالقراءة , قال الإمام: و من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا , و هو الحيّ الناطق الذي يسود بعلمه على سائر المخلوقات الأرضية , و يسخرها لخدمته , يقدر أن يجعل من الإنسان الكامل مثل النبي صلى الله عليه و سلم قارئا , و إن لم يسبق له تعلم القراءة , و جاء بهذه الآية بعد سابقتها ليزيد المعنى تأكيدا , كأنه يقول لمن كرر القول أنه ليس بقارئ : أيقن أنك قد صرت قارئا بإذن ربك الذي أوجد الكائنات , و ما القراءة إلا واحدة منها .

( إقرأ و ربك الأكرم) أي كثير الكرم و الإحسان , واسع الجود , الذي من كرمه أن علم بالعلم , قال الإمام: ... أن الله أكرم من كل من يرتجى منه الإعطاء , فيسير عليه أن يفيض عليك هذه النعمة , نعمة القراءة , من بحر كرمه , ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة , فوصف مانحها بأنه " الذي علّم بالقلم " .

( الذي علم بالقلم ) أي أفهم الناس بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان , و القلم آلة جامدة لا حياة فيها , و لا من شأنها في ذاتها الإفهام , فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم و البيان , ألا يجعل منك قارئا مبيّنا و تاليا معلما و أنت إنسان كامل ؟؟ ثم أراد أن يقطع الشبهة من نفسه , و يبعد عنه استغراب أن يقرأ و لم يكن قارئا , فقال " علم الإنسان ما لم يعلم " .

( علم الإنسان ما لم يعلم ) أي إن الذي صدر أمره بأن تكون قارئا و أوجد فيك ملكة القراءة و التلاوة , و سيبلغك فيها مبلغا لم يبلغه سواك , هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم , و كان في بدء خلقه لا يعلم شيئا , فهل يستغرب من هذا المعلّم الذي ابتدأ العلم للإنسان و لم يكن سبق له علم بالمرة , أن يعلمك القراءة و عندك كثير من العلوم سواها و نفسك مستعدة بها لقبول غيرها .

( كلاّ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) أي حقّا إن الإنسان ليتجاوز حدّه و يستكبر على ربه , غذا رأى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه أو بالكلّ و ما أصبح في حاجة إلى غيره , فيتجاوز حدّ الآداب و العدل و الحق و العرف فيتكبر و يظلم و يمنع الحقوق و يحتقر الضعفاء و يسخر بغيره . و أبو جهل كان مضرب المثل في هذا الوصف وصف الطغيان حتى قيل إنه فرعون هذه الأمة .
كذلك دلالة هذا الكلام فيه ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم بالكفران و الطغيان , أي ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان ينعم عليه ربه بتسوية خلقه و تعليمه ما لم يكن يعلم و إنعامه بما لا كفء له , ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك و يطغى عليه أن رآه استغنى
يتبع...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( إنّ إلى ربك الرّجعى ) أي إلى الله المصير والمرجع في الآخرة , قال أبو سعود: تهديد للطاغي و تحذيرله من عاقبة الطغيان .

( أرأيت الذي ينهى عبدا إذاصلى ) نزلت في أبي جهل , لعنه الله , توعد النبي صلى الله عليه و سلم على الصلاة عند البيت . روى البخاري عن ابن عباس : قال أبوجهل : لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه , فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم , فقال " لئن فعله لأخذته الملائكة " . و روى مسلم عن أبي هريرة , قال : قال أبو جهل : هل يُعَفِّرمحمد وجهه بين أظهركم ؟ قال فقيل : نعم . فقال : و اللاّت و العزّى ! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته , أو لأعفّرنّ وجهه في التراب . قال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلّي. زعم ليَذأ على رقبته . قال فما فَجِئَهم منه إلاّ و هو ينكص على عقبيه و يتّقي بيديه . قال فقيل له : مالك ؟ فقال : إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هَوْلاً و أجنحة . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" .

( أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى )
" أرأيت إن كان " أي المصلي الذي نُهي عن الصلاة و هو الرسول نفسه صلى الله عليه و سلم
" على الهدى" على الطريق المستقيمة الموصلة إلى سعادة الدنيا و الآخرة و كرامتهما
" أو أمر بالتقوى" أي أمر غيره بما يتقي به عذاب الدنيا و الآخرة فهل يحسن أن ينهي من هذا وصفه ؟ أليس نهيه من أعظم المحادّة لله و المحاربة للحق ؟ فإن النهي لايتوجه إلا لمن هو في نفسه على غير الهدى , أو كان يأمر غيره بخلاف التقوى.

( أرأيت إن كذّب و تولى) أرأيت يا رسولنا إن كذب هذا الذي ينهى عبدا إذا صلى بالحق و الدين , و تولى عن الإيمان و الشرع , كيف يكون حاله يوم يلقى ربه ؟

( ألم يعلم بأن الله يرى ) أي : أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه و يسمع كلامه , و سيجازيه على فعله أتم الجزاء .

( كلاّ لئن لم ينته ) أي : لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق و العناد .

( لنسفعا بالناصية) أي لنأخذنّ بناصيته , أخذا عنيفا و لنسحبنه بها إلى النار . و السفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة .

( ناصية كاذبة خاطئة ) يعني : ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعلها .

( فليدع ناديه ) أي قومه و عشيرته و أهل مجلسه و أصحابه ليدعهم يستنصر بهم .

( سندع الزبانية ) و هم ملائكة العذاب , حتى يعلم من يغلب : أحزبنا أو حزبه .

(كلا لا تطعه واسجد واقترب )
" كلا لاتطعه " يا محمد , لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة و كثرتها , و صلّ حيث شئت و لا تباله , فإن الله حافظك و ناصرك , و هو يعصمك من الناس .
" و اسجد واقترب " أي صل لربك و قرب منه بالعبادة و تحبب إليه بالطاعة فإنها تُدني من رضاه و تقرب منه . روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال " أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد , فأكثروا الدعاء " .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفسير سورةالتّين

مكية و آياتها ثمان

( التين والزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين ) أقسم الله تعالى بالتين و الزيتون , و هو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك , و منها بُعث المسيح عيسى بن مريم و أنزل عليه فيها الإنجيل , و أقسم بطور سيناء و هو الجبل الذي كلم الله موسى و ناداه فيه , من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة , و أقسم بهذا البلد الأمين الذي جعله الله حرما آمنا و يتخطف الناس من حوله و هو مكة الذي أسكن فيها إبراهيم إبنه , و أمه هاجر فيه . و أرسل فيه محمدا صلى الله عليه و سلم .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى ( " و التين الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين" إقساما منه
بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة , التي ظهر فيها نوره هذا , و أنزل فيها كتبه
الثلاثة : التوراة و الإنجيل و القرآن ) .

( لقدخلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) تام الخلق , متناسب الأعضاء , منتصب القامة , لم يفقد مما يحتاج إليه ظاهرا أو باطنا شيئا , و مع هذه النعم العظيمة , التي ينبغيمنه القيام بشكرها , فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم , مشتغلون باللهو و اللعب , قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمور , و سفاسف الأخلاق , فردهم الله إلى أسفل سافلين .

( ثم رددناه إلى أسفل سافلين ) أي جعلناه أسفل من
سفل , و هم أصحاب النار , لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لوعمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين .

( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) إلا من منّ الله عليه بالإيمان و العمل
الصالح , و الأخلاق الفاضلة العالية , " فلهم " بذلك
المنازل العالية و " أجر غير ممنون" أي غير مقطوع , بل
لذات متوافرة , و أفراح متواترة , و نعم متكاثرة في أبدٍ لا يزول , ونعيم لا يحول .

( فما يكذبك بعد بالدين ) أي شيء يا ابن آدم يحملك
على التكذيب بيوم الجزاء على الأعمال , و قد رأيت من آيات الله الكثيرة ما به يحصللك اليقين , و من نعمه ما يوجب عليك أن لا تكفر بشيء مما أخبرك به .
و جُوِّز أن
يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم فيكون ذلك إنكار توبيخي للمكذبين له صلى
الله عليه و سلم , بعدما ظهر لهم من دلائل صدقه و صحة مدعاه .

(أليس الله بأحكم الحاكمين ) أي بأحكم من حكم في أحكامه الذي لايجور و لا يظلم أحدا , و من عدله أن يقيم القيامة فينصف المظلم في الدنيا ممن ظلمه . قال أبو السعود" أي أليس الذي فعلما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا و تدبيرا , حتى يتوهم عدم الإعادة و الجزاء , و حيث
استحال عدم كونه أحكم الحاكمين , تعين الإعادة و الجزاء , فالجملة تقرير لماقبلها "
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمنالرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الشرح

مكية و آياتها ثمان آيات

( ألم نشرح لك صدرك) أي نورناه و جعلناه فسيحا رحيبا واسعا لشرائع الدين و الدعوة إلى الله , و الإتصاف بمكارم الأخلاق , و الإقبال على الآخرة , و تسهيل الخيرات , فلم يكن ضيقا حرجا , لا يكاد ينقاد لخير , و لا تكاد تجده منبسطا .
و كما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر و لا ضيق .

( ووضعنا عنك وزرك ) النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن له وزر حقيقة , لأنه كان محفوظا بحفظ الله تعالى فلم يسجد لصنم و لم يشرب خمرا و لم يقل أو يفعل إثما قط .
فالأنبياء والرسل معصومون من الكبائر , و من الصغائر على الراجح , إذا ما هي ذنوب الأنبياء ؟قال العلماء : ذنوب الأنبياء هي ما كان خلاف الأولى عن اجتهاد يعني يجتهد و لا يصيب الأولى , مثلما اجتهد النبي صلى الله عليه و سلم في أسرى بدر حيث قبل الفدية و أطلق سراحهم , فكان هذا اجتهاد , الله تعالى عاتبه عليه و قال " لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم"قاله الشيخ عبد العظيم بدوي في الدقيقة 53:01 .

( الذي أنقض ظهرك ) قال غير واحد من السلف أي أثقلك حمله . والإنقاض : حصول النقيض و هو صوت فقرات الظهر , و قيل : صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه . فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض , أي صوت .

( و رفعنا لك ذكرك) أي : أعلينا قدرك , و جعلنا لك الثناء الحسن العالي , الذي لم يصل إليه أحد من الخلق , فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه و سلم , كما في الدخول في الإسلام , و في الأذان و الإقامة والخطب , و غير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله صلى الله عليه و سلم . وله في قلوب أمته من المحبة و الإجلال و التعظيم ما ليس لأحد غيره , بعد الله تعالى , فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته .

( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) بشارة عظيمة , أنه كلما وجد عسر و إن بلغ من الصعوبة ما بلغ فإنه في آخره التيسير الملازم له , حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه , كما قال تعالى " سيجعل الله بعد عسر يسرا" .
و تعريف " العسر " في الآيتين , يدل على أنه واحد , و تنكير " اليسر " يدل على تكراره , فلن يغلب عسر يسرين .

( فإذا فرغت فانصب ) إذا فرغت من أمور الدنيا و أشغالها و قطعت علائقها , فانصب في العبادة , و قم إليها نشيطا فارغ البال , و أخلص لربك النية و الرغبة . و عن ابن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل . و قال ابن عباس" فإذا فرغت فانصب" : يعني في الدعاء . و قال زيد بن أسلم و الضحاك" فإذا فرغت" أي : من الجهاد " فانصب" أي في العبادة .

( و إلى ربك فارغب ) إرغب بعد كل عمل تقوم به في مثوبة ربك و عطائه و ما عنده من الفضل والخير إذ هو الذي تعمل له و تنصب من أجله فلاترغب في غيره و لا تطلب سواه .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الضحى

مكية و آياتها إحدى عشر آية

عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال " اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت يا محمد إنّي لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قد قربك منذ ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله عز وجل ( و الضحى و الليل إذا سجى ماودّعك ربّك و ما قلى ) " رواه البخاري و مسلم . و المرأة هي أم جميل العوراء إمرأة أبي لهب .
قلت ( عبد الحي ) : و روى مسلم أيضا عن جندب أنه قال : " أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم , فقال المشركون : قد وُدِّع محمد , فأنزل الله عزّ و جل ( و الضحى و الليل إذا سجى ماودّعك ربّك و ما قلى ) "

( و الضحى و الليل إذا سجى )
" الضحى " هو أول النهار من طلوع الشمس و ارتفاعها قيد رمح إلى ما قبل الزوال بقليل .
" و الليل إذا سجى " أي اشتدّ ظلامه
و معنى الآية : أن الله تعالى أقسم بالنهار إذا انتشر ضياؤه بالضحى , و بالليل إذا سجى و ادلهمّت ظلمته , على اعتناء الله برسوله صلى الله عليه و سلم .

( ما ودّعك ربك) أي ما تركك منذ اعتنى بك , و لا أهملك منذ رباك و رعاك , بل لم يزل يربيك أحسن تربية , و يعليك درجة بعد درجة

( و ما قلى ) و ما أبغضك , و القالي : المبغض , يعني ما هجرك عن بغض .

( و للآخرة خير لك من الأولى ) قال ابن جرير: " أي و للدار الآخرة , و ما أعد الله لك فيها , خير لك من الدار الدنيا و ما فيها " .
لهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أزهد الناس في الدنيا , و أعظمهم لها إطراحا . و قال القاضي: " أو : لنهاية أمرك خير من بدايته ". فلم يزل صلى الله عليه و سلم في درج المعالي , و يمكن له الله دينه , و ينصره على أعدائه , و يسدد له أحواله , حتى مات , و قد وصل إلى حال لا يصل إليها الأولون و الآخرون , من الفضائل و النعم و قرة العين , و سرور القلب .

( و لسوف يعطيك ربك فترضى ) أي يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى , و هذه عدّة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس و علوم الأولين و الآخرين , و ظهور الأمر و إعلاء الدين , بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة و السلام , و في أيام خلفائه الراشدين و غيرهم من ملوك الإسلام , و فشوّ دعوته في مشارق الأرض و مغاربها , و لما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى , و بالجملة , فهذه الآية جامعة لوجوه الكرامة و أنواع السعادة و شتات الإنعام في الدارين , حيث أجمله ووكله إلى رضاه و هذا غاية الإحسان و الإكرام .

ثم قال تعالى يعدد نعمه على عبده و رسوله محمد , صلوات الله و سلامه عليه : ( ألم يجدك يتيما فآوى ) و ذلك أن أباه تُوفي و هو حَمل في بطن أمه , و قيل : بعد أن ولد , عليه السلام , ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب و له من العمر ست سنين , ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي و له من العمر ثماني سنين , فكفله عمه أبو طالب , ثم لم يزل يحوطه و ينصره و يَرفع من قدره و يُوقّره , و يكفّ عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره , هذا و أبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان , و كل ذلك بقدر الله و حُسن تدبيره , إلى أن تُوفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل , فأقدم عليه سفهاء قريش و جُهالهم , فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس و الخزرج , كما أجرى الله سُنَّته على الوجه الأتم و الأكمل , فلما وصل إليهم أوَوه و نَصروه و حاطوه و قاتلوا بين يديه , رضي الله عنهم أجمعين , و كل هذا من حفظ الله له و عنايته به .

( ووجدك ضالا فهدى ) أي غافلا عما أوحاه إليك من الهدى و الفرقان , فهداك إليه و جعلك إماما له , كما في آية " ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان " قال الشهاب: فالضلال مستعار من " ضل في طريقه " إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده لعدم ما يوصله للعلوم النافعة , من طريق الإكتساب .

( ووجدك عائلا) أي فقيرا ( فأغنى ) فأغناك بمال خديجة الذي وهبته إياه , أو بما حصل لك من ربح التجارة , ثم بما فتح الله عليك من البلدان , التي جبيت لك أموالها و خراجها , فجمع له بين مقامي , الفقير الصابر و الغني الشاكر , صلوات الله و سلامه عليه .

( فأمام اليتيم فلا تقهر ) كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم , و لا تذله و تنهره و تهنه , و لكن أحسن إليه و تلطفه به
يتبع...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و أما السائل فلا تنهر) لا يصدر منك إلى السائل كلام يقتضي رده عن مطلوبه , بنهر و شراسة خلق , بل أعطه ماتيسر عندك أو ردّه بمعروف و إحسان , و هذا يدخل فيه السائل للمال , و السائل للعلم , و لهذا كان المعلم مأمورا بحسن الخلق مع المتعلم , و مباشرته بالإكرام و التحننعليه , فإن في ذلك معونة له على مقصده , و إكراما لمن كان يسعى في نفع العباد والبلاد .

( و أما بنعمة ربك فحدّث) و النعم هذه تشمل الدينية و الدنيوية ,

فالدنيوية : كما كنت عائلا فقيرا فأغناك الله , فحدث بنعمة الله عليك و أوسع في البذل على الفقراء ,

أما الدينية : فاشكر نعمة الإيمان والإحسان و الوحي و العلم و الفرقان و ذلك بالتحدث بها إبلاغا و تعليما و تربية وهداية .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

112811181139jcxtcujf4169mk.gif
إخوتي وأخواتي أعضاء وعضوات منتدانا الحبيب::
زوارنا وزائراتنا الكرام الأفاضل::
الحمد لله الذي منحني هذه الفرصة الرائعة لــ نقل هذه السلسلة::
وأسأل الله أن يستفيد منها الجميع::
وأطلب من كل من يستفيد منه ::
الدعاء الخالص لوجه الله لمن كتبها:: ثم لي ولأمي ::
ولجميع المسلمين المستضعفين::
وسأكتفي اليوم بهذا القدر من سور الجزء الثلاثين::
على وعد مني باستكمال بقية سور الجزء الثلاثين في أقرب وقت بمشيئة الله::
أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول...فيتبعون أحسنه...
وأن يجعلنا سبباً ولو ضئيلاً في هداية مَن حولنا...
وأن يجعل ما نكتب شاهداً لنا...لا شاهداً علينا...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الليل

مكية و آياتها إحدى و عشرون آية

( و الليل إذا يغشى ) أي يعم الخلق بظلامه .

( و النهار إذا تجلى ) ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين بطلوع الشمس .

و الليل و النهار هما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته .

( و ما خلق الذكر و الأنثى ) و هو كقوله تعالى " و خلقناكم أزواجا" و كقوله تعالى " و من كل شيء خلقنا زوجين" .

( إن سعيكم لشتى ) أي إن عملكم أيها الناس لمختلف , منه الحسنات الموجبة للسعادة و الكمال في الدارين , و منه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين - أي دار الدنيا و الآخرة - .

( فأما من أعطى ) أي أعطى ما أمر بإخراجه من العبادات المالية , كالزكوات , و الكفارات و النفقات , و الصدقات , و الإنفاق في وجوه الخير .

( و اتقى ) ما نُهي عنه , من المحرمات و المعاصي , على اختلاف أجناسها .

( و صدق بالحسنى) أي صدّق ب " لا إله إلا الله" و ما دلت عليه , من جميع العقائد الدينية , و ما ترتب عليها من الجزاء الأخروي .

( فسنيسره لليسرى ) أي فسنهيئه و نوفقه للطريقة اليسرى , التي هي السلوك في طريق الحق , فنيسر له فعل كل خير , و نيسر له ترك كل شر , لأنه أتى بأسباب التيسير , فيسر الله له ذلك .

( و أما من بخل ) أي بالنفقة في سبيل الله , و منع ما وهب الله له من فضله من صرفه في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها. فلم يعط حق الله فيه و لم يتصدق متطوعا في سبيل الله .

( و استغنى ) بماله وولده و جاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه و لا في أداء فرائضه , و لم ير نفسه مفتقرة غاية الإفتقار إلى ربها , الذي لا نجاة و لا فوز و لا فلاح , إلا بأن يكون هو محبوبها و معبودها , الذي تقصده و تتوجه إليه .

( و كذّب بالحسنى ) أي بوجود المثوبة للحسنى , لمن آمن الحق , لاسغنائه بالحياة الدنيا و احتجابه بها عن عالم الآخرة .

( فسنيسره للعسرى ) أي للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبدي , و هي العمل بما يكرهه الله تعالى و لا يرضاه من الذنوب و المعاصي و الآثام ليكون ذلك قائده إلى النار , قال الله تعالى " و نُقلّب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون " .

( و ما يغني عنه ماله إذا تردّى ) يخبر تعالى بأن من بخل و استغنى و كذب بالحسنى حفاظا على ماله و شحا به و بخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه .

( إن علينا للهدى ) أي علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة , حيث خلقنا الخلق للإصلاح في الأرض , أن نبين لهم طريق الهدى ليجتنبوا مواقع الردى , و قد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل , و إنزال الكتب , و التمكين من الإستدلال و الإستبصار , بخلق العقل و هبة الإختيار
يتبع...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و إنّ لنا للأخرة و الأولى ) أي ملكا و خلقا , ليس له فيهما مشارك فليرغب الراغبون إليه في الطلب , و لينقطع رجاؤهم عن المخلوقين . و الآية أيضا فيها إشارة إلى تناهي عظمته و تكامل قهره و جبروته , و إن من كان كذلك , فجدير أن يبادر لطاعته و يحذر من معصيته .

( فأنذرتكم نارا تلظى ) أي تستعر و تتوقد . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منها دماغه " رواه البخاري . و الأخمص هو المتجافي من الرجل عن الأرض. و في رواية لمسلم " إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان و شراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل , ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا , و إنه لأهونهم عذابا" . و الشراك هو أحد سيورالنعل , الذي يكون على وجهها و على ظهر القدم.

( لايصلاها إلا الأشقى ) لا يدخلها و يصطلي بحرها خالدا فيها أبدا إلا الأشقى أي الأكثر شقاوة و هو المشرك , و قد يدخلها الشقي من أهل التوحيد و يخرج منها بتوحيده , حيث لم يكذب و لم يتول , و لكن فجر و عصى , و ما أشرك و ما تولى .

( الذي كذب ) بالحق الذي جاءه .

( وتولى ) عن آيات ربه و براهينها التي وضح أمرها و بهر نورها , عنادا و كفرا .

( و سيجنبها الأتقى ) أي و سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى , ثم فسره بقوله تعالى ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) أي يصرف ماله في طاعة ربه , ليزكي نفسه و ماله و ما وهبه الله من دين و دنيا .

( و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة و ليس ما ينفقه من أجل أنعليه لأحد من الناس فضلا أو يداً فهو يكافئه بها لا لا , و إنما هو ينفق ابتغاء رضا ربه تعالى لا غير .

( و لسوف يرضى ) و لسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات .

و قد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق , حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك . و لا شك أنه داخل فيها , و أولى الأمة بعمومها , فإن لفظها لفظ العموم , و هو قوله تعالى " و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" , و لكنه مقدم الأمة و سابقهم في جميع هذه الأوصاف و سائر الأوصاف الحميدة .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الشمس

مكية و آياتها خمس عشرة آية

أقسم الله تعالى بهذه الآيات العظيمة , على النفس المفلحة , و غيرها من النفوس الفاجرة , فقال :

( و الشمس و ضحاها) قال ابن جرير : أقسم الله بالشمس و نهارها , لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار . قال الراغب" الضحى " انبساط الشمس و امتداد النهار , و به سمي الوقت . و حقيقته - كما قال الشهاب - تباعد الشمس عن الأفق المرئيّ و بروزها للناظرين . و قال الإمام: يقسم بالشمس نفسها ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم . و يقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة و مجلي الهداية في عالمها الفخيم .

( و القمر إذا تلاها ) أي تبع الشمس في المنازل و النور . قال الإمام: و ذلك في الليالي البيض , من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة . و هو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه مع الإمتلاء . إذ يضيء الليل كله مع غروب الشمس إلى الفجر . و هو قسم في الحقيقة بالضياء في طور آخر من أطواره , و هو ظهوره و انتشاره الليل كله .

( و النهار إذا جلاّها ) أي جلّى ما على وجه الأرض و أوضحه , و ذلك عند انتفاخ النهار و انبساطه , لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الإنجلاء .

( و الليل إذا يغشاها ) أي يغشي وجه الأرض , فيكون ما عليها مظلما .
فتعاقب الظلمة و الضياء , و الشمس و القمر , على هذا العالم , بانتظام و إتقان , و قيام لمصالح العباد , أكبر دليل على أنه الله بكل شيء عليم , و على كل شيء قدير , و أنه المعبود وحده , الذي كل معبود سواه فباطل .

( و السماء و ما بناها ) أي و من رفعها , و صيّرها بما فيها من الكواكب كالسقف أو القبة المحكمة المزينة المحيطة بنا .

( و الأرض و ما طحاها ) أي بسطها من كل جانب , لافتراشها و ازدراعها و الضرب في أكنافها , فتمكن الخلق حينئذ من الإنتفاع بها , بجميع وجوه الإنتفاع .

( و نفس و ما سواها) أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة , كما قال تعالى " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " , و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " كل مولود يولد على الفطرة , فأبواه يُهوّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمَجِّسانه , كما تولد البهيمة بهيمة جَمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ " رواه البخاري و مسلم, و قال صلى الله عليه و سلم : " يقول الله عز و جل : إني خلقت عبادي حُنفاء فجاءَتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " رواه مسلم.

( فألهمها فجورها و تقواها ) بين لها الخير و الشر , أي ما تعمله من الصالحات و ما تتجنّبه من المفسدات .

( قد أفلح من زكَّاها) أي طهر نفسه من الذنوب , و نقّاها من العيوب , و رقّاها بطاعة الله , و علاّها بالعلم النافع و العمل الصالح
يتبع:::


 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و قد خاب من دسّاها ) أي أخفى نفسه الكريمة , بالتدنس بالرذائل والدنو من العيوب و الإقتراف للذنوب , و ترك ما يكملها و ينميها , و استعمال مايشينها و يدسيها .

( كذّبت ثمود بطغواها ) أي بسبب طغيانها و ترفعها عن الحق و مجاوزتها الحدّ في الفجور , و عتوها على رسل الله . والمراد بهذا الإخبار إنذار قريش من خطر استمرارها على التكذيب , و تسلية للرسول صلى الله عليه و سلم و المؤمنين .

( إذ انبعث أشقاها) أي أشقى القبيلة , هو قُدَار بن سالف عاقر الناقة , و هو أحمير ثمود , و هو الذي قال تعالى " فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر " . و كان هذا الرجل عزيزا فيهم شريفا في قومه نسيبا رئيسا مطاعا .

( فقال لهم رسول الله ) و هو صالح عليه السلام , محذّرا .

( ناقة الله و سقياها) أي : احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء , ولا تعتدوا عليها في سقياها الذي اختصه الله به في يومها . و كان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم و لهم شرب آخر , غير يوم الناقة . كما بينته آية الشعراء في قوله " هذه ناقة لها شرب و لكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم" .

( فكذَّبوه) أي : كذّبوه فيما جاءهم به سواء رسالته و دعوته إلى عبادة الله وحده , أو تحذيره لهم من حلول العذاب عليهم إنهم لمسوا الناقة بسوء .

( فعقروها ) أي قتلوها . قال في النهاية: أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف و هو قائم , ثم اتسع حتى استعمل في القتل و الهلاك .
و ذلك أنهم أجمعوا على منعها الشرب و رضوا بقتلها . و عن رضا جميعهم قتلها قاتلها و عقرها من عقرها . و لذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم .

( فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ) أهلكهم و أزعجهم بسبب كفرهم به و تكذيبهم رسوله و عقرهم ناقته , استهانة به واستخفاف بما بعث به . فأرسل عليهم الصيحة من فوقهم , و الرجفة من تحتهم , فأصبحوا جاثمين على ركبهم , لا تجد منهم داعيا و لا مجيبا .

( فسوّاها ) أي فسوى الدمدمة عليهم جميعا , فلم يفلت منهم أحد . فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء .

( و لا يخاف عقباها) قال ابن عباس: لا يخاف الله من أحد تبعة , وكذا قال مجاهد و الحسن , و بكر بن عبد الله المزني , و غيرهم . فالله تعالى لا يخشى تبعة إهلاكهم لأنه العزيز الذي لا يغالب , و القاهر الذي لا يخرج عن قهره و تصرفه مخلوق , الحكيم في كل ما قضاه و شرعه .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة البلد

مكية و آياتها عشرون آية

( لا أقسم بهذا البلد ) يقسم الله تعالى بالبلد الأمين , الذي هو مكة المكرمة , أفضل البلدان على الإطلاق .

( و أنت حل بهذا البلد ) قال مجاهد: ما أصبت - يعني الرسول صلى الله عليه و سلم - فيه فهو حلال لك , و قال قتادة: أنت به من غير حرج و لا إثم , و قال الحسن البصري: أحلها الله له ساعة من نهار . و هذا المعنى الذي قالوه قد ورد به الحديث المتفق على صحته : ( إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات و الأرض , فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة , لا يُعضَد شجره و لا يختلى خلاه , و إنما أحلت لي ساعة من نهار , و قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألا فليبلغ الشاهد الغائب ) . و في لفظ آخر ( فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله و لم يأذن لكم ) رواه البخاري و مسلم.

( ووالد و ما ولد ) قال مجاهد و قتادة و سعيد بن جبير و الحسن البصري و غيرهم : يعني بالوالد آدم , و ما ولد ولده , قال ابن كثير: و هذا الذي ذهب إليه مجاهد و أصحابه حسن قوي , لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى و هي المساكن أقسم بعده بالساكن , و هو آدم أبو البشر وولده . و اختار ابن جريرأنه عام في كل والد وولده , قال : و غير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل , و لا خبر بخصوص ذلك و لا برهان , يجب التسليم له بخصوصه , فهو على عمومه كما عمه .

( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) أي في شدة , يكابد الأمور و بعالجها في أطواره كلها , من حمله إلى أن يستقر به القرار , إما في الجنة و إما في النار .
و فيه تسلية للنّبي صلوات الله عليه , مما كان يكابده من قريش , من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا , و أن كل ما كان أعظم فهو أشد نصبا .

( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ) أي أن لن تقوم قيامة , و لن يقدر على مجازاته و قهره و غلبته , مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته و اعترافه بعجزه .

( يقول أهلكت مالا لُّبَدًا ) أي : كثير , بعضه فوق بعض . و سمى الله تعالى الإنفاق في الشهوات و المعاصي إهلاكا , لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق , و لا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم و الخسار و التعب و القلة , لا كمن أنفق في مرضاة الله في سبيل الخير , فإن هذا قد تاجر مع الله , و ربح أضعافا أضعافا ما أنفق .

( أيحسب أن لم يره أحد ) أيحسب أن لم يطلع الله تعالى على باطنه و نيته , حين ينفق ماله في السمعة و الرياء و المباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله , بل قد رآه الله , و حفظ عليه أعماله , ووكل به الكرام الكاتبين , لكل ما عمله من خير و شر .

( ألم نجعل له عينين و لسانا و شفتين) للجمال و البصر و النطق , و غير ذلك من المنافع الضرورية فيها . قال السيد المرتضى : هذا تذكير بنعم الله عليهم ... و ما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم , و يدفعون بها المضار عنهم .

( و هديناه النجدين ) أي بيّنا له طريق الخير و الشر , و السعادة و الشقاء , بما أودعناه في فطرته و بما أرسلنا به رسلنا و أنزلنا به كتبنا .
و نظير هذه الآية قوله تعالى " إنّا خلقنا الإنسان من نُطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا . إنّا هديناه السبيل إمّا شاكرا و إما كفورا " .

( فلا اقتحم العقبة ) قال ابن زيد: أي : أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة و الخير .

( و ما أدراك ما العقبة ) أي أي شيء أعلمك ما اقتحم العقبة ؟ و في الإستفهام زيادة تقريرها و كونها عند الله تعالى بمكانة رفيعة
يتبع:::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

(فك رقبة ) أي فكها من الرق , بعتقها أو مساعدتها على أداء كتابتها , و من باب أولى فكاك الأسيرالمسلم عند الكفار. قال رسول لله صلى الله عليه و سلم : " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار , حتى إنه ليعتق باليداليد , و بالرجل الرجل , و بالفرج الفرج " رواه البخاري ومسلم, و قال صلى الله عليه و سلم : "من أعتق رقبة مسلمةكانت فكاكه من النار , عضوا بـ عضو" صححه الألباني .

( أو إطعام في ذي مسغبة) قال ابن عباس و عكرمة و مجاهد و الضحاك و قتادة و غير واحد: ذي مجاعة , والسَّغب : هو الجوع , قال إبراهيم النخعي: في يوم الطعام فيه عزيز . فيطعم وقت الحاجة أشد الناس حاجة .

( يتيما ذا مقربة ) أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيما ذا قرابة منك , قال السيد المرتضى: و هذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين , على الأجانب في الإفضال . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الصدقة على المسكين صدقة , و على ذي الرحم اثنتان , صدقة و صلة" . صححه الألباني.

( أومسكينا ذا متربة) أي فقيرا مُدقعا لاصقا بالتراب من الحاجة و الضرورة , قال ابن عباس: " ذا متربة" هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له , و لا شيء يقيه من التراب , و قال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج , و قال سعيد بن جبير: هو الذي لا أحد له . قال ابن كثير: و كل هذه - الأقوال - قريبة المعنى .

( ثم كان من الذين آمنوا ) أي : ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلةالطاهرة , مؤمن بقلبه , و يعمل الصالحات بجوارحه من كل قول و فعل , واجب أو مستحب , محتسب ثواب ذلك عند الله عز و جل , كما قال تعالى " و من أرادالآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " , و قال " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن " .

( و تواصوا بالصبر ) على طاعة الله و عن معصيته و على أقدارالله المؤلمة بأن يحث بعضهم بعضا على الإنقياد لذلك , و الإتيان به كاملا منشرحا بهالصدر , مطمئنة به النفس .

( و تواصوا بالمرحمة ) للخلق , من إعطاء محتاجهم , و تعليم جاهلهم , و القيام بما يحتاجون إليه من جميعالوجوه , و مساعدتهم على المصالح الدينية و الدنيوية , و أن يحب لهم ما يحب لنفسه , و يكره لهم ما يكره لنفسه , أولئك الذين قاموا بهذه الأوصاف , الذين وفقهم اللهلاقتحام هذه العقبة ( أولئك أصحاب الميمنة ) لأنهم أدوا ماأمر الله به من حقوقه و حقوق عباده , و تركوا ما نهوا عنه و هذا عنوان السعادة وعلامتها .

( و الذين كفروا بأياتنا ) أي بأدلتنا وأعلامنا من الكتب و الرسل و غير ذلك من آيات الأنفس و الآفاق , التي بكل يرتقي إلى معرفة الصراط التي يجب الإستقامة عليه في الإعتقاد و العمل .

( هم أصحاب المشئمة ) أي الشؤم على أنفسهم , أو جهة الشمال التي فيها الأشقياء , قال الإمام : أهل اليمين , في لسان الدين الإسلامي عنوان السعداء , و أهل الشمال عنوان الأشقياء .

( عليهم نار مؤصدة ) أي : مطبقة عليهم , فلا محيد لهم عنها و لاخروج لهم منها , و هي كناية عن حبسهم المخلد فيها و سد سبل الخلاص منها . أجارنا الله و إياكم بفضله و كرمه منها .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الفجر

مكية و آياتها ثلاثون آية

( و الفجر ) أقسم الله تعالى الفجر , الذي هو آخر الليل و مقدمة النهار , لما في إدبار الليل و إقبال النهار , من الآيات الدالة عل كمال قدرة الله تعالى . و أنه وحده المدبر لجميع الأمور , الذي لا نبغي العبادة إلا له , و يقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة , يحسن أن يقسم الله بها . و جائز أن يكون قد أراد تعالى فجر يوم معين , فعن مسروق و مجاهد و محمد بن كعب أن المراد به هو فجر يوم النحر خاصة , و هو خاتمة الليالي العشر .

( و ليال عشر) هي العشر الأول من شهر ذي الحجة , و فيها الأضحى , و الوقوف بعرفة , الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان , فما رُئِي الشيطان أحقر و لا أدحر منه في يوم عرفة , لما يرى من تَنَزُّل الأملاك و الرحمة من الله لعباده , و يقع فيها كثير من أفعال الحج و العمرة , و هذه أشياء معظمة , مستحقة لأن يقسم الله بها . قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام "- يعني عشر ذي الحجة - قالوا : و لا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : " و لا الجهاد في سبيل الله , إلا رجلا خرج بنفسه و ماله , ثم لم يرجع من ذلك بشيء " . رواه البخاري.

( و الشفع و الوتر) قال ابن جرير : و الصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذِكره أقسم بالشفع و الوتر , و لم يخصص نوعا من الشفع و لا من الوتر , دون نوع , بخبر و لا عقل , و كل شفع و وتر , فهو مما أقسم به . مما قاله أهل التأويل أنه داخل في قسمه هذا , لعموم قسمه بذلك .

( و الليل إذا يسر ) مقبلا أو مدبرا فهو بمعنى و الليل إذا سار و السير يكون صاحبه ذاهبا أو آيبا .

( هل في ذلك قسم لذي حجر ) أي : لذي عقل و لب و حجا و دين , و إنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال و الأقوال . قال ابن جرير : أي : هل فيما أقسمت به من هذه الأمور مقنع لذي حجر . و إنما عُني بذلك : أن في هذا القسم مكتفى لمن عقل عن ربه , مما هو أغلظ منه في الأقسام .

( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) ألم تعلم علما يقينيّا كيف عذب ربك عادا , فيعذب هؤلاء أيضا , لاشتراكهم فيما يوجبه من جحود الحق و المعاصي . و عاد قبيلة من العرب البائدة , و تلقب بإرم أيضا , كانوا متمردين عتاة جبارين , خارجين عن طاعته مكذبين لرسله , جاحدين لكتبه , فذكر تعالى كيف أهلكهم و دمرهم , و جعلهم أحاديث و عبر , و هؤلاء عاد الأولى هم أولاد عاد بن إرم بن عَوص بن سام بن نوح , قاله ابن إسحاق و هم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه السلام , فكذبوه و خالفوه , فأنجاه الله من بين أظهرهم و من آمن معه منهم , و أهلكهم بريح صرصر عاتية " سخرها عليهم سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية , فهل ترى لهم من باقية " . و قد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع , ليعتبر بمصرعهم المؤمنون .

( ذات العماد) كانوا يسكنون بيوت الشَّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد لأنهم ينتجعون الغيوث و ينتقلون إلى الكلأ حيث كان , ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضر موت
يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( التي لم يُخلق مثلها في البلاد ) أي في العِظم و البطش و الأيدي , فقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة و أقواهم بطشا , و لهذا ذكَّرهم هود عليه السلام بتلك النعمة و أرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : " و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح و زادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تُفلحون " . و قال تعالى " فأمّا عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق و قالوا من أشدُّ منّا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوة " .

( و ثمود ) هم قوم صالح عليه السلام .

( الذين جابوا الصخر بالواد ) أي قطعوا صخر الجبال , واتخذوا فيها بيوتا لهم و مساكن تقيهم برد الشتاء القارص و حر الصيف اللافح , قال تعالى " و كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين" , و المراد بالواد واديهم الذي كان بين جبلين من جبالهم التي ينحتون منها البيوت و هو وادي القرى .

( و فرعون ذي الأوتاد ) أي الجنود الذين يشدون له أمره , أو هي أوتاد يشد بها من يعذّبه إذ كان له أربعة أوتاد إذا أراد قتل من كفر به و خرج عن طاعته قيد كل يد بوتد و كل رجل بوتد و يقتله , أو هي القوى و العَدد و العُدد التي تم له بها ملكه , و رسخ بطشه و سلطانه .

( الذين طغوا في البلاد ) هذا الوصف عائد إلى عاد و ثمود و فرعون و من تبعهم , فإنهم طغوا في بلاد الله , و آذوا عباد الله , في دينهم و دنياهم , و لهذا قال " فأكثروا فيها الفساد"

( فأكثروا فيها الفساد ) و العمل بالكفر و شُعبه , من جميع أجناس المعاصي , و سعوا في محاربة الرسل و صد الناس عن سبيل الله , فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبا و سوط عذاب .

( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) أي : أنزل عليهم رجزا من السماء , و أحل بهم عقوبة لا يَرُدُّها عن القوم المجرمين , بما طغوا في البلاد و أفسدوا فيها , و قد بيّن تعالى إهلاكهم مفصلا في غير ما سورة و آية , فأهلك عاد بالريح الصرصر , و ثمود بالصيحة العاتية , و فرعون بالغرق في البحر .

( إن ربك لبالمرصاد ) أي لهؤلاء الذين قصّ نبأ هلاكهم , و لكل جبار عات و طاغية ظالم , فالله تعالى يرصد خلقه فيما يعملون و يجازي كلا بسعيه في الدنيا و الآخرى , و سيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله , و يقابل كلا بما يستحقه , و هو المنزه عن الظلم و الجور .

( فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعّمه فيقول ربي أكرمني ) فأما الإنسان إذا ما ابتلاه الله تعالى فأكرمه بالمال و الولد و الجاه و نعمه بالأرزاق و الخيرات ليختبره في ذلك , فيعتقد أن ذلك من الله إكراما له , فيقول مفاخرا , ربي فضلني على غيري لمالي من فضائل و مزايا لم تكن لهؤلاء الفقراء , و الأمر ليس كذلك , بل هو ابتلاء و امتحان كما قال تعالى " أيحسبون أنّما نمدُّهم به من مال و بنين , نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " .

( و أمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) و أما إذا اختبره و ضيّق عليه رزقه لينظر تعالى هل يصبر العبد المختبر أو يجزع , فيقول ربي أهانن أي أذلني فأفقرني .

( كلاّ ) أي ليس كل من نعّمته في الدنيا فهو كريم عليّ , و لا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لديّ , فإن الله يعطي المال من يحب و من لا يحب , و يضيق على من يحب و من لا يحب , و إنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين , إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك , و إذا كان فقيرا بأن يصبر , فيثيبه الله على ذلك الثواب الجزيل , و إن كان ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل .

( بل لا تكرمون اليتيم ) الذي فقد أباه و كاسبه , و احتاج إلى جبر خاطره و الإحسان إليه . فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه , و هذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم و عدم الرغبة في الخير
يتبع...
 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( و لا تحضون على طعام المسكين ) لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء و المساكين , و يحث بعضهم على بعض في ذلك .
و ذلك لأجل الشح على الدنيا و محبتها الشديدة المتمكنة من القلوب و لهذا قال تعالى " و تأكلون التراث أكلا لمّا و تحبون المال حبّا جمّا " .
قال الإمام : و إنما ذكر التحاض على الطعام , و لم يكتف بالإطعام فيقول " و لم تطعموا المسكين " ليصرح لك بالبيان الجليّ أن أفراد الأمة متكافلون و إنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر , مع إلتزام كلّ لما يأمر به , و ابتعاده عما ينهى عنه .

( و تأكلون التراث ) أي الميراث .

( أكلاً لمّا ) أي : من أي جهة حصل لهم , من حلال أو حرام . قال بكر بن عبد الله: اللمّ : الإعتداء في الميراث , يأكل ميراثه و ميراث غيره .

( و تحبون المال حبّا جمّا ) أي جمعه و كنزه , حبّا كثيرا شديدا , و هذا كقوله تعالى " بل تؤثرون الحياة الدنيا و الآخرة خير و أبقى " , " كلا بل تحبون العاجلة و تذرون الآخرة" .

( كلاّ ) ردع لهم عن ذلك , و إنكار لفعلهم . و ما بعده وعيد عليه بالإخبار عن ندمهم و تحسرهم حين لا ينفعهم الندم .

( إذا دكت الأرض دكّا دكّا ) أي حركت حركة شديدة و زلزلت زلزالا قويا , و سويت الأرض و الجبال , فلم يبقى عليها شاخص البتّة .

( و جاء ربك ) لفصل القضاء بين خلقه , و ذلك بعدما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى الله عليه و سلم , بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدا بعد واحد , فكلهم يقول : لست بصاحب ذاكم , حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه و سلم فيقول : " أنا لها , أنا لها " فيذهب فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك , و هي أول الشفاعات , و هي المقام المحمود , فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء .

( و الملك صفا صفا ) و تجيء الملائكة الكرام , أهل السماوات كلهم , صفا بعد صف , كل سماء يجيء ملائكتها صفا , يحيطون بمن دونهم من الخلق , و هذه الصفوف صفوف خضوع و ذل للملك الجبار .

( و جيء يومئذ بجهنم ) تقودها الملائكة بالسلاسل , قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " يُؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام , مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " . رواه مسلم.

( يومئذ يتذكر الإنسان ) ما قدمه من خير و شر .

( و أنّى له الذكرى ) أي : و كيف تنفعه الذكرى ؟ فقد فات أوانها , و ذهب زمانها .

ثم يقول متحسرا على ما فرط في جنب الله ( ياليتني قدمت لحياتي ) يعني : يندم على ما كان سلف منه من المعاصي – إن كان عاصيا – و يود لو كان ازداد من الطاعات – إن كان طائعا – كما روى الإمام أحمد بن حنبل عن محمد بن أبي عَميرة – و كان من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم – قال : " لو أن عبدًا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرمًا في طاعة الله , لََحَقِرَهُ يوم القيامة , و لودَّ أنه يُردَّ إلى الدنيا كيْما يزداد من الأجر و الثواب " . إسناده صحيح.
و في الآية دليل على أن الحياة التي ينبغي السعي في أصلها و كمالها , و في تتميم لذَّتها , هي الحياة في دار القرار , فإنها دار الخلد و البقاء
يتبع...

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ) أي : ليس أحد أشد عذابا من تعذيب الله من عصاه .

( و لا يوثق وثاقه أحد ) أي : و ليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهم , عز و جل , فإنهم يقرنون بسلاسل من نار , و يسحبون على وجوههم في الحميم , ثم في النار يسجرون , فهذا جزاء المجرمين من الخلائق الظالمين .

و أما من اطمأن إلى الله و آمن به و صدق رسله , فيقال له :
( يا أيتها النفس المطمئنة ) إلى صادق وعد الله ووعيده في كتابه و على لسان رسوله فآمنت و اتقت و تخلت عن الشرك و الشر فكانت مطمئنة بالإيمان و ذكر الله قريرة العين بحب الله و رسوله و ما وعدها الرحمن .

( إرجعي إلى ربك ) إلى جواره و ثوابه و ما أعد لعباده في جنته .

( راضية مرضية ) راضية عن الله , و عن ما أكرمهابه من الثواب , و الله قد رضي عنها .

( فادخلي في عبادي ) أي في جملة عبادي الصالحين الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون .

( و ادخلي جنتي ) و هذا يقال لها عند الإحتضار , وفي يوم القيامة , كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره و عند قيامه من قبره , و كذلك ها هنا .
::
::
::

 
رد: سلسلة : تفسير القرآن الكريم لعموم المسلمين :::

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

تفسير سورة الغاشية

مكية و آياتها ست و عشرون آية

( هل أتاك حديث الغاشية ) هذا خطاب من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم يقول فيه هل أتاك نبأ الغاشية – و هي من أسماء يوم القيامة – و خبرها العظيم وحديثها المهيل المخيف , إن لم يكن أتاك , فقد أتاك الأن , إنه حديث القيامة التي تغشى الناس بأهوالها و صعوبة مواقفها و اشتداد أحوالها , و إليك عرضا سريعا لبعض ما يجري فيها :

( وجوه يومئذ خاشعة) من الذل و الفضيحة و الخزي , و هي وجوه أهل الكفر بالحق و الجحود له .
و ذكر الوجوه هنا كناية عن أصحابها إذ يطلق الوجه و يراد به الذات .

( عاملة ناصبة ) تاعبة في العذاب من جر السلاسل و الأغلال , و تكليف أشق الأعمال .

( تصلى نارا حامية ) أي تدخل نارا متناهية في الحرارة , تحيط بهم من كل مكان .

( تسقى من عين آنية ) أي بلغت غايتها في شدة الحر , قال تعالى " و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " فهذا شرابهم .

( ليس لهم طعام إلا من ضريع ) و هو من جنس الشوك , قبيح اللون خبيث الطعم منتن الريح , ترعاه الإبل مادام رطبا , فإذا يبس تحامته , و هو سم قاتل . قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له الشِبْرِق , و تسميه أهل الحجاز الضريع , إذا يبس .
و لا منافاة بين هذه الآية و آية " و لا طعام إلاّ من غسلين" لأن العذاب ألوان , و المعذبون طبقات , فمنهم أكلة الزقوم , و منهم أكلة الغسلين , و منهم أكلة الضريع .

( لا يسمن و لا يغني من جوع ) لا يحصل به مقصود , و لا يندفع به محذور , فلا يخصب بدن , و لا يسكن داعية النفس و لا نهمها من أجله .

هذه حال من كفر و فجر , كفر بالله و بآياته و لقائه و رسوله , أو فجر عن طاعة الله و رسوله فترك الفرائض و غشي المحارم .

( وجوه يومئذ ناعمة ) أي : قد جرت عليهم نضرة النعيم , فنضرت أبدانهم , و استنارت وجوههم , و سروا غاية السرور .

( لسعيها راضية ) أي : راضية بما قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة , و الإحسان إلى عباد الله , إذ وجدت ثوابه مدخرا مضاعفا , فحمدت عقباه , و حصل لها كل ما تتمناه .

( في جنة عالية ) عالية في محالها و منازلها , فمحلها في أعلى عليين , و منازلها مساكن عالية , لها غرف و من فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة .

( لا تسمع فيها لاغية ) أي : لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو و باطل , فضلا عن الكلام المحرم , بل كلامهم كلام حسن نافع مشتمل على ذكر الله تعالى , و ذكر نعمه المتواترة عليهم , و على الآداب المستحسنة بين المتعاشرين الذي يسر القلوب , و يشرح الصدور .

( فيها عين جارية ) أي : لا انقطاع لها .
و ليس المراد بها عينا واحدة , و إنما هذا إسم جنس , يعني : فيها عيون جاريات يفجرونها و يصرفونها كيف شاؤوا , و أنَّى أرادوا .

( فيها سرر مرفوعة ) و السرر جمع سرير . و هي المجالس المرتفعة في ذاتها , و بما عليها من الفرش اللينة الوطيئة , إذا جلسوا عليها رأوا جميع ما خولوه من النعيم و الملك
يتبع...

 

أحدث المواضيع

أعلى