تفسير القرآن الكريم

رد: تفسير القرآن الكريم

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال : المرض : الشكّ الذي دخلهم في الإسلام (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا }
قد دللنا آنفًا على أن تأويل المرض الذي وصَف الله جل ثناؤه أنه في قلوب المنافقين ، هو الشكُّ في اعتقادات قلوبهم وأديانهم ، وما هم عليه - في أمر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر نبوته وما جاء به - مقيمون.
فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم ، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة ، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة ، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك - (2) إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف ، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك. كما زاد المؤمنين به إلى إيمانهم الذي كانوا عليه قبل ذلك ، بالذي أحدث لهم من الفرائض والحدود إذْ آمنوا به ، إلى إيمانهم بالسالف من حُدُوده وفرائضه - إيمانًا. كالذي قال جل ثناؤه في تنزيله : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
__________
(1) الأخبار : 322 - 328 ، نقلها ابن كثير 1 : 88 ، والسيوطي 1 : 30 ، والشوكاني 1 : 30 - مع تتمتها الآتية في تفسير بقية الآية ، بالأرقام : 329 ، 336 ، 330 ، 332 ، 331 ، 333 - على هذا التوالي . ولكن 336 لم يذكر فيه " عن ابن عباس " .
و " المنجاب " في 323 ، 336 : هو ابن الحارث بن عبد الرحمن التميمي ، من شيوخ مسلم ، روى عنه في صحيحه ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وهو بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم وآخره باء موحدة .
(2) سياق العبارة : " فزادهم الله بما أحدث من حدوده . . . من الشك والحيرة . . . إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم . . . " .
(1/281)
________________________________________
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) [سورة التوبة : 124 ، 125]. فالزيادة التي زِيدَها المنافقون من الرَّجاسة إلى رَجاستهم ، هو ما وصفنا. والتي زِيدَها المؤمنون إلى إيمانهم ، هو ما بيَّنا. وذلك هو التأويل المجمَعُ عليه.
ذكرُ بعض من قال ذلك من أهل التأويل :
329 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فزادهم الله مَرَضًا " ، قال : شكًّا.
330 - حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدِّيّ ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فزادَهُم الله مَرَضًا " ، يقول : فزادهم الله رِيبَة وشكًّا.
331 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، قال : أخبرتا ابن المبارك قراءةً ، عن سعيد ، عن قتادة : " فزادهم الله مرضًا " ، يقول : فزادهم الله ريبةً وشكًّا في أمْر الله.
332 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : " في قلوبهم مَرَضٌ فزادهم الله مَرَضًا " ، قال : زادهم رِجْسًا ، وقرأ قول الله عز وجل : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ) قال : شرًّا إلى شرِّهم ، وضلالةً إلى ضلالتهم.
333 - وحدِّثت عن عمّار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " فزادهم الله مَرَضًا " ، قال : زادهم الله شكًّا (1) .
* * *
__________
(1) الأخبار : 329 - 333 : هي تمام الآثار السالفة : 322 - 328 .
(1/282)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قال أبو جعفر : والأليم : هو المُوجعُ. ومعناه : ولهم عذاب مؤلم. بصرفِ " مؤلم " إلى " أليم " (1) ، كما يقال : ضَرْبٌ وجيعُ بمعنى مُوجع ، والله بَديع السموات والأرض ، بمعنى مُبْدِع. ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ... يُؤَرِّقنُي وأَصْحَابِي هُجُوعُ (2)
بمعنى المُسْمِع. ومنه قول ذي الرمة :
وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاتٍ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجُ أَلِيمُ (3)
ويروى " يَصُكُّ " ، وإنما الأليم صفةٌ للعذاب ، كأنه قال : ولهم عذاب مؤلم. وهو مأخوذ من الألم ، والألم : الوَجَعُ. كما - :
334 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الأليم ، المُوجع.
335 - حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هُشيم ، قال : أخبرنا جُوَيْبر ، عن الضحاك قال : الأليمُ ، الموجع (4) .
__________
(1) في المطبوعة : " فصرف مؤلم . . " .
(2) الأصمعيات : 43 ، ويأتي في تفسير آية سورة يونس : 1 (11 : 58 بولاق) . وريحانة : هي بنت معديكرب ، أخت عمرو بن معديكرب ، وهي أم دريد بن الصمة ، وكان أبوه الصمة ، سباها وتزوجها . (الأغاني 10 : 4) .
(3) ديوانه : 592 . وقوله " ونرفع من صدور . . " أي نستحثها في السير ، والإبل إذا أسرعت رفعت من صدورها . وشمردلات جمع شمردلة : وهي الناقة الحسنة الجميلة الخلق الفتية السريعة . وقوله " يصد وجوهها " أي يستقبل وجوهها ويضربها وهج أليم ، فتصد وجوهها أي تلويها كالمعرضة عن لذعته . ورواية ديوانه : " يصك " ، وصكة صكة : ضربة ضربة شديدة . والوهج : حرارة الشمس ، أو حرارة النار من بعيد .
(4) الأثر 335 - يعقوب : هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ . هشيم - بضم الهاء : هو ابن بشير ، بفتح الباء وكسر الشين المعجمة ، بن القاسم ، أبو معاوية الواسطي ، إمام حافظ كبير ، روى عنه الأئمة : أحمد وابن المديني وغيرهما ، وقال عبد الرحمن بن مهدي : " كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري " . ومعنى هذا الأثر مضمن في الذي بعده : 336 .
(1/283)
________________________________________
336 - وحدِّثت عن المِنْجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشْر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك في قوله " أليم " ، قال : هو العذاب المُوجع. وكل شيء في القرآن من الأليم فهو الموجع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }
اختلفت القَرَأة في قراءة ذلك (2) فقرأه بعضهم : ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) مُخَفَّفة الذَّال مفتوحة الياء ، وهي قراءة عُظْم أهل الكوفة. وقرأه آخرون : " يُكَذِّبُونَ " بضم الياء وتشديد الذال ، وهي قراءة عُظْم أهل المدينة والحجاز والبصرة (3) .
وكأنّ الذين قرءوا ذلك ، بتشديد الذال وضم الياء ، رأوا أن الله جل ثناؤه إنما أوجب للمنافقين العذابَ الأليم بتكذيبهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وأن الكذِبَ لولا التكذيبُ لا يُوجب لأحدٍ اليَسير من العذاب ، فكيف بالأليم منه ؟ وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالوا. وذلك : أنّ الله عز وجل أنبأ عن المنافقين في أول النبأ عنهم في هذه السورة ، بأنهم يَكذِبون بدَعْواهم الإيمانَ ، وإظهارهم ذلك بألسنتهم ، خِداعًا لله عز وجلّ ولرسوله وللمؤمنين ، فقال : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا )
__________
(1) الأثر 336 - ذكره السيوطي 1 : 30 . وأشار إليه الشوكاني 1 : 30 .
(2) في المطبوعة : " اختلفت القراء " ، والقَرَأَة : جمع قارئ ، وانظر ما مضى ، 51 تعليق ، وص 64 تعليق : 4 ، وص 109 تعليق : 1 .
(3) في المطبوعة : " قراءة معظم أهل الكوفة " ، و " قراءة معظم أهل المدينة . . . " ، وعظم الناس : معظمهم وأكثرهم . وانظر التعليق السالف ، ثم ص 109 تعليق : 1 .
(1/284)
________________________________________
بذلك من قيلهم ، مع استسرارهم الشكَّ والريبة ، ( وَمَا يَخْدَعُونَ ) بصنيعهم ذلك( إِلا أَنْفُسَهُمْ ) دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ؛ ( وَمَا يَشْعُرُونَ ) بموضع خديعتهم أنفسَهم ، واستدراج الله عز وجل إيّاهم بإملائه لهم ، ( فِي قُلُوبِهِمْ ) شك النفاق وريبَتُه (1) والله زائدهم شكًّا وريبة بما كانوا يَكذِبون الله ورسوله والمؤمنين بقَوْلهم بألسنتهم آمنَّا بالله وباليوم الآخر ، وهم في قيلهم ذلك كَذَبة ، لاستسرارهم الشَّكَّ والمرض في اعتقادات قلوبهم في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. فأولى في حكمة الله جل جلاله ، أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبَر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم ، دون ما لم يَجْرِ له ذكر من أفعالهم. إذْ كان سائرُ آيات تنزيله بذلك نزل ، وهو : أن يَفتتِح ذكر محاسن أفعالِ قومٍ ، ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكره من أفعالهم ، ويفتتح ذِكْر مساوي أفعالِ آخرين ، ثم يختم ذلك بالوعيدِ على ما ابتدأ به ذكرَه من أفعالهم.
فكذلك الصحيح من القول - في الآيات التي افتتح فيها ذِكر بعض مساوى أفعال المنافقين - أنْ يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذِكرَه من قبائح أفعالهم. فهذا هذا (2) ، مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا ، وشهادتِها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا ، وأنّ الصواب من التأويل ما تأوّلنا ، من أنّ وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذابَ الأليمَ على الكذب الجامع معنى الشكّ والتكذيب ، وذلك قولُ الله تبارك وتعالى : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سورة المنافقون : 1 ، 2]. والآية
__________
(1) في المطبوعة : " في قلوبهم شك ، أي نفاق وريبة " . والذي في المخطوطة أصح .
(2) في المطبوعة : " فهذا مع دلالة الآية الأخرى . . " ، ولم يأت في الجملة خبر قوله " فهذا " ، والذي في المخطوطة هو الصواب .
(1/285)
________________________________________
الأخرى في المجادلة : ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [سورة المجادلة : 16]. فأخبر جل ثناؤه أنّ المنافقين - بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون - كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ العذاب المُهينَ لهم ، على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارِئون في سورة البقرة : " ولهم عذاب أليم بما كانوا يُكَذِّبون " لكانت القراءةُ في السورة الأخرى : " والله يشهدُ إن المنافقين " لمكذِّبون ، ليكون الوعيدُ لهم الذي هو عَقِيب ذلك وعيدًا على التكذيب لا على الكذب. وفي إجماع المسلمين على أنّ الصواب من القراءة في قوله : " والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون " بمعنى الكذب - وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذابَ الأليمَ على ذلك من كذبهم - أوضحُ الدّلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة : " بما كانوا يَكْذِبون " بمعنى الكذِب ، وأن الوعيدَ من الله تعالى ذِكره للمنافقين فيها على الكذب - حقٌّ - لا على التكذيب الذي لم يجر له ذِكر - نظيرَ الذي في سورة المنافقين سواءً.
وقد زعم بعضُ نحويِّي البصرة أن " ما " من قول الله تبارك اسمه " بما كانوا يكذبون " ، اسم للمصدر ، كما أنّ " أنْ " و " الفعل " اسمان للمصدر في قولك : أحب أن تَأتيني ، وأن المعنى إنما هو بكَذبِهم وتَكْذِيبهم. قال : وأدخل " كان " ليخبر أنه كان فيما مضى ، كما يقال : ما أحسن ما كان عبدُ الله ، فأنت تعجَبُ من عبد الله لا من كونه ، وإنما وَقع التعجُّب في اللفظ على كوْنه. وكان بعض نحويِّي الكوفة يُنكر ذلك من قوله ويستخطئه ، ويقول : إنما ألغِيَت " كان " في التعجُّب ، لأن الفعل قد تقدَّمها ، فكأنه قال : " حَسَنًا كان زيد " و " حَسَن كان زَيْدٌ " يُبْطِلُ " كان " ، ويُعْمِل مع الأسماء والصِّفات التي بألفاظِ الأسماء ، إذا جاءت قبل " كان " ، ووقعت " كان " بينها وبين الأسماء. وأما العِلَّة في إبطالها إذا أبطِلت في هذه الحال ، فَلِشَبَهِ الصِّفات والأسماء بـ " فعل " و " يفعل " اللتين لا يظهرُ عمل
(1/286)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
" كان " فيهما. ألا ترى أنك تقول : " يقوم كان زيد " ، ولا يظهر عمل " كان " في " يقوم " ، وكذلك " قام كان زيد " . فلذلك أبطل عملها مع " فاعل " تمثيلا بـ " فعل " و " يفعل " ، وأعملت مع " فاعل " أحيانًا لأنه اسم ، كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت " كان " الأسماءَ والأفعالَ ، وكان الاسم والفِعْلُ بعدها ، فخطأ عنده أن تكون " كان " مبطلة. فلذلك أحال قول البصريّ الذي حكيناه ، وتأوّل قول الله عز وجل " بما كانوا يكذبون " أنه بمعنى : الذي يكذبونه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ }
اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية :
فروُي عن سَلْمان الفارسيّ أنه كان يقول : لم يجئ هؤلاء بعدُ.
337 - حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا عَثَّامُ بن علي ، قال : حدثنا الأعمش ، قال : سمعت المِنْهال بن عَمرو يُحدِّث ، عن عَبَّاد بن عبد الله ، عن سَلْمان ، قال : ما جاء هؤلاء بعدُ ، الَّذين( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) (1) .
__________
(1) الخبر 337 - عثام - بفتح العين المهملة وتشديد الثاء المثلثة - بن علي العامري : ثقة ، وثقه أبو زرعة وابن سعد وغيرهما . ترجمه ابن سعد 6 : 273 ، والبخاري في الكبير 4/1/ 93 ، وابن أبي حاتم 3/2/44 . المنهال بن عمرو الأسدي : ثقة ، رجحنا توثيقه في المسند : 714 ، وقد جزم البخاري في الكبير 4/2/ 12 أن شعبة روى عنه ، ورواية شعبة عنه ثابتة في المسند : 3133 . عباد بن عبد الله : هو الأسدي الكوفي ، قال البخاري : " فيه نظر " ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وضعفه ابن المديني ، وذكر ابن أبي حاتم 3/1/82 أنه " سمع عليًّا " . وقد بينت في شرح المسند : 883 أن حديثه حسن . وسلمان : هو سلمان الخير الفارسي الصحابي ، رضي الله عنه . وهذا الخبر نقله ابن كثير 1 : 91 ، والسيوطي 1 : 30 ، ونسبه أيضًا لوكيع وابن أبي حاتم ، وذكره الشوكاني 1 : 31 ونسبه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم ، ولم أجد نسبته لابن إسحاق عند غيره .
(1/287)
________________________________________
338 - حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شَرِيك ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني الأعمش ، عن زيد بن وَهب وغيره ، عن سَلْمان ، أنه قال في هذه الآية : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، قال : ما جاء هؤلاء بعدُ (1) .
وقال آخرون بما - :
339 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حمّاد ، قال : حدثنا أسْباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، هم المنافقون. أما " لا تفسدوا في الأرض " ، فإن الفساد ، هو الكفر والعملُ بالمعصية.
340 - وحدِّثت عن عمّار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الرَّبيع : (وإذا قيل لهمْ لا تفسدوا في الأرض) يقول : لا تعْصُوا في الأرض(قالوا إنما نحن مصلحون) ، قال : فكان فسادُهم ذلك معصيةَ الله جل ثناؤه ، لأن من عَصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته ، فقد أفسدَ في الأرض ، لأن إصلاحَ الأرض والسماء بالطاعة (2) .
__________
(1) الخبر 338 - أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي : ثقة ، وثقه النسائي والبزار وغيرهما ، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين ، وهو من الشيوخ القلائل الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء ، فإنه مات سنة 260 أو 261 ، والبخاري مات سنة 256 . عبد الرحمن بن شريك بن عبد الله النخعي : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال أبو حاتم : " واهى الحديث " .
وإسناده عندي حسن ، وقد مضى قبله بإسناد آخر حسن . فكل منهما يقوي الآخر ، وقد نقله ابن كثير 1 : 91 عن الطبري بهذا الإسناد .
(2) الأثر 340 - قوله : " قالوا إنما نحن مصلحون " ، من المخطوطة ، وليس في المطبوعة ، وفي المطبوعة والمخطوطة : " فكان فسادهم على أنفسهم ذلك معصية الله . . . " ، و " على أنفسهم " كأنها زيادة من الناسخ ، وليست فيما نقله ابن كثير عن الطبري .
(1/288)
________________________________________
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال : إن قولَ الله تبارك اسمه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، نزلت في المنافقين الذين كانوا على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان معنيًّا بها كُلُّ من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدَهم إلى يوم القيامة.
وقد يَحْتمِل قولُ سلمان عند تلاوة هذه الآية : " ما جاء هؤلاء بعدُ " ، أن يكون قاله بعد فناء الذين كانوا بهذه الصِّفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبرًا منه عمَّن هو جَاء منهم بَعدَهم ولَمَّا يجئ بعدُ (1) ، لا أنَّه عنَى أنه لم يمضِ ممّن هذه صفته أحدٌ.
وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا ، لإجماع الحجّة من أهل التأويل على أنّ ذلك صفةُ من كان بين ظَهرَانْي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المنافقين ، وأنّ هذه الآيات فيهم نَزَلَتْ. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن ، من قولٍ لا دلالةَ على صحته من أصل ولا نظير.
والإفساد في الأرض ، العمل فيها بما نهى الله جلّ ثناؤه عنه ، وتضييعُ ما أمر الله بحفظه ، فذلك جملة الإفساد ، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرًا عن قِيلِ ملائكته : ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) [سورة البقرة : 30] ، يعنون بذلك : أتجعل في الأرض من يَعْصِيكَ ويُخالف أمرك ؟ فكذلك صفة أهل النفاق : مُفسدون في الأرض بمعصِيَتهم فيها ربَّهم ، وركوبهم فيها ما نَهاهم عن ركوبه ، وتضييعِهم فرائضَه ، وشكِّهم في دين الله الذي لا يقبَلُ من أحدٍ عملا إلا بالتَّصديق به والإيقان بحقيقته (2) ، وكذبِهم المؤمنين بدَعواهم غير ما هم عليه مقيمُون من الشّك والرَيب ، وبمظاهرتهم أهلَ التكذيب بالله وكُتُبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله ، وهم
__________
(1) في المطبوعة : " عمن جاء منهم بعدهم " ، وهو محيل للمعنى ، والصواب من المخطوطة .
(2) في المطبوعة : " بحقيقه " ، والصواب من المخطوطة وابن كثير .
(1/289)
________________________________________
يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبتَه ، ولا خفَّف عنهم أليمَ ما أعدَّ من عقابه لأهل معصيته - بحُسبانهم أنهم فيما أتَوْا من معاصي الله مصلحون - بل أوجبَ لهم الدَّرْكَ الأسفل من ناره ، والأليمَ من عذابه ، والعارَ العاجلَ بسَبِّ الله إياهم وشَتْمِه لهم ، فقال تعالى : ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ). وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم ، أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قولَ القائلين : إن عقوباتِ الله لا يستحقها إلا المعاند ربَّه فيما لزمه من حُقُوقه وفروضه ، بعد علمه وثُبوت الحجّة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إيّاه.
* * *
القول في تأويل قوله ثناؤه : { قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) }
وتأويل ذلك كالذي قالهُ ابن عباس ، الذي - :
341 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : ( إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، أي قالوا : إنما نريد الإصلاحَ بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب.
وخالفه في ذلك غيره.
342 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجّاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) ، قال : إذا رَكِبُوا معصيةَ الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى ، مصلحون (1) .
__________
(1) الخبران 341 ، 342 - ساقهما ابن كثير 1 : 91 ، والسيوطي 1 : 30 والشوكاني 1 : 30
(1/290)
________________________________________
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قال أبو جعفر : وأيُّ الأمرين كان منهم في ذلك ، أعني في دعواهم أنهم مُصْلحون ، فهم لا شك أنهم كانوا يحسبون أنهم فيما أتوا من ذلك مصلحون. فسواءٌ بين اليهود والمسلمين كانت دعواهم الإصلاحَ ، أو في أديانهم ، وفيما ركبوا من معصية الله ، وكذِبهم المؤمنينَ فيما أظهروا لهم من القول وهم لغير ما أظهرُوا مُستبْطِنون ؛ لأنهم كانوا في جميع ذلك من أمرهم عند أنفسهم محسنين ، وهم عند الله مُسيئون ، ولأمر الله مخالفون. لأن الله جل ثناؤه قد كان فرض عليهم عداوةَ اليهودِ وحربَهم مع المسلمين ، وألزمهم التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله ، كالذي ألزم من ذلك المؤمنين. فكان لقاؤهم اليهودَ - على وجه الولاية منهم لهم ، وشكُّهم في نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به أنه من عند الله - أعظمَ الفساد ، وإن كان ذلك كان عندهم إصلاحًا وهُدًى : في أديانهم أو فيما بين المؤمنين واليهود ، فقال جل ثناؤه فيهم : (ألا إنهم هم المفسدون) دون الذين ينهونهم من المؤمنين عن الإفساد في الأرض ، (ولكن لا يشعرون)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) }
وهذا القول من الله جل ثناؤه تكذيبٌ للمنافقين في دعواهم. إذا أمِروا بطاعة الله فيما أمرَهم الله به ، ونُهوا عن معصية الله فيما نهاهم الله عنه ، قالوا : إنما نحن مصلحون لا مفسدون ، ونحن على رُشْدٍ وهُدًى - فيما أنكرتموه علينا - دونكم لا ضالُّون. فكذَّبهم الله عز وجل في ذلك من قيلِهم فقال : ألا إنهم هم المفسدون المخالفون أمرَ الله عز وجل ، المتعدُّون حُدُودَه ، الراكبون معصيتَه ، التاركُون فروضَه ، وهم لا يشعرون ولا يَدرُون أنهم كذلك - لا الذين يأمرونهم بالقسط من المؤمنين ،
(1/291)
________________________________________
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وينهَوْنَهُم عن معاصي الله في أرضه من المسلمين.
* * *
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ }
قال أبو جعفر : وتأويل قوله : (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) يعني : وإذا قيل لهؤلاء الذين وَصَفهم الله ونعتَهم بأنهم يقولون : (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) : صَدِّقوا بمحمد وبما جاء به من عند الله ، كما صدق به الناس. ويعني بِ " الناس " : المؤمنين الذين آمنوا بمحمد ونبوته وما جاء به من عند الله. كما - :
343 - حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) ، يقول : وإذا قيل لهم صدِّقوا كما صدَّق أصحاب محمد ، قولوا : إنَّه نبيٌّ ورسول ، وإنّ ما أنزل عليه حقّ ، وصدِّقوا بالآخرة ، وأنَّكم مبعوثون من بعد الموت (1) .
وإنما أدخِلت الألف واللام في " الناس " ، وهم بعضُ الناس لا جميعُهم ، لأنهم كانوا معروفين عند الذين خُوطبوا بهذه الآية بأعيانهم ، وإنما معناه : آمِنُوا كما آمَن الناس الذين تعرفونهم من أهل اليقين والتصديق بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر. فلذلك أدخِلت الألف واللام فيه ، كما أدخِلَتا في قوله : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
__________
(1) الخبر 343 - نقله السيوطي 1 : 30 ، والشوكاني 1 : 31 ، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية ، برقمي : 347 ، 348 .
(1/292)
________________________________________
فَاخْشَوْهُمْ ) [سورة آل عمران : 173] ، لأنه أشِير بدخولها إلى ناس معروفين عند مَن خُوطب بذلك.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ }
قال أبو جعفر : والسفهاء جمع سَفِيه ، كما العلماء جمع عليم (1) ، والحكماء جمعُ حكيم. والسفيه : الجاهل ، الضعيفُ الرأي ، القليلُ المعرفة بمواضع المنافع والمضارّ. ولذلك سمى الله عز وجل النِّساء والصبيانَ سفهاء ، فقال تعالى : ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ) [سورة النساء : 5] ، فقال عامة أهل التأويل : هم النساء والصبيان ، لضعف آرائهم ، وقلة معرفتهم بمواضع المصالح والمضارِّ التي تصرف إليها الأموال.
وإنما عَنَى المنافقون بقيلهم : أنؤمن كما آمَن السُّفهاء - إذْ دُعوا إلى التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله ، والإقرار بالبعث فقيل لهم : آمنوا كما آمن [الناس] (2) - أصحابَ محمدٍ وأتباعَه من المؤمنين المصدِّقين به ، من أهل الإيمان واليقين ، والتصديقِ بالله ، وبما افترض عليهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ، وباليوم الآخر. فقالوا إجابة لقائل ذلك لهم : أنؤمن كما آمَن أهل الجهل ، ونصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم كما صدّق به هؤلاء الذين لا عقولَ لهم ولا أفهام ؟ كالذي - :
344 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدِّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن
__________
(1) في المطبوعة : " كالعلماء . . . " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فقال لهم آمنوا كما آمن أصحاب محمد . . . " ، وهو كلام مضطرب والصواب ما أثبتناه . وقوله : " أصحاب محمد " مفعول قوله : " وإنما عنى المنافقون بقيلهم . . " .
(1/293)
________________________________________
عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) ، يعنون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
345 - حدثني المثنّى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
346 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : " قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء " ، قال : هذا قول المنافقين ، يريدون أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم.
347 - حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يقولون : أنقول كما تقولُ السفهاء ؟ يعنون أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم ، لخِلافهم لدينهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) }
قال أبو جعفر : وهذا خبرٌ من الله تعالى عن المنافقين الذين تقدم نعتُه لهم ، ووصفُه إياهم بما وصفهم به من الشك والتكذيب - أنَّهم هُم الجُهَّال في أديانهم ،
__________
(1) الأخبار 344 - 347 : أشار إليها ابن كثير 1 : 92 والسيوطي 1 : 30 والشوكاني 1 : 31 والأخير منها من تتمة الخبر : 343 .
(1/294)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
خلوا مع شياطينهم " ، إذ كانت حروف الصِّفات يُعاقِبُ بعضُها بعضًا (1) ، كما قال الله مخبرًا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : ( مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) [سورة الصف : 14] ، يريد : مع الله. وكما توضع " على " في موضع " من " ، و " في " و " عن " و " الباء " ، كما قال الشاعر :
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ... لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا (2)
بمعنى عَنِّي.
وأما بعض نحويي أهل الكوفة ، فإنه كان يتأوَّل أن ذلك بمعنى : وإذا لَقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صَرفوا خَلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب لِـ " إلى " ، المعنى الذي دلّ عليه الكلامُ : من انصرافِ المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله " خَلَوْا " . وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع " إلى " غيرُها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها.
وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حُرُوف المعاني وجهًا هو به أولى من غيره (3) فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. ولِـ " إلى " في كل موضع دخلت من الكلام حُكْم ، وغيرُ جائز سلبُها معانِيَها في أماكنها.
* * *
__________
(1) حروف الصفات : هي حرف الجر ، وسميت حروف الجر ، لأنها تجر ما بعدها ، وسميت حروف الصفات ، لأنها تحدث في الاسم صفة حادثة ، كقولك : " جلست في الدار " ، دلت على أن الدار وعاء للجلوس . وقيل : سميت بذلك ، لأنها تقع صفات لما قبلها من النكرات . ويسميها الكوفيون أيضًا : حروف الإضافة ، لأنها تضيف الاسم إلى الفعل ، أي توصله إليه وتربطه به . (همع الهوامع 2 : 19) وتسمى أيضًا حروف المعاني ، كما سيأتي بعد قليل . والمعاقبة : أن يستعمل أحدهما مكان الآخر بمثل معناه .
(2) الشعر للعقيف العقيلي ، يمدح حكيم بن المسيب القشيري . نوادر أبي زيد : 176 ، خزانة الأدب 4 : 247 ، وغيرهما كثير .
(3) حروف المعاني ، هي حروف الصفات ، وحروف الجر ، كما مضى آنفًا ، تعليق : 1
(1/199)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) }
أجمع أهل التأويل جميعًا - لا خلاف بينهم - على أن معنى قوله : (إنما نحن مستهزئون) : إنما نحن ساخرون. فمعنى الكلام إذًا : وإذا انصرف المنافقون خالين إلى مَرَدتهم من المنافقين والمشركين قالوا : إنا معكم عن ما أنتم عليه من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، ومعاداتِه ومعاداة أتباعه ، إنما نحن ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، بقيلنا لهم إذا لقيناهم : آمَنَّا بالله وباليوم الآخر (1) كما - :
359 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) ، ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
360 - حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : (إنما نحن مستهزئون) ، أي : إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعبُ بهم.
361 - حدثنا بشر بن مُعاذ العَقَدي ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة : (إنما نحن مستهزئون) ، إنما نستهزئ بهؤلاء القوم ونَسخَر بهم.
362 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : (إنما نحن مستهزئون) ، أي نستهزئ بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " في قيلنا لهم إذا لقيناهم " .
(2) هذه الآثار تتمة الآثار السالفة في تفسير أول الآية
(1/300)
________________________________________
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }
قال أبو جعفر : اختُلف في صفة استهزاءِ الله جلّ جلاله ، الذي ذَكر أنه فاعله بالمنافقين ، الذين وَصَف صفتهم. فقال بعضهم : استهزاؤه بهم ، كالذي أخبرنا تبارك اسمه أنه فاعلٌ بهم يوم القيامة في قوله تعالى : ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى ) [سورة الحديد : 13 ، 14]. الآية. وكالذي أخبرنا أنَّه فَعَل بالكفار بقوله : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ) [سورة آل عمران : 178]. فهذا وما أشبهه من استهزاء الله جلّ وعزّ وسخريتِه ومكرِه وخديعتِه للمنافقين وأهل الشرك به - عند قائلي هذا القول ، ومتأوّلي هذا التأويل.
وقال آخرون : بل استهزاؤه بهم ، توبيخُه إياهم ولومه لهم على ما ركِبوا من معاصي الله والكفر به ، كما يقال : " إن فلانًا ليُهْزَأ منه منذ اليوم ، ويُسخر منه " ، يُراد به توبيخُ الناس إياه ولومهم له ، أو إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم (1) ، كما قال عَبِيد بن الأبرص :
سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَامِ ، إذْ... ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ (2)
__________
(1) الضمير لله سبحانه وتعالى ، وهو معطوف على قوله " توبيخه إياهم . . " .
(2) ديوانه : 16 ، وأمالي المرتضى 1 : 41 ، وحجر ، أبو امرئ القيس ، وكانت قتلته بنو أسد رهط عبيد بن الأبرص . وأم قطام ، هي أم حجر ملك كندة . والنواهل جمع ناهل وناهلة : والناهل : العطشان ، توصف به الرماح ، كأنها تعطش إلى الدم ، فإذا شرعت في الدم رويت .
(1/301)
________________________________________
فزعموا أن السُّمر - وهي القَنَا - لا لعب منها ، ولكنها لما قتلتْهم وشرَّدتهم ، جَعل ذلك مِنْ فعلها لعبًا بمن فعلت ذلك به. قالوا : فكذلك اسْتهزاءُ الله جل ثناؤه بمن اسْتهزأ به من أهل النفاق والكفر به : إمّا إهلاكه إياهم وتدميرُه بهم ، وإمّا إملاؤهُ لهم ليأخذهم في حال أمنهم عند أنفسهم بغتةً ، أو توبيخه لهم ولأئمته إياهم. قالوا : وكذلك معنى المكر منه والخديعة والسُّخرية.
وقال آخرون قوله : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) (1) [سورة النساء : 142] على الجواب ، كقول الرجل لمن كان يَخْدَعه إذا ظفر به : " أنا الذي خدعتُك " ، ولم تكن منه خديعة ، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه. قالوا : وكذلك قوله : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [سورة آل عمران : 54] ، و " الله يستهزئ بهم " ، على الجواب. والله لا يكونُ منه المكرُ ولا الهُزْء ، والمعنى أن المكرَ والهُزْءَ حاق بهم.
وقال آخرون : قوله : ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) ، وقوله : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) [سورة النساء : 142] ، وقوله : ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ) [سورة التوبة : 79] ، ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ) [سورة التوبة : 67] ، وما أشبه ذلك ، إخبارٌ من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبةَ الخداع. فأخرج خبرَه عن جزائه إياهم وعقابه لهم ، مُخْرَج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقُّوا العقاب في اللفظ ، وإن اختلف المعنيان. كما قال جل ثناؤه : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) [سورة الشورى : 40] ، ومعلومٌ أن الأولى من صاحبها سيئة ، إذْ كانت منه لله تبارك وتعالى معصية ، وأن الأخرى عَدلٌ ، لأنها من الله جزاءٌ
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم " ، وهي آية سورة البقرة : 9 ، ولم يرد الطبري إلا آية سورة النساء ، كما يدل عليه سياق كلامه ، وكما ستأتي الآية بعد أسطر .
(1/302)
________________________________________
للعاصي على المعصية ، فهما - وإن اتفق لفظاهما - مختلفا المعنى. وكذلك قوله : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) [سورة البقرة : 194] ، فالعدوان الأول ظلم ، والثاني جزاءٌ لا ظلم ، بل هو عدل ، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه ، وإن وافق لفظه لفظ الأول.
وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك ، مما هو خبرٌ عن مكر الله جل وعزّ بقومٍ ، وما أشبه ذلك.
وقال آخرون : إنّ معنى ذلك : أن الله جل وعز أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوْا إلى مَرَدَتهم قالوا : إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإنما نحن بما نُظهر لهم - من قولنا لهم : صدقنا بمحمد عليه السلام وما جاء به - مستهزئون. يعنون : إنا نُظهر لهم ما هو عندنا باطل لا حَقٌّ ولا هدًى. قالوا : وذلك هو معنى من معاني الاستهزاء ، فأخبر الله أنه " يستهزئ بهم " ، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا خلافَ الذي لهم عنده في الآخرة ، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في الدين ما هم على خلافه في سرائرهم.
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا : أن معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهارُ المستهزِئ للمستهزَإ به من القول والفعل ما يُرضيه (1) ظاهرًا ، وهو بذلك من قِيله وفِعْله به مُورِثه مَساءة باطنًا (2) . وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر.
فإذا كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام - بما أظهروا بألسنتهم ، من الإقرار بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله ، المُدْخِلِهم في عداد من يشمله اسمُ الإسلام (3) ، وإن كانوا لغير ذلك
__________
(1) في المطبوعة : " ما يرضيه ويوافقه ظاهرًا " .
(2) في المخطوطة : " مورطه مساءة باطنًا " .
(3) في المطبوعة : " المدخل لهم في عداد . . " ، وقوله : " المدخلهم " نعت لقوله : " من الإقرار " .
(1/303)
________________________________________
مستبطنين - (1) أحكامَ المسلمين المصدِّقين إقرارَهم بألسنتهم بذلك ، بضمائر قلوبِهم ، وصحائح عزائمهم ، وحميدِ أفعالهم المحققة لهم صحة إيمانهم - معَ علم الله عز وجل بكذبهم ، واطلاعِه على خُبث اعتقادهم ، وشكِّهم فيما ادَّعوا بألسنتهم أنهم به مصدِّقون (2) ، حتى ظنُّوا في الآخرة إذْ حشروا في عِداد من كانوا في عِدادهم في الدنيا ، أنَّهم وارِدُون موْرِدَهم. وداخلون مدخلهم. والله جل جلاله - مع إظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام المُلْحِقَتِهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه ، وتفريقِه بينهم وبينهم - (3) معدٌّ لهم من أليم عقابه ونَكال عذابه ، ما أعدّ منه لأعدى أعدائه وشر عباده ، حتى ميز بينهم وبين أوليائه ، فألحقهم من طبقات جحيمه بالدَّرك الأسفل (4) كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعلِه بهم - وإن كان جزاءً لهم على أفعالهم ، وعدلا ما فعل من ذلك بهم لاستحقاقهم إياه منه بعصيانهم له - كان بهم - بما أظهرَ لهم من الأمور التي أظهرها لهم : من إلحاقه أحكامهم في الدنيا بأحكام أوليائِه وهم له أعداء ، وحشرِه إياهم في الآخرة مع المؤمنين وهم به من المكذبين - إلى أن ميَّز بينهم وبينهم - مستهزئًا ، وبهم ساخرًا ، ولهم خادعًا ، وبهم ماكرًا (5) . إذ كان معنى الاستهزاء والسخرية والمكر والخديعة ما وصفنا قبل ، دون أن يكون ذلك معناه في حالٍ فيها المستهزئ بصاحبه له ظالم ، أو عليه فيها غير عادل ، بل ذلك معناه في كل أحواله ، إذا وُجدت الصفات التي قدَّمنا ذكرها في معنى الاستهزاء وما أشبهه من نظائره.
وبنحو ما قلنا فيه رُوي الخبر عن ابن عباس :
363 - حدثنا أبو كُريب قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ " ، قال : يسخر بهم للنقمة منهم (6) .
وأما الذين زعموا أن قول الله تعالى ذكره : الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ " ، إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكرٌ ولا خديعة ، فنافُون على الله عز وجل ما قد أثبته الله عز وجل لنفسه ، وأوجبه لها. وسواءٌ قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخريةٌ بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خَسَف به من الأمم ، ولم يُغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك : إن الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكرَ بقوم مضَوْا قبلنا لم نَرَهُم ، وأخبر عن آخرين أنه خَسَف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدَّقْنا الله تعالى ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نُفَرِّق بين شيء منه. فما بُرهانُك على تفريقك ما فَرَّقت بينه ، بزعمك : أنه قد أغرقَ وخَسف بمن أخبر أنه أغرق وخسف به ، ولم يمكُرْ بمن أخبر أنه قد مكر به ؟
ثم نعكس القول عليه في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزِم في الآخَر مثله.
فإن لجأ إلى أن يقول : إن الاستهزاء عبثٌ ولعبٌ ، وذلك عن الله عز وجل منفيٌّ.
قيل له : إن كان الأمر عندك على ما وصفتَ من معنى الاستهزاء ، أفلست
__________
(1) في المطبوعة : " من أحكام المسلمين . . . " ، وهي زيادة خطأ ، وقوله " أحكام " منصوب بقوله " قد جعل لأهل النفاق في الدنيا من الأحكام " . . . " أحكام " ، وما بينهما فصل .
(2) في المطبوعة : " أنهم مصدقون " .
(3) سياق العبارة : " والله جل جلاله . . معد لهم . . " .
(4) قوله : " كان معلومًا أنه جواب قوله " فإذا كان ذلك كذلك . . . " ، في أول هذه الفقرة .
(5) أكثر الطبري الفصل بين الكلام في هذه الفقرة ، وسياق العبارة هو كما يلي : " . . . كان معلومًا أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم . . . كان بهم . . مستهزئًا ، وبهم ساخرًا . . . " ، وما بين الكلام في هذين الموضعين فصل للبيان .
(6) الخبر 363 - ساقه ابن كثير في تفسيره 1 : 94 ، والسيوطي 1 : 31 ، والشوكاني 1 : 33 .
(1/304)
________________________________________
تقول : " الله يستهزئ بهم " ، و " سَخِر الله منهم " و " مكر الله بهم " ، وإن لم يكنْ من الله عندك هزء ولا سخرية ؟
فإن قال : " لا " ، كذَّب بالقرآن ، وخرج عن ملة الإسلام.
وإن قال : " بلى " ، قيل له : أفنقول من الوجه الذي قلت : " الله يستهزئ بهم " و " سخر الله منهم " - " يلعب الله بهم " و " يعبث " - ولا لعبَ من الله ولا عبث ؟
فإن قال : " نعم " ! وَصَف الله بما قد أجمع المسلمون على نفيه عنه ، وعلى تخطئة واصفه به ، وأضاف إليه ما قد قامت الحجة من العقول على ضلال مضيفه إليه.
وإن قال : لا أقول : " يلعب الله بهم " ولا " يعبث " ، وقد أقول " يستهزئ بهم " و " يسخر منهم " .
قيل : فقد فرقت بين معنى اللعب والعبث ، والهزء والسخرية ، والمكر والخديعة. ومن الوجه الذي جازَ قِيلُ هذا ، ولم يَجُزْ قِيلُ هذا ، افترق معنياهُما. فعُلم أن لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر.
وللكلام في هذا النوع موضع غير هذا ، كرهنا إطالة الكتاب باستقصائه. وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَيَمُدُّهُمْ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : (ويمدهم) ، فقال بعضهم بما - :
364 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس -
(1/306)
________________________________________
وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يَمُدُّهُمْ " ، يملي لهم.
وقال آخرون بما - :
365 - حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءةً عن مجاهد : " يمدّهم " ، قال : يزيدُهم (1) .
وكان بعضُ نحوييّ البصرة يتأوَّل ذلك أنه بمعنى : يَمُدُّ لَهُم ، ويزعم أن ذلك نظيرُ قول العرب : الغلامُ يلعَب الكِعَابَ ، يراد به يَلعب بالكعاب. قال : وذلك أنهم قد يقولون : " قد مَددت له وأمددتُ له " في غير هذا المعنى ، وهو قول الله تعالى ذكره : (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) [سورة الطور : 22] ، وهذا من : " مددناهم " (2) . قال : ويقال : قد " مَدَّ البحر فهو مادٌّ " و " أَمَدَّ الجرح فهو مُمِدّ " . وحكي عن يونس الجَرْمِيّ أنه كان يقول : ما كان من الشر فهو " مدَدْت " ، وما كان من الخير فهو " أمْدَدت " . ثم قال : وهو كما فسرت لك ، إذا أردت أنك تركته فهو " مَدَدت له " ، وإذا أردت أنك أعطيته قلت : " أمْددت " .
وأما بعضُ نحويي الكوفة فإنه كان يقول : كل زيادة حدثت في الشيء من نفسه فهو " مَدَدت " بغير ألف ، كما تقول : " مدَّ النهر ، ومدَّه نهرٌ آخر غيره " ، إذا اتصل به فصار منه ، وكلّ زيادة أحدِثتْ في الشيء من غيره فهو بألف ، كقولك : " أمدَّ الجرحُ " ، لأن المدّة من غير الجرح ، وأمدَدتُ الجيش بمَدَدٍ.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في قوله : " وَيَمُدُّهُمْ " : أن يكون بمعنى يزيدهم ، على وجه الإملاء والترك لهم في عُتوِّهم وتمردهم ، كما وصف ربُّنا أنه فعل بنظرائهم في قوله
__________
(1) الخبران 364 ، 365 - ساقهما ابن كثير 1 : 31 ، والسيوطي 1 : 31 ، والشوكاني 1 : 33 .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " وهذا من أمددناهم " ، ولعل الصواب ما أثبتناه . وعنى أن قوله تعالى (ويمدهم في طغيانهم) من " مددت له " التي هي مثل " أمددت له " ، بعد طرح حرف الجر ، كما مثل في قول العرب " الغلام يلعب الكعاب " أي " يلعب بالكعاب " .
(1/307)
________________________________________
( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [سورة الأنعام : 110] ، يعني نذرُهم ونتركهم فيه ، ونملي لهم ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم.
ولا وجه لقول من قال : ذلك بمعنى " يَمُدُّ لهم " ، لأنه لا تدافُع بين العرب وأهل المعرفة بلغتها (1) أن يستجيزوا قول القائل : " مدَّ النهرَ نهرٌ آخر " ، بمعنى : اتصل به فصار زائدًا ماءُ المتَّصَل به بماء المتَّصِل - من غير تأوُّل منهم. ذلك أن معناه : مدّ النهرَ نهرٌ آخر. فكذلك ذلك في قول الله : ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )
* * *
القول في تأويل قوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ }
قال أبو جعفر : و " الطُّغيان " " الفُعْلان " ، من قولك : " طَغَى فلان يطغَى طُغيانًا " . إذا تجاوز في الأمر حده فبغى. ومنه قوله الله : ( كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) [سورة العلق : 6 ، 7] ، أي يتجاوز حدّه. ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت :
وَدَعَا اللهَ دَعْوَةً لاتَ هَنَّا... بَعْدَ طُغْيَانِه ، فَظَلَّ مُشِيرَا (2)
وإنما عنى الله جل ثناؤه بقوله( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ) ،
__________
(1) في المخطوطة : " لأنه لا تتدافع العرب " ، وهما سواء في المعنى .
(2) ديوانه : 34 مع اختلاف في الرواية . والضمير في قوله " ودعا الله " إلى فرعون حين أدركه الغرق . والهاء في قوله " طغيانه " إلى فرعون ، أو إلى الماء لما طغا وأطبق عليه . وقوله " لات هنا " ، كلمة تدور في كلامهم يريدون بها : " ليس هذا حين ذلك " ، والتاء في قولهم " لات " صلة وصلت بها " لا " ، أصلها " لا هنا " أي ليس هنا ما أردت ، أي مضى حين ذلك . و " هنا " مفتوحة الهاء مشددة النون ، مثل " هنا " مضمومة الهاء مخففة النون . وقوله : " مشيرًا " ، أي مشيرًا بيده في دعاء ربه أن ينجيه من الغرق .
(1/308)
________________________________________
أنه يُملي لهم ، ويَذَرُهم يَبغون في ضلالهم وكفرهم حيارى يترددون. كما - :
366 - حُدِّثت عن المِنْجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال : في كفرهم يترددون.
367 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في طُغيانهم " ، في كفرهم.
368 - حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، أي في ضلالتهم يعمهون.
369 - حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " في طغيانهم " ، في ضلالتهم.
370 - وحدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله " في طغيانهم " ، قال : طغيانهم ، كفرهم وضلالتهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { يَعْمَهُونَ (15) }
قال أبو جعفر : والعَمَهُ نفسُه : الضَّلال. يقال منه : عَمِه فلان يَعْمه عَمَهانًا وعُمُوهًا ، إذا ضل (2) . ومنه قول رؤبة بن العجاج يصف مَضَلَّة من المهامه :
وَمَخْفَقِ مِن لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ... مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ...
__________
(1) الأخبار 366 - 370 : ساقها ابن كثير 1 : 95 ، والسيوطي 1 : 31 ، والشوكاني 1 : 33 .
(2) في ابن كثير 1 : 95 " عمها وعموها " ، والذي في الطبري صحيح : " عمها وعموها وعموهة وعمهانًا " .
(1/309)
________________________________________
أَعْمَى الهُدَى بِالجاهلين العُمَّهِ (1)
و " العُمَّه " جمع عامِهٍ ، وهم الذين يضلّون فيه فيتحيرون. فمعنى قوله إذًا : ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) : في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم دنسُه ، وعلاهم رِجْسُه ، يترددون حيارى ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، فأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رُشْدا ولا يهتدون سبيلا.
وبنحو ما قلنا في " العَمَه " جاء تأويل المتأولين.
371 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يَعْمَهُون " ، يتمادَوْن في كفرهم.
372 - وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يَعْمَهُونَ " ، قال : يتمادَوْن.
373 - حدِّثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : " يَعْمَهُونَ " ، قال : يتردَّدون.
374 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : قال ابن عباس : " يَعْمَهُونَ " : المتلدِّد (2) .
__________
(1) ديوانه : 166 . والمخفق : الأرض الواسعة المستوية التي يخفق فيها السراب ، أي يضطرب . ولهله : أرض واسعة يضطرب فيها السراب ، والجمع لهاله . والمهمه : الفلاة المقفرة ليس بها ماء ولا أنيس . وجاب المفازة واجتابها : قطعها سيرًا . وقوله " في مهمه " : أي يقطعنه ويدخلن في مهمه آخر موغلين في الصحراء .
(2) تلدد للرجل فهو متلدد : إذا لبث في مكانه حائرًا متبلدًا يتلفت يمينًا وشمالا .
(1/310
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
375 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال حدثنا ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، قال : يترددون.
376 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثله.
377 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله.
378 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن ابن جريج قراءة ، عن مجاهد ، مثله.
379 - حُدِّثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، " يَعْمَهُونَ " ، قال : يترددون (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى }
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القومُ الضلالةَ بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقَهم إيمانٌ فيقال فيهم : باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمتَ أن معنى الشراء المفهوم : اعتياضُ شيء ببذل شيء مكانه عِوَضًا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، لم يكونوا قط على هُدًى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا ؟
__________
(1) الأخبار : 372 - 379 : ساقها السيوطي 1 : 31 ، والشوكاني 1 : 33 ، وخرجا أثر مجاهد في تفسير الآية : " أي يلعبون ويترددون في الضلالة " .
(1/311)
________________________________________
قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيحَ من التأويل في ذلك إن شاء الله :
380 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، أي الكفرَ بالإيمان.
381 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، يقول : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
382 - حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى.
383 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد في قوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، آمنوا ثم كفروا.
384 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذَيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد مثله (1) .
قال أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " - وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترَى مكانَ الثمن المشترَى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر ، قد أخذَا مكان الإيمان الكفرَ ، فكان ذلك منهما شراءً
__________
(1) الأخبار : 380 - 384 : ساقها ابن كثير في تفسيره 1 : 95 ، 96 ، والسيوطي 1 : 31 ، 32 ، والشوكاني 1 : 33 ، 34 .
(1/312)
________________________________________
للكفر والضلالة اللذَيْن أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها.
وأما الذين تأوَّلوا أن معنى قوله " اشْتَرَوْا " : " استحبُّوا " ، فإنهم لما وَجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفّار في موضع آخر ، فنسبهم إلى استحبابهم الكفرَ على الهدى ، فقال : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) [سورة فصلت : 17] ، صرفوا قوله : ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) إلى ذلك. وقالوا : قد تدخل " الباء " مكان " على " ، و " على " مكان " الباء " ، كما يقال : مررت بفلان ، ومررت على فلان ، بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) [سورة آل عمران : 75] ، أي على قنطار. فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختارُوا الضلالةَ على الهدى. وأراهم وجَّهوا معنى قول الله جل ثناؤه " اشْتَرَوا " إلى معنى اختاروا ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، واسْتَرَيتُه - يَعْنُون اخترتُه عليه.
ومن الاستراء قول أعشى بني ثعلبة (1)
فَقَدْ أُخْرِجُ الكَاعِبَ الْمُسْتَرَا... ةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعَ الْقِمَارَ (2)
يعني بالمستراة : المختارة.
وقال ذو الرُّمة ، في الاشتراء بمعنى الاختيار :
يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا... جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ (3)
.
يعني بالشَّراة : المختارة.
__________
(1) في المطبوعة " الاشتراء " بالشين المعجمة ، وهو خطأ ، صوابه بالسين المهملة .
(2) ديوانه : 35 ، وطبقات فحول الشعراء : 36 ، واللسان (سرا) . وفي المطبوعة : " المشتراة " في الموضعين ، والصواب ما أثبتناه . والكاعب : التي كعب ثديها ، أي نهد ، يعني أنها غريرة منعمة محجوبة . وخدر الجارية : سترها الذي يمد لها لتلزمه بعد البلوغ ، وأشاع المال بين القوم : فرقه فيهم . وأراد بالقمار : لعب الميسر ، وعنى نصيب الفائز في الميسر من لحم الجزور ، يفرقه في الناس من كرمه .
(3) ديوانه : 62 . والضمير في قوله " يذب " لفحل الإبل . ويذب : يدفع ويطرد . والقصايا ، جمع قصية : وهي من الإبل رذالتها ، ضعفت فتخلفت . وجماهير ، جمع جمهور : وهو رملة مشرفة على ما حولها ، تراكم رملها وتعقد . والمدجنات ، من قولهم " سحابة داجنة ومدجنة " ، وهي : المطبقة الكثيفة المطر . والهواضب : التي دام مطرها وعظم قطرها . شبه الإبل في جلالة خلقها وضخامتها بجماهير الرمل المتلبدة في رأي العين من بعيد
(1/313)
________________________________________
وقال آخر في مثل ذلك :
إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الأَمْوَالِ... وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ (1)
قال أبو جعفر : وهذا ، وإن كان وجهًا من التأويل ، فلستُ له بمختار. لأن الله جل ثناؤه قال : ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله( أُولَئِكَ الَّذِينَ
__________
(1) البيت الثاني في اللسان (حزر) . وروقة الناس : خيارهم وأبهاهم منظرًا . ويقال : هذا الشيء حزرة نفسي وقلبي : أي خير ما عندي ، وما يتعلق به القلب لنفاسته .
(1/314)
________________________________________
اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ، معنى الشراء الذي يتعارفه الناس ، من استبدال شيء مكان شيء ، وأخذِ عِوَض على عوض.
وأما الذين قالوا : إنّ القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مؤونة عليهم ، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم. لأن الأمر إذا كان كذلك ، فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفرَ عوضًا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أوّل الآيات في نعوتهم إلى آخرها ، دالّةٌ على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ، ولا دخلوا في ملّة الإسلام ، أوَما تسمعُ الله جل ثناؤه من لَدُنِ ابتدأ في نعتهم ، إلى أن أتى على صفتهم ، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم : بدعواهم التصديق بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعًا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم ، واستهزاءً في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون. يقول الله جل جلاله (1) : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، ثم اقتصَّ قَصَصَهم إلى قوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) ؟ فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أنّ قوله : " أولئك الذين اشْتَرَوُا الضَّلالة بالهُدى " هو الدليل على أنّ القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم " اشتروا " - فإن ذلك تأويل غير مسلَّم له ، إذْ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذَ شيء بتركِ آخرَ غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار ، وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوهًا ، لم يكن لأحد صرفُ معناها إلى بعضٍ وجوهها دون بعضٍ ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
قال أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ، ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله : ( اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدلٌ بالإيمان كفرًا ، باكتسابه الكفرَ الذي وُجد منه ، بدلا من الإيمان الذي أمر به. أوَمَا تسمعُ الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله : ( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) [سورة البقرة : 108] ؟ وذلك هو معنى الشراء ، لأن كلّ مشترٍ شيئًا فإنما يستبدل مكانَ الذي يُؤخذ منه من البدل آخرَ بديلا منه. فكذلك المنافقُ والكافر ، استبدلا بالهدى الضلالةَ والنفاق ، فأضلهما الله ، وسلبهما نورَ الهدى ، فترك جميعَهم في ظلمات لا يبصرون.
* * *
القول في تأويل قوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ }
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك أن المنافقين - بشرائهم الضلالةَ بالهدى - خسروا ولم يربحوا ، لأن الرابح من التجّار : المستبدِلُ من سلعته المملوكة عليه
__________
(1) في المطبوعة : " لقول الله . . . " .
(1/315)
________________________________________
بدلا هو أنفسَ من سلعته المملوكة أو أفضلَ من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدِلُ من سلعته بدلا دُونها ودونَ الثمن الذي ابتاعها به (1) ، فهو الخاسر في تجارته لا شكّ. فكذلك الكافر والمنافق ، لأنهما اختارَا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى ، والخوفَ والرعبَ على الحفظ والأمن ، واستبدلا في العاجل : بالرَّشاد الحيرة ، وبالهُدى الضلالةَ ، وبالحفظ الخوفَ ، وبالأمن الرعبَ - مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب ، فخابا وخَسِرا ، ذلك هو الخسران المبين.
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
385 - حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، ( فَمَا رَبِحَتْ
__________
(1) في المطبوعة : " يبتاعها " .
(1/316)
________________________________________
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : قد وَالله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفُرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السُّنة إلى البدعة (1) .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فما وجه قوله : ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) ؟ وهل التجارة مما تَرْبَح أو تُوكس ، فيقال : رَبِحت أو وُضِعَت (2) ؟
قيل : إن وجه ذلك على غير ما ظننتَ. وإنما معنى ذلك : فما ربحوا في تجارتهم - لا فيما اشترَوْا ، ولا فيما شرَوْا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عَرَبًا فسَلَك في خطابه إياهم وبيانه لهم ، مَسلكَ خطاب بعضهم بعضًا ، وبيانهم المستعمل بينهم (3) . فلما كان فصيحًا لديهم قول القائل لآخر : خاب سعيُك ، ونام ليلُك ، وخسِر بيعُك ، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله - خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام ، فقال : ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ ) إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة ، كما النومُ في الليل. فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك ، عن أن يقال : فما ربحوا في تجارتهم ، وإنْ كان ذلك معناه ، كما قال الشاعر :
وشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ... كَهُلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهُ (4)
يعني بذلك : وشر المنايا منيَّة ميت وَسط أهله ، فاكتفى بفهم سامع قِيلِه مرادَه من ذلك ، عن إظهار ما ترك إظهارَه ، وكما قال رؤبة بن العَجَّاج :
حَارِثُ! قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي... فَنَامَ لَيْلِي وَتَجَلَّى غَمِّي (5)
فوَصف بالنوم الليل ، ومعناه أنه هو الذي نام ، وكما قال جرير بن الخَطَفَى :
وَأَعْوَرَ من نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ... فَأَعْمَى ، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ (6)
فأضاف العمى والإبصار إلى الليل والنهار ، ومرادُه وصفَ النبهانيّ بذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) }
يعني بقوله جل ثناؤه( وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) : ما كانوا رُشداءَ في اختيارهم الضلالةَ على الهدى ، واستبدالهم الكفرَ بالإيمان ، واشترائهم النفاقَ بالتصديق والإقرار.
* * *
__________
(1) الأثر 385 - في ابن كثير 1 : 96 ، والسيوطي 1 : 32 ، والشوكاني 1 : 34 .
(2) وضع في تجارته يوضع وضيعة : غبن فيها وخسر ، ومثله : وكس .
(3) في المخطوطة : " المستعلم بينهم " ، ولعلها سبق قلم .
(4) هو للحطيئة ، من أبيات ليست في ديوانه ، بل في طبقات فحول الشعراء : 95 ، وسيبويه 1 : 109 وأمالي الشريف المرتضى 1 : 38 ، مع اختلاف في بعض الرواية ، ورواية الطبقات أجودهن . " أيقظ الحي " ، يعني أيقظ الحي حاضر الموت ، فقامت البواكي ترن وتندب ، وكأن رواية من روى " أسلم الحي " ، تعني أسلمهم للبكاء .
(5) ديوانه : 142 ، يمدح الحارث بن سليم ، من آل عمرو بن سعد بن زيد مناة .
(6) ديوانه : 206 ، والنقائض : 35 ، والمؤتلف والمختلف : 39 ، 161 ، ومعجم الشعراء 253 ، من شعر في هجاء الأعور النبهاني ، وكان هجا جريرًا ، فأكله جرير . قال أبو عبيدة : " أي هو أعور النهار عن الخيرات ، بصير الليل بالسوءات ، يسرق ويزني " .
(1/317)
________________________________________
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
القول في تأويل قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) }
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، وقد علمتَ أن " الهاء والميم " من قوله " مثلهم " كناية جِمَاعٍ - من الرجال أو الرجال والنساء - و " الذي " دلالة على واحد من الذكور ؟ فكيف جعَل الخبر عن واحد مَثلا لجماعة ؟ وهلا قيل : مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا ؟ وإن جاز عندك أن تمثلَ الجماعةَ بالواحد ، فتجيز لقائل رأى جماعة من الرجال فأعجبتْه صُوَرهم وتمامُ خلقهم وأجسامهم ، أن يقول : كأنّ هؤلاء ، أو كأنّ أجسامَ هؤلاء ، نخلةٌ ؟
قيل : أما في الموضع الذي مثَّل ربُّنا جل ثناؤه جماعةً من المنافقين ، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلا فجائز حسنٌ ، وفي نظائره (1) كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك : ( تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) [سورة الأحزاب : 19] ، يعني كَدَوَرَان عيْنِ الذي يُغشى عليه من الموت - وكقوله : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) [سورة لقمان : 28] بمعنى : إلا كبَعْث نفسٍ واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال ، في الطول وتمام الخلق ، بالواحدة من النخيل ، فغير جائز ، ولا في نظائره ، لفرق بينهما.
فأما تمثيلُ الجماعة من المنافقين بالمستوقِدِ الواحد ، فإنما جاز ، لأن المرادَ من
__________
(1) " وفي نظائره " ، أي هو في نظائره جائز حسن أيضًا . ومثلها ما يأتي بعد أسطر في قوله " ولا في نظائره " ، حذف فيهما جميعًا .
(1/318)
________________________________________
الخبر عن مَثَل المنافقين ، الخبرُ عن مَثَل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون - من اعتقاداتهم الرَّديئة ، وخلطهم نفاقَهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والاستضاءَةُ - وإن اختلفت أشخاص أهلها - معنًى واحد ، لا معانٍ مختلفة. فالمثل لها في معنى المثَل للشخص الواحد ، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك : مَثلُ استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، قولا وهُم به مكذبون اعتقادًا ، كمثَل استضاءة المُوقِد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة ، وأضيف المثَلُ إليهم ، كما قال نابغةُ بني جَعْدَة :
وَكَيْفَ تُوَاصِل من أَصْبَحَتْ... خِلالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ (1)
يريد : كخلالة أبي مَرْحب ، فأسقط " خلالة " ، إذ كان فيما أظهرَ من الكلام ، دلالةٌ لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهرَ من الكلام ، أنّ المثلَ إنما ضُرِب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم - حَسُن حذفُ ذكر الاستضاءة ، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وَصَفنا ، جاز وحَسُنَ قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد ، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريدَ تشبيهُ الجماعة من أعيان بني آدم - أو أعيان ذوي الصور والأجسام ، بشيء - فالصَّواب من الكلام تشبيهُ الجماعة بالجماعة ، والواحدُ بالواحد ، لأن عينَ كل واحد منهم غيرُ أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى ، افترق القولُ في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيهُ أفعال الجماعة من الناس وغيرهم - إذا كانت بمعنى واحدٍ - بفعل الواحد ،
__________
(1) الشعر للنابغة الجعدي . اللسان (رحب) و (خلل) . والخلة والخلالة : الصداقة المختصة التي ليس في علاقتها خلل . وأبو مرحب : كنية الظل ، يريد أنها تزول كما يزول الظل ، لا تبقى به مودة .
(1/319)
________________________________________
ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثَل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال : ما أفعالكم إلا كفِعل الكلب ، ثم يحذف فيقال : ما أفعالكم إلا كالكلب أو كالكلاب ، - وأنت تعني : إلا كفعل الكلب ، وإلا كفعل الكلاب. ولم يَجُزْ أن تقول : ما هم إلا نخلة ، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطُّول والتمام.
وأما قوله : ( اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، فإنه في تأويل : أوقدَ ، كما قال الشاعر :
وَدَاعٍ دَعَا : يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ (1)
يريد : فلم يُجبه. فكان معنى الكلام إذًا : مَثلُ استضاءة هؤلاء المنافقين - في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم ، من قولهم : آمنَّا بالله وباليوم الآخر ، وصدَّقنا بمحمد وبما جاء به ، وهم للكفر مستبطنون - فيما الله فاعل بهم (2) مثل استضاءة موقِد نارٍ بناره ، حتى أضاءت له النارُ ما حوله ، يعني : ما حول المستوقِدِ.
وقد زعم بعضُ أهل العربية من أهل البصرة : أن " الذي " في قوله : " كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " بمعنى الذين ، كما قال جل ثناؤه : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [سورة الزمر : 33] ، وكما قال الشاعر :
فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ (3)
قال أبو جعفر : والقول الأول هو القول ، لما وصفنا من العِلة. وقد أغفل قائل
__________
(1) الشعر لكعب بن سعد الغنوي . الأصمعيات : 14 ، وأمالي القالي 2 : 151 ، وهي من حسان قصائد الرثاء .
(2) سياق عبارته : " مثل استضاءة هؤلاء . . . فيما الله فاعل بهم ، مثل استضاءة . . " .
(3) الشعر للأشهب بن رميلة . الخزانة 2 : 507 - 508 ، والبيان 4 : 55 ، وسيبويه 1 : 96 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 33 ، وذكر البغدادي أن أبا تمام أنشد البيت في أبيات لحريث بن محفض ، في كتابه " مختار أشعار القبائل " . وروايته : " وإن الألى " . ولا شاهد فيه . وهم يقولون إن النون حذفت من " الذين " ، فصارت " الذي " لطول الكلام وللتخفيف ، وهي بمعنى الجمع لا المفرد . وفلج : واد بين البصرة وحمى ضرية ، كانت فيه هذه الوقعة التي ذكرها .
(1/320)
________________________________________
ذلك فرقَ ما بين " الذي " في الآيتين وفي البيت. لأن " الذي " في قوله : " والذي جاء بالصدق " ، قد جاءت الدّلالة على أن معناها الجمع ، وهو قوله : ( أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) ، وكذلك " الذي " في البيت ، وهو قوله " دماؤهم " . وليست هذه الدلالة في قوله : " كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " . فذلك فَرْق ما بين " الذي " في قوله : " كمثل الذي اسْتَوْقَدَ نَارًا " ، وسائر شواهده التي استشهد بها على أنّ معنى " الذي " في قوله : " كمثل الذي استوْقَدَ نَارًا " بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة - التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى - إلى غيره ، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلفت أهل التأويل في تأويل ذلك. فرُوِي عن ابن عباس فيه أقوال :
أحدها - ما :
386 - حدثنا به محمد بن حُميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ضرب الله للمنافقين مَثلا فقال : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي يُبصرون الحق ويقولون به ، حتى إذا خَرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكُفرهم ونفاقِهم فيه ، فتركهم في ظلمات الكفر ، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق. والآخر - ما :
387 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى آخر الآية : هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزُّون بالإسلام ، فيناكحُهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ ، كما سلب صاحب النار ضَوءَه.( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) يقول : في عذاب.
(1/321)
________________________________________
والثالث : ما -
388 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، زَعم أنَّ أناسًا دخلوا في الإسلام مَقدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ثم إنهم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة فأوقد نارًا فأضاءت له ما حوله من قَذًى أو أذًى فأبصره حتى عرف ما يتَّقي ، فبينا هو كذلك ، إذ طَفِئَت ناره ، فأقبل لا يدري ما يتَّقي من أذًى. فكذلك المنافق : كان في ظلمة الشرك فأسلم ، فعرف الحلالَ من الحرام ، والخير من الشر ، فبينا هو كذلك إذْ كفَر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ، ولا الخير من الشرّ. وأما النُّور ، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر : ما -
389 - حدثني به محمد بن سعيد ، قال : حدثني أبي سعيد بن محمد (1) قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) إلى " فهم لا يرجعون " ، ضرَبه الله مثلا للمنافق. وقوله : ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) قال : أما النور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة ، فهي ضلالتهُم وكفرهم يتكلمون به ، وهم قوم كانوا على هدًى ثم نُزع منهم ، فعتَوْا بعد ذلك.
وقال آخرون : بما -
390 - حدثني به بِشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ) ، وإن المنافقَ تكلم
__________
(1) في المطبوعة " محمد بن سعيد " ، " سعيد بن محمد " . وهو خطأ ، صوابه من المخطوطة ، ومن مراجع التراجم . وانظر شرح هذا السند مفصلا : 305 .
(1/322)
________________________________________
بلا إله إلا الله ، فأضاءت له في الدنيا ، فناكَح بها المسلمين ، وَغازَى بها المسلمين (1) ، ووارثَ بما المسلمين ، وَحقن بها دَمه وماله. فلما كان عند الموت ، سُلبها المنافق ، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ، ولا حقيقة في علمه.
391 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله " هي : لا إله إلا الله ، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا ، وأمنوا في الدنيا ، ونكحوا النساء ، وحقنوا بها دماءهم ، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يُبصرون.
392 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني أبو تُميلة ، عن عبيد بن سليمان (2) ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله " ، قال : أما النّور ، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمات ، فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما : -
393 - حدثني به محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله " ، قال : أما إضاءة النار ، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم ، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
__________
(1) في المطبوعة : " وعاد بها المسلمين " ، والصواب من المخطوطة وابن كثير في تفسيره ، والدر المنثور ، كما سيأتي في التخريج .
(2) أبو تميلة ، بضم التاء المثناة وفتح الميم : هو يحيى بن واضح الأنصاري المروزي الحافظ ، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين وابن سعد وأبو حاتم وغيرهم ، ووهم أبو حاتم ، إذ نسب إلى البخاري أنه ذكره في الضعفاء . وما كان ذلك ، والبخاري ترجمه في الكبير 4/2/ 309 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، ولم يذكره في كتاب الضعفاء الصغير . وقال الذهبي في الميزان 3 : 305 حين ذكر كلام أبي حاتم : " فلم أر ذلك ، ولا كان ذلك . فإن البخاري قد احتج به " . ووقع في مطبوعة الطبري هنا " أبو نميلة " بالنون ، وهو خطأ مطبعي . و " عبيد بن سليمان " : هو الباهلي الكوفي أبو الحارث ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وذكر ابن أبي حاتم 2/2/408 أنه سأل عنه أباه ، فقال : " لا بأس به " .
(1/323)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
394 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، عن شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله " ، أما إضاءة النار ، فإقبالُهم إلى المؤمنين والهدَى; وذهابُ نورهم ، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
395 - حدثني القاسم ، قال : حدثني الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، مثله.
396 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ضَرب مثلَ أهل النفاق فقال : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا " ، قال : إنما ضوءُ النار ونورُها ما أوقَدَتها ، فإذا خمدت ذهب نورُها. كذلك المنافق ، كلما تكلّم بكلمة الإخلاص أضاءَ له ، فإذا شك وقع في الظلمة.
397 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " كمثل الذي استوقد نارًا " إلى آخر الآية ، قال : هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاءَ الإيمانُ في قلوبهم ، كما أضاءَت النارُ لهؤلاء الذين استوقدوا ، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه ، كما ذهب بضوء هذه النار ، فتركهم في ظلمات لا يبصرون (1) .
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة ، والضحاك ، وما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. وذلك : أن الله جلّ ثناؤه إنما ضرَب هذا المثل للمنافقين - الذين وَصَف صفتَهم وقص قصصهم ، من لدُن ابتدأ بذكرهم بقوله : " ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هُمْ بمؤمنين " - لا المعلنين بالكفر المجاهرين
__________
(1) الأخبار 386 - 397 : هذه الآثار السالفة جميعًا ، وما سيأتي إلى قوله تعالى (فهم لا يرجعون) بالأرقام 398 - 404 ساقها ابن كثير 1 : 97 - 99 ، والدر المنثور 1 : 32 - 33 ، وفتح القدير 1 : 35 .
(1/324)
________________________________________
بالشرْك (1) . ولو كان المثل لمن آمنَ إيمانًا صحيحًا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحًا - على ما ظنّ المتأول قولَ الله جل ثناؤه : ( كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءَتْ ما حولَه ذهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) : أن ضوءَ النار مثلٌ لإيمانهم الذي كان منهم عندَهُ على صحةٍ ، وأن ذهاب نورهم مثلٌ لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة - لم يكن (2) . هناك من القوم خداعٌ ولا استهزاءٌ عند أنفسهم ولا نفاقٌ. وأنَّى يكون خداعٌ ونفاقٌ ممن لم يُبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجبَ لك العلم بحاله التي هو لك عليها ، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها ؟ إنّ هذا بغير شَكّ من النفاق بَعيدٌ ، ومن الخداع بريءٌ. وإذْ كان القومُ لم تكن لهم إلا حالتان (3) : حالُ إيمان ظاهر ، وحال كفر طاهر ، فقد سقط عن القوم اسمُ النفاق. لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين ، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالةَ هناك ثالثةً كانوا بها منافقين.
وفي وَصْف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ، ما ينبئ عن أن القول غيرُ القول الذي زعمه من زَعم : أن القوم كانوا مؤمنين ، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه ، إلا أنْ يكون قائلُ ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه ، إلى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قولٌ إن قاله ، لم تُدرَك صحته إلا بخبر مستفيض ، أو ببعض المعاني الموجبة صحتَه. فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته ، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذْ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك ، فأولى تأويلات الآية بالآية : مثل استضاءَة المنافقين - بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به ، وقولهم له وللمؤمنين : آمنَّا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، حتى حُكم لهم بذلك
__________
(1) في المطبوعة : " أي ، لا المعلنين " ، وفي المخطوطة : " المعالنين بالكفر " ، وسياق عبارته " إنما ضرب الله هذا المثل للمنافقين . . لا المعلنين بالكفر " .
(2) السياق : " ولو كان المثل لمن آمن إيمانًا صحيحًا . . لم يكن هنالك من القوم . . "
(3) في المطبوعة : " فإن كان القوم . . . " ، وهو خطأ .
(1/325)
________________________________________
في عاجل الدنيا بحكم المسلمين : في حَقن الدماء والأموال ، والأمن على الذرية من السِّباء ، وفي المناكحة والموارثة - كمثل استضاءة الموقِد النار بالنارَ ، حتى إذا ارتفق بضيائها ، وأبصرَ ما حوله مُستضيئًا بنوره من الظلمة ، خَمدت النارُ وانطفأت ، (1) فذهب نورُه ، وعاد المستضيء به في ظلمة وَحيْرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئًا بضوء القول الذي دَافع عنه في حَياته القتلَ والسِّباءَ ، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتلَ وسلبَ المال لو أظهره بلسانه - تُخيِّل إليه بذلك نفْسُه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادعٌ ، حتى سوّلت له نفسُه - إذْ وَرَد على ربه في الآخرة - أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أوَ ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذْ نعتهم ، ثم أخبر خبرَهم عند ورودهم عليه : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) [سورة المجادلة : 18] ، ظنًّا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة ، في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا (2) : من الكذب والإفك ، وأنّ خداعهم نافعُهم هنالك نفعَه إياهم في الدنيا ، حتى عايَنوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال ، واستهزاء بأنفسهم وخداع ، إذْ أطفأ الله نورَهم يوم القيامة ، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوْا سَعيرًا. فذلك حينَ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، كما انطفأت نار المستوقِدِ النارَ بعد إضاءتها له ، فبقي في ظلمته حيران تائهًا ، يقول الله جل ثناؤه : ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " حتى ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله . . . حتى خمدت النار " ، وهي عبارة مختلة ، صوابها ما أثبتناه .
(2) في المطبوعة : " كان به نجاتهم من القتل " ، وهما سواء في المعنى .
(1/326)
________________________________________
مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [سورة الحديد : 13 - 15].
فإن قال لنا قائل : إنك ذكرتَ أنّ معنى قول الله تعالى ذكره " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت مَا حَوله " : خَمدتْ وانطفأتْ ، وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أنّ ذلك معناه ؟
قيل : قد قلنا إنّ من شأن العرب الإيجاز والاختصار ، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفتْ وتركتْ ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :
عَصَيْتُ إليهَا الْقَلْبَ ، إِنِّي لأمرِهَا... سَمِيعٌ ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابها! (1)
يعني بذلك : فما أدري أرشدٌ طِلابُها أم غَيٌّ ، فحذف ذكر " أم غيٌّ " ، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها ، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير :
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ ، أو حِينَ ، نصَّبتْ... لَهُ مِن خَذَا آذَانِهَا وَهْو جَانح (2)
__________
(1) ديوان الهذليين 1 : 71 ، وسيأتي في تفسير آية آل عمران : 113 (4 : 34 بولاق) ورواية الطبري للبيت في الموضعين لا يستقيم بها معنى ، ورواية ديوانه : عَصَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ
ويروى " دعاني إليها . . " ، وهما روايتان صحيحتان . وتمام معنى البيت في الذي يليه : فَقُلْتُ لِقَلْبِي : يَا لَكَ الْخَيْرُ! إِنَّمَا ... يُدَلِّيكَ لِلْمَوْتِ الْجَدِيدِ حِبَابُهَا
فهو يؤامر قلبه ، ولكنه أطاعه .
(2) ديوانه : 108 وسيأتي في تفسير آية يونس : 77 (11 : 101 بولاق) ، وآية سورة النبأ : 10 (30 : 3 بولاق) . يصف عانة حمر ، وقفت ترقب مغيب الشمس ، حتى إذا غربت انطلقت مسرعة إلى مورد الماء الذي تنوى إليه . وقوله : " لبسن الليل " يعني الحمر ، حين غشيهن الليل وهن مترقبات مغيب الشمس . ونصبت : رفعت وأقامت آذانها . وخذيت الأذن خذًّا : استرخت من أصلها مقبلة على الخدين ، وذلك يصيب الحمر في الصيف من حر الشمس والظمأ . ونصبت خذا آذانها ، استعدادًا للعدو إلى الماء . وجنح الليل فهو جانح : أقبل ، وهو من جنح الطائر : إذا كسر من جناحيه ثم أقبل كالواقع اللاجئ إلى موضع . وهو وصف جيد لإقبال الظلام من جانب الأفق . وأراد الطبري أن ذا الرمة أراد أن يقول : أو حين أقبل الليل ، نصبت له من خذا آذانها ، وهو جانح . ولا ضرورة توجب ما قال به من الحذف في هذا البيت .
(1/327)
________________________________________
يعني : أو حين أقبل الليل ، في نظائر لذلك كثيرة ، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله : " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءتْ ما حوله " ، لمَّا كان فيه وفيما بعدَه من قوله : " ذهب الله بنورهم
(1/328)
________________________________________
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
وتركهم في ظلمات لا يبصرون " دلالةٌ على المتروك كافيةٌ من ذكره - اختصرَ الكلامَ طلبَ الإيجاز.
وكذلك حذفُ ما حذفَ واختصارُ ما اختصرَ من الخبر عن مَثل المنافقين بَعدَه ، نظير ما اختصرَ من الخبر عن مَثَل المستوقد النارَ. لأن معنى الكلام : فكذلك المنافقون ذَهبَ الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون - بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون - كما ذهب ضَوء نار هذا المستوقد ، بانطفاء ناره وخمودها ، فبقي في ظلمة لا يُبصر.
و " الهاء والميم " في قوله " ذهب الله بنورهم " ، عائدة على " الهاء والميم " في قوله " مَثَلهم " .
* * *
القول في تأويل قول الله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) }
قال أبو جعفر : وإذْ كانَ تأويل قول الله جلّ ثناؤه : " ذهبَ الله بنورهم وتَركهم في ظلمات لا يبصرون " ، هو ما وصفنا - من أنّ ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة ، عند هتك أستارهم ، وإظهاره فضائح أسرارهم ، وسَلبه ضياءَ أنوارهم ، من تركهم في ظُلَم أهوال يوم القيامة يترددون ، وفي حَنادسها لا يُبصرون - فبيّنٌ أنّ قوله جل ثناؤه : " صمٌّ بكم عميٌ فَهم لا يرجعون " من المؤخّر الذي معناه التقديم ، وأنّ معنى الكلام : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، صُمٌّ بكم عميٌ فهم لا يرجعون ، مَثلهم كمثل الذي استوقدَ نارًا فلما أضاءتْ ما حوْله ذهبَ الله بنورهم وترَكهم في ظُلمات لا يبصرون ، أو كمثل صَيِّب من السماء.
وإذْ كان ذلك معنى الكلام : فمعلومٌ أن قوله : " صُمٌّ بكمٌ عُميٌ " ، يأتيه الرفع من وجهين ، والنصب من وجهين :
فأما أحدُ وجهي الرفع : فعلى الاستئناف ، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم ، فتنصِب وتَرفع ، وإن كان خبرًا عن معرفة ، كما قال الشاعر :
لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ... سَمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ (1) النَّازِلِينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ... وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ (2)
فيروي : " النازلون " و " النازلين " ، وكذلك " الطيِّبون " و " الطيِّبين " ، على ما وصفتُ من المدح.
__________
(1) الشعر للخرنق بنت بدر بن هفان ، أخت طرفة لأمه ، أمهما وردة ، ديوانها : 10 ، ترثى زوجها بشر بن عمرو بن مرثد . وسيأتي في تفسير آية سورة غافر : 3 (24 : 27 بولاق) ، وفي سيبويه 1 : 104 ، 246 ، 249 ، وخزانة الأدب 2 : 301 . وقولها " لا يبعدن قومى " : أي لا يهلكن قومي ، تدعو لهم . وفعله : بعد يبعد بعدًا (من باب فرح) : هلك . والعداة جمع عاد ، وهو العدو . والجزر جمع جزور : وهي الناقة التي تنحر . وآفة الجزر : علة هلاكها ، لا يبقون على أموالهم من الكرم .
(2) المعترك : موضع القتال حيث يعتركون ، يطحن بعضهم بعضًا . وإذا ضاق المعترك نزل الفرسان ، وتطاعنوا واقتربوا حتى يعتنق بعضهم بعضًا إذا حمس القتال . والأزر جمع إزار : وهو ما ستر النصف الأسفل ، والرداء : ما ستر الأعلى . ومعاقد الأزر : حيث يعقد لئلا تسقط . وكنت بذلك عن عفتهم وطهارتهم ، لا يقربون فاحشة فيحلون معاقد الأزر .
(1/329)
________________________________________
والوجهُ الآخر : على نية التكرير من " أولئك " ، فيكون المعني حينئذ : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، أولئك صُمٌّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمَّا أحد وَجهي النصب : فأن يكون قَطعًا مما في " مهتدين " من ذكر " أولئك " (1) ، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة ، والصم نكرة.
والآخر : أن يكون قطعا من " الذين " ، لأن " الذين " معرفة و " الصم " نكرة (2) .
وقد يجوز النصبُ فيه أيضًا على وجه الذم ، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثًا.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وَجه رواية علي بن أبي طلحة عنه ، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد ، وهو الاستئناف.
وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين : أحدهما : الذم ، والآخرُ : القطع من " الهاء والميم " اللتين في " تركهم " ، أو من ذكرهم في " لا يبصرون " .
وقد بيّنا القولَ الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءةُ التي هي القراءةُ ، الرفعُ دُون النصب (3) . لأنه ليس لأحد خلافُ رسوم مَصَاحف المسلمين. وإذا قُرئ نصبًا كانتْ قراءةً مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن المنافقين : أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحقّ مهتدين ، بل هم صُمٌّ عنهما فلا يسمعونهما ، لغلبة خِذلان الله عليهم ، بُكمٌ عن القيل بهما فلا ينطقون بهما - والبُكم : الخُرْسُ ، وهو جِماعُ أبكم - عُميٌ عن أن يبصرُوهما فيعقلوهما ، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل :
398 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ،
__________
(1) قطعا : أي حالا ، وانظر ما سلف : 230 تعليق : 4 .
(2) قطعا : أي حالا ، وانظر ما سلف : 230 تعليق : 4 .
(3) في المطبوعة : " والقراءة التي هي قراءة الرفع . . " ، وهو خطأ محض .
(1/330)
________________________________________
عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " صمٌّ بكم عُميٌ " ، عن الخير.
399 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدّثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " صم بكم عُمي " ، يقول : لا يسمعون الهدى ولا يُبصرونه ولا يعقلونه.
400 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " بكم " ، هم الخُرس.
401 - حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " صم بكْم عُمْي " : صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه ، عمي عن الحق فلا يبصرونه ، بُكم عن الحق فلا ينطقون به (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) }
قال أبو جعفر : وقوله " فهم لا يرجعون " ، إخبارٌ من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين - الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدَى ، وَصممِهم عن سمَاع الخير والحق ، وَبكمَهم عن القيل بهما ، وعَماهم عن إبصارهما - (2) أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم ، ولا يتُوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيَس المؤمنين من أن يبصرَ هؤلاء رشدًا ، أو يقولوا حقًّا ، أو يَسمعوا داعيًا إلى الهدى ، أو أن يذَّكَّروا فيتوبوا من ضلالتهم ، كما آيس من تَوبة قادة كفّار أهل الكتاب
__________
(1) هذه الأخبار 398 - 401 : تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية ، بالأرقام : 386 ، 387 ، 388 ، 390 .
(2) سياقه : " إخبار من الله عز وجل . . أنهم لا يرجعون . . " .
(1/331)
________________________________________
والمشركين وأحبارهم ، الذين وَصَفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سَمعهم وغشَّى على أبصارهم.
وبمثل الذي قُلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
402 - حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة : " فهم لا يَرجعون " ، أي : لا يتوبون ولا يذَّكَّرون.
403 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فهم لا يَرْجعون " : فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد رُوي عن ابن عباس قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر ، وهو ما : -
404 - حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فهم لا يَرْجعون " ، أي : فلا يرجعون إلى الهدَى ولا إلى خير ، فلا يصيبون نَجاةً مَا كانوا على مَا هم عليه (1) .
وهذا تأويلٌ ظاهرُ التلاوة بخلافه. وذَلك أن الله جلّ ثناؤه أخبرَ عن القوم أنهم لا يَرجعون - عن اشترائهم الضلالة بالهدى - إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق ، من غير حَصْرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت (2) وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس ، يُنبئ أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقت (3) وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين ، وأنّ لهم السبيلَ إلى الرجوع
__________
(1) هذه الأخبار 402 - 404 : تتمة ما مضى في تفسير صدر الآية . بالأرقام : 401 ، 400 ، 398 .
(2) في المطبوعة : " إلى وقت دون وقت " ، وهو خطأ .
(3) في المطبوعة : " ينبئ عن أن . . " .
(1/332)
________________________________________
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
عنه. وذلك من التأويل دعوى بَاطلة (1) ، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ }
قال أبو جعفر : والصّيِّب الفَيْعِل من قولك : صَاب المطر يَصوب صَوبًا ، إذا انحدَر وَنزَل ، كما قال الشاعر :
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لَمَلأَكٍ... تَنَزَّلَ مِن جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (2)
وكما قال علقمة بن عَبَدَة :
كَأَنَّهمُ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ (3)
__________
(1) في المخطوطة " دعوى ناظر " ، وصوابها " دعوى باطل " بالإضافة .
(2) ينسب هذا البيت لعلقمة بن عبدة ، وليس له ، ولا هو في ديوانه . وسيأتي في تفسير آية سورة البقرة 30 (1 : 155 بولاق) ، وبغير هذه الرواية ، وهو من أبيات سيبويه 1 : 379 وشرح شواهد الشافية : 287 ، واللسان (ألك) وغيرها ، غير منسوب . ويقال إنه لرجل من عبد القيس جاهلي يمدح النعمان . وحكى السيرافي أنه لأبي وجزة السعدي ، يمدح عبد الله بن الزبير . وجاء في المخطوطة " ولكن ملأكًا " . وقبل البيت : تعاليتَ أن تُعْزَى إلى الإنْس خَلَّةً ، ... وَلِلإِنْسِ من يعزُوك ، فهو كذوبُ
(3) ديوانه : البيت الأول : 34 ، والثاني قبله : 19 ، وشرح المفضليات : 784 ، 769 ، يمدح بها الحارث بن جبلة بن أبي شمر الغساني ، وكان أسر أخاه شأسًا ، فرحل إليه يطلب فكه . ويذكر في هذا البيت يوم عين أباغ ، وفيه غزا الحارث الغساني ، المنذر بن المنذر بن ماء السماء ، فالتقوا بعين أباغ ، فهزم جيش المنذر ، وقتل المنذر يومئذ . وقوله " كأنهم " يعني جيش المنذر . وصاب المطر : انحدر وانصب . وكان وصف الجيش المنهزم في البيت الذي قبله ، بين ساقط قد صرع ، وبين قتيل قد هلك . فشبههم بطير أصابها المطر الغزير وأخذتها الصواعق ، ففزعت ، ولم تستطع أن تنهض فتطير ، فهي تدب تطلب النجاة . والضمير في قوله : " لطيرهن " للصواعق ، أي لطير الصواعق ، وأراد الطير التي أفزعتها الصواعق ، ولبدها المطر .
(1/333)
________________________________________
فَلا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبين مُغَمَّرٍ ، ... سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حين تَصُوبُ (1)
يعني : حين تنحدر. وهو في الأصل " صَيْوِب " ، ولكن الواو لما سَبقتها ياء ساكنة ، صيرتا جميعًا ياءً مشددةً ، كما قيل : سيِّد ، من ساد يسود ، وجيِّد ، من جاد يجود. وكذلك تفعل العربَ بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة ، تصيِّرهما جميعًا ياءً مشددةً.
وبما قلنا من القول في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
405 - حدثني محمد بن إسماعيل الأَحْمَسي ، قال : حدثنا محمد بن عُبيد ، قال : حدثنا هارون بن عَنترة ، عن أبيه (2) ، عن ابن عباس في قوله " أو كصيِّب من السماء " ، قال : القطر.
406 - حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قال لي عطاء : الصيّب ، المطرُ.
407 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قال : الصيّب ، المطرُ.
408 - حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن
__________
(1) هذا البيت في صدر القصيدة . يخاطب صاحبته ، وفي المطبوعة " معمر " وهو خطأ . والمغمر والغمر : الجاهل الذي لم يجرب الأمور ، كأن الجهل غمره وطغا عليه . والشطر الثاني دعاء لها بالخصب والنعمة . والروايا جمع راوية : وهي الدابة التي تحمل مزاد الماء . والمزن : السحاب الأبيض ، شبهه بالروايا حاملات الماء . ورواية ديوانه والمفضليات " سقتك " .
(2) الإسناد 405 - محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي - شيخ الطبري : ثقة ، روى عنه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وغيرهم . له ترجمة في التهذيب . وترجمه ابن أبي حاتم 3/2/ 190 . محمد بن عبيد : هو الطنافسي الأحدب ، وهو ثقة معروف ، روى عنه أحمد ، وإسحاق ، وابن معين ، وغيرهم . هارون بن عنترة بن عبد الرحمن : ثقة ، وثقه أحمد وابن سعد وغيرهما . وترجمه البخاري في الكبير 4/2/ 221 ، فلم يذكر فيه جرحًا ، وابن سعد 6 : 243 . أبوه : هو عنترة بن عبد الرحمن ، وكنيته " أبو وكيع " ، وهو تابعي ، قال البخاري في الكبير 4/1/84 " رأى : عليًّا ، روى عنه ابنه هارون ، وأبو سنان " ، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6 : 163 ، وابن أبي حاتم 3/2/35 ، وذكر أنه روى عن عثمان ، وعلي ، وابن عباس ، وأن أبا زرعة سأل عنه فقال : " كوفي ثقة " .
(1/334)
________________________________________
السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : الصيّب ، المطرُ.
409 - حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي سعدٌ ، قال : حدثني عمِّي الحسين ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، مثله.
410 - وحدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " أو كصيِّب " ، يقول : المطر.
411 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أنبأنا مَعمر ، عن قتادة ، مثله.
412 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، وعمرو بن علي ، قالا حدّثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : الصيِّب ، الربيعُ (1) .
413 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : الصيِّب ، المطرُ.
414 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : الصيِّبُ ، المطرُ.
415 - حُدِّثت عن المِنجَاب ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الصيِّبُ ، المطر.
416 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : " أو كصيِّب من السماء " قال : أو كغَيْثٍ من السماء.
417 - حدثنا سَوّار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان : الصَّيِّب ، الذي فيه المطر.
__________
(1) في المطبوعة : " الصيب : المطر " . والربيع : المطر في أول الربيع .
(1/335)
________________________________________
418 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا معاوية ، قال : حدثنا ابن جُريج ، عن عطاء ، في قوله : " أو كصيِّب من السماء " ، قال : المطر (1) .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : مَثَلُ استضاءَةِ المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام ، مع استسرارهم الكفر ، مَثلُ إضاءة موقد نارٍ بضوء ناره ، على ما وصف جل ثناؤه من صفته ، أو كمثل مَطرٍ مُظلمٍ وَدْقُه تحدَّر من السماء (2) ، تحمله مُزنة ظلماء في ليلة مُظلمة. وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه.
فإن قال لنا قائل : أخبرنا عن هذين المثَلين : أهما مثَلان للمنافقين ، أو أحدُهما ؟ فإن يكونا مثلَيْن للمنافقين ، فكيف قيل : " أو كصيِّب " ، و " أو " تأتي بمعنى الشك في الكلام ، ولم يقل " وكصيب " بالواو التي تُلحِق المثَلَ الثاني بالمثَل الأول ؟ أو يكون مَثل القوم أحدهما ، فما وجه ذكر الآخر بِـ " أو " ؟ وقد علمت أنّ " أو " إذا كانت في الكلام فإنما تدخل فيه على وجه الشّكّ من المخبِر فيما أخبر عنه ، كقول القائل : " لقيني أخوك أو أبوك " وإنما لقيه أحدُهما ، ولكنه جهل عَيْنَ الذي لقيه منهما ، مع علمه أن أحدهما قد لقيه. وغير جائز فيه الله جل ثناؤه أن يُضاف إليه الشك في شيء ، أو عُزُوب عِلم شيء عنه ، فيما أخبَرَ أو تَرك الخبر عنه.
قيل له : إنّ الأمرَ في ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. و " أو " - وإن كانت في بعض الكلام تأتي بمعنى الشكّ - فإنها قد تأتي دالة على مثل ما تدلُّ عليه الواو ، إما بسابق من الكلام قبلها ، وإما بما يأتي بعدها ، كقول تَوْبة بن الحُمَيِّر :
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا (3)
__________
(1) الأخبار 405 - 418 : ساقها مختصرة ابن كثير 1 : 99 ، والدر المنثور 1 : 33 .
(2) الودق : المطر يخرج من خلل السحاب مسترخيًا .
(3) من قصيدة له ، أمالي القالي 1 : 88 ، 131 ، وأمالي الشريف المرتضى 3 : 146 ، وأمالي الشجري 2 : 317 ، والأضداد لابن الأنباري : 243 ، وغيرها كثير .
(1/336)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
ومعلوم أنّ ذلك من توبة على غير وجه الشكّ فيما قال ، ولكن لمّا كانت " أو " في هذا الموضع دالةً على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها ، وضَعها موضعَها ، وكذلك قولُ جرير :
نَالَ الْخِلافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ، ... كَمَا أَتَى رَبَّه مُوسَى عَلَى قَدَرِ (1)
وكما قال الآخر :
فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا... بَكَيْتُ عَلَى بُجَيْرٍ أَوْ عِفَاقِ (2) عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيا جَمِيعًا... لِشَأْنِهما ، بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ (3)
فقد دلّ بقوله " على المرأين إذْ مَضَيا جميعًا " أنّ بكاءه الذي أراد أن يبكيه لم يُرد أن يقصدَ به أحدَهما دونَ الآخر ، بل أراد أن يبكيهما جميعًا. فكذلك ذلك في قول الله جل ثناؤه " أو كصيِّب من السماء " . لمّا كان معلومًا أن " أو " دالة في ذلك على مثل الذي كانت تدل عليه " الواو " لو كانت مكانها - كان سواء نطق فيه ب " أو " أو ب " الواو " . وكذلك وجه حذف " المثل " من قوله " أو كصيب " . لما كان قوله :
__________
(1) ديوانه : 275 ، وسيأتي في تفسيره آية البقرة : 74 (1 : 287 بولاق) ، وآية طه : 40 (16 : 128 بولاق) ، وأمالي الشجري 1 : 317 ، يقولها في أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز . وروايته " إذ كانت " ، وفي المطبوعة : " جاء الخلافة " ، وهي رواية سقيمة .
(2) البيتان لمتمم بن نويرة اليربوعي . اللسان (عفق) ، أمالي الشجري ، 2 : 318 ، أمالي المرتضى 3 : 147 ، الأضداد لابن الأنباري : 243 . وفي المطبوعة والمخطوطة " على جبير " ، وهو خطأ محض ، وفي المطبوعة : " عناق " ، وهو خطأ أيضًا . وهذا الشعر يقوله متمم بن نويرة في رثاء بجير بن عبد الله بن الحارث اليربوعي ، وهو بجير بن أبي مليل ، وأخوه عفاق بن أبي مليل . قتل أولهما يوم قشاوة ، قتله لقيم بن أوس (النقائض : 20) ، وقتل عفاق يوم العظالى ، قتله الدعاء ، وقيل قتله الفريس بن مسلمة (النقائض : 583) .
(3) يروى " بحزن واحتراق " و " بشجو واشتياق " . وقوله : " مضيا لشأنهما " أي ، هلكا ولقيا ما يلقى كل حي .
(1/337)
________________________________________
" كمثل الذي استوقد نارًا " دالا على أن معناه : كمثل صيب ، حَذفَ " المثَل " ، واكتفى - بدلالة ما مضى من الكلام في قوله : " كمثل الذي استوقد نارًا " على أن معناه : أو كمثل صيِّب - من إعادة ذكر المثلَ ، طَلبَ الإيجاز والاختصار.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا }
قال أبو جعفر : فأما الظلمات ، فجمعٌ ، واحدها ظُلمة.
أما الرَّعد ، فإنّ أهل العلم اختلفوا فيه :
فقال بعضهم : هو مَلك يَزجُر السحابَ.
* ذكر من قال ذلك :
419 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شُعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، قال : الرعد ، مَلك يَزجُر السحاب بصوته.
420 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عَديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله.
421 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدتنا فُضَيْل بن عِيَاض ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله (1) .
422 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هُشيم قال : أنبأنا إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح ، قال : الرَّعد ، مَلك من الملائكة يُسبِّح (2) .
__________
(1) الإسناد 421 - يحيى بن طلحة اليربوعي : روى عنه الترمذي وغيره ، وذكره ابن حبان في الثقات . وضعفه النسائي ، فقال في الضعفاء : 32 : " ليس بشيء " .
(2) الإسناد 422 - إسماعيل بن سالم الأسدي : ثقة ، روى عنه الثوري وأبو عوانة ، قال ابن سعد 7/2/67 : " كان ثقة ثبتًا " . وأبو صالح : هو السمان .
(1/338)
________________________________________
423 - حدثني نَصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا محمد بن يَعْلَى ، عن أبي الخطاب البصري ، عن شَهر بن حَوشب ، قال : الرّعد ، مَلك موكَّل بالسحاب يَسوقه ، كما يسوق الحادي الإبل ، يُسبِّح. كلما خالفتْ سحابةٌ سحابةً صاح بها ، فإذا اشتد غَضبه طارت النارُ من فيه ، فهي الصواعقُ التي رأيتم (1) .
424 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الرَّعد ، مَلَك من الملائكة اسمه الرعد ، وهو الذي تسمعون صوته.
425 - حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد الملك بن حسين ، عن السُّدّيّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : الرعد ، مَلَك يَزجُر السحاب بالتسبيح والتكبير (2) .
426 - وحدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الرعد اسم مَلَك ، وصوتهُ هذا تسبيحه ، فإذا اشتد زَجْرُه السحابَ ، اضطرب السحابُ واحتكَّ. فتخرج الصَّواعق من بينه.
427 - حدثنا الحسن ، قال : حدثنا عفان. قال : حدثنا أبو عَوَانة ، عن
__________
(1) الإسناد 423 - نصر بن عبد الرحمن بن بكار التاجي ، شيخ الطبري : ثقة ، روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما ، مترجم في التهذيب ، وقال " ويقال : الأزدي " ، فكذلك نسب هنا ، وكذلك روى عنه الطبري في التاريخ 2 : 128 ، ونسبه " الأزدي " ، ووقع في المطبوعة " الأودي " بالواو بدل الزاي ، وهو تصحيف . محمد بن يعلى : هو السلمي الكوفي ، ولقبه " زنبور " ، وهو ضعيف ، وقال البخاري " يتكلمون فيه " . أبو الخطاب البصري : لم أعرف من هو ؟ ولكن ذكر الدولابي في الكنى 1 : 167 " أبو الخطاب عبد الله " ، ثم قال : " وروى محمد بن عبد الله بن عمار عن المعافى بن عمران عن عبد الله أبي الخطاب عن شهر بن حوشب " فذكر حديثًا . ولم يبين أكثر من ذلك ، ولم أجد ترجمته .
(2) الإسناد 425 - عبد الملك بن حسين : هو أبو مالك النخعي الواسطي ، اشتهر بكنيته وبها ترجم في التهذيب 12 : 219 ، وترجمه ابن أبي حاتم باسمه 2/2/347 . وهو ضعيف ليس بشيء .
(1/339)
________________________________________
موسى البزار ، عن شهر بن حَوْشب ، عن ابن عباس ، قال : الرعدُ مَلَكٌ يسوق السحاب بالتسبيح ، كما يسوق الحادي الإبل بحُداته.
428 - حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عَبَّاد ، وشَبابة ، قالا حدثنا شعبة ، عن الحكَم ، عن مجاهد ، قال : الرَّعد مَلكٌ يزجر السحاب.
429 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزُّبيري ، قال : حدثنا عتَّاب بن زياد ، عن عكرمة ، قال : الرعد مَلك في السحاب ، يَجمع السحابَ كما يَجمع الراعي الإبل.
430 - وحدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الرعد خَلْقٌ من خَلق الله جل وعز ، سامعٌ مطيعٌ لله جل وعَز.
431 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن عكرمة ، قال : إن الرعد مَلكٌ يُؤمر بإزجاء السحاب فيؤلِّف بينه ، فذلك الصوت تسبيحه.
432 - وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، قال : الرعد مَلك.
433 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرعد : مَلك.
434 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جَهْضم ، مولى ابن عباس ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْدِ يسألهُ عن الرعد ، فقال : الرعد مَلك (1) .
__________
(1) الخبر 434 - هذا إسناد منقطع : موسى بن سالم أبو جهضم : ثقة ، ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة . " أبو الجلد " : بفتح الجيم وسكون اللام وآخره دال مهملة ، ووقع في الأصول هنا ، وفي الروايات التالية " أبو الخلد " بالخاء بدل الجيم ، وهو تصحيف . وأبو الجلد : هو جيلان - بكسر الجيم - بن أبي فروة ، ويقال : ابن فروة الأسدي البصري ، كما ذكر البخاري في ترجمته في الكبير 1/2/250 . وقال ابن أبي حاتم 1/1/547 : " صاحب كتب التوراة ونحوها " . ثم روى عن أحمد بن حنبل أنه وثقه . وترجمه ابن سعد 7/1/161 ، وقال : " أبو الجلد الجوني ، حي من الأزد ، واسمه : جيلان بن فروة ، وكان ثقة " . وذكره ابن حبان في الثقات : 157 ، والدولابي في الكنى 1 : 139 ، والزبيدي في شرح القاموس (جلد) و (جيل) . وذكره الحافظ في لسان الميزان في الأسماء 2 : 144 ، ووعد بترجمته في الكنى " أبو الجلد " ، ثم لم يفعل ، وروى عنه الطبري أثرًا في التاريخ 2 : 203 . وسيأتي في الخبر : 445 أنه " رجل من أهل هجر " .
(1/340)
________________________________________
435 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا عمر بن الوليد الشَّنّي ، عن عكرمة ، قال : الرعدُ ملكٌ يسوق السحاب كما يسوق الراعي الإبل (1) .
436 - حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكَم بن أبان ، عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس إذا سمع الرعد ، قال : سُبحان الذي سَبَّحتَ له. قال : وكان يقول : إن الرَّعد مَلكٌ يَنعَق بالغيث كما ينعَقُ الراعي بغنمه (2) .
وقال آخرون : إن الرعد ريح تختنق تحت السحاب فتصَّاعد ، فيكون منه ذلك الصوت.
* ذكر من قال ذلك :
437 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزُّبيري ، قال : حدثنا بِشر بن إسماعيل ، عن أبي كثير ، قال : كنت عند أبي الجَلد ، إذْ جاءه رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبتَ تَسألني عن الرّعد ، فالرعد الريح (3) .
438 - حدثني إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عِمْران بن مَيسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفُرات ، عن أبيه (4) قال : كتب ابن عباس
__________
(1) عمر بن الوليد الشني أبو سلمة العبدي : ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما ، وقال أبو حاتم : " ما أرى بحديثه بأسًا " . وهو مترجم في التعجيل : 304 ، وابن أبي حاتم 3/1/ 139 . " الشني " : بفتح الشين المعجمة ، كما في المشتبه : 279 . ووقع في المطبوعة بالمهملة ، وهو تصحيف .
(2) الإسناد 436 - سعد بن عبد الله بن عبد الحكم : لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم 2/1/ 92 ، وقال : " سمعت منه بمكة وبمصر ، وهو صدوق " .
(3) الإسناد 437 - هو إسناد مشكل . ما وجدت ترجمة " بشر بن إسماعيل " ، وما عرفت من هو . ثم لم أعرف من " أبو كثير " الراوي عن أبي الجلد . وسيأتي هذا الإسناد مرة أخرى : 443 .
(4) الإسناد 438 - عمران بن ميسرة المنقري : ثقة ، من شيوخ البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم . ابن إدريس : هو عبد الله بن إدريس الأودي : ثقة مأمون حجة . الحسن بن الفرات : ثقة ، أخرج له مسلم في صحيحه . أبوه : فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي ، ثقة ، أخرج له أصحاب الكتب الستة ، ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة ، إنما هو يروى عن التابعين .
(1/341)
________________________________________
إلى أبي الجَلد يسأله عن الرعد ، فقال : الرعد ريح (1) .
قال أبو جعفر : فإن كان الرّعد ما ذكره ابن عباس ومجاهد ، فمعنى الآية : أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات وصوتُ رَعد. لأن الرعد إن كان مَلَكًا يسوق السَّحاب ، فغير كائن في الصيِّب ، لأن الصيِّب إنما هو ما تحدَّر من صَوْب السحاب ، والرعد إنما هو في جو السماء يَسوق السحاب. على أنه لو كان فيه ثَمَّ لم يكن له صوت مسموع ، فلم يكن هنالك رُعب يُرْعَب به أحد (2) . لأنه قد قيل : إنّ مع كل قطرةٍ من قطر المطر مَلَكًا ، فلا يعدُو الملكُ الذي اسمه " الرعد " ، لو كان مع الصيِّب ، إذا لم يكن مسموعًا صوته ، أن يكون كبعض تلك الملائكة التي تنزل مع القطر إلى الأرض ، في أن لا رُعب على أحد بكونه فيه. فقد عُلم - إذ كان الأمر على ما وصفنا من قول ابن عباس - أنّ معنى الآية : أو كمثَل غَيث تحدَّر من السماء فيه ظلماتٌ وصوتُ رعدٍ ، إن كان الرعد هو ما قاله ابن عباس ، وأنه استغنى بدلالة ذكر الرعد باسمه على المراد في الكلام مِنْ ذكر صوته. وإن كان الرعد ما قاله أبو الجَلد ، فلا شيء في قوله " فيه ظلماتٌ ورَعدٌ " متروك. لأن معنى الكلام حينئذ : فيه ظلمات ورعدٌ الذي هو ما وصفنا صفته.
وأما البَرْق ، فإن أهل العلم اختلفوا فيه : فقال بعضهم بما : -
439 - حدثنا مَطرُ بن محَمد الضَّبّي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، - ح - وحدثني محمد بن بشار ، قال : حدثني عبد الرحمن بن مهدي ، - ح - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزُّبيري ، قالوا جميعًا : حدثنا سفيان الثوري ، عن سَلمة بن كُهيل ، عن سعيد بن أشْوَعَ ، عن ربيعة
__________
(1) الأخبار 419 - 438 جميعًا : لم يذكرها ابن كثير ولا السيوطي في الدر المنثور ، وذكر البغوي في تفسيره 1 : 99 - 100 ، بعضها ، والقرطبي 1 : 187 وما بعدها .
(2) في المطبوعة : " على أنه لو كان فيه يمر ، لم يكن له صوت مسموع ، فلم يكن هناك رعب " وهو من تبديل النساخ .
(1/342)
________________________________________
بن الأبيض ، عن علي ، قال : البرق : مخاريقُ الملائكة (1) .
440 - حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين ، عن أبي مالك ، عن السُّدّيّ ، عن ابن عباس : البرقُ مخاريقُ بأيدي الملائكة ، يزْجرون بها السحاب.
441 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن المغيرة بن سالم ، عن أبيه ، أو غيره ، أن علي بن أبي طالب قال : الرَّعد الملَك ، والبرق ضَرْبه السحابَ بمخراق من حديد.
وقال آخرون : هو سوطٌ من نور يُزجي به الملكُ السحابَ.
* ذكر من قال ذلك :
442 - حدثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، بذلك.
وقال آخرون : هو ماء.
* ذكر من قال ذلك :
443 - حُدِّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بِشر بن إسماعيل ، عن أبي كثِير ، قال : كنت عند أبي الجَلْد ، إذ جاء رسول ابن عباس بكتاب إليه ، فكتب إليه : " كتبت إليّ تسألني عن البرق ، فالبرق الماء " .
444 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : حدثنا عمران بن مَيسرة ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات ، عن أبيه ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن البرق ، فقال : البرق ماء.
445 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن رجل ، من أهل البصرة من قُرَّائهم ، قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد - رجل من أهل هَجَر - يسأله عن البرق ، فكتب إليه : " كتبت إليّ تسألني عن البرق ، وإنه من الماءِ " .
وقال آخرون : هو مَصْع مَلَك (2) .
446 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : البرق ، مَصْع مَلك (3) .
447 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن مُسلم الطائفي ، قال : بلغني أن البرق مَلكٌ له أربعة أوجه ، وجهُ إنسان ، ووجه ثَور ، ووجه نَسر ، ووجه أسد ، فإذا مَصَع بأجنحته فذلك البرق (4) .
448 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن وهب بن سليمان ، عن شُعيب الجَبَائي قال : في كتاب الله : الملائكة حَمَلة العرش ، لكل مَلك منهم وَجه إنسان وثور وأسد ، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق
__________
(1) الإسناد 439 - سلمة بن كهيل الحضرمي : ثقة معروف ، سعيد بن أشوع : هو سعيد ابن عمرو بن أشوع الكوفي القاضي ، نسب إلى جده . وهو ثقة ، أخرج له الشيخان في الصحيحين ، ربيعة بن الأبيض - الذي روى عن علي - لم أجد له ترجمة إلا في كتاب الثقات لابن حبان : 184 . قال : " ربيعة بن الأبيض ، يروى عن علي بن أبي طالب ، روى عنه ابن أشوع " .
المخاريق جمع مخراق : وهو منديل أو نحوه يلوى فيضرب به ، ويلف فيفزع به ، وهو من لعب الصبيان ، ومنه سمى السيف مخراقًا .
(2) المصع : الضرب بالسيف أو السوط أو غيرهما . والمصاع : المجالدة بالسيف . يعني أن الملك يضرب السحاب بمخراقه .
(3) الإسناد 446 - عثمان بن الأسود بن موسى المكي : ثقة ثبت كثير الحديث ، يروى عن مجاهد ، ويروى عنه سفيان الثوري .
(4) الإسناد 447 - محمد بن مسلم بن سوسن الطائفي : وثقه ابن معين ، وقال ابن مهدي : " كتبه صحاح " ، وضعفه أحمد بن حنبل ، وأخرج له مسلم في صحيحه حديثًا واحدًا متابعة .
(1/343)
________________________________________
(1) . وقال أميةُ بن أبي الصلت :
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ... وَالنَّسْرُ لِلأُخْرَى ، وَلَيْثٌ مُرْصِدُ (2)
449 - حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : البرق ملك.
450 - وقد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : الصواعق مَلَك يضربُ السحابَ بالمخاريق ، يُصيب منه من يشاء (3) .
قال أبو جعفر : وقد يحتمل أن يكون ما قاله علي بن أبي طالب وابن عباس ومجاهد بمعنى واحد. وذلك أن تكون المخاريقُ التي ذكر عليّ رضي الله عنه أنها هي البرق ، هي السياط التي هي من نور ، التي يُزجي بها الملك السحاب ، كما قال ابن عباس. ويكون إزجاء الملك بها السحاب ، مَصْعَه إياه (4) . وذلك أن المِصَاعَ عند العرب ، أصله : المجالَدَةُ بالسيوف ، ثم تستعمله في كل شيء جُولد به في حرب وغير حرب ، كما قال أعشى بني ثعلبة ، وهو يصف جَواريَ يلعبن بِحلْيهنَّ ويُجالدْن به (5) .
__________
(1) الأثر 448 - وهب بن سليمان الجندي - بفتح الجيم والنون - اليماني ، قال البخاري في الكبير 4/2/ 169 - 170 : " عن شعيب الجبائي ، قوله ، روى عنه ابن جريج " . ولم أجد له ترجمة عند غيره . شعيب الجبائي : بفتح الجيم والباء الموحدة مخففة ، نسبة إلى " جبأ " ، بوزن " جبل " ، وهو جبل في اليمن قرب الجند ، كما قال ياقوت وغيره . وشعيب هذا ترجمه البخاري في الكبير 2/2/ 219 . وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/ 353 ، قال : " شعيب الجبائي : يماني ، يروى عن الكتب [يريد الكتب المنسوبة لأهل الكتاب من الأساطير] ، روى عنه سلمة بن وهرام " ، ثم جزم ابن أبي حاتم بأنه " شعيب بن الأسود " ، ثم روى بإسناده عن زمعة ، عن شعيب بن الأسود ، قال : أجد في كتاب الله " . وله ترجمة في لسان الميزان 3 : 150 وقال : " أخباري متروك " . ثم ذكر شيئًا مما لا يقبله العقل من كلامه ، وقال : " ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : كان قد قرأ الكتب " .
(2) ديوانه : 25 ، وسيأتي في تفسير آية الرعد : 35 (13 : 109 بولاق) . ورواية ديوانه : " تحت يمنى رجله ، والنسر لليسرى " . قال الطبري في الموضع الآخر : " كأنه قال : تحت رجله ، أو تحت رجله اليمنى " . والضمير في قوله : " رجله " ، يعنى به إسرافيل ، وذكره في شعره قبل . وفي ديوانه ، وفي الموضع الآخر من الطبري : " زحل " ، كأنه يعني البروج ، ولكن استدلال الطبري هنا واضح ، دال على أن روايته " رجل " .
(3) الأخبار 439 - 450 : لم تذكر في ابن كثير ، ولا في الدر المنثور . وانظر البغوي 1 : 99 - 100 ، والقرطبي 1 : 188 .
(4) في المطبوعة : " إزجاء الملك السحاب ، مصعه إياه بها " .
(5) المجالدة : المضاربة بالسيوف وغيرها في المصارعة والقتال ، من الجلد .
(1/345)
________________________________________
إِذَا هُنَّ نَازَلْنَ أَقَرَانَهُنَّ... وَكَانَ الْمِصَاعُ بِمَا فِي الْجُوَنْ (1)
يقال منه : ماصَعه مصاعًا. وكأن مجاهدًا إنما قال : " مَصْعُ ملك " ، إذْ كان السحاب لا يماصع الملك ، وإنما الرعد هو المماصع له ، فجعله مصدرًا من مَصَعه يَمْصَعه مَصِْعًا.
وقد ذكرنا ما في معنى " الصاعقة " - ما قال شَهر بن حَوشب فيما مضى.
وأما تأويل الآية ، فإن أهل التأويل مُختلفون فيه :
فرُوي عن ابن عباس في ذلك أقوال : أحدها : ما -
451 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أو كصيِّب من السماء فيه ظلمات ورَعدٌ وبرقٌ يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت " : أي هم من ظُلمات ما هم فيه من الكفر والحذَر من القتل - على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم - على مثل ما وصف ، من الذي هو في ظلمة الصيب ، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حَذَرَ الموت ، يكاد البرق يخطفُ أبصارهم - أي لشدة ضوء الحق - كلما أضاءَ لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ، أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين (2) .
والآخر : ما -
452 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، " أو كصيِّب من السماء فيه ظُلماتٌ ورَعدٌ وبرق " إلى " إنّ الله عَلى كل شيء قدير " ، أما الصيب فالمطر (3) . كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله ، فيه رعدٌ شديد وصواعقُ وبرقٌ ، فجعلا كلَّما أضاء لهما الصواعقُ جعلا أصابعَهما في آذانهما ، من الفَرَق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما. وإذا لمع البرق مَشيا في ضوئه (4) ، وإذا لم يلمع لم يبصِرا وقاما مكانهما لا يمشيان (5) ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتيَ محمدًا فنضعَ أيدينا في يده. فأصبحا ، فأتياه فأسلما ، ووضعا أيديهما في يده ، وحَسُن إسلامهما. فضرب الله شأن هذين المنافقيْن الخارجيْن مثلا للمنافقين الذين بالمدينة. وكان المنافقون إذا حضروا مجلسَ النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم ، فَرَقًا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يَنزِل فيهم شيء أو يُذكَروا بشيء فيقتَلوا ، كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه. فإذا كثرت أموالهم ، ووُلد لهم الغلمان (6) ، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا ، مشوْا فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان ، إذا أضاء لهم البرق مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا (7) . فكانوا إذا هلكت أموالهم ، ووُلد لهم الجواري ، وأصابهم البلاء (8) ، قالوا : هذا من أجل دين محمد. فارتدوا كفارًا ، كما قام ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما (9) .
والثالث : ما -
453 - حدثني به محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس : " أو كصيِّب من السماء " ، كمطر ، " فيه ظلمات ورعدٌ وبرقٌ " إلى آخر الآية ، هو مَثل المنافق في ضوء ما تكلّم بما معه من كتاب الله وعمل ، مُراءَاةً للناس ، فإذا خلا وحده عَمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلماتُ فالضلالةُ ، وأما البرقُ فالإيمان ، وهم أهل الكتاب.
__________
(1) ديوانه : 15 ، وزعم الطبري كما ترى أنه أراد جواري يلعبن بحليهن ويجالدن بها . وقد أخطأ المعنى . وإنما أراد الأعشى ما هو أبلغ . وذلك أن الأقران جمع قرن : وهو الذي يقارنك في القوة والشجاعة ، وأراد به الرجال ، وينازلن : أراد ما يكون منهن من المداعبة والممارسة إرادة الغلبة على عقول الرجال وعزائمهم . والجون ، جمع جونة : وهي سلة صغيرة مستديرة مغشاة بالأدم يكون فيها الطيب . ويقال أيضًا : " جؤنة وجؤن " بالهمز . وذكر الأعشى المعركة القديمة الدائرة بين الرجال والنساء ، يتخذن الزينة والطيب سلاحًا ، فيتصدين للرجال ابتغاء الظفر والغلبة ، والفتنة التي تصرع الألباب والعزائم ، فيقع الرجال أسرى في أيديهن .
(2) الخبر 451 - ذكره السيوطي في الدر المنثور بتمامه 1 : 32 - 33 ، ونسبه أيضًا لابن إسحاق ، وابن أبي حاتم . وفيه وفي المخطوطة " من الخلاف والتخويف منكم " ونقل ابن كثير بعضه 1 : 100 .
(3) في المطبوعة : " وأما الصيب والمطر " ، وهو خطأ .
(4) في الأصول : " مشوا " ، وصححناه من الدر المنثور والشوكاني .
(5) في الأصول : " قاما مكانهما " بغير واو ، وفي إحدى النسخ المخطوطة : " فقاما مكانهما " ، واتفقت سائر الأصول وما نقل في الدر المنثور والشوكاني على حذف الفاء ، والجملة لا تستقيم ، فجعلناها " وقاما " ، وهو صواب العبارة .
(6) في الدر المنثور : " وولدهم ، وأصابوا . . " ، وفي الشوكاني : " وأولادهم وأصابوا . . "
(7) في المخطوطة : " إذا أضاء لهما مشيا ، وإذا أظلم عليهما قاما " . وفي الدر المنثور : " يمشيان إذا أضاء بهما البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا " ، وفي الشوكاني : " يمشيان إذا أضاء لهم البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا " ، وأجودهن ما في المخطوطة ، وما في المطبوعة .
(8) في الدر المنثور والشوكاني : " إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء " .
(9) الحديث 452 - نقل في الدر المنثور 1 : 32 ، والشوكاني 1 : 36 - 37 ، وسيأتي في ص 354 قول الطبري عن هذا الحديث وعن إسناده : " ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . " وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد محمد شاكر في هذا الإسناد فيما مضى في الخبر رقم : 168 .
ويقول أحمد محمد شاكر عفا الله عنه : وحق لأبي جعفر رحمه الله أن يرتاب في إسناده . فإن هذا الإسناد فيه تساهل كثير ، من جهة جمع مفرق التفاسير عن الصحابة في سياق واحد ، تجمعه هذه الأسانيد ، كما بينا آنفًا . فإذا كان الأمر في تفسير معنى آية ، كان سهلا ميسورًا قبوله ، إذ يكون رأيًا أو آراء لبعض الصحابة في معنى الآية ، وما في ذلك بأس . أما إذا ارتفع الخبر إلى درجة الحديث ، بالإخبار عن واقعة معينة أو وقائع ، كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أسباب لنزول بعض الآيات ، أو نحو ذلك ، مما يلحق بالحديث المرفوع لفظًا أو حكمًا - كان قبول هذا الإسناد - إسناد تفسير السدي - محل نظر وارتياب . إذ هو رواية غير معروف مصدرها معرفة محددة : أي هؤلاء الذي قال هذا ؟ وأيهم الذي عبر عنه باللفظ الذي جاء به ؟ نعم ، إن ظاهره أنه عن الصحابة : إما ابن عباس ، وإما ابن مسعود ، وإما " ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " - فقد يقول قائل : إن مرجع الرواية فيه إلى الصحابة ، وسواء أعرف الصحابي الراوي أم أبهم اسمه ، فإن ذلك لا يخرجه عن رواية الصحابة ، وجهالة الصحابي لا تضر ؟ ولكن سياق هذه الروايات المطولة المفصلة ، في التفسير وفي الحوادث المتعلقة بأسباب النزول ، مثل الرواية التي هنا في هذا الموضع ، مع إعراض أئمة الحديث ، الذين خرجوا الروايات الصحيحة ، والروايات المقبولة مما هو دون الصحيح - عن إخراج هذه الرواية ونحوها ، وإعراض مؤرخي السيرة عن روايتها أيضًا ، كل أولئك يوجب الريبة في اتصال مثل هذه الرواية ، وفي الجزم بنسبتها إلى الصحابة . إذ لعلها مما أدرج في الرواية أثناء الحديث بها . والاحتياط في نسبة الحديث المرفوع وما في حكمه واجب .
(1/346)
________________________________________
وإذا أظلم عليهم ، فهو رجلٌ يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يُجاوزه (1) .
والرابع : ما -
454 - حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " أو كصيِّب من السماء " ، وهو المطر ، ضرب مَثله في القرآن يقول : " فيه ظلمات " ، يقول : ابتلاء ، " ورعد " يقول فيه تخويف ، " وبرق " ، " يكاد البرق يخطف أبصارهم " (2) ، يقول : يكاد محكم القرآن يدُلّ على عورات المنافقين ، " كلما أضاء لهم مَشوا فيه " . يقول : كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا ، وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر (3) يقول : " وإذا أظلم عَليهم قاموا " ، كقوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [سورة الحج : 11] (4) .
ثم اختلف سائر أهل التأويل بعدُ في ذلك ، نظيرَ ما روي عن ابن عباس من الاختلاف :
455 - فحدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، قال : إضاءة البرق وإظلامُه ، على نحو ذلك المثَل.
456 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثلَه.
__________
(1) الخبر 453 - في الدر المنثور 1 : 32 ، والشوكاني 1 : 37 ، مع اختلاف يسير في اللفظ .
(2) في الدر المنثور والشوكاني : " رعد وبرق - تخويف " .
(3) في المطبوعة : " قالوا رجعوا إلى الكفر " ، وهو خطأ محض .
(4) الخبر 454 - في الدر المنثور 1 : 32 ، والشوكاني 1 : 36 ، وبعضه في تفسير ابن كثير 1 : 100 .
(1/349)
________________________________________
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
457 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثله.
458 - وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قول الله : " فيه ظلماتٌ ورعدٌ وبرقٌ " إلى قوله " وإذا أظلم عليهم قاموا " ، فالمنافق إذا رأى في الإسلام رخاءً أو طمأنينة أو سَلوة من عَيش ، قال : أنا معكم وأنا منكم ، وإذا أصابته شَديدةٌ حَقحقَ والله عندها ، فانقُطعَ به ، فلم يصبر على بلائها ، ولم يَحتسب أجرَها ، ولم يَرْجُ عاقبتها (1) .
459 - وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا مَعمر ، عن قتادة : " فيه ظلمات ورعد وبرق " ، يقول : أجبنُ قوم (2) لا يسمعون شيئًا إلا إذا ظنوا أنهم هالكون فيه حَذرًا من الموت ، والله مُحيطٌ بالكافرين. ثم ضرب لهم مَثلا آخر فقال : " يكادُ البرقُ يخطف أبصارَهم كلما أضاء لهم مشوا فيه " ، يقول : هذا المنافق ، إذا كثر ماله ، وكثرت ماشيته ، وأصابته عافية قال : لم يُصبني منذُ دخلت في ديني هذا إلا خيرٌ. " وإذا أظلم عليهم قاموا " يقول : إذا ذهبت أموالهم ، وهلكت مواشيهم ، وأصَابهم البلاءُ ، قاموا متحيرين (3) .
460 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فيه ظلمات ورعد وبرق " ، قال : مَثَلُهم
__________
(1) الأثر 458 - في الدر المنثور 1 : 33 ، وهو جزء من أثر قتادة بتمامه ، ونصه هناك : " فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة عيش ، قالوا : إنا معكم ومنكم . وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء ، فقحقح عند الشدة ، فلا يصبر لبلائها ، ولم يحتسب أجرها ، ولم يرج عاقبتها " . وقوله في الدر المنثور " قحقح " ، أظنه خطأ ، وإنما هو حقحق كما في أصول الطبري . والحقحقة : أرفع السير وأتعبه للظهر . يريد أنه يسرع إسراعًا في حيرته حتى يهلكه التعب ، وذلك أن المنافق لا يصبر على البلوى صبر المؤمن الراضي بما شاء الله وقدر . وقوله " فانقطع به " بالبناء للمجهول يقال للدابة وللرجل " قطع به وانقطع به " بالبناء للمجهول ، إذا عجز فلم ينهض ، وأتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه ، وانقطع رجاؤه . وفي المخطوطة " فتقطع به " وليست بشيء . وفي المطبوعة : " وإذا أصابته شدة " .
(2) في المطبوعة : " أخبر عن قوم " ، وهو كلام بلا معنى .
(3) الأثر 459 - لم أجده بلفظه ، وأثر قتادة في الدر المنثور 1 : 33 شبيه به في المعنى دون اللفظ .
(1/350)
________________________________________
كمثل قوم ساروا في ليلة مظلمة ، ولها مطر ورَعد وبرق على جادَّة ، فلما أبرقت أبصرُوا الجادَّة فمضوا فيها ، وإذا ذهب البرق تحيَّروا. وكذلك المنافق ، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له ، فإذا شك تحيَّر ووقع في الظلمة ، فكذلك قوله : " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " ، ثم قال : في أسماعهم وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس ، " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم " .
قال أبو جعفر :
461 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان الباهلي ، عن الضحاك بن مُزَاحم ، " فيه ظلمات " ، قال : أما الظلمات فالضلالة ، والبرق الإيمان (1) .
462 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله : " فيه ظلمات ورَعد وبرق " ، فقرأ حتى بلغ : " إنّ الله على كل شيء قدير " ، قال : هذا أيضًا مثلٌ ضربه الله للمنافقين ، كانوا قد استناروا بالإسلام ، كما استنارَ هذا بنور هذا البرق.
463 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جُريج : ليس في الأرض شيء سمعه المنافق إلا ظنّ أنه يُراد به ، وأنه الموت ، كراهيةً له - والمنافق أكرهُ خلق الله للموت - كما إذا كانوا بالبَراز في المطر ، فرُّوا من الصواعق (2) .
464 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جُريج ، عن عطاء في قوله : " أو كصَيِّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " ، قال : مثَل ضُرِبَ للكافر (3) .
__________
(1) الأثر 461 - في الأصول " أبو نميلة " بالنون ، وهو خطأ ، والصواب " أبو تميلة " بالتاء مصغرًا ، وهو يحيى بن واضح ، كما مضى في : 392 .
(2) في المخطوطة : " كما إذ كانوا بالبر في المطر . . " ، وهو شبيه بالصواب . والبراز : الفضاء من الأرض البعيد الواسع ، ليس به شجر ولا غيره مما يستتر به .
(3) الآثار 460 - 464 : لم أجدها في مكان .
(1/351)
________________________________________
وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه ، فإنها - وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها - متقارباتُ المعاني ، لأنها جميعًا تُنبئ عن أن الله ضَرَب الصيِّب لظاهر إيمان المنافق مَثلا وَمثَّلَ ما فيه من ظلمات لضلالته ، وما فيه من ضياء برقٍ لنور إيمانه (1) ؛ واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه ، لضَعف جَنانه ونَخْبِ فؤاده من حُلول عقوبة الله بساحته (2) ؛ وَمشيَه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه ؛ وقيامَه في الظلام ، لحيرته في ضلالته وارتكاسه في عَمَهه (3) .
فتأويل الآية إذًا - إذْ كان الأمر على ما وصفنا - أو مَثَلُ ما استضاء به المنافقون - من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم : آمنا بالله وباليوم الآخر وبمحمد وما جاء به ، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكامُ المؤمنين ، وهم - مع إظهارهم بألسنتهم ما يُظهرون - بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وباليوم الآخر ، مكذِّبون ، ولخلاف ما يُظهرون بالألسُن في قلوبهم معتقدون ، على عمًى منهم ، وجهالة بما هم عليه من الضلالة ، لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شَرَعا لهم [فيه] الهداية (4) ، أفي الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم ، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلون ، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكُّون ، في قلوبهم مَرَض فزادهمُ الله مَرَضًا. كمثل غَيثٍ سَرى ليلا في مُزنة ظلماء
__________
(1) في المخطوطة : " بضلالته . . . بنور إيمانه " .
(2) في المطبوعة : " وتحير فؤاده " . والنخب : الجبن وضعف القلب . ورجل نخب ونخيب ومنخوب الفؤاد : جبان لا خير فيه ، كأنه منتزع الفؤاد ، فلا فؤاد له .
(3) في المطبوعة : " باستقامته . . بحيرته في ضلالته . . "
(4) في المخطوطة : " سرعا " غير واضحة ولا منقوطة . ولعل الصواب " شرعا " من قولهم شرعت الإبل الماء : أي دخلته وخاضت فيه لتشرب منه . والمنافق يخوض في الإيمان بلسانه وفي الكفر بقلبه . وزدت ما بين القوسين ليستقيم المعنى . وفي المطبوعة بعد : " الهداية في الكفر الذي كانوا عليه " ، بغير ألف الاستفهام ، وهو خطأ لا يستقيم .
(1/352)
________________________________________
وليلة مظلمة (1) يحدوها رعدٌ ، ويستطير في حافاتها برقٌ شديد لمعانه (2) ، كثير خَطرانه (3) ، يكاد سَنا برقه يَذهب بالأبصار ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه ، وينهبط منها تارات صواعقُ ، تكاد تَدَع النفوس من شدة أهوالها زَواهق.
فالصيِّب مَثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق ، والظلمات التي هي فيه لظُلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعدُ والصواعق ، فلِما هم عليه من الوَجَل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه ، إما في العاجل وإما في الآجل ، أنْ يحلّ بهم ، مع شكهم في ذلك : هل هو كائن أم غير كائن ؟ وهل له حقيقة أم ذلك كذبٌ وباطلٌ ؟ - مثلٌ (4) . فهم من وَجلهم ، أن يَكون ذلك حَقًّا ، يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، مخافةً على أنفسهم من الهلاك ونزول النَّقِمَات (5) . وذلك تأويل قوله جل ثناؤه " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت " ، يعني بذلك : يتقون وَعيدَ الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار ، كما يتّقي الخائف أصواتَ الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها ، حَذَرًا على نفسه منها.
وقد ذكرنا الخبرَ الذي روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان : إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم
__________
(1) في المطبوعة : " وليل مظلمة " ، وهو خطأ بين .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " يحذوها " بالذال المعجمة ، وهو خطأ . وإنما هو من حداء السائق بإبله : وهو غناؤه لها وزجره إياها ، وهو يسوقها . جعل صوت الرعد حداء للسحاب . واستطار البرق : سطع وشق السحاب وانتشر في جوانب الغمام .
(3) في المخطوطة : " خطواته " غير منقوطة ، وهو تحريف . من قولهم خطر بسيفه أو سوطه يخطر خطرانًا : إذا رفعه مرة ووضعه أخرى ، شبه شقائق البرق بالسوط يلمع مرة ويخفى أخرى .
(4) قوله " مثل " خبر مبتدأ محذوف ، فسياق الجملة كما ترى : أما الرعد والصواعق ، فمثل لما هم عليه من الوجل . .
(5) النقمات : جمع نقمة مثل كلمات وكلمة ، وهي العقوبات .
(1/353)
________________________________________
في آذانهم فَرَقًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء فيقتلوا. فإنْ كان ذلك صحيحًا - ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مُرتابًا - فإنّ القولَ الذي رُوي عنهما هو القول (1) . وإن يكن غيرَ صحيح ، فأولى بتأويل الآية ما قلنا ، لأن الله إنما قصّ علينا من خَبرهم في أول مُبتدأ قصتهم (2) ، أنهم يُخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، مع شكّ قلوبهم ومَرَض أفئدتهم في حقيقة ما زَعموا أنهم به مؤمنون ، مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. وبذلك وصَفَهم في جميع آي القرآن التي ذكرَ فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.
وإنما جَعل اللهُ إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلا لاتِّقائهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يَتَّقونهم به ، كما يتّقي سامعُ صَوتِ الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المثَل نظيرُ تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزَل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق. وكذلك قوله " حَذَرَ الموت " ، جعله جلّ ثناؤه مثلا لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلِكهم الذي تُوُعِّدوه بساحتهم (3) كما يجعل سامعُ أصوات الصواعق أصَابعه في أذنيه ، حَذَرَ العطب والموت على نفسه ، أنْ تَزهق من شدتها.
وإنما نصَب قوله " حَذَرَ الموت " على نحو ما تنصب به التكرمة في قولك : " زُرْتك تَكرمةً لك " ، تريد بذلك : من أجل تكرمتك ، وكما قال جلّ ثناؤه ، ( وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ) [سورة الأنبياء : 90] على التفسير للفعل (4) .
وقد رُوي عن قتادة أنه كان يتأول قوله : " حَذَرَ الموت " ، حذرًا من الموت.
__________
(1) انظر الحديث رقم : 452 والتعليق عليه .
(2) في المطبوعة : " قصصهم " ، ولا بأس بها . وبعد ذلك في المخطوطة : " أنهم عارفون يخادعون الله . . " ، ولا معنى لإقحام قوله : " عارفون " .
(3) في المطبوعة : " العقاب المهلك . . " بدلوا لفظ الطبري ، ليوافق ما اعتادوه من الكلام .
(4) قوله " على التفسير للفعل " ، أي أنه مفعول لأجله .
(1/354)
________________________________________
465 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزّاق ، قال : أنبأنا مَعْمَر ، عنه.
وذلك مذهب من التأويل ضعيف ، لأن القوم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حَذَرًا من الموت ، فيكون معناه ما قال إنه يراد به (1) ، حَذَرًا من الموت ، وإنما جعلوها من حِذَار الموت في آذانهم.
وكان قتادةُ وابنُ جُريج يتأوّلان قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَر الموت " ، أن ذلك من الله جلّ ثناؤه صفةٌ للمنافقين بالهلع وضعف القلوب وكراهة الموت ، ويتأولان في ذلك قوله : ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ) [سورة المنافقون : 4].
وليس الأمر في ذلك عندي كالذي قالا. وذلك أنه قد كان فيهم من لا تُنكر شجاعته ولا تُدفع بسالته ، كقُزْمان ، الذي لم يَقم مقامه أَحدٌ من المؤمنين بأحُد ، أو دونه (2) . وإنما كانت كراهتُهم شُهود المشاهدِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركُهم مُعاونته على أعدائه ، لأنهم لم يكونوا في أديانهم مُستبصرين ، ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدِّقين ، فكانوا للحضور معه مَشاهدَه كارهين ، إلا بالتخذيل عنه (3) . ولكن ذلك وَصفٌ من الله جل ثناؤه لهم بالإشفاق من حُلول عقوبة الله بهم على نفاقهم ، إما عاجلا وإما آجلا. ثم أخبر جل ثناؤه أنّ
__________
(1) في المطبوعة " مراد به " ، وهما سواء .
(2) هذه الجملة في المخطوطة هكذا : " كقزمان الذي لم يقم مقامه من المؤمنين كثير أحد ودونه " وهي عبارة مبهمة . وقد أثبت ما في المطبوعة ، وجعلت " ودونه " ، " أو دونه " ليستقيم المعنى . ويدل على ذلك أن عدة الذين قتلوا يوم أحد من المشركين اثنان وعشرون رجلا ، قتل قزمان وحده منهم عشرة ، وقتل علي بن أبي طالب أربعة ، وقتل حمزة بن عبد المطلب ثلاثة ، وقتل عاصم ابن ثابت بن الأقلح رجلين ، وقتل سعد بن أبي وقاص رجلا واحدًا . وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل رجلا صبرًا ، وقتل آخر بيده صلى الله عليه وسلم . وقزمان حليف بني ظفر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لمن أهل النار . فلما أبلى يوم أحد ، قيل له : أبشر! قال : بماذا أبشر ؟ فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي! ولولا ذلك ما قاتلت . ولما اشتدت به جراحته وآذته ، أخذ سهمًا من كنانته فقتل به نفسه .
(3) التخذيل : حمل الرجل على خذلان صاحبه ، وتثبيطه عن نصرته .
(1/355)
________________________________________
المنافقين - الذين نَعتهم الله النعتَ الذي ذكر ، وضرب لهم الأمثال التي وَصَف ، وإن اتقوْا عقابه ، وأشفقوا عَذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حِذَارَ حُلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه - غيرُ مُنْجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم (1) ، وحُلوله بِساحتهم ، إما عاجلا في الدنيا ، وإما آجلا في الآخرة ، للذي في قلوبهم من مَرَضها ، والشكّ في اعتقادها ، فقال : " والله مُحيطٌ بالكافرين " ، بمعنى جَامِعُهم ، فمُحلٌّ بهم عُقوبته.
وكان مجاهدٌ يتأول ذلك كما : -
466 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم. عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : " والله مُحيط بالكافرين " ، قال : جامعهم في جهنم (2) .
وأما ابن عباس فروي عنه في ذلك ما : -
467 - حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " والله مُحيط بالكافرين " ، يقول : الله منزلٌ ذلك بهم من النِّقمة (3) .
468 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، في قوله : " والله محيط بالكافرين " ، قال : جامِعُهم.
ثم عاد جل ذكره إلى نعت إقرار المنافقين بألسنتهم ، والخبر عنه وعنهم وعن نفاقهم ، وإتمام المثل الذي ابتدأ ضربَه لهم ولشكّهم ومَرَض قلوبهم ، فقال : " يكاد البرق " ، يعني بالبرق ، الإقرارَ الذي أظهروه بألسنتهم بالله وبرسوله وما جاء به من عند ربهم. فجعل البرقَ له مثلا على ما قدَّمنا صفته.
__________
(1) في المطبوعة : " بعقوبتهم " ، وفي بعض المخطوطات : " بعقولهم " ، وكلتاهما خطأ محض . والعقوة : ساحة الدار ، وما كان حولها وقريبًا منها .
(2) الأثر 466 - من تمام أثر في الدر المنثور 1 : 33 .
(3) الخبر 467 - من تمام خبر في الدر المنثور 1 : 32 - 33 .
(1/356)
________________________________________
" يَخطفُ أبصَارهم " ، يعني : يذهب بها ويستلبُها ويلتمعها من شدة ضيائه ونُور شُعاعه .
469 - كما حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " يكاد البرقُ يخطف أبصارهم " ، قال : يلتمعُ أبصارَهم ولمّا يفعل (1) .
قال أبو جعفر : والخطف السلب ، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخطْفة ، يعني بها النُّهبة (2) . ومنه قيل للخُطاف الذي يُخرج به الدلو من البئر خُطَّاف ، لاختطافه واستلابه ما عَلق به ، ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ فِي حِبَالٍ متينةٍ... تَمُدُّ بها أَيدٍ إِلَيْكَ نَوَازِعُ (3)
__________
(1) الخبر 469 - لم أجده . والتمع البصر أو غيره : اختلسه واختطفه وذهب به . ومنه الحديث : " إذا كان أحدكم في الصلاة ، فلا يرفع بصره إلى السماء يلتمع بصره " ، أي يختلس .
(2) الذي ذكره ابن الأثير في النهاية أن الخطفة : ما اختطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية ، لأن كل ما أبين من حي فهو ميت ، وذلك أن النهي عن الخطفة كان لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، رأى الناس يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم ويأكلونها . قال : والخطفة المرة الواحدة من الخطف ، فسمى بها العضو المختطف ، وأما النهبة والنهبى ، فاسم لما ينهب ، وجاء بيانها في حديث سنن أبي داود 3 : 88 " فأصاب الناس غنيمة فانتهبوها ، فقام عبد الرحمن بن سمرة خطيبًا ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النهبى " . وفي الباب نفسه من سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد ، وأصابوا غنما فانتهبوها ، فإن قدورنا لتغلى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال : إن النهبة ليست بأحل من الميتة " .
(3) ديوانه : 41 ، وقبله البيت المشهور : فَإِنَّكَ كَالليلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الْمُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
خطاطيف : جمع خطاف . وحجن : جمع أحجن ، وهو المعوج الذي في رأسه عقافة . وقال " تمد بها " ولم يقل : تمدها ، لأنه لم يرد مد الحبال ذوات الخطاطيف ، وإنما أراد اليد التي تمتد بها وفيها الخطاطيف ، لأن اليد هي الذي تتبع الشيء حيث ذهب (انظر ما سيأتي من إدخال الباء على مثل هذا الفعل ص 360 س : 6 - 9) وقوله " إليك " متعلق بقوله " نوازع " . ونوازع جمع نازع ونازعة ، من قولهم نزع الدلو من البئر ينزعها : جذبها وأخرجها . أي أن هذه الأيدي تجذب ما تشاء إليك ، وترده عليك . والبيت متصل بالذي قبله ، وبيان لقوله " فإنك كالليل الذي هو مدركى " ، أراد تهويل الليل وما يرى فيه ، تتبعه حيث ذهب خطاطيف حجن لا مهرب له منها .
(1/357)
________________________________________
فجعل ضَوءَ البرق وشدة شُعاع نُوره ، كضوء إقرارهم بألسنتهم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الآخر وشُعاعِ نوره ، مثلا.
ثم قال تعالى ذكره : " كلما أضاء لهم " ، يعني أن البرق كلما أضاء لهم ، وجعل البرق لإيمانهم مَثلا. وإنما أراد بذلك : أنهم كلما أضاء لهم الإيمان ، وإضاءتُه لهم : أن يروْا فيه ما يُعجبهم في عاجل دنياهم ، من النُّصرة على الأعداء ، وإصابةِ الغنائم في المغازي ، وكثرة الفتوح ، ومنافعها ، والثراء في الأموال ، والسلامةِ في الأبدان والأهل والأولاد - فذلك إضاءتُه لهم ، لأنهم إنما يُظهرون بألسنتهم ما يُظهرونه من الإقرار ، ابتغاءَ ذلك ، ومدافعةً عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذَراريهم ، وهم كما وصفهم الله جلّ ثناؤه بقوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ) [سورة الحج : 11].
ويعني بقوله " مشوا فيه " ، مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مَثلٌ لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه : كلما رأوا في الإيمان ما يُعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا ، ثبتوا عليه وأقاموا فيه ، كما يمشي السائر في ظُلمة الليل وظُلمة الصَّيِّب الذي وصفه جل ثناؤه ، إذا برقت فيها بارقةٌ أبصرَ طريقه فيها.
" وإذا أظلم " ، يعني : ذهب ضوءُ البرق عنهم.
ويعني بقوله " عليهم " ، على السائرين في الصيِّب الذي وَصف جل ذكره. وذلك للمنافقين مثَل. ومعنى إظلام ذلك : أنّ المنافقين كلما لم يَرَوْا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم - عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرَّاء ، وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء ، من إخفاقهم في مَغزاهم ، وإنالة عدوّهم منهم (1) ، أو إدبارٍ من
__________
(1) في المطبوعة " وإنالة عدوهم " ، وهو خطأ . والإدالة : الغلبة ، وهي من الدولة في الحرب ، وهو أن يهزم الجيش مرة ، ويهزمه الجيش الآخر تارة أخرى . يقال : اللهم أدلنا من عدونا! أي اللهم اجعل لنا الدولة عليه وانصرنا .
(1/358)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
دنياهم عنهم - أقاموا على نفاقهم (1) ، وَثبتوا على ضلالتهم ، كما قام السائر في الصيِّب الذي وصف جل ذكره (2) إذا أظلم وَخفتَ ضوء البرق ، فحارَ في طريقه ، فلم يعرف مَنهجه.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
__________
(1) في المطبوعة : " قاموا على نفاقهم " . وهذه أجود .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " كما قام السائرون في الصيب " ، وهو خطأ ، صوابه من مخطوطة أخرى .
(1/359)
________________________________________
لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }
قال أبو جعفر : وإنما خَص جل ذكره السمعَ والأبصارَ - بأنه لو شاء أذهبَها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم (1) - للذي جرَى من ذكرها في الآيتين ، أعني قوله : " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق " ، وقوله : " يكادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم كلما أضاء لهم مَشَوْا فيه " ، فجرى ذكرها في الآيتين على وجه المثل. ثم عَقَّب جل ثناؤه ذكر ذلك ، بأنه لو شاء أذْهبه من المنافقين عقوبةً لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدًا من الله لهم ، كما توعَّدهم في الآية التي قبلها بقوله : " والله مُحيط بالكافرين " ، واصفًا بذلك جل ذكره نفسَه ، أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سَخَطه بهم ، وإنزال نِقْمته عليهم ، ومُحذِّرَهم بذلك سَطوته ، ومخوِّفَهم به عقوبته ، ليتقوا بأسَه ، ويُسارعوا إليه بالتوبة.
470 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن حبير ، عن ابن عباس : " ولو شاء الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم " ، لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته (2) .
471 - وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال - يعني قال الله - في أسماعهم ، يعني أسماعَ المنافقين ، وأبصارِهم التي عاشوا بها في الناس : " ولو شاءَ الله لذَهب بسمعهم وأبصارهم " (3) .
قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : " لذهب بسمعهم وأبصارهم " ، لأذهب سَمعَهم وأبصارَهم. ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبتُ ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبتُ بصره. كما قال جل ثناؤه : ( آتِنَا غَدَاءَنَا ) [سورة الكهف : 62] ، ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدَائنا (4) .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : " لذهب بسمعهم " فوحَّد ، وقال : " وأبصارهم " فجمع ؟ وقد علمتَ أن الخبر في السمع خبرٌ عن سَمْع جماعة (5) ، كما الخبر عن الأبصار خبرٌ عن أبصار جماعة ؟ (6)
قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفة : وحَّد السمعَ لأنه عَنَى به المصدرَ وقصَد به الخَرْق ، وجمع الأبصار لأنه عَنَى به الأعينَ. وكان بعض نحويي البصرة يزعم : أنّ السمع وإن كان في لفظ واحد ، فإنه بمعنى جماعة (7) . ويحتج في ذلك بقول الله : ( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) [سورة إبراهيم : 43] ، يريد : لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : ( وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) [سورة القمر : 45] ،
__________
(1) في المخطوطة : " دون سائر أجسامهم " .
(2) الخبر 470 - من تمام الخبر الذي ساقه في الدر المنثور 1 : 32 - 33 ، وقد مضى صدره آنفًا : 451 ، 467 .
(3) الأثر 471 - هو من الأثر السالف رقم : 460 .
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 19 . وانظر ما مضى ص 357 تعليق : 3
(5) في المخطوطة : " أن الخبر بالسمع " ، وهذه أجود ، وأجودهن " الخبر عن السمع " كما سيأتي في الذي يلي .
(6) في المطبوعة : " كما الخبر في الأبصار " ، والذي في المخطوطة أجود .
(7) في المخطوطة : " لمعنى جماعة " ، وهي صواب جيد .
(1/360)
________________________________________
يراد به أدْبارُهم. وإنما جاز ذلك عندي ، لأن في الكلام ما يَدُلّ على أنه مُرادٌ به الجمع ، فكان في دلالته على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة ، مُغنيًا عن جِمَاعه (1) . ولو فعل بالبصر نظيرَ الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار - من الجمع والتوحيد - كان فصيحًا صحيحًا ، لما ذكرنا من العلة ، كما قال الشاعر :
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا... فَإِنَّ زَمَانَنَا زَمَنٌ خَمِيصُ (2)
فوحّد البطن ، والمرادُ منه البطون ، لما وصفنا من العلة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) }
قال أبو جعفر : وإنما وَصف الله نفسه جلّ ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته ، وأخبرهم أنه بهم مُحيطٌ ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قَديرٌ. ثم قال : فاتقوني أيُّها المنافقون ، واحذرُوا خِداعي وخداعَ رسولي وأهلِ الإيمان بي ، لا أحِلَّ بكم نقمتي ، فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير. ومعنى " قدير " قادر ، كما معنى " عليم " عالم ، على ما وصفتُ فيما
__________
(1) في المطبوعة : " فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأدى معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة ، مغنيًا عن جماعة " ، وهو كلام لا معنى له . وفي المخطوطة : " . . على المراد منه واوا معنى الواحد . . " ، وقد صححت قراءتها كما ترى . وقوله " مغنيًا عن جماعه " أي عن جمعه ، والطبري يكثر استعمال " جماع " مكان جمع ، كما مضى وكما سيأتي .
(2) البيت من أبيات سيبويه التي لا يعلم قائلها ، سيبويه 1 : 108 ، والخزانة 3 : 379 - 381 ، وانظر أمالي ابن الشجري 1 : 311 ، 2 : 35 ، 38 ، 343 ، وروايته : " في نصف بطنكم " . وفي المخطوطة : " تعيشوا " ، مكان " تعفوا " ، وهي رواية ذكرها صاحب الخزانة . وروايتهم جميعًا " فإن زمانكم . . " .
(1/361)
________________________________________
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
تَقدم من نظائره ، من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم (1) .
* * *
القول في تأويل قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }
قال أبو جعفر : فأمرَ جل ثناؤه الفريقين - اللذين أخبرَ الله عن أحدهما أنه سواءٌ عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون (2) ، لطبْعِه على قلوبهم وعلى سمعهم (3) ، وعن الآخرِ أنه يُخادع اللهَ والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله : آمنّا بالله وباليوم الآخر ، مع استبطانه خلافَ ذلك ، ومرض قلبه ، وشكّه في حقيقة ما يُبدي من ذلك; وغيرهم من سائر خلقه المكلَّفين - بالاستكانة ، والخضوع له بالطاعة ، وإفراد الربوبية له والعبادة دون الأوثان والأصنام والآلهة. لأنه جلّ ذكره هو خالقهم وخالقُ مَنْ قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالقُ أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم. فقال لهم جل ذكره : فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادَكم وسائرَ الخلق غيرَكم ، وهو يقدرُ على ضرّكم ونَفعكم - أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نَفع ولا ضرّ (4) .
وكان ابن عباس : فيما رُوي لنا عنه ، يقول في ذلك نظيرَ ما قلنا فيه ، غير أنه ذُكر عنه أنه كان يقول في معنى " اعبُدوا ربكم " : وحِّدوا ربكم. وقد دللنا - فيما مضى من كتابنا هذا - على أن معنى العبادة : الخضوعُ لله بالطاعة ،
__________
(1) انظر تفسير قوله تعالى : " الرحيم " ، فيما مضى : ص 126 .
(2) في المخطوطة : " أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، وهما سواء في المعنى .
(3) في المطبوعة : " . . وعلى سمعهم وأبصارهم " ، والصواب حذف " وأبصارهم " ، لأنها غير داخلة في معنى الطبع ، كما مضى في تفسير الآية .
(4) في المخطوطة : " على ضرر ولا نفع " ، وهما سواء .
(1/362)
________________________________________
والتذلل له بالاستكانة (1) . والذي أراد ابن عباس - إن شاء الله - بقوله في تأويل قوله : " اعبدوا ربكم " وحِّدوه ، أي أفردُوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه (2) .
472 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله : " يا أيها الناسُ اعبدُوا رَبكم " ، للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين ، أي وَحِّدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم (3) .
473 - وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس اعبدُوا ربّكم الذي خَلقكم والذين منْ قبلكم " يقول : خَلقكم وخَلق الذين من قبلكم (4) .
قال أبو جعفر : وهذه الآيةُ من أدلّ دليل على فساد قول من زعم : أنّ تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غيرُ جائز ، إلا بَعد إعطاء الله المكلف المعُونةَ على ما كلَّفه. وذلك أنّ الله أمرَ من وَصفنا ، بعبادته والتوبة من كفره ، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون ، وأنهم عن ضَلالتهم لا يَرْجعون.
* * *
__________
(1) مضى في تفسير قوله تعالى " إياك نعبد " ص : 160 .
(2) في المخطوطة " وحدوه له أفردوا . . " ، وليس لها معنى .
(3) الخبر 472 - في الدر المنثور 1 : 33 ، وابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 38 . وفي الدر والشوكاني : " من الكفار والمؤمنين " ، ووافق ابن كثير أصول الطبري .
(4) الخبر 473 - في الدر المنثور 1 : 33 ، ولم ينسب إخراجه لابن جرير . وفي المخطوطة : " خلقكم والذين . . " .
(1/363)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
القول في تأويل قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) }
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : لعلكم تتقون بعبادتكم ربَّكم الذي خلقكم ، وطاعتِكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وإفرادكُم له العبادة (1) لتتقوا سَخَطه وغضَبه أن يَحلّ عليكم ، وتكونُوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم.
وكان مجاهدٌ يقولُ في تأويل قوله : " لعلكم تتقون " : تُطيعون.
474 - حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " لعلكم تتقون " ، قال : لعلكم تطيعون (2) .
قال أبو جعفر : والذي أظن أنّ مجاهدًا أراد بقوله هذا : لعلكم أنْ تَتقوا رَبَّكم بطاعتكم إياه ، وإقلاعِكم عن ضَلالتكم.
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال جل ثناؤه : " لعلكم تتقون " ؟ أو لم يكن عالمًا بما يصيرُ إليه أمرُهم إذا هم عبدوه وأطاعُوه ، حتى قال لهم : لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا ، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشكّ ؟
قيل له : ذلك على غير المعنى الذي توهَّمتَ ، وإنما معنى ذلك : اعبدُوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة (3) ، كما قال الشاعر :
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ ، لَعَلَّنَا... نَكُفُّ! وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ (4) فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ... كَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الْفَلا مُتَأَلِّقِ (5)
__________
(1) في المطبوعة : " له بالعبادة " وهو خطأ .
(2) الأثر 474 - في الدر المنثور 1 : 34 .
(3) يريد الطبري أن العرب تستعمل " لعل " مجردة من الشك ، بمعنى لام كي ، كما قال ابن الشجري في أماليه 1 : 51 .
(4) لم أعرف قائلهما ، ورواهما ابن الشجري نقلا عن الطبري ، فيما أرجح ، في أماليه 1 : 51 .
(5) رواية ابن الشجري " في الملا " . والفلا جمع فلاة : وهي الأرض المستوية ليس فيها شيء والصحراء الواسعة . والملا : الصحراء والمتسع من الأرض - فهما سواء في المعنى .
(1/364)
________________________________________
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
يريد بذلك : قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن " لعل " في هذا الموضع لو كان شَكًّا ، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا }
وقوله : " الذي جَعل لكم الأرض فِرَاشًا " مردود على " الذي " الأولى في قوله " اعبدُوا ربكم الذي خَلقَكم " ، وهما جميعًا من نَعت " ربكم " ، فكأنّه قال : اعبدُوا ربكم الخالقكُم ، والخالقَ الذين من قبلكم ، الجاعلَ لكم الأرض فراشًا. يعني بذلك أنّه جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً (1) وقرارًا يُستقرّ عليها. يُذكِّرُ ربّنا جلّ ذكره - بذلك من قِيله - عبادَهُ نعمَه عندهم وآلاءه لديهم (2) ليذْكروا أياديَه عندهم ، فينيبوا إلى طاعته - تعطُّفًا منه بذلك عليهم ، ورأفةً منه بهم ، ورحمةً لهم ، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم ، ولكن ليُتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون.
475 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة (3) ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " فهي فراشٌ يُمشى عليها ، وهي المهاد والقرار (4) .
476 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة : " الذي جَعل لكم الأرض فراشًا " ، قال : مهادًا لكم.
__________
(1) في المطبوعة : " مهادًا وموطئًا " ، وفي المخطوطة " مهادًا توتطا " ، وكأن الصواب ما أثبتناه . والموطأ : المهيأ الملين الممهد . وسيأتي أن الفراش هو المهاد .
(2) في المطبوعة " زيادة نعمه عندهم ، وآلائه لديهم " ، والصواب ما في المخطوطة . وقوله " عباده " مفعول : " يذكر ربنا . . " .
(3) قوله " وعن مرة " ، ساقطة من المطبوعة ، وهذا هو الصواب .
(4) الخبر 475 - في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 38 .
(1/365)
________________________________________
477 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " الذي جعل لكم الأرض فراشًا " ، أي مهادًا.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً }
قال أبو جعفر : وإنما سُميت السماءُ سماءً لعلوها على الأرض وعلى سُكانها من خلقه ، وكل شيء كان فوق شيء آخرَ فهو لما تحته سَمَاءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت : سَمَاوةٌ (1) ، لأنه فوقه مرتفعٌ عليه. ولذلك قيل : سَمَا فلان لفلان ، إذا أشرف له وقَصَد نحوه عاليًا عليه ، كما قال الفرزدق :
سَمَوْنَا لِنَجْرَانَ الْيَمَانِي وَأَهْلِهِ... وَنَجْرَانُ أَرْضٌ لَمْ تُدَيَّثْ مَقَاوِلُهْ (2)
وكما قال نابغة بني ذُبيانَ :
سَمَتْ لِي نَظْرَةٌ ، فَرَأيتُ مِنْهَا... تُحَيْتَ الْخِدْرِ وَاضِعَةَ الْقِرَامِ (3)
يريد بذلك : أشرفتْ لي نظرةٌ وبدت ، فكذلك السماء سُميت للأرض : سماءً ، لعلوها وإشرافها عليها.
__________
(1) في المطبوعة " سماؤه " ، وكلتاهما صواب ، سماء البيت ، وسماوته : سقفه .
(2) ديوانه : 735 ، والنقائض : 600 . ونجران : أرض في مخاليف اليمن من ناحية مكة . وذكر نجران ، على لفظه وأصل معناه ، والنجران في كلام العرب : الخشبة التي يدور عليها رتاج الباب . وديث البعير : ذلله بعض الذل حتى تذهب صعوبته . والمقاول : جمع مقول . والمقول والقيل : الملك من ملوك حمير . يقول : هي أرض عز عزيز ، لم يلق ملوكها ضيما يذلهم ويحني هاماتهم .
(3) ديوانه : 86 ، وروايته : " صفحت بنظرة " . وقوله " صفحت " ، أي تصفحت الوجوه بنظرة ، أو رميت بنظرة متصفحًا . والقرام : ستر رقيق فيه رقم ونقوش . والخدر : خشبات تنصب فوق قتب البعير مستورة بثوب ، وهو الهودج . ووضع الشيء : ألقاه . وتحيت : تصغير " تحت " ، وصغر " تحت " ، لأنه أراد أن ستر الخدر بعد وضع القرام لا يبدى منها إلا قليلا ، وهذا البيت متعلق بما قبله وما بعده . وقبله : فَلَوْ كَانَتْ غَدَاةَ الْبَيْنِ مَنَّتْ ... وَقَدْ رَفَعُوا الْخُدُورَ عَلَى الْخِيَامِ
صَفَحْتُ بنظرةٍ . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَرَائِبَ يستضئُ الحليُ فيها ... كَجمْرِ النارِ بُذِّرَ فِي الظَّلامِ
(1/366)
________________________________________
478 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " والسّماء بناء " ، فبناءُ السماء على الأرض كهيئة القبة ، وهي سقف على الأرض. (1)
479 - حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قول الله : " والسماءَ بناءً " ، قال : جعل السماء سَقفًا لكَ.
وإنما ذكر تعالى ذكره السماءَ والأرض فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم ، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم ، وبهما قوامُ دُنياهم. فأعلمهم أن الذي خَلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم ، هو المستحقّ عليهم الطاعة ، والمستوجبُ منهم الشكرَ والعبادةَ ، دون الأصنام والأوثان ، التي لا تضرُّ ولا تنفع.
* * *
القول في تأويل قول الله جلّ ثناؤه : { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ }
يعني تعالى ذكره بذلك أنه أنزل من السماء مطرًا ، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغَرْسهم ثمرات (2) - رزقًا لهم ، غذاءً وأقواتًا. فنبههم بذلك على قدرته وسُلطانه ، وذكَّرهم به آلاءَه لديهم ، وأنه هو الذي خلقهم ، وهو الذي يَرزقهم ويكفُلُهم ، دون من جعلوه له نِدًّا وعِدْلا من الأوثان والآلهة.
__________
(1) الخبر 478 - في الدر المنثور 1 : 34 ، جمعه مع الخبر : 475 خبرًا واحدًا .
(2) في المخطوطة : " زرعهم وغروسهم " ، وهما سواء .
(1/367)
________________________________________
ثم زَجَرهم عن أن يجعلوا له ندًّا ، مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم ، وأنه لا نِدَّ له ولا عِدْل ، ولا لهم نافعٌ ولا ضارٌّ ولا خالقٌ ولا رازقٌ سِواه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا }
قال أبو جعفر : والأنداد جمع نِدّ ، والنِّدّ : العِدْلُ والمِثل ، كما قال حسان بن ثابت :
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ?... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ (1)
يعني بقوله : " ولستَ له بند " ، لست له بمثْلٍ ولا عِدْلٍ. وكل شيء كان نظيرًا لشيء وله شبيهًا فهو له ند (2) .
480 - كما حدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فلا تجعلوا لله أندادًا " ، أي عُدَلاء (3) .
481 - حدثني المثنى ، قال : حدثني أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبل ، عن ابن أبي نَحيح ، عن مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادًا " ، أي عُدَلاء (4) .
482 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " فلا تجعلوا لله أندادًا " ، قال : أكفاءً من الرجال تطيعونهم في معصية الله (5) .
__________
(1) ديوانه : 8 ، روايته " بكفء " ، وكذلك في رواية الطبري الآتية (18 : 69 - 70 بولاق) وقصيدة حسان هذه ، يهاجى بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، قبل إسلامه ، وكان هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(2) في المطبوعة : " كان نظيرًا لشيء وشبيهًا " .
(3) الأثر 481 - في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .
(4) الأثر - 481 - في الدر المنثور 1 : 35 ، والعدلاء : جمع عديل ، وهو النظير والمثيل ، كالعدل .
(5) الخبر 482 - في الدر المنثور 1 : 34 - 35 ، والشوكاني 1 : 39 .
(1/368)
________________________________________
483 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد (1) في قول الله : " فلا تَجعلوا لله أندادًا " ، قال : الأنداد : الآلهة التي جعلوها معه ، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
484 - حُدِّثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بِشر ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " فلا تجعلوا لله أندادًا " ، قال : أشباهًا (2) .
485 - حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شَبيب ، عن عكرمة : " فلا تجعلوا لله أندادًا " ، أن تقولوا : لولا كلبنا لَدَخل علينا اللصّ الدارَ ، لولا كلبنا صَاح في الدار ، ونحو ذلك (3) .
فنهاهم الله تعالى أن يُشركوا به شيئًا ، وأن يعبدوا غيرَه ، أو يتخذوا له نِدًّا وَعِدلا في الطاعة ، فقال : كما لا شريك لي في خلقكم ، وفي رزقكم الذي أرزقكم وملكي إياكم ، ونعمي التي أنعمتها عليكم (4) - فكذلك فأفردوا ليَ الطاعة ،
__________
(1) في المطبوعة : " ابن يزيد " ، وهو خطأ .
(2) الخبر 484 - في الدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .
(3) الأثر 485 - جاء مثله في خبر عن ابن عباس في ابن كثير 1 : 105 ، والشوكاني 1 : 39 . وفي المطبوعة : " أي تقولوا : لولا كلبنا . . " ، وليست بشيء . وفي المخطوطة " ونحو هذا " مكان " ونحو ذلك " . والخبر الذي في ابن كثير ، ساقه مطولا بالإسناد من تفسير ابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك بن مخلد ، وهو أبو عاصم النبيل الذي في هذا الإسناد ، عن شبيب ، وهو ابن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ولعل الطبري قصر بهذا الإسناد ، لأنه يروي مثل هذه الروايات ، بهذا الإسناد إلى عكرمة ، عن ابن عباس ، كما مضى برقم : 157 . وعن ذلك إعراض ابن كثير عن نقل رواية الطبري ، واختياره رواية ابن أبي حاتم . وسياق رواية ابن أبي حاتم - عن ابن عباس - فيها فوائد جمة . ولفظها : " قال : الأنداد ، هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص . وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت . وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها " فلان " . هذا كله به شرك " . ثم قال ابن كثير : " وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت! قال : أجعلتني لله ندًّا ؟! " . والحديث الذي يشير إليه ابن كثير ، رواه أحمد في المسند بأسانيد صحاح ، عن ابن عباس : 1839 ، 1964 ، 2561 ، 3247 . وكذلك رواه البخاري في الأدب المفرد ص : 116 ونسبه الحافظ ابن حجر في الفتح 11 : 470 للنسائي وابن ماجه .
(4) في المطبوعة : " ونعمتي " بالإفراد .
(1/369)
________________________________________
وأخلصُوا ليَ العبادة ، ولا تجعلوا لي شريكًا ونِدًّا من خلقي ، فإنكم تعلمون أن كلّ نعمةٍ عليكم فمنِّي (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) }
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية :
فقال بعضهم : عَنَى بها جميع المشركين من مُشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم : عنى بذَلك أهلَ الكتابين ، أهلَ التوراة والإنجيل (2) .
ذكر من قال : عنى بها جميعَ عبَدَة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين :
486 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : نَزَل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنى تعالى ذكره بقوله : " فلا تَجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون " ، أي لا تشركوا بالله غيرَه من الأنداد التي لا تَنفع ولا تضرّ ، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه (3) .
487 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : " وأنتمْ تعلمون " أي تعلمون أنّ الله خَلقكم وخلق السموات والأرض ، ثم تجعلون له أندادًا (4) .
__________
(1) في المطبوعة : " . . كل نعمة عليكم مني " . وهذه أجود .
(2) في المطبوعة : " أهل الكتابين التوراة والإنجيل " .
(3) الخبر 486 - مضى صدره في رقم : 472 ، وتمامه في ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 34 ، والشوكاني 1 : 39 .
(4) الأثر 487 - في الدر المنثور 1 : 35 .
(1/370)
________________________________________
ذكر من قال : عني بذلك أهلَ الكتابين :
488 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : " فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون " ، أنه إله واحدٌ في التوراة والإنجيل.
489 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا قَبيصة ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، مثله (1) .
490 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : " وأنتم تعلمون " ، يقول : وأنتم تعلمون أنّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل (2) .
قال أبو جعفر : وأحسَِب أن الذي دَعا مجاهدًا إلى هذا التأويل ، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دُون غيرهم - الظنُّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أنّ اللهَ خالقها ورازقها ، بجحودها وحدانيةَ ربِّها ، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإنّ ذلك لَقولٌ! ولكنّ الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ في كتابه عنها أنها كانت تُقر بوحدانيته ، غير أنها كانت تُشرك في عبادته ما كانت تُشرك فيها ، فقال جل ثناؤه : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [سورة الزخرف : 87] ، وقال : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) [سورة يونس : 31].
__________
(1) الإسناد 489 - قبيصة ، بفتح القاف : هو ابن عقبة بن محمد السوائي الكوفي ، وهو ثقة معروف ، من شيوخ البخاري ، وأخرج له أصحاب الكتب الستة ، تكلم بعضهم في روايته عن سفيان الثوري ، بأنه يخطئ في بعض روايته ، بأنه سمع من الثوري صغيرًا ، ولكن لم يجرحه البخاري في الكبير 4/1/177 ، وقال ابن سعد في الطبقات 6 : 281 : " كان ثقة صدوقًا ، كثير الحديث عن سفيان الثوري " . وسأل ابن أبي حاتم (الجرح 3/2/126) أباه عن قبيصة وأبي حذيفة ، فقال : " قبيصة أجل عندي ، وهو صدوق . لم أر أحدًا من المحدثين يأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره ، سوى قبيصة بن عقبة ، وعلي بن الجعد ، وأبي نعيم - في الثوري " .
(2) الأثر 490 - ذكره ابن كثير 1 : 105 ، والدر المنثور 1 : 35 ، بنحوه .
(1/371)
________________________________________
فالذي هو أولى بتأويل قوله : " وأنتم تعلمون " - إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانِيَّة الله ، وأنه مُبدعُ الخلق وخالقهم ورازقهم ، نظيرَ الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ، ولم يكن في الآية دلالة على أنّ الله جل
(1/372)
________________________________________
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
ثناؤه عني بقوله : " وأنتم تعلمون " أحدَ الحزبين ، بل مُخرَج الخطاب بذلك عامٌّ للناس كافةً لهم ، لأنه تحدَّى الناس كلهم بقوله : " يا أيها الناس اعبدُوا ربكم " - أن يكون تأويلُهُ ما قاله ابنُ عباس وقتادة ، من أنه يعني بذلك كل مكلف ، عالم بوحدانية الله (1) ، وأنه لا شريكَ له في خلقه ، يُشرِك معه في عبادته غيرَه ، كائنًا من كان من الناس ، عربيًّا كان أو أعجميًّا ، كاتبًا أو أميًّا ، وإن كان الخطابُ لكفار أهل الكتابِ الذين كانوا حَواليْ دَار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأهل النفاق منهم ، وممن بينَ ظَهرانيهم ممّن كان مشركًا فانتقل إلى النفاق بمقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ }
قال أبو جعفر : وهذا من الله عز وجل احتجاجٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم ، وكفار أهل الكتاب وضُلالهم ، الذين افتتح بقصَصهم قولَه جل ثناؤه : " إنّ الذين كفروا سَواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، وإياهم يخاطب بهذه الآيات ، وضُرباءَهم يَعني بها (2) ، قال الله جلّ ثناؤه : وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفارُ من أهل الكتابين ، في شكٍّ - وهو الريب - مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان : أنه من عندي ، وأنّي الذي أنزلته إليه ، فلم تُؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول ، فأتوا بحجة تدفع حُجته ، لأنكم تعلمون أن حجةَ كلّ ذي نبوّة على صدقه في دعوَاه النبوة : أن يأتي ببرهان يَعجز عن أن يأتيَ بمثله جَميعُ الخلق. ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وبُرْهانه على حقيقة نبوته (3) ، وأنّ ما جاء به من عندي - عَجزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم ، عن أن تَأتوا بسورةٍ من مثله. وإذا عَجزتم عن ذلك - وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والذَّرابة (4) - فقد علمتم أن غيركم عما عَجزتم عنه من ذلك أعْجزُ. كما كانَ برهانُ من سَلف من رُسلي وأنبيائي على صدْقه ، وحُجتهُ على نبوته من الآيات ، ما يَعجز عن الإتيان بمثله جميعُ خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أنّ محمدًا لم يتقوَّله ولم يختلقْه ، لأنّ ذلك لو كان منه اختلافًا وتقوُّلا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله. لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بَشرًا مثلكم ، وفي مثل حالكم في الجسم وبَسطة الخلق وذرَابة اللسان - فيمكن أن يُظنّ به اقتدارٌ على ما عَجزْتم عنه ، أو يتوهم منكم عجزٌ عما اقتدر عليه.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " فأتوا بسورَة من مثله " .
491 - فحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فأتوا بسورة من مثله " ، يعني : من مثل هذا القرآن حقًّا وصدْقًا ، لا باطل فيه ولا كذب.
492 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا
__________
(1) في المخطوطة : " من أنه معنى بذلك . . " ، وهما سواء .
(2) في المطبوعة : " وأخبر بأهم نعوتها " ، وهي في المخطوطة " +وحرناهم تعنى بها " غير منقوطة ولا بينة ، فاختار المصححون لها قراءة لا تحمل معنى! والضرباء : جمع ضريب ؛ فلان ضريب فلان : نظيره أو مثله .
(3) في المطبوعة : " وبرهانه على نبوته " .
(4) في المطبوعة : " والدارية " ، ولا معنى لها هنا ، وستأتي بعد أسطر على الصواب . والذرابة : الحدة في كل شيء ، وحدة اللسان وفصاحته ولدده . ذرب الرجل يذرب ذربًا وذرابة : فصح وصار حديد اللسان ، فهو ذرب اللسان (بفتح الذال وكسر الراء) .
(1/373)
________________________________________
مَعمر ، عن قتادة في قوله : " فأتوا بسورة من مثله " ، يقول : بسورة مثلِ هذا القرآن (1) .
493 - حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن عبد الله بن أبي نَجيح ، عن مجاهد : " فأتوا بسورة من مثله " ، مثلِ القرآن.
494 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثله.
495 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد : " فأتوا بسورة مِنْ مثله " ، قال : " مثله " مثلِ القرآن (2) .
فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما (3) : أن الله جلّ ذكره قال لمن حاجَّه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار : فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب ، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون : إن معنى قوله : " فأتُوا بسورة من مثله " ، من مثل محمد من البشر ، لأن محمدًا بشر مثلكم (4) .
قال أبو جعفر : والتأويل الأول ، الذي قاله مجاهد وقتادة ، هو التأويل الصحيح. لأن الله جَل ثناؤه قال في سُورة أخرى : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) [سورة يونس : 38] ، ومعلومٌ أنّ السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه ، فيجوزُ أنْ يقال : فأتُوا بسورة مثل محمد.
فإن قال قائل : إنك ذكرتَ أن الله عني بقوله (5) " ، فأتوا بسورة من مثله " ،
__________
(1) الأثر 492 - في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 .
(2) الآثار 493 - 495 في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وابن كثير 1 : 108 .
(3) في المطبوعة : " اللذين ذكرنا عنهما " .
(4) يعني فأتوا بسورة من عند بشر مثل محمد .
(5) في المطبوعة : " إنك ذكرت " ، بغير فاء .
(1/374)
________________________________________
من مثل هذا القرآن ، فهل للقرآن من مثل فيقال : ائتوا بسورة من مثله ؟
قيل : إنه لم يعنِ به : ائتُوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باينَ بها سائرَ الكلام غيرَه ، وإنما عنى : ائتوا بسورة من مثله في البيان ، لأنّ القرآن أنزله الله بلسان عربيّ ، فكلام العرب لا شك له مثلٌ في معنى العربية. فأمّا في المعنى الذي باين به القرآن سائرَ كلام المخلوقين ، فلا مثلَ له من ذلك الوجه ولا نظيرَ ولا شبيه.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به لهُ عليهم من القرآن (1) ، إذْ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان ، إذْ كان القرآن بيانًا مثلَ بيانهم ، وكلامًا نزل بلسانهم ، فقال لهم جلّ ثناؤه : وإن كنتم في رَيب من أنّ ما أنزلتُ على عَبدي من القرآن من عندي ، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثلُه في العربية ، إذْ كنتم عربًا ، وهو بيانٌ نظيرُ بيانكم ، وكلامٌ شبيهُ كلامِكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظيرُ اللسان الذي نزل به القرآن ، فيقدِرُوا أن يقولُوا : كلفتنا ما لو أحسنَّاه أتينا به ، وإنا لا نقدر على الإتيان به لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به ، فليس لك علينا بهذا حجة (2) . لأنا - وإن عَجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنّا لسنا من أهله (3) - ففي الناس خلقٌ كثير من غير أهل لساننا يقدرُ على أن يأتيَ بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم : ائتوا بسورة مثله ، لأن مثله من الألسن ألسنكم (4) ، وأنتم - إن كان محمدٌ اختلقه وافتراه ، إذا اجتمعتم وتظاهرتُم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم -
__________
(1) في المطبوعة : " بما احتج له عليهم " ، أسقط " به " .
(2) في المطبوعة : " حجة بهذا " على التأخير .
(3) في المطبوعة : " لسنا بأهله " .
(4) في المطبوعة : " ألسنتكم " .
(1/375)
________________________________________
أقدرُ على اختلاقه ورَصْفِه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم (1) ، وإن لم تكونوا أقدرَ عليه منه ، فلن تعجزوا - وأنتم جميعٌ - عما قدَر عليه محمدٌ من ذلك وهو وحيدٌ (2) ، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أنّ محمدًا افتراه واختلقه ، وأنه من عند غيرِي.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) }
فقال ابن عباس بما :
496 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : " وادعوا شُهداءكم من دون الله " ، يعني أعوانكم على ما أنتم عليه ، إن كنتم صادقين.
497 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : " وادعوا شُهداءكم " ، ناس يَشهدون.
498 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثله.
499 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قال : قوم يشهدون لكم.
__________
(1) يقول : " وأنتم . . . أقدر على اختلاقه . . " ، مبتدأ وخبر ، وما بينهما فصل . وفي المطبوعة مكان " ورصفه " ، " ووضعه " . والرصف : ضم الشيء بعضه إلى بعض ونظمه وإحكامه حتى يستوي . ومنه : كلام رصيف : أي محكم لا اختلاف فيه .
(2) في المطبوعة " وهو وحده " ، وهذه أجود .
(1/376)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
500 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد : " وادعوا شهداءكم " ، قال : ناس يشهدون. قال ابن جُريج : " شهداءكم " عليها إذا أتيتم بها - أنها مثلُه ، مثل القرآن (1) .
وذلك قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله " فادعوا " ، يعني : استنصروا واستغيثوا (2) ، كما قال الشاعر :
فَلَمَّا الْتَقَتْ فُرْسَانُنَا وَرِجَالُهُمْ... دَعَوْا : يَا لَكَعْبٍ! وَاعْتَزَيْنَا لِعَامِرِ (3)
يعني بقوله : " دعوْا يالكعب " ، استنصرُوا كعبًا واستغاثوا بهم (4) .
وأما الشهداء ، فإنها جمعُ شهيد ، كما الشركاء جمع شريك (5) ، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهدُ على الشيء لغيره بما يحقِّق دَعواه. وقد يسمَّى به المشاهِدُ للشيء ، كما يقال : فلان جليسُ فلان - يعني به مُجالسَه ، ونديمه - يعني به مُنادِمَه ، وكذلك يقال : شهيده - يعني به مُشاهِدَه.
فإذا كانت " الشهداء " محتملةً أن تكون جمعَ " الشهيد " الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفتُ ، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن يكون معناه : واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشُهداءكم الذين يُشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ، ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم ، إن كنتم مُحقّين في جُحودكم أنّ ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء ، لتمتحنوا أنفسكم وغيرَكم : هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من
__________
(1) الآثار 496 - 500 : في ابن كثير 1 : 108 بعضها ، والدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 ، وفي المخطوطة في بعض المواضع : " أناس " مكان " ناس " ، وهما سواء .
(2) في المطبوعة : " واستعينوا " ، وهما متقاربتان ، والأولى أجود ، وهي كذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 19 .
(3) البيت للراعي النميري ، اللسان (عزا) . واعتزى : انتسب ، ودعا في الحرب بمثل قوله : يا لفلان ، أو يا للمهاجرين ، أو يا للأنصار ، والاسم العزاء والعزوة ، وهي دعوى المستغيث .
(4) في المطبوعة : " واستعانوا " ، كما سلف في أختها قبل .
(5) في المطبوعة : " كالشركاء " .
(1/377)
________________________________________
مثله ، فيقدرَ محمد على أن يأتي بجميعه من قِبَل نَفسه اختلاقًا ؟
وأما ما قاله مجاهد وابن جُريج في تأويل ذلك ، فلا وجه له. لأن القوم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافًا ثلاثة : أهل إيمان صحيح ، وأهل كفر صحيح ، وأهلَ نفاق بين ذلك. فأهل الإيمان كانوا بالله وبرسوله مؤمنين ، فكان من المحال أن يدّعي الكفار أن لهم شُهداء - على حقيقة ما كانوا يأتون به ، لو أتوا باختلاق من الرسالة ، ثم ادَّعوا أنه للقرآن نَظير - من المؤمنين (1) . فأما أهلُ النفاق والكفر ، فلا شكّ أنهم لو دُعُوا إلى تَحقيق الباطل وإبطال الحق لتتارعوا إليه مع كفرهم وضَلالهم (2) ، فمن أي الفريقين كانت تكون شُهداؤهم لو ادعوْا أنهم قد أتوْا بسورة من مثل القرآن (3) ؟
ولكنْ ذلك كما قال جل ثناؤه : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [سورة الإسراء : 88] ، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية ، أنّ مثل القرآن لا يأتي به الجنّ والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به ، وتحدَّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة فقال تعالى : " وإنْ كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إنْ كنتمْ صَادقين " . يعني بذلك : إن كنتم في شَكّ في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي ، فأتوا بسورة
__________
(1) قوله " من المؤمنين " متعلق بقوله آنفًا " أن لهم شهداء . . " ، يعني شهداء من المؤمنين . ثم فصل ، لأن قوله " على حقيقة ما كانوا يأتون به . . " متعلق أيضًا ، بشهداء .
(2) في المطبوعة : " لسارعوا إليه مع كفرهم وضلالهم " . وتترع إلى الشيء : تسرع إليه ، يقال في التسرع إلى الشر وما لا ينبغي . وما في المخطوطة " تتارعوا " صحيح في اشتقاق العربية ، وإن لم تذكره المعاجم ، وهو مثل تسرع وتسارع ، سواء .
(3) في المطبوعة " فمن أي الفرق . . " ، وكلام الطبري استفهام واستنكار . لأن من المحال أن يشهد المؤمنون على هذا الباطل ، والكفار وأهل النفاق يتسرعون إلى الشهادة بالباطل لإبطال الحق ، فكان محالا أن يكون معنى " الشهداء " هنا : الذين يشهدون لهم ، أن ما جاءوا به نظير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى . وصار حتما أن يكون معنى " الشهداء " : الذين يظاهرونهم ويعاونونهم ، كما جاء في الآية التالية .
(1/378)
________________________________________
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
من مثله ، وليستنصر بعضُكم بعضًا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم ، حتى تعلموا أنكم إذْ عَجزتم عن ذلك - أنّه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا من البشر أحدٌ ، ويَصحَّ عندكم أنه تنزيلي وَوحيي إلى عبدي.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فإن لم تفعلوا " ، إن لم تأتوا بسورة من مثله ، فقد تظاهرتم أنتم وشركاؤكم عليه وأعوانكم (1) ، فتبين لكم بامتحانكم واختباركم عجزكم وعَجزُ جميع خلقي عنه ، وعلمتم أنه من عندي ، ثم أقمتم على التكذيب به.
وقوله : " ولن تفعلوا " ، أي لن تأتوا بسورة من مثله أبدًا.
501 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " فإن لم تفعلوا ولنْ تفعلوا " ، أي لا تقدرون على ذلك ولا تطيقونه (2) .
502 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " ، فقد بَين لكم الحق (3) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " وقد تظاهرتم " ، وما في المخطوطة أجود ، وسيأتي بعد قليل بيان ذلك .
(2) الأثر 501 - ذكره السيوطي 1 : 35 بنحوه ، ونسبه لعبد بن حميد وابن جرير . وكتب فيه خطأ مطبعيًّا " ابن جريج " .
(3) الأثران 501 ، 502 - في الدر المنثور 1 : 35 ، والشوكاني 1 : 40 . ولفظ الطبري في تفسير هذه الآية وفي التي تليها ، وما استدل به من الأثر الأخير ، يدل على أنه يرى أن جواب الشرط محذوف ، لأنه معلوم قد دل عليه السياق ؛ وجواب الشرط " فقد بين لكم الحق ، وأقمتم على التكذيب به وبرسولي " ، ثم قال مستأنفًا : " فاتقوا أن تصلوا النار بتكذيبكم رسولي ، أنه جاءكم بوحيي وتنزيلي ، بعد أن تبين لكم أنه كتابي ومن عندي " .
ولم أجد من تنبه لهذا غير الزمخشري ، فإنه قال في تفسير الآية من كتابه " الكشاف " ما نصه : " فإن قلت : ما معنى اشتراطه في اتقاء النار ، انتفاء إتيانهم بسورة من مثله ؟ قلت : إنهم إذا لم يأتوا بها ، وتبين عجزهم عن المعارضة ، صح عندهم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا صح عندهم صدقه ، ثم لزموا العناد ولم ينقادوا ولم يشايعوا ، استوجبوا العقاب بالنار . فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد . فوضع " فاتقوا النار " موضعه ، لأن اتقاء النار لصيقه وضميمه ترك العناد ، من حيث إنه من نتائجه . لأن من اتقى النار ترك المعاندة . ونظيره أن يقول الملك لحشمه : " إن أردتم الكرامة عندي ، فاحذروا سخطي " . يريد : فأطيعوني واتبعوا أمري ، وافعلوا ما هو نتيجة حذر السخط . وهو من باب الكناية التي هي شعبة من شعب البلاغة . وفائدته : الإيجاز ، الذي هو حلية القرآن ، وتهويل شأن العناد ، بإنابة اتقاء النار منابه ، وإبرازه في صورته ، مشيعًا ذلك بتهويل صفة النار وتفظيع أمرها " .
فقد تبين بهذا مراد الطبري ، وأنه أراد أن يبين أن اتقاء النار غير داخل في الشرط ، ولا هو من جوابه ، ليخرج بذلك من أن يكون معنى الكلام : قصر اتقائهم النار ، على عجزهم عن الإتيان بمثله . وتفسير الآتي دال على هذا المعنى تمام الدلالة . وهو من دقيق نظر الطبري رحمه الله وغفر للزمخشري .
(1/379)
________________________________________
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله " فاتقوا النار " ، يقول : فاتقوا أن تَصْلَوُا النار بتكذيبكم رسولي بما جاءكم به من عندي أنه من وحيي وتنزيلي ، بعدَ تبيُّنكم أنه كتابي ومن عندي ، وقيام الحجة عليكم بأنه كلامي ووحيي ، بعجزكم وعجز جميع خلقي عن أن يأتوا بمثله.
ثم وصف جل ثناؤه النارَ التي حَذرهم صِلِيَّها فأخبرهم أنّ الناس وَقودها ، وأن الحجارة وَقُودها ، فقال : " التي وَقودها الناس والحجارة " ، يعني بقوله : " وَقُودُها " حَطبها ، والعرب تَجعله مصدرًا وهو اسم ، إذا فتحت الواو ، بمنزلة الحطب.
فإذا ضَمت الواو من " الوقود " كان مصدرًا من قول القائل : وَقدَت النارُ فهي تَقِد وُقودًا وقِدَة ووَقَدانًا وَوقْدًا ، يراد بذلك أنها التهبتْ.
فإن قال قائل : وكيف خُصَّت الحجارة فقرنت بالناس ، حتى جعلت لنار جهنم حَطبًا ؟
(1/380)
________________________________________
 
رد: تفسير القرآن الكريم

قيل : إنها حجارةُ الكبريت ، وهي أشد الحجارة - فيما بلغنا - حرًّا إذا أحميت.
503 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن مَيسرة الزرَّاد ، عن عبد الرحمن بن سَابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، في قوله : " وقُودها الناس والحجارة " ، قال : هي حجارة من كبريت ، خَلقها الله يومَ خلق السموات والأرض في السماء الدنيا ، يُعدّها للكافرين.
504 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أنبأنا ابن عُيينة ، عن مِسعر ، عن عبد الملك الزرَّاد ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن مسعود في قوله : " وقودها الناسُ والحجارة " ، قال : حجارة الكبريت ، جعلها الله كما شاء (1) .
__________
(1) الخبر 503 ، 504 - مسعر ، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين : هو ابن كدام - بكسر الكاف وتخفيف الدال ، وهو ثقة معروف ، أحد الأعلام . عبد الملك بن مَيسرة الهلالي الكوفي الزراد ، نسبة إلى عمل الزرود : ثقة كثير الحديث ، من صغار التابعين . عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي : تابعي ثقة . عمرو بن ميمون الأودي : من كبار التابعين المخضرمين ، كان مسلمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يره .
وهذا الخبر رواه الطبري بهذين الإسنادين وبالإسناد الآتي : 507 . وفي الأول والثالث أن عبد الملك ابن ميسرة يرويه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون ، وفي الثاني : 504 " عبد الملك الزراد عن عمرو بن ميمون " مباشرة ، بحذف " عبد الرحمن بن سابط " . ولو كان هذا الإسناد وحده لحمل على الاتصال ، لوجود المعاصرة ، فإن عبد الملك الزراد يروي عن ابن عمر المتوفى سنة 74 ، وعمرو بن ميمون مات سنة 74 أو 75 . ولكن هذين الإسنادين : 503 ، 504 دلا على أنه إنما رواه عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون .
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 261 ، من طريق محمد بن عبيد عن مسعر عن عبد الملك الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود . فهذه طريق ثالثة تؤيد الطريقين اللذين فيهما زيادة عبد الرحمن في الإسناد . وقال الحاكم : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي . وذكره ابن كثير 1 : 1101 - 111 من رواية الطبري ، ونسبه لابن أبي حاتم والحاكم ، ونقل تصحيحه إياه ولم يتعقبه . وذكره السيوطي 1 : 36 وزاد نسبته إلى : عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وهناد بن السري في كتاب الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني في الكبير ، والبيهقي في الشعب .
(1/381)
________________________________________
505 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة " ، أما الحجارة ، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد ، يُعذبون به مع النار (1) .
506 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج في قوله : " وقودها الناس والحجارة " ، قال : حجارة من كبريت أسودَ في النار ، قال : وقال لي عمرو بن دينار : حجارةٌ أصلب من هذه وأعظم (2) .
507 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن مَيسرة ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : حجارةٌ من الكبريت خَلقها الله عنده كيفَ شاء وكما شاء (3) .
* * *
القول في تأويل قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) }
قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا ، على أن " الكافر " في كلام العرب ، هو الساتر شيئًا بغطاء (4) ، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا ، لجحوده آلاءه عنده ، وتغطيته نَعماءَه قِبَله.
فمعنى قوله إذًا : " أعدت للكافرين " ، أعدّت النارُ للجاحدين أنّ الله رَبُّهم المتوحِّدُ بخلقهم وخلق الذين من قبلهم ، الذي جَعل لهم الأرض فراشًا ، والسماء
__________
(1) الخبر 505 - ذكره ابن كثير 1 : 111 دون أن ينسبه ، والسيوطي 1 : 36 ، ونسبه لابن جرير وحده .
(2) الأثر 506 - في ابن كثير 1 : 111 دون نسبة .
(3) الخبر 507 - سبق تفصيل إخراجه مع 503 ، 504 .
(4) انظر ما مضى : 255 .
(1/382)
________________________________________
بناءً ، وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم - المشركينَ معه في عبادته الأندادَ والآلهة (1) ، وهو المتفرد لهم بالإنشاء ، والمتوحِّد بالأقوات والأرزاق (2) .
508 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس : " أعدت للكافرين " ، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر (3) .
* * *
__________
(1) قوله " المشركين " من صفة قوله آنفًا : " للجاحدين " .
(2) في المخطوطة : " بالأشياء " ، وهو خطأ .
(3) الخبر 508 - في ابن كثير 1 : 111 ، والدر المنثور 1 : 36 ، والشوكاني 1 : 41 .
(1/383)
________________________________________
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
القول في تأويل قوله : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ }
قال أبو جعفر : أما قوله تعالى : " وبشِّر " ، فإنه يعني : أخبرهم. والبشارة أصلها الخبرُ بما يُسَرُّ به المخبَرُ ، إذا كان سابقًا به كل مخبِرٍ سواه.
وهذا أمر من الله تعالى نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقَه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه ، وصدّقوا إيمانهم ذلك وإقرَارهم بأعمالهم الصالحة ، فقال له : يا محمد ، بشِّرْ من صدَّقك أنك رسولي - وأن ما جئتَ به من الهدى والنور فمن عندي ، وحقَّق تصديقَه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتُها عليه ، وأوجبتُها في كتابي على لسانك عليه - أن له جنات تجري من تحتها الأنهار ، خاصةً ، دُون من كذَّب بك وأنكرَ ما جئته به من الهدى من عندي وعاندك (1) ، ودون من أظهر تصديقك (2) ، وأقرّ
__________
(1) في المطبوعة : " ما جئت به من الهدى " .
(2) في المخطوطة : " دون من أظهر . . " بحذف الواو ، وهو قريب في المعنى .
(1/383)
________________________________________
أن ما جئته به فمن عندي قولا وجحده اعتقادًا ، ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النارَ التي وقُودها الناسُ والحجارة ، مُعدةً عندي. والجنات : جمع جنة ، والجنة : البستان.
وإنما عَنى جلّ ذكره بذكر الجنة : ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها ، دون أرضها - ولذلك قال عز ذكره (1) " : تجري من تحتها الأنهار " . لأنّه معلومٌ أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبرَ عن ماء أنهارها أنه جارٍ تحت أشجارها وغروسها وثمارها ، لا أنه جارٍ تحت أرضها. لأن الماء إذا كان جاريًا تحت الأرض ، فلا حظَّ فيها لعيون منْ فَوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه. على أنّ الذي تُوصف به أنهارُ الجنة ، أنها جارية في غير أخاديد.
509 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي عُبيدة ، عن مسروق ، قال : نخل الجنة نَضيدٌ من أصْلها إلى فرعها ، وثمرها أمثالُ القِلال ، كلما نُزعت ثمرة عادتْ مكانها أخرى ، وماؤها يَجري في غير أخدود (2) .
510 - حدثنا مجاهد [بن موسى] ، (3) قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا مِسعر بن كدام ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عُبيدة ، بنحوه.
511 - وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث ، عن أبي عبيدة - فذكر مثله - قال : فقلت لأبي عُبيدة : من حدّثك ؟ فغضب ، وقال : مسروق.
__________
(1) في المطبوعة : " فلذلك قال . . " ، وما في المخطوطة أجود .
(2) الأثر 509 - في الدر المنثور 1 : 38 . وقال ابن كثير في تفسيره 1 : 113 : " وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود " ، ولم يبين ، وانظر ما سيأتي رقم : 517 .
(3) الإسناد 510 - الزيادة بين القوسين من المخطوطة ، وهو مجاهد بن موسى بن فروخ الخوارزمي ، أبو علي الختلي (بضم ففتح) ، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما . مترجم في التهذيب ، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/413 ، والصغير : 245 ، والخطيب في تاريخ بغداد 13 : 265 - 266 وابن الأثير في اللباب 1 : 345 . مات مجاهد هذا في رمضان سنة 244 . وشيخه يزيد : هو يزيد بن هارون .
(1/384)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
فإذا كان الأمر كذلك ، في أنّ أنهارَها جارية في غير أخاديد ، فلا شكّ أنّ الذي أريدَ بالجنات : أشجارُ الجنات وغروسها وثمارها دون أرضها ، إذ كانت أنهارُها تجري فوق أرضها وتحتَ غروسها وأشجارها ، على ما ذكره مسروق. وذلك أولى بصفة الجنة من أن تكون أنهارها جاريةً تحت أرضها.
وإنما رغَّب الله جل ثناؤه بهذه الآية عبادَه في الإيمان ، وحضّهم على عبادته بما أخبرهم أنه أعدّه لأهل طاعته والإيمان به عنده ، كما حذّرهم في الآية التي قبلها بما أخبر من إعداده ما أعدّ - لأهل الكفر به ، الجاعلين معه الآلهةَ والأنداد - من عقابه عن إشراك غيره معه ، والتعرّض لعقوبته بركوب معصيته وتَرك طاعته (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " كلما رُزقوا منها " : من الجنات ، والهاء راجعةٌ على الجنات ، وإنما المعنيّ أشجارها ، فكأنه قال : كلما رُزقوا - من أشجار البساتين التي أعدّها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات في جناته - من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا : هذا الذي رُزقنا من قبل.
ثم اختلف أهلُ التأويل في تأويل قوله : " هذا الذي رُزقنا من قَبل " .
فقال بعضهم : تأويل ذلك : هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك :
512 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
__________
(1) في المخطوطة : " والتفريق لعقوبته " ، ولا معنى لها .
(1/385)
________________________________________
أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " هذا الذي رُزقنا من قبل " ، قال : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة ، فلما نظروا (1) إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا.
513 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل " ، أي في الدنيا.
514 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " ، يقولون : ما أشبهه به.
515 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، مثله.
516 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " قالوا هذا الذي رزقنا من قَبل " ، في الدنيا ، قال : " وأتوا به مُتشابهًا " ، يعرفونه (2) .
قال أبو جعفر : وقال آخرون : بل تأويلُ ذلك : هذا الذي رزقنا من ثمار الجنة من قبل هذا ، لشدة مشابهة بعض ذلك في اللون والطعم بعضًا. ومن علة قائلي هذا القول : أن ثمار الجنة كلما نزع منها شيءٌ عاد مكانه آخرُ مثله.
517 - كما حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عمرو بن مُرَّة يحدث ، عن أبي عُبيدة ، قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها ، وثمرُها مثل القلال ، كلما نُزعت منها ثمرةٌ عادتْ مكانها أخرى (3) .
__________
(1) في الدر المنثور : " فينظروا " ، وفي الشوكاني : " فنظروا " ، وكذلك في المخطوطة .
(2) الآثار 512 - 516 : في تفسير ابن كثير 1 : 113 - 114 ، والدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .
(3) انظر الآثار السالفة رقم : 509 - 511 . وفي المخطوطة : " أمثال القلال " كما مر آنفًا .
(1/386)
________________________________________
قالوا : فإنما اشتبهت عند أهل الجنة ، لأن التي عادت ، نظيرةُ التي نُزعت فأكِلت ، في كل معانيها. قالوا : ولذلك قال الله جل ثناؤه : " وأتوا به متشابهًا " ، لاشتباه جميعه في كل معانيه.
وقال بعضهم : بل قالوا : " هذا الذي رزقنا من قبل " ، لمشابهته الذي قبله في اللون ، وإن خالفه في الطعم.
* ذكر من قال ذلك :
518 - حدثنا القاسم بن الحسين ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا شيخ من المِصِّيصة ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، قال : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيقول : هذا الذي أتِينا به من قبل. فيقول الملك : كُلْ ، فاللونُ واحد والطعمُ مختلف (1) .
وهذا التأويل مذهب من تأوّل الآية. غير أنه يدفَع صحته ظاهرُ التلاوة. والذي يدل على صحته ظاهرُ الآية ويحقق صحته ، قول القائلين : إن معنى ذلك : هذا الذي رزقنا من قبلُ في الدنيا. وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال : " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا " ، فأخبر جل ثناؤه أنّ مِنْ قِيل أهل الجنة كلما رزقوا من ثمر الجنة رزقًا ، أن يقولوا : هذا الذي رُزقا من قبلُ. ولم يخصص بأن ذلك من قِيلهم في بعض ذلك دون بعض. فإذْ كان قد أخبر جلّ ذكره عنهم أن ذلك من قيلهم في كل ما رزقوا من ثمرها ، فلا شكّ أن ذلك من قيلهم في أول رزق رُزقوه من ثمارها أتُوا به بعد دخولهم الجنة واستقرارهم فيها ، الذي لم يتقدّمه عندهم من ثمارها ثمرة. فإذْ كان لا شك أنّ ذلك من قيلهم في أوله ، كما هو من قيلهم في أوْسطه وَما يَتلوه (2) - فمعلومٌ أنه مُحال أن يكون من قيلهم لأول رزق رُزقوه من ثمار الجنة : هذا الذي رُزقنا من قبل هذا من ثمار
__________
(1) الأثر 518 - في ابن كثير 1 : 114 ، والدر المنثور 1 : 38 .
(2) في المطبوعة : " في وسطه " .
(1/387)
________________________________________
الجنة! وكيف يجوز أن يقولوا لأول رزق رُزقوه من ثمارها ولمَّا يتقدمه عندهم غيره : هذا هو الذي رُزقناه من قبل ؟ إلا أن ينسُبهم ذُو غَيَّة وضَلال إلى قيل الكذب الذي قد طهرهم الله منه (1) ، أو يدفعَ دافعٌ أن يكونَ ذلك من قيلهم لأول رزق رُزقوه منها مِن ثمارها ، فيدفعَ صحة ما أوجب الله صحّته بقوله : " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا " ، من غير نَصْب دلالة على أنه معنيّ به حالٌ من أحوال دون حال.
فقد تبيّن بما بيَّنا أنّ معنى الآية : كلما رُزق الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ثمرة من ثمار الجنة في الجنة رزقًا قالوا : هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا (2) .
فإن سألنا سائل ، فقال : وكيف قال القوم : هذا الذي رُزقنا من قبل ، والذي رُزقوه من قبل قد عُدم بأكلهم إياه ؟ وكيف يجوز أن يقول أهل الجنة قولا لا حقيقة له ؟
قيل : إن الأمر على غير ما ذهبتَ إليه في ذلك. وإنما معناه : هذا من النوع الذي رُزقناه من قَبل هذا ، من الثمار والرزق. كالرجل يقول لآخر : قد أعدّ لك فلانٌ من الطعام كذا وكذا من ألوان الطبيخ والشواء والحلوى. فيقول المقول له ذاك : هذا طعامي في منزلي. يعني بذلك : أن النوع الذي ذكر له صاحبه أنه أعدّه له من الطعام هو طعامُه ، لا أنّ أعيانَ ما أخبره صاحبه أنه قد أعده له ، هو طعامه . بل ذلك مما لا يجوز لسامع سَمعه يقول ذلك ، أن يتوهم أنه أراده أو قصدَه ، لأن ذلك خلافُ مَخرَج كلام المتكلم. وإنما يوجَّه كلام كلّ متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه ، دون المجهول من معانيه. فكذلك ذلك في قوله : " قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل " ، إذ كان ما كانوا رُزقوه من قبل قد فني وعُدِم. فمعلوم أنهم عَنَوْا بذلك : هذا من النوع الذي رُزقناه من قبل ، ومن جنسه
__________
(1) في المطبوعة مكان قوله : " ذو غية " ، " ذو غرة " ، وفي المخطوطة : " ذو عته " . والعته : نقص العقل ، أو الجنون ، وأجودهن ما أثبته عن كتاب حادي الأرواح لابن قيم الجوزية 1 : 268 ، حيث نقل نص الطبري .
(2) هذا التفصيل الذي ذكره الطبري من جيد النظر في معاني الكلام .
(1/388)
________________________________________
في السِّمَات والألوان (1) - على ما قد بينا من القول في ذلك في كتابنا هذا (2) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا }
قال أبو جعفر : والهاء في قوله : " وأتُوا به مُتشابهًا " عائدة على الرزق ، فتأويله : وأتوا بالذي رُزقوا من ثمارها متشابهًا.
وقد اختلَفَ أهلُ التأويل في تأويل " المتشابه " في ذلك :
فقال بعضهم : تشابهه أنّ كله خيار لا رَذْلَ فيه.
* ذكر من قال ذلك :
519 - حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : أخبرنا النضر بن شُميل ، قال : أخبرنا أبو عامر ، عن الحسن في قوله : " متشابهًا " قال : خيارًا كُلَّها لا رَذل فيها.
520 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أبي رَجاء : قرأ الحسنُ آيات من البقرة ، فأتى على هذه الآية : " وأتُوا به مُتشابهًا " قال : ألم تَروْا إلى ثمار الدنيا كيف تُرذِلُون بعضَه ؟ وإن ذلك ليس فيه رَذْل.
521 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا مَعمر ، قال : قال الحسن : " وأتوا به متشابهًا " قال : يشبه بعضه بعضًا ، ليس فيه من رَذْل (3) .
522 - حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وأتوا به
__________
(1) في المطبوعة : " في التسميات والألوان " ، وهو خطأ .
(2) يعني بذلك الذي تقدم ، معنى قوله : " وإنما يوجه كلام كل متكلم إلى المعروف في الناس من مخارجه ، دون المجهول من معانيه " ، وقد مضى ذكر ذلك في ص 388 .
هذا ، وقد وقع في المطبوعة خطأ بين ، فقد وضع في هذا المكان ما نقلناه إلى حق موضعه في ص 394 من أول قوله : " وقد زعم بعض أهل العربية . . " إلى قوله : " بخروجه عن قول جميع أهل العلم ، دلالة على خطئه " .
(3) في المطبوعة : " ليس فيه مرذول " .
(1/389)
________________________________________
متشابهًا " ، أي خيارًا لا رَذلَ فيه ، وإن ثمار الدنيا يُنقَّى منها ويُرْذَل منها ، وثمار الجنة خيارٌ كله ، لا يُرْذَل منه شيء.
523 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج. قال : ثمر الدنيا منه ما يُرْذَل ، ومنه نَقاوَةٌ ، وثمرُ الجنة نقاوة كله ، يشبه بعضُه بعضًا في الطيب ، ليس منه مرذول (1) .
* * *
وقال بعضهم : تشابُهه في اللون وهو مختلف في الطعم.
* ذكر من قال ذلك :
524 - حدثني موسى ، قال حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وأتوا به متشابهًا " في اللَّوْن والمرْأى ، وليس يُشبه الطعمَ.
525 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وأتوا به متشابهًا " مِثلَ الخيار.
526 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأتوا به متشابهًا لونه مختلفًا طعمُه ، مثلَ الخيار من القثّاء.
527 - حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وأتوا به متشابهًا " ، يشبه بعضه بعضًا ويختلف الطعم.
528 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزّاق ، قال : أنبأنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " متشابهًا " ، قال : مشتبهًا في اللون ، ومختلفًا في الطعم.
__________
(1) الآثار : 519 - 523 بعضها في الدر المنثور 1 : 38 ، وبعضها في الشوكاني 1 : 42 .
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
529 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد : " وأتوا به متشابهًا " ، مثل الخيار (1) .
* * *
وقال بعضهم : تشابُهه في اللون والطعم.
* ذكر من قال ذلك :
530 - حدثنا ابن وكيع. قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، قوله : " متشابهًا " قال : اللونُ والطعمُ.
531 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزّاق ، عن الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، ويحيى بن سعيد : " متشابهًا " قالا في اللون والطعم.
* * *
وقال بعضهم : تشابهه ، تشابه ثمر الجنة وثمر الدنيا في اللون ، وإن اختلف طعومهما.
* ذكر من قال ذلك :
532 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " وأتوا به متشابهًا " قال : يشبه ثمر الدنيا ، غيرَ أن ثمر الجنة أطيب.
533 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : " وأتوا به متشابهًا " ، قال : يشبه ثمر الدنيا ، غير أن ثمر الجنة أطيبُ.
* * *
وقال بعضهم : لا يُشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا ، إلا الأسماء.
* ذكر من قال ذلك :
534 - حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعيّ - ح - وحدثنا محمد
__________
(1) الآثار : 524 - 529 بعضها في ابن كثير 1 : 114 - 115 ، والدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .
(1/391)
________________________________________
بن بشار ، قال ، حدثنا مؤمَّل ، قالا جميعًا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظَبْيَان ، عن ابن عباس - قال أبو كريب في حديثه عن الأشجعي - : لا يشبه شيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا ، إلا الأسماء. وقال ابن بشار في حديثه عن مؤمل ، قال : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
535 - حدثنا عباس بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن عُبيد ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : ليس في الدنيا من الجنة شيء إلا الأسماء.
536 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " وأتوا به متشابهًا " ، قال : يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا ، التُّفاح بالتفاح والرُّمان بالرمان ، قالوا في الجنة : " هذا الذي رزقنا من قبل " في الدنيا ، " وأتوا به متشابهًا " يعرفونه ، وليس هو مثله في الطعم (1) .
قال أبو جعفر : وأولى هذه التأويلات بتأويل الآية ، تأويلُ من قال : وأتوا به متشابهًا في اللون والمنظر ، والطعمُ مختلف. يعني بذلك اشتباهَ ثمر الجنة وثمر الدنيا في المنظر واللون ، مختلفًا في الطعم والذوق ، لما قدّمنا من العلة في تأويل قوله : " كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رُزقنا من قبل " وأن معناه : كلما رُزقوا من الجِنان من ثمرة من ثمارها رزقًا قالوا : هذا الذي رُزقنا من قبل هذا في الدنيا : فأخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوا ذلك ، ومن أجل أنهم أتُوا بما أتوا به من ذلك في الجنة متشابهًا ، يعني بذلك تشابه ما أتوا به في الجنة منه ، والذي كانوا رُزقوه في الدنيا ، في اللون والمرأى والمنظر ، وإن اختلفا في الطعم والذوق ، فتباينا ، فلم يكن لشيء مما في الجنة من ذلك نظير في الدنيا.
وقد دللنا
__________
(1) الآثار : 530 - 536 بعضها في الدر المنثور 1 : 38 ، والشوكاني 1 : 42 .
(1/392)
________________________________________
على فساد قول من زعم أنّ معنى قوله : " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " ، إنما هو قول من أهل الجنة في تشبيههم بعض ثَمر الجنة ببعض (1) . وتلك الدلالة على فساد ذلك القول ، هي الدلالة على فساد قول من خالف قولنا في تأويل قوله : " وأتوا به متشابهًا " ، لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر عن المعنى الذي من أجله قال القوم : " هذا الذي رُزقنا من قبل " بقوله : " وأتوا به متشابهًا " .
ويُسأل من أنكر ذلك (2) ، فزعم أنه غير جائز أن يكون شيء مما في الجنة نظيرًا لشيء مما في الدنيا بوجه من الوجوه ، فيقال له : أيجوز أن يكون أسماءُ ما في الجنة من ثمارها وأطعمتها وأشربتها نظائرَ أسماء ما في الدنيا منها ؟
فإن أنكر ذلك خالف نصّ كتاب الله ، لأن الله جل ثناؤه إنما عرّف عبادَه في الدنيا ما هو عنده في الجنة بالأسماء التي يسمى بها ما في الدنيا من ذلك.
وإن قال : ذلك جائز ، بل هو كذلك.
قيل : فما أنكرتَ أن يكون ألوانُ ما فيها من ذلك ، نظيرَ ألوان ما في الدنيا منه (3) ، بمعنى البياض والحمرة والصفرة وسائر صنوف الألوان ، وإن تباينت فتفاضلت بفضل حسن المَرآة والمنظر ، فكان لما في الجنة من ذلك من البهاء والجمال وحسن المَرآة والمنظر ، خلافُ الذي لما في الدنيا منه ، كما كان جائزًا ذلك في الأسماء مع اختلاف المسميات بالفضْل في أجسامها ؟ ثم يُعكس عليه القول في ذلك ، فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكان أبو موسى الأشعري يقول في ذلك بما :
537 - حدثني به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، وعبد الوهاب ، ومحمد بن جعفر ، عن عوف ، عن قَسَامةَ ، عن الأشعري ، قال : إن الله لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمار الجنة ، وعلّمه صَنعةَ كل شيء ، فثمارُكم هذه من ثمار الجنة ، غيرَ أن هذه تغيَّرُ وتلك لا تغيَّرُ (4) .
__________
(1) انظر ما مضى ص 387 وما بعدها .
(2) في المطبوعة : " وسأل من أنكر . . " ، وهو خطأ بين .
(3) في المطبوعة : " نظائر ألوان " .
(4) الحديث 537 - هذا إسناد صحيح . وهو وإن كان موقوفًا لفظًا فإنه مرفوع حكمًا ، لأنه إخبار عن غيب لا يعلم بالرأي ولا القياس . والأشعري : هو أبو موسى ، ولم يكن ممن يحكى عن الكتب القديمة . عوف : هو ابن أبي جميلة الأعرابي ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له أصحاب الكتب الستة . قسامة - بفتح القاف وتخفيف السين المهملة : هو ابن زهير المازني التميمي البصري ، وهو ثقة تابعي قديم ، بل ذكره بعضهم في الصحابة فأخطأ . وله ترجمة في الإصابة 5 : 276 وابن سعد 7/1/110 ، وقال : " كان ثقة إن شاء الله ، وتوفي في ولاية الحجاج على العراق " ، وابن أبي حاتم 3/2/147 ، وروى توثيقه عن ابن معين .
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 1 : 80 ، من رواية عبد الرزاق عن معمر عن عوف ، بهذا الإسناد . وذكره ابن القيم في حادي الأرواح 1 : 273 (ص 125 من الطبعة الثانية ، طبعة محمود ربيع سنة 1357) من رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن عقبة بن مكرم العمى الحافظ ، عن ربعى بن إبراهيم بن علية عن عوف ، بهذا الإسناد ، مرفوعًا صراحة : " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وكذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8 : 197 - 198 " عن أبي موسى رفعه " ، وقال : " رواه البزار ، والطبراني ، ورجاله ثقات " . وذكره ابن القيم في حادي الأرواح قبل ذلك (ص 30 - 31) ، من رواية " هوذة بن خليفة عن عوف " بهذا الإسناد ، موقوفًا لفظًا . ورواية هوذة بن خليفة : رواها الحاكم في المستدرك 2 : 543 ، ولكن إسنادها عندي أنه مغلوط ، والظاهر أنه غلط من الناسخين . لأن الذي فيه : " هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري ، قال : إن الله لما أخرج آدم " إلخ . ثم قال الحاكم : " صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي! ولا يمكن - فيما أعرف وأعتقد - أن يصحح الحاكم هذا الإسناد ، ثم يوافقه الذهبي ، إن كان على هذا الوجه ، لأن أبا بكر بن أبي موسى الأشعري تابعي ثقة ، فلو كان الإسناد هكذا كان الحديث مرسلا لا حجة فيه ، سواء أرفعه أم قاله من قبل نفسه ، فالظاهر أن الناسخين القدماء للمستدرك أخطئوا في زيادة " أبي بكر بن " ، وأن صوابه : " عن أبي موسى الأشعري " ، كما تبين من نقل ابن القيم رواية هوذة ، وكما تبين من الروايات الأخر التي سقناها . والحمد لله على التوفيق .
(1/393)
________________________________________
(1) وقد زعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله : " وأتوا به متشابهًا " ، أنه متشابهٌ في الفضل ، أي كل واحد منه له من الفضْل في نحوه ، مثلُ الذي للآخر في نحوه.
قال أبو جعفر : وليس هذا قولا نستجيز التشاغلَ بالدلالة على فساده ، لخروجه عن قول جميع علماء أهل التأويل. وحسبُ قولٍ - بخروجه عن قول جميع أهل العلم - دلالةٌ على خطئه.
* * *
__________
(1) هذه الفقرة كلها من أول قوله : " وقد زعم بعض أهل العربية . . " كانت في المطبوعة في الموضع الذي أشرنا إليه آنفًا ص 389 .
(1/394)
________________________________________
القول في تأويل قوله : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ }
قال أبو جعفر : والهاء والميم اللتان في " لهم " عائدتان على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، والهاء والألف اللتان في " فيها " عائدتان على الجنات. وتأويل ذلك : وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنّ لهم جنات فيها أزواجٌ مطهرة.
والأزواج جمع زَوْج ، وهي امرأة الرجل. يقال : فلانة زَوْجُ فلان وزوجته.
وأما قوله : " مطهَّرة " فإن تأويله أنهن طُهِّرن من كل أذًى وقَذًى وريبةٍ ، مما يكون في نساء أهل الدنيا ، من الحيض والنفاس والغائط والبول والمخاط والبُصاق والمنيّ ، وما أشبه ذلك من الأذى والأدناس والريب والمكاره.
538 - كما حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما أزواجٌ مطهرة ، فإنهن لا يحضْن ولا يُحْدِثن ولا يتنخَّمن.
539 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " أزْواج مطهرة " . يقول : مطهرة من القذَر والأذى.
540 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى القطان (1) ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة " قال : لا يبلن ولا يتغوّطن ولا يَمذِين.
541 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزُّبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه - إلا أنه زَاد فيه : ولا يُمنِين ولا يحضْنَ.
__________
(1) في المخطوطة : " يحيى العطار " ، وهو خطأ .
(1/395)
________________________________________
542 - حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال : مطهرة من الحيض والغائط والبول والنخام والبُزاق والمنيّ والولد.
543 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابنُ المبارك ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد ، مثله.
544 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لا يَبُلْنَ ولا يتغوّطنَ ولا يحضْنَ ولا يلدن ولا يُمْنِين ولا يبزُقنَ.
545 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوَ حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم.
546 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ، عن قتادة : " ولهم فيها أزواج مطهرة " ، إي والله من الإثم والأذى.
547 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة " ، قال : طهّرهن اللهُ من كل بول وغائط وقذَر ، ومن كل مأثم.
548 - حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال مطهرة من الحيض والحبَل والأذى.
549 - حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : المطهرة من الحيض والحبَل.
550 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن زيد : " ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرة " قال : المطهَّرة التي لا تحيض. قال : وأزواج الدنيا ليست بمطهرة ، ألا تراهنّ يدمَيْنَ ويتركن الصلاة والصيامَ ؟ قال ابن زيد : وكذلك خُلقت حواء حتى عصَتْ ، فلما عصَتْ قال الله : إني خلقتك مطهَّرة
(1/396)
________________________________________
وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة (1) .
551 - حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن الحسن في قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " ، قال يقول : مطهَّرة من الحيض.
552 - حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن في قوله : " ولهم فيها أزواجٌ مطهرة " ، قال : من الحيض.
553 - حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا ابن جُريج ، عن عطاء قوله : " ولهم فيها أزواج مطهرة " ، قال : من الولد والحيض والغائط والبول ، وذكر أشياءَ من هذا النحو (2) .
* * *
القول في تأويل قوله : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنات خالدون. والهاء والميم من قوله " وهم " ، عائدة على الذين آمنوا وعملوا
__________
(1) في المخطوطة : " كما دميت " بتشديد الميم ، وهما سواء ، ويعني بذلك دم الحيض . وهذا الأثر نقله ابن كثير 1 : 115 عن هذا الموضع ، وفيه " أدميت " ، كما في المطبوعة هنا . وقال ابن كثير بعد سياقه : " وهذا غريب " .
(2) الآثار 538 - 553 : بعضها في ابن كثير 1 : 115 ، والدر المنثور 1 : 39 ، والشوكاني 1 : 42 وكرهنا الإطالة بتفصيل مراجعها واحدًا واحدًا . ونقل ابن كثير 1 : 115 - 116 حديثًا مرفوعًا بهذا المعنى : يعني مطهرة " من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق " ، من تفسير ابن مردويه بإسناده - من طريق محمد بن عبيد الكندي عن عبد الرزاق بن عمر البزيعي عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد ، مرفوعًا . وقال : " هذا حديث غريب " . ثم نقل عن الحاكم أنه رواه في المستدرك ، من هذا الوجه ، وأنه صححه على شرط الشيخين . ثم قال : " وهذا الذي ادعاه فيه نظر ، فإن عبد الرزاق بن عمر البزيعي هذا - قال فيه أبو حاتم بن حبان البستي : لا يجوز الاحتجاج به . قلت : والأظهر أن هذا من كلام قتادة ، كما تقدم " . وهو كما قال ابن كثير . انظر الميزان 2 : 126 .
(1/397)
________________________________________
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
الصالحات. والهاء والألف في " فيها " على الجنات. وخلودهم فيها دوام بقائهم فيها على ما أعطاهم الله فيها من الْحَبْرَةِ والنعيم المقيم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ
__________
(1) في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 42 ، أن ابن جرير أخرج عن ابن عباس في قوله " وهم فيها خالدون " - " أي خالدون أبدًا ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له " .
وهذا الخبر سيأتي عند تفسير الآية : 82 من هذه السورة (1 : 307 بولاق) . فنقله السيوطي إلى هذا الموضع ، وتبعه الشوكاني .
(1/398)
________________________________________
مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها.
فقال بعضهم بما :
554 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لَما ضرَب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا " وقوله : " أو كصيِّب من السماء " ، الآيات الثلاث - قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أنْ يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله : " إن الله لا يستحي أنْ يضرب مثَلا ما بعوضةً " إلى قوله : " أولئك همُ الخاسرُون " .
وقال آخرون بما :
555 - حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قُرَاد ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الرّبيع بن أنس ، في قوله تعالى : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها " . قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعتْ ، فإذا سمنت ماتتْ. وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن : إذا امتلأوا من الدنيا رِيًّا أخذَهم الله عند ذلك. قال : ثم تلا( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) [سورة الأنعام : 44] (1) .
556 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه - إلا أنه قال : فإذا خلتْ آجالهم وانقطعت مُدّتهم (2) ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت ، وتموت إذا رَويت ، فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلئوا من الدنيا ريًّا أخذهم الله فأهلكهم. فذلك قوله : ( حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) [سورة الأنعام : 44].
وقال آخرون بما :
557 - حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " ، أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكرَ منه شيئًا ما قل منه أو كثر (3) . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله :
__________
(1) الأثر 555 - " قراد " بضم القاف وفتح الراء مخففة : لقب له ، واسمه " عبد الرحمن بن غزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي ، الخزاعي " ، وهو ثقة ، وقال أحمد : " كان عاقلا من الرجال " . وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/2/274 .
(2) في المطبوعة : " خلى آجالهم " ، وفي المخطوطة " خلا " ، والصواب ما أثبته . وخلا العمر يخلو خلوا : مضى وانقضى .
(3) في المخطوطة : " شيئًا قل منه أو كثر " بحذف " ما " ، وفي ابن كثير " مما قل أو كثر " وكلها متقاربة .
(1/399)
________________________________________
" إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " .
558 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " (1) .
وقد ذهب كلّ قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية ، وفي المعنى الذي نزلت فيه ، مذهبًا ؛ غير أنّ أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ ، ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس.
وذلك أنّ الله جلّ ذكره أخبر عباده أنه لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها ، عَقِيب أمثالٍ قد تقدمت في هذه السورة ، ضربها للمنافقين ، دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها. فلأن يكون هذا القول - أعني قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما " - جوابًا لنكير الكفار والمنافقين ما ضرب لهم من الأمثال في هذه السورة ، أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور.
فإن قال قائل : إنما أوْجبَ أن يكون ذلك جوابًا لنكيرهم ما ضرَب من الأمثال في سائر السور ، لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولآلهتهم في سائر السور أمثالٌ موافقة المعنى لما أخبر عنه : أنه لا يستحي أن يضربه مثلا إذ كان بعضها تمثيلا لآلهتهم بالعنكبوت ، وبعضها تشبيهًا لها في الضّعف والمهانة بالذباب. وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة ، فيجوزَ أنْ يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا (2) .
__________
(1) الآثار : 554 - 558 أكثرها في ابن كثير 1 : 117 ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 41 ، والشوكاني 1 : 45 .
(2) في المطبوعة : " أن يضرب مثلا ما " ، وليست بشيء .
(1/400)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
فإن ذلك بخلاف ما ظنّ. وذلك أنّ قول الله جلّ ثناؤه : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " ، إنما هو خبرٌ منه جلّ ذكره أنه لا يستحي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرِها وكبيرِها ، ابتلاءً بذلك عبادَه واختبارًا منه لهم ، ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالا منه به لقوم ، وهدايةً منه به لآخرين.
559 - كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " مثلا ما بعوضة " ، يعني الأمثال صغيرَها وكبيرَها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ويُضل بها الفاسقين. يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به.
560 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله.
561 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج عن مجاهد ، مثله (1) .
قال أبو جعفر : - لا أنه جلّ ذكره قصَد الخبرَ عن عين البعوضة أنه لا يستحي من ضرْب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق -
562 - كما حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعفُ ما خلق الله.
563 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، بنحوه (2) .
__________
(1) الآثار : 559 - 561 ، وهي واحد كلها ، في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وسيأتي برقم : 566 .
(2) الأثر : 562 في الدر المنثور 1 : 41 .
(1/401)
________________________________________
- (1) خصها الله بالذكر في القِلة ، فأخبر أنه لا يستحي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحق وأحقرَها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع ، جوابًا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرَب لهم من المثل بمُوقِد النار والصيِّب من السماء ، على ما نَعَتهما به من نَعْتهما.
فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثالَ التي وصفتَ ، الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أنّ القول في ذلك ما قلت ؟
قيل : الدلالة على ذلك بينة في قول الله تعالى ذكره (2) " : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " . وإن القوم الذين ضرَب لهم الأمثال في الآيتين المقدَّمتين - اللتين مثَّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما (3) ، بمُوقِد النار وبالصيِّب من السماء (4) ، على ما وصف من ذلك قبل قوله : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " - قد أنكروا المثل وقالوا : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ فأوضح لهم تعالى ذكره خطأ قِيلهم ذلك ، وقبّح لهم ما نطقوا به ، وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه.
وأما تأويل قوله : " إن الله لا يستحيي " ، فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى " إن الله لا يستحيي " : إن الله لا يخشى أن يضرب مثلا ويستشهدُ على ذلك من قوله بقول الله تعالى : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) [سورة الأحزاب : 37] ، ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناسَ والله أحقُّ أن تستحيه - فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء (5) .
__________
(1) قوله : " خصها . . " جواب قوله آنفًا : " . . لما كانت أضعف الخلق " .
(2) في المطبوعة : " الدلالة على ذلك بينها جل ذكره في قوله " .
(3) قوله : " فيهما " متعلق بقوله " مثل " ، أي : اللتين مثل فيهما - ما عليه المنافقون مقيمون - بموقد النار . .
(4) في المطبوعة : " وبالصيب من السماء " .
(5) لم أعرف قائل هذا القول من المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب ، ولكني رأيت أبا حيان يقول في تفسيره 1 : 121 ، يزعم أن هذا المعنى هو الذي رجحه الطبري ، ومن البين أنه أخطأ فيما توهمه ، فإن لفظ الطبري دال على أنه لم يحقق معناه ، ولم يرضه ، ولم ينصره . هذا على أني أظن أن مجاز اللفظ يجيز مثل هذا الذي قاله المنسوب إلى المعرفة بلغة العرب ، وإن كنت أكره أن أحمل هذه الآية على هذا المعنى .
(1/402)
________________________________________
وأما معنى قوله : " أن يضرب مثلا " ، فهو أن يبيِّن ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) [سورة الروم : 28] ، بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكُمَيْت :
وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرِيدَتْ... لأَسْدَاسٍ ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا (1)
بمعنى : وصف أخماس.
والمثَل : الشبه ، يقال : هذا مَثَل هذا ومِثْله ، كما يقال : شبَهُه وشِبْهه ، ومنه قول كعب بن زهير :
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلا... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلا الأَبَاطِيلُ (2)
يعني شَبَهًا ، فمعنى قوله إذًا : " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا " : إن
__________
(1) هذا بيت استرقه الكميت استراقًا ، على أنه مثل اجتلبه . وأصله : أن شيخًا كان في إبله ، ومعه أولاده رحالا يرعونها ، قد طالت غربتهم عن أهلهم . فقال لهم ذات يوم : " ارعوا إبلكم ربعا " (بكسر فسكون : وهو أن تحبس عن الماء ثلاثًا ، وترد في اليوم الرابع) ، فرعوا ربعًا نحو طريق أهلهم . فقالوا : لو رعيناها خمسًا! (بكسر فسكون : أن تحبس أربعًا وترد في الخامس) فزادوا يومًا قبل أهلهم . فقالوا : لو رعيناها سدسًا! (أن تحبس خمسًا وترد في السادس) . ففطن الشيخ لما يريدون ، فقال : ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس ، ما همتكم رعيها ، إنما همتكم أهلكم! وأنشأ يقول : وَذَلِكَ ضَرْبُ أَخْمَاسٍ أُرَاهُ ، ... لأَسْدَاسٍ ، عَسَى أَنْ لا تَكُونَا
فصار قولهم : " ضرب أخماس لأسداس " مثلا مضروبًا للذي يراوغ ويظهر أمرًا وهو يريد غيره .
وحقيقة قوله " ضرب : بمعنى وصف " ، أنه من ضرب البعير أو الدابة ليصرف وجهها إلى الوجه الذي يريد ، يسوقها إليه لتسلكه . فقولهم : ضرب له مثلا ، أي ساقه إليه ، وهو يشعر بمعنى الإبانة بالمثل المسوق . وهذا بين .
(2) ديوانه : 8 ، وفي المخطوطة : " وما مواعيده " ، وعرقوب - فيما يزعمون - : هو عرقوب ابن نصر ، رجل من العمالقة ، نزل المدينة قبل أن تنزلها يهود بعد عيسى ابن مريم عليه السلام . وكان يحتال في إخلاف المواعيد بالمماطلة ، كما هو معروف في قصته .
(1/403)
________________________________________
الله لا يخشى أن يصف شبهًا لما شبّه به (1) .
وأما " ما " التي مع " مثل " ، فإنها بمعنى " الذي " ، لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضةً في الصغر والقِلة فما فوقها - مثلا.
فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك ما قلت (2) ، فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمتَ أنّ تأويل الكلام على ما تأولت (3) : أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا الذي هو بعوضة ؛ فالبعوضةُ على قولك في محل الرفع ؟ فأنى أتاها النصب ؟
قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدُهما ، أن " ما " لما كانت في محل نصْب بقوله " يضرب " ، وكانت البعوضة لها صلة ، عُرِّبت بتعريبها (4) فألزمت إعرابها ، كما قال حسان بن ثابت :
وَكَفَى بِنَا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنَا... حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِيَّانَا (5)
فعُرِّبت " غيرُ " بإعراب " من " . والعرب تفعل ذلك خاصة في " من " و " ما " (6) ، تعرب صِلاتهما بإعرابهما ، لأنهما يكونان معرفة أحيانًا ، ونكرة أحيانًا.
__________
(1) هذا بقية تفسير الكلمة على مذهب من قال إن الاستحياء بمعنى الخشية ، لا ما أخذ به الطبري ، وتفسير الطبري صريح بين في آخر تفسير الآية .
(2) في المطبوعة : " كما قلت " .
(3) في المطبوعة : " على ما تأولت " ، وليست بجيدة .
(4) في المطبوعة " أعربت بتعريبها " . وقوله " عربت " : أي أجريت مجراها في الإعراب ، وهذا هو معنى " التعريب " في اصطلاح قدماء النحاة ، وستمر بك كثيرًا فاحفظها ، وهي أوجز مما اصطلح عليه المحدثون منهم .
(5) ليس في ديوانه ، ويأتي في الطبري 4 : 99 غير منسوب ، وفي الخزانة : 2 : 545 - 546 أنه لكعب بن مالك ، ونسب إلى حسان بن ثابت ولم يوجد في شعره . ونسب لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، ونسب أيضًا لعبد الله بن رواحة . وذكره السيوطي في شرح شواهد المغني : 116 ، 252 ، وأثبت بيتا قبله : نَصَرُوا نَبِيَّهُمُ بِنَصْرِ وَلِيِّهِ ... فالله ، عَزَّ ، بِنَصْرِهِ سَمَّانَا
قال : يعني أن الله عز وجل سماهم " الأنصار " ، لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه . والباء في " بنصر وليه " ، بمعنى " مع " .
(6) في المطبوعة : " فالعرب تفعل . . . " .
(1/404)
________________________________________
وأما الوجه الآخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحْيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر " بين " و " إلى " ، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في " ما " الثانية ، دلالة عليهما ، كما قالت العرب : " مُطِرنا ما زُبالة فالثَعْلَبِيَّة " و " له عشرون ما ناقة فجملا " ، و " هي أحسنُ الناس ما قرنًا فقدمًا " ، يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها (1) . وكذلك يقولون في كل ما حسُن فيه من الكلام دخول : " ما بين كذا إلى كذا " ، ينصبون الأول والثاني ، ليدلّ النصبُ فيهما على المحذوف من الكلام (2) . فكذلك ذلك في قوله : " ما بعوضة فما فوقها " (3) .
وقد زعم بعضُ أهل العربية أنّ " ما " التي مع المثَل صلةٌ في الكلام بمعنى التطوُّل (4) وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضربَ بعوضةً مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل ، يجب أن تكون " بعوضةً " منصوبةً بـ " يضرب " ، وأن تكون " ما " الثانية التي في " فما فوقها " معطوفة على البعوضة لا على " ما " .
وأما تأويل قوله " فما فوقها " : فما هو أعظم منها (5) - عندي - لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جُريج : أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذْ كانت أضعف خلق الله فهي نهايةٌ في القلة والضعف. وإذ كانت كذلك ، فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء ، لا يكون إلا أقوى منه. فقد يجب أن يكون المعنى
__________
(1) في المخطوطة : " يعنون بذلك من قرنها . . " .
(2) في المخطوطة : " ليدل النصب في الأسماء على المحذوف . . . " ، وهما سواء
(3) أكثر هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1 : 21 - 22 ، وذكر الوجهين السالفين جميعًا ، وكلامه أبسط من كلام الطبري وأبين .
(4) قد مضى قديمًا شرح معنى التطول (انظر : 18 ، 224 وما يأتي ص : 406 ، 154 من بولاق) ، وهو الزيادة في الكلام . وهذا الذي قال عنه : " زعم بعض أهل العربية " ، هو الفراء نفسه ، فقد ذكر هذا أول وجه من ثلاثة وجوه في الآية في معاني القرآن 1 : 21 ، وقال : " أولها : أن توقع الضرب على البعوضة ، وتجعل ما صلة ، كقوله : " عما قليل ليصبحن نادمين " ، يريد : عن قليل . المعنى - والله أعلم - : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا " .
والذي يسميه الطبري البغدادي المذهب في النحو " تطولا " ، يسميه الفراء الكوفي المذهب في النحو " صلة " ، وهي الزيادة في الكلام .
(5) في المخطوطة : " فهو ما قد عظم منها " ، وهو خطأ بلا معنى .
(1/405)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
- على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله " فما فوقها " ، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ ، فيقول السامع : " نعم ، وفوقَ ذاك " ، يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (1) ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا ، بما وصفنا ، أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة ، فغير جائز في " ما " ، إلا ما قلنا من أن تكون اسما ، لا صلة بمعنى التطول (2) .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فأما الذين آمنوا " ، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله : " فيعلمون أنه الحق من ربهم " . يعني : فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله ، لِما ضرَبه له ، مثَل.
564 - كما حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فأما الذين آمنوا
__________
(1) في المطبوعة : " فوق الذي وصف " . وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن 1 : 20 - 21 وأبان عنه ، وقال : " ولو جعلت في مثله من الكلام " فما فوقها " ، تريد أصغر منها ، لجاز ذلك . ولست أستحبه " ، يعني : أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله .
(2) قد شرحنا معنى " صلة " و " تطول " فيما مضى ص : 405 .
(1/406)
________________________________________
فيعلمون أنه الحق من ربهم " ، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم ، وأنه كلامُ الله ومن عنده (1) .
565 - وكما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " ، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن ، وأنه الحق من الله (2) .
" وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا " .
قال أبو جعفر : وقوله " وأما الذين كفرُوا " ، يعني الذين جحدوا آيات الله ، وأنكرُوا ما عرفوا ، وستروا ما علموا أنه حق ، وذلك صفةُ المنافقين ، وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي : -
566 - حدثنا به محمد عن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم " الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (3) .
وتأويل قوله : " ماذا أراد الله بهذا مثلا " ، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا. " فذا " ، الذي مع " ما " ، في معنى " الذي " ، وأراد صلته ، وهذا إشارةٌ إلى المثل (4) .
* * *
__________
(1) الأثر : 564 - هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، كما مر كثيرًا ، وكذلك جاء في الدر المنثور 1 : 43 .
(2) الأثر 565 - في ابن كثير 1 : 118 .
(3) الأثر 566 - قد مضى برقم : 559 .
(4) في المطبوعة : " فذا مع ما في معنى . . "
(1/407)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يضلّ به كثيرًا " ، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في " به " من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ ، ومعنى الكلام : أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر : -
567 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يضلّ به كثيرًا " يعني المنافقين ، " ويهدي به كثيرًا " ، يعني المؤمنين (1) .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم ، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له ، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و " يهدي به " ، يعني بالمثل ، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد ، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله ، فقال الله : " وما يضل به إلا الفاسقين " . وفيما في سورة المدثر - من قول الله : " وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء " - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك ، مبتدأٌ - أعني قوله : " يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا " .
* * *
__________
(1) الخبر : 567 - في ابن كثير 1 : 119 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وهو فيها تام متصل ، وتمامه الأثر الذي يليه : 568 . ولكن ابن كثير أخطأ ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه ، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود ، وهو خطأ محض . فقول الطبري بعد " فيزيد هؤلاء ضلالا . . " هو من تمام قوله قبل هذا " أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر " .
(1/408)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) }
وتأويل ذلك ما : -
568 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يُضلّ به إلا الفاسقين " ، هم المنافقون (1) .
569 - وحدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وما يُضِلّ به إلا الفاسقين " ، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (2) .
570 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وما يضل به إلا الفاسقين " ، هم أهل النفاق (3) .
قال أبو جعفر : وأصلُ الفسق في كلام العرب : الخروجُ عن الشيء. يقال منه : فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة ، لخروجها عن جُحرها (4) ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن ، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : ( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف : 50] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
571 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ،
__________
(1) الخبر 568 - تمام الأثر السالف ، وقد ذكرنا موضعه .
(2) الأثر : 569 - في ابن كثير 1 : 119 ، وفي الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وفيهما مكان " على فسقهم " ، " بفسقهم " .
(3) الأثر : 570 - في ابن كثير 1 : 119 .
(4) انظر الطبري 15 : 170 (بولاق) . وقوله : " يحكى عن العرب سماعًا : فسقت الرطبة من قشرها ، إذا خرجت . وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها " ، وسائر ما قال هناك .
(1/409)
________________________________________
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
عن داود بن الحُصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) [سورة البقرة : 59] ، أي بما بعُدوا عن أمري (1) . فمعنى قوله : " وما يُضلّ به إلا الفاسقين " ، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق ، إلا الخارجين عن طاعته ، والتاركين اتباعَ أمره ، من أهل الكفر به من أهل الكتاب ، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ }
قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم ، فقال : وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه : -
فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته ، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك ، تركُهم العمل به.
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله : " إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم " ، وبقوله : " ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر " . فكل ما في هذه الآيات ، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا : فعهدُ الله الذي
__________
(1) الخبر : 571 - لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة ، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف . ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره . وفي المخطوطة : " من أمري " .
(1/410)
________________________________________
نقضوه بعدَ ميثاقه ، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك ، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ (1) ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.
وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده : ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه : ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا : ونقضهم ذلك ، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب ، مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون : العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم ، الذي وصفه في قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [سورة الأعراف : 172 - 173]. ونقضُهم ذلك ، تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال : إن هذه الآيات نزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) في المطبوعة : " عن الناس " ، و " الناس " منصوب ، مفعول ثان ، للمصدر " كتمانهم " . والفعل " كتم " يتعدى إلى مفعول ومفعولين ، تقول : كتمت فلانًا سرى ، وكتمت عن فلان سرى ، وهما سواء .
(1/411)
________________________________________
وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : " إنّ الذين كفروا سواء عليهم " ، وقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " ، فيهم أنزِلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي ، وإن كانت فيهم نزلتْ ، فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال ، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً ، جميعُ المنافقين (1) ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود ، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة ، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم ، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم ، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم ، أعني : فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله ، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وتبيين نبوته للناس ، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به ، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) [سورة آل عمران : 187] ، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم ، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه ، وتركُهم العمل به.
وإنما قلت : إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها ، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة (2) - فيهم نزلتْ ، إلى تمام قصصهم.
__________
(1) سياق العبارة : " ومعنى جميع المنافقين ، بما وافق منها صفة المنافقين " وعبارة الطبري أعرب .
(2) في المطبوعة : " من ابتداء الآيات " ، وكأنه تغيير من المصححين .
(1/412)
________________________________________
وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله (1) .( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) [سورة البقرة : 40]. وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر (2) - ما يدل على أن قوله : " الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه " مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم ، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا : وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم ، في الكتب التي أنزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه ، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه ، وترك كتمان ذلك لهم (3) . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه ، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) . [سورة الأعراف : 169] .
__________
(1) في المطبوعة " عن خلق آدم وأبنائه في قوله " ، وهو خطأ محض . وقوله " وبيانه " ، مجرور معطوف على قوله : " وفي الآية التي بعد الخبر . . " أي ، " وفي بيانه في قوله : . . " .
(2) قوله : " وخطابه " مجرور معطوف على قوله : " وفي الآية . . " و " وبيانه . . " كما أسلفنا في التعليق قبله . وفي المطبوعة : " في ذلك خاصة " . ولست بشيء .
(3) هكذا في الأصول ، ولعل الأجود أن يقول : وترك كتمان ذلك عنهم .
(1/413)
________________________________________
وأما قوله : " من بعد ميثاقه " ، فإنه يعني : من بعد توَثُّق الله فيه (1) ، بأخذ عهوده بالوفاء له ، بما عهد إليهم في ذلك (2) . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان تَوَثُّقًا ، والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار ، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.
572 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه " ، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه ، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله (3) .
573 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون " ، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق ، إذا كانت لهم الظَّهَرَة ، (4) أظهرُوا هذه الخلال الست
__________
(1) في المطبوعة : " منه " مكان " فيه " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة " بما عهد إليه " ، وهو خطأ بين .
(3) الأثر : 572 - في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . وقوله " من ثمرة قلبه " ، أي خالص قلبه ، مأخوذ من ثمرة الشجرة ، لأنها خلاصتها وأطيب ما فيها . وفي حديث المبايعة : " فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه " ، أي خالص عهده وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، في المسند : 6501 ، 6503 ، 6793 . ويقال : خصني فلان بثمرة قلبه : أي خالص مودته .
(4) الظهرة (بثلاث فتحات) : الكثرة ، وأراد بها ظهور الأمر والغلبة . ولو أسكنت الهاء ، كان صوابًا ، من قولهم : ظهرت على فلان : إذا علوته وغلبته .
(1/114)
________________________________________
جميعًا : إذا حدّثوا كذبوا ، وإذا وَعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل ، وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ }
قال أبو جعفر : والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية : الرحم. وقد بين ذلك في كتابه ، فقال تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) [سورة محمد : 22]. وإنما عَنى بالرّحم ، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك : ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها ، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها : أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها ، والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.
" وأن " التي مع " يوصل " في محل خفض ، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في " به " : فكان معنى الكلام (2) : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في " به " ، هي كناية عن ذكر " أن يوصل " . وبما قلنا في تأويل قوله : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " ، وأنه الرّحم ، كان قتادة يقول :
__________
(1) الأثر : 573 - في ابن كثير 1 : 120 - 121 عن أبي العالية ، ثم قال : " وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا " . هذا ، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ، والشوكاني خبرًا خرجوه عن ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال : " الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، قال : إياكم ونقض هذا الميثاق . وكان يسميهم : الفاسقين " الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . أما ابن كثير فقد رواه في تفسيره 1 : 119 نقلا عن ابن أبي حاتم ؛ بإسناده ، ولم ينسبه إلى الطبري . وأخشى أن يكون وهمًا من السيوطي والشوكاني .
(2) في المطبوعة : " وكان معنى الكلام " بالواو .
(1/415)
________________________________________
574 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل " ، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة (1) .
وقد تأول بعضهم ذلك : أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية ، وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض (2) .
قال أبو جعفر : وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب ، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه ، فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك ، غير أنها - وإن كانت كذلك - فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله ، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ }
قال أبو جعفر : وفسادُهم في الأرض : هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم ، وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وجحدهم نبوته ، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.
* * *
__________
(1) الأثر : 574 - في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 مختصرًا ، ونصه هناك : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، قال : الرحم والقرابة " .
(2) في المخطوطة : " واستشهد على ذلك عموم ظاهر الآية ، ولا دلالة . . " .
(1/416)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }
قال أبو جعفر : والخاسرون جمع خاسر (1) ، والخاسرون : الناقصُون أنفسَهم حظوظَها - بمعصيتهم الله - من رحمته ، كما يخسرُ الرجل في تجارته ، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه (2) . فكذلك الكافر والمنافق ، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة ، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه : خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا ، كما قال جرير بن عطية :
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ... أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ (3)
يعني بقوله : " في الخسار " ، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل : إن معنى " أولئك هم الخاسرون " : أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية ، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته ، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه ، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها ، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما :
575 - حُدِّثت به عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل " خاسر " ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام ، فإنما يعني به الذنب.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " جمع الخاسر " ، وليست بشيء .
(2) وضع في البيع يوضع (مبني للمجهول) وضيعة : إذا خسر خسارة من رأس المال .
(3) ديوانه : 598 ، والنقائض : 4 ، واللسان (قنن) ، وروايته : " أبناء قوم " . وسليط : بطن من بني يربوع قوم جرير ، واسم سليط : كعب بن الحارث بن يربوع . وكان غسان ابن ذهيل السليطي هجا بني الخطفي ، فهجاه جرير بهذا الرجز . وأقنة جمع قن (بكسر القاف) ، والقن : العبد الذي ملك هو وأبواه . والأنثى ، قن أيضًا بغير هاء .
(1/417)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
- على ما قالاه - فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهايةً في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله " فما فوقها " ، في الصغر والقلة. كما يقال في الرجل يذكرُه الذاكرُ فيصفه باللؤم والشحّ ، فيقول السامع : " نعم ، وفوقَ ذاك " ، يعني فوقَ الذي وصف في الشحّ واللؤم (1) ، وهذا قولٌ خلافُ تأويل أهل العلم الذين تُرْتَضى معرفتهم بتأويل القرآن.
فقد تبين إذًا ، بما وصفنا ، أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبَهًا لما شبَّه به الذي هو ما بين بعوضةٍ إلى ما فوق البعوضة.
فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة ، فغير جائز في " ما " ، إلا ما قلنا من أن تكون اسما ، لا صلة بمعنى التطول (2) .
* * *
القول في تأويل قوله : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا }
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " فأما الذين آمنوا " ، فأما الذين صدّقوا الله ورسوله. وقوله : " فيعلمون أنه الحق من ربهم " . يعني : فيعرفون أن المثَل الذي ضرَبه الله ، لِما ضرَبه له ، مثَل.
564 - كما حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فأما الذين آمنوا
__________
(1) في المطبوعة : " فوق الذي وصف " . وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ، قد اقترحه الفراء في معاني القرآن 1 : 20 - 21 وأبان عنه ، وقال : " ولو جعلت في مثله من الكلام " فما فوقها " ، تريد أصغر منها ، لجاز ذلك . ولست أستحبه " ، يعني : أنه لا يستحبه في هذا الموضع من تفسير كتاب الله .
(2) قد شرحنا معنى " صلة " و " تطول " فيما مضى ص : 405 .
(1/406)
________________________________________
فيعلمون أنه الحق من ربهم " ، أنّ هذا المثلَ الحقُّ من ربهم ، وأنه كلامُ الله ومن عنده (1) .
565 - وكما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " ، أي يعلمون أنه كلامُ الرحمن ، وأنه الحق من الله (2) .
" وأما الذين كفروا فيقولونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا " .
قال أبو جعفر : وقوله " وأما الذين كفرُوا " ، يعني الذين جحدوا آيات الله ، وأنكرُوا ما عرفوا ، وستروا ما علموا أنه حق ، وذلك صفةُ المنافقين ، وإياهم عَنَى الله جلّ وعز - ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم - بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي : -
566 - حدثنا به محمد عن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " فأما الذين آمنوا فيعلمونَ أنه الحقّ من ربهم " الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحق من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويَضلّ بها الفاسقون. يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به (3) .
وتأويل قوله : " ماذا أراد الله بهذا مثلا " ، ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلا. " فذا " ، الذي مع " ما " ، في معنى " الذي " ، وأراد صلته ، وهذا إشارةٌ إلى المثل (4) .
* * *
__________
(1) الأثر : 564 - هو عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، كما مر كثيرًا ، وكذلك جاء في الدر المنثور 1 : 43 .
(2) الأثر 565 - في ابن كثير 1 : 118 .
(3) الأثر 566 - قد مضى برقم : 559 .
(4) في المطبوعة : " فذا مع ما في معنى . . "
(1/407)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعز : " يضلّ به كثيرًا " ، يضلّ الله به كثيرًا من خلقه. والهاء في " به " من ذكر المثل. وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدَأٌ ، ومعنى الكلام : أن الله يُضلّ بالمثل الذي يضربه كثيرًا من أهل النفاق والكفر : -
567 - كما حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي ، في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " يضلّ به كثيرًا " يعني المنافقين ، " ويهدي به كثيرًا " ، يعني المؤمنين (1) .
- فيزيد هؤلاء ضلالا إلى ضلالهم ، لتكذيبهم بما قد علموه حقًّا يقينًا من المثل الذي ضربه الله لما ضرَبه له ، وأنه لما ضرَبه له موافق. فذلك إضْلال الله إياهم به. و " يهدي به " ، يعني بالمثل ، كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هُداهم وإيمانًا إلى إيمانهم. لتصديقهم بما قد علموه حقًّا يقينًا أنه موافق ما ضرَبه الله له مثلا وإقرارُهم به. وذلك هدايةٌ من الله لهم به.
وقد زعم بعضهم أنّ ذلك خبرٌ عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد ، يضلّ به هذا ويهدي به هذا. ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله ، فقال الله : " وما يضل به إلا الفاسقين " . وفيما في سورة المدثر - من قول الله : " وليقولَ الذينَ في قلوبهمْ مَرَضٌ والكافرونَ ماذا أرَاد الله بهذا مثلا. كذلك يُضلّ اللهُ مَن يشاءُ ويهدي من يشاء " - ما ينبئ عن أنه في سورة البقرة كذلك ، مبتدأٌ - أعني قوله : " يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا " .
* * *
__________
(1) الخبر : 567 - في ابن كثير 1 : 119 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وهو فيها تام متصل ، وتمامه الأثر الذي يليه : 568 . ولكن ابن كثير أخطأ ، فوصل هذا الخير بكلام الطبري الذي يليه ، كأنه كله من تفسير ابن عباس وابن مسعود ، وهو خطأ محض . فقول الطبري بعد " فيزيد هؤلاء ضلالا . . " هو من تمام قوله قبل هذا " أن الله يضل بالمثل الذي يضربه كثيرا من أهل النفاق والكفر " .
(1/408)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ (26) }
وتأويل ذلك ما : -
568 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " وما يُضلّ به إلا الفاسقين " ، هم المنافقون (1) .
569 - وحدثنا بشر بن مُعاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " وما يُضِلّ به إلا الفاسقين " ، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم (2) .
570 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " وما يضل به إلا الفاسقين " ، هم أهل النفاق (3) .
قال أبو جعفر : وأصلُ الفسق في كلام العرب : الخروجُ عن الشيء. يقال منه : فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة ، لخروجها عن جُحرها (4) ، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن ، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : ( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف : 50] ، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره.
571 - كما حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ،
__________
(1) الخبر 568 - تمام الأثر السالف ، وقد ذكرنا موضعه .
(2) الأثر : 569 - في ابن كثير 1 : 119 ، وفي الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 ، وفيهما مكان " على فسقهم " ، " بفسقهم " .
(3) الأثر : 570 - في ابن كثير 1 : 119 .
(4) انظر الطبري 15 : 170 (بولاق) . وقوله : " يحكى عن العرب سماعًا : فسقت الرطبة من قشرها ، إذا خرجت . وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها " ، وسائر ما قال هناك .
(1/409)
________________________________________
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
عن داود بن الحُصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : ( بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) [سورة البقرة : 59] ، أي بما بعُدوا عن أمري (1) . فمعنى قوله : " وما يُضلّ به إلا الفاسقين " ، وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق ، إلا الخارجين عن طاعته ، والتاركين اتباعَ أمره ، من أهل الكفر به من أهل الكتاب ، وأهل الضّلال من أهل النفاق.
* * *
القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ }
قال أبو جعفر : وهذا وصف من الله جل ذكره الفاسقين الذين أخبر أنه لا يُضلّ بالمثَل الذي ضربه لأهل النفاق غيرَهم ، فقال : وما يُضِلّ الله بالمثل الذي يضربه - على ما وصف قبلُ في الآيات المتقدمة - إلا الفاسقين الذين ينقُضُون عهد الله من بعد ميثاقه.
ثم اختلف أهل المعرفة في معنى العهد الذي وصف الله هؤلاء الفاسقين بنقضه : -
فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته ، في كتبه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ونقضُهم ذلك ، تركُهم العمل به.
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وإياهم عَنى الله جل ذكره بقوله : " إنّ الذين كفرُوا سواءٌ عليهم أأنذرتهم " ، وبقوله : " ومن الناس مَنْ يَقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر " . فكل ما في هذه الآيات ، فعَذْل لهم وتوبيخ إلى انقضاء قَصَصهم. قالوا : فعهدُ الله الذي
__________
(1) الخبر : 571 - لم أجده في مكانه من تفسير آية البقرة ، ولا في أية آية ذكر فيها هذا الحرف . ولم يخرجه أحد ممن اعتمدنا ذكره . وفي المخطوطة : " من أمري " .
(1/410)
________________________________________
نقضوه بعدَ ميثاقه ، هو ما أخذه الله عليهم في التوراة - منَ العمل بما فيها ، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بُعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم. ونقضُهم ذلك ، هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته ، وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علمَ ذلك الناسَ (1) ، بعد إعطائهم اللهَ من أنفسهم الميثاق لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم نبذوه ورَاء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلا.
وقال بعضهم : إن الله عنى بهذه الآية جميعَ أهل الشرك والكفر والنفاق. وعهدُه إلى جميعهم في توحيده : ما وضعَ لهم من الأدلة الدالة على ربوبيته. وعهدُه إليهم في أمره ونهيه : ما احتجّ به لرسله من المعجزات التي لا يقدرُ أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثلها ، الشاهدةِ لهم على صدقهم. قالوا : ونقضهم ذلك ، تركهم الإقرارَ بما قد تبيَّنت لهم صحته بالأدلة ، وتكذيبُهم الرسلَ والكُتُب ، مع علمهم أن ما أتوا به حقّ.
وقال آخرون : العهدُ الذي ذكره الله جل ذكره ، هو العهدُ الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صُلب آدم ، الذي وصفه في قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [سورة الأعراف : 172 - 173]. ونقضُهم ذلك ، تركهم الوفاء به.
وأولى الأقوال عندي بالصواب في ذلك قولُ من قال : إن هذه الآيات نزلت في كفّار أحبار اليهود الذين كانوا بين ظَهْرَانَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) في المطبوعة : " عن الناس " ، و " الناس " منصوب ، مفعول ثان ، للمصدر " كتمانهم " . والفعل " كتم " يتعدى إلى مفعول ومفعولين ، تقول : كتمت فلانًا سرى ، وكتمت عن فلان سرى ، وهما سواء .
(1/411)
________________________________________
وما قرُب منها من بقايا بني إسرائيل ، ومن كان على شِركه من أهل النفاق الذين قد بينا قصَصهم فيما مضى من كتابنا هذا.
وقد دللنا على أن قول الله جل ثناؤه : " إنّ الذين كفروا سواء عليهم " ، وقوله : " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر " ، فيهم أنزِلت ، وفيمن كان على مثل الذي هم عليه من الشرك بالله. غيرَ أن هذه الآيات عندي ، وإن كانت فيهم نزلتْ ، فإنه معنيٌّ بها كل من كان على مثل ما كانوا عليه من الضّلال ، ومعنيٌّ بما وافق منها صفة المنافقين خاصّةً ، جميعُ المنافقين (1) ؛ وبما وافق منها صفة كفار أحبار اليهود ، جميعُ من كان لهم نظيرًا في كفرهم.
وذلك أن الله جلّ ثناؤه يعم أحيانًا جميعَهم بالصّفة ، لتقديمه ذكر جميعهم في أول الآيات التي ذكرتْ قَصَصهم ، ويخصّ أحيانا بالصفة بعضَهم ، لتفصيله في أول الآيات بين فريقيْهم ، أعني : فريقَ المنافقين من عبدة الأوثان وأهل الشرك بالله ، وفريقَ كفار أحبار اليهود. فالذين ينقضون عهدَ الله ، هم التاركون ما عهد الله إليهم من الإقرار بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وتبيين نبوته للناس ، الكاتمون بيان ذلك بعدَ علمهم به ، وبما قد أخذَ الله عليهم في ذلك ، كما قال الله جل ذكره : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) [سورة آل عمران : 187] ، ونبذُهم ذلك وراء ظهورهم ، هو نقضُهم العهدَ الذي عهد إليهم في التوراة الذي وصفناه ، وتركُهم العمل به.
وإنما قلت : إنه عنى بهذه الآيات من قلتُ إنه عنى بها ، لأن الآيات - من مبتدأ الآيات الخمس والست من سورة البقرة (2) - فيهم نزلتْ ، إلى تمام قصصهم.
__________
(1) سياق العبارة : " ومعنى جميع المنافقين ، بما وافق منها صفة المنافقين " وعبارة الطبري أعرب .
(2) في المطبوعة : " من ابتداء الآيات " ، وكأنه تغيير من المصححين .
(1/412)
________________________________________
وفي الآية التي بعد الخبر عن خلق آدم وبيانِهِ في قوله (1) .( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) [سورة البقرة : 40]. وخطابه إياهم جلّ ذكره بالوفاء في ذلك خاصّة دون سائر البشر (2) - ما يدل على أن قوله : " الذين ينقضُون عَهدَ الله من بعد ميثاقه " مقصودٌ به كفارهم ومنافقوهم ، ومن كان من أشياعهم من مشركي عبدة الأوثان على ضلالهم. غيرَ أنّ الخطاب - وإن كان لمن وصفتُ من الفريقين - فداخلٌ في أحكامهم ، وفيما أوجبَ الله لهم من الوعيد والذم والتوبيخ ، كلّ من كان على سبيلهم ومنهاجهم من جميع الخلق وأصناف الأمم المخاطبين بالأمر والنهي.
فمعنى الآية إذًا : وما يُضِلّ به إلا التاركين طاعةَ الله ، الخارجين عن اتباع أمره ونهيه ، الناكثين عهود الله التي عهدها إليهم ، في الكتب التي أنزلها إلى رُسله وعلى ألسن أنبيائه ، باتباع أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وطاعة الله فيما افترض عليهم في التوراة من تبيين أمره للناس ، وإخبارِهم إياهم أنهم يجدونه مكتوبًا عندهم أنه رسولٌ من عند الله مفترضةٌ طاعتُه ، وترك كتمان ذلك لهم (3) . ونكثُهم ذلك ونقضُهم إياه ، هو مخالفتهم الله في عهده إليهم - فيما وصفتُ أنه عهد إليهم - بعد إعطائهم ربهم الميثاقَ بالوفاء بذلك. كما وصفهم به ربنا تعالى ذكره بقوله : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ ) . [سورة الأعراف : 169] .
__________
(1) في المطبوعة " عن خلق آدم وأبنائه في قوله " ، وهو خطأ محض . وقوله " وبيانه " ، مجرور معطوف على قوله : " وفي الآية التي بعد الخبر . . " أي ، " وفي بيانه في قوله : . . " .
(2) قوله : " وخطابه " مجرور معطوف على قوله : " وفي الآية . . " و " وبيانه . . " كما أسلفنا في التعليق قبله . وفي المطبوعة : " في ذلك خاصة " . ولست بشيء .
(3) هكذا في الأصول ، ولعل الأجود أن يقول : وترك كتمان ذلك عنهم .
(1/413)
________________________________________
وأما قوله : " من بعد ميثاقه " ، فإنه يعني : من بعد توَثُّق الله فيه (1) ، بأخذ عهوده بالوفاء له ، بما عهد إليهم في ذلك (2) . غيرَ أن التوثق مصدر من قولك : توثقت من فلان تَوَثُّقًا ، والميثاقُ اسمٌ منه. والهاء في الميثاق عائدة على اسمِ الله.
وقد يدخل في حكم هذه الآية كلّ من كان بالصفة التي وصف الله بها هؤلاء الفاسقين من المنافقين والكفار ، في نقض العهد وقطع الرّحم والإفساد في الأرض.
572 - كما حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " الذين ينقضُون عهدَ الله من بعد ميثاقه " ، فإياكم ونقضَ هذا الميثاق ، فإن الله قد كره نقضَه وأوعدَ فيه ، وقدّم فيه في آي القرآن حُجة وموعظة ونصيحة ، وإنا لا نعلم الله جل ذكره أوعدَ في ذنب ما أوعد في نقض الميثاق. فمن أعطى عهدَ الله وميثاقه من ثمرَة قلبه فَلْيَفِ به لله (3) .
573 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمرَ الله به أن يُوصَل ويفسدون في الأرض أولئك همُ الخاسرون " ، فهي ستُّ خلال في أهل النفاق ، إذا كانت لهم الظَّهَرَة ، (4) أظهرُوا هذه الخلال الست
__________
(1) في المطبوعة : " منه " مكان " فيه " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة " بما عهد إليه " ، وهو خطأ بين .
(3) الأثر : 572 - في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . وقوله " من ثمرة قلبه " ، أي خالص قلبه ، مأخوذ من ثمرة الشجرة ، لأنها خلاصتها وأطيب ما فيها . وفي حديث المبايعة : " فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه " ، أي خالص عهده وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، في المسند : 6501 ، 6503 ، 6793 . ويقال : خصني فلان بثمرة قلبه : أي خالص مودته .
(4) الظهرة (بثلاث فتحات) : الكثرة ، وأراد بها ظهور الأمر والغلبة . ولو أسكنت الهاء ، كان صوابًا ، من قولهم : ظهرت على فلان : إذا علوته وغلبته .
(1/114)
________________________________________
جميعًا : إذا حدّثوا كذبوا ، وإذا وَعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، ونقضُوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمرَ اللهُ به أن يوصل ، وأفسدُوا في الأرض. وإذا كانت عليهم الظَّهَرَةُ ، أظهروا الخلالَ الثلاثَ إذا حدّثوا كذَبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ }
قال أبو جعفر : والذي رَغب اللهُ في وَصْله وذمّ على قطعه في هذه الآية : الرحم. وقد بين ذلك في كتابه ، فقال تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) [سورة محمد : 22]. وإنما عَنى بالرّحم ، أهل الرّحم الذين جمعتهم وإياه رَحِمُ والدة واحدة. وقطعُ ذلك : ظلمه في ترك أداء ما ألزم الله من حقوقها ، وأوجبَ من بِرِّها. وَوَصْلُها : أداءُ الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجبَ لها ، والتعطفُ عليها بما يحقُّ التعطف به عليها.
" وأن " التي مع " يوصل " في محل خفض ، بمعنى رَدِّها على موضع الهاء التي في " به " : فكان معنى الكلام (2) : ويقطعون الذي أمرَ الله بأن يُوصَل. والهاء التي في " به " ، هي كناية عن ذكر " أن يوصل " . وبما قلنا في تأويل قوله : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " ، وأنه الرّحم ، كان قتادة يقول :
__________
(1) الأثر : 573 - في ابن كثير 1 : 120 - 121 عن أبي العالية ، ثم قال : " وكذا قال الربيع بن أنس أيضًا " . هذا ، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ، والشوكاني خبرًا خرجوه عن ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال : " الحرورية هم الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، قال : إياكم ونقض هذا الميثاق . وكان يسميهم : الفاسقين " الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 45 . أما ابن كثير فقد رواه في تفسيره 1 : 119 نقلا عن ابن أبي حاتم ؛ بإسناده ، ولم ينسبه إلى الطبري . وأخشى أن يكون وهمًا من السيوطي والشوكاني .
(2) في المطبوعة : " وكان معنى الكلام " بالواو .
(1/415)
________________________________________
574 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : " ويقطعون ما أمر الله به أنْ يوصَل " ، فقطع والله ما أمر الله به أن يوصل بقطيعة الرحم والقرابة (1) .
وقد تأول بعضهم ذلك : أن الله ذمهم بقطعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به وأرحامَهم. واستشهد على ذلك بعموم ظاهر الآية ، وأن لا دلالة على أنه معنيٌّ بها بعضُ ما أمر الله وصله دون بعض (2) .
قال أبو جعفر : وهذا مذهبٌ من تأويل الآية غيرُ بعيد من الصواب ، ولكن الله جل ثناؤه قد ذكر المنافقين في غير آية من كتابه ، فوصفهم بقطع الأرحام. فهذه نظيرةُ تلك ، غير أنها - وإن كانت كذلك - فهي دَالَّةٌ على ذمّ الله كلّ قاطعٍ قطعَ ما أمر الله بوصله ، رَحمًا كانتْ أو غيرَها.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ }
قال أبو جعفر : وفسادُهم في الأرض : هو ما تقدم وَصَفْناه قبلُ من معصيتهم ربَّهم ، وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله ، وجحدهم نبوته ، وإنكارهم ما أتاهم به من عند الله أنه حقٌّ من عنده.
* * *
__________
(1) الأثر : 574 - في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 مختصرًا ، ونصه هناك : " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، قال : الرحم والقرابة " .
(2) في المخطوطة : " واستشهد على ذلك عموم ظاهر الآية ، ولا دلالة . . " .
(1/416)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) }
قال أبو جعفر : والخاسرون جمع خاسر (1) ، والخاسرون : الناقصُون أنفسَهم حظوظَها - بمعصيتهم الله - من رحمته ، كما يخسرُ الرجل في تجارته ، بأن يوضَع من رأس ماله في بيعه (2) . فكذلك الكافر والمنافق ، خسر بحرمان الله إياه رحمتَه التي خلقها لعباده في القيامة ، أحوج ما كان إلى رحمته. يقال منه : خَسِرَ الرجل يَخْسَرُ خَسْرًا وخُسْرَانا وخَسَارًا ، كما قال جرير بن عطية :
إِنَّ سَلِيطًا فِي الْخَسَارِ إِنَّهُ... أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ (3)
يعني بقوله : " في الخسار " ، أي فيما يوكسهم حظوظهم من الشرف والكرم. وقد قيل : إن معنى " أولئك هم الخاسرون " : أولئك هم الهالكون. وقد يجوز أن يكون قائل ذلك أراد ما قلنا من هلاك الذي وصف الله صفته بالصفة التي وصفه بها في هذه الآية ، بحرمان الله إياه ما حرَمه من رحمته ، بمعصيته إياه وكفره به. فحمل تأويلَ الكلام على معناه ، دون البيان عن تأويل عين الكلمة بعينها ، فإن أهل التأويل ربما فعلوا ذلك لعلل كثيرة تدعوهم إليه.
وقال بعضهم في ذلك بما :
575 - حُدِّثت به عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل " خاسر " ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى أهل الإسلام ، فإنما يعني به الذنب.
* * *
__________
(1) في المطبوعة : " جمع الخاسر " ، وليست بشيء .
(2) وضع في البيع يوضع (مبني للمجهول) وضيعة : إذا خسر خسارة من رأس المال .
(3) ديوانه : 598 ، والنقائض : 4 ، واللسان (قنن) ، وروايته : " أبناء قوم " . وسليط : بطن من بني يربوع قوم جرير ، واسم سليط : كعب بن الحارث بن يربوع . وكان غسان ابن ذهيل السليطي هجا بني الخطفي ، فهجاه جرير بهذا الرجز . وأقنة جمع قن (بكسر القاف) ، والقن : العبد الذي ملك هو وأبواه . والأنثى ، قن أيضًا بغير هاء .
(1/417)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
القول في تأويل قول الله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم بما :
576 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " ، يقول : لم تكونوا شيئًا فخلقكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم يومَ القيامة.
577 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [سورة غافر : 11] ، قال : هي كالتي في البقرة : " كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " .
578 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا عَبْثَر ، قال : حدثنا حُصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، قال : خلقتنا ولم نكن شيئًا ، ثم أمَتَّنَا ، ثم أَحْيَيْتَنَا.
579 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هُشيم ، عن حُصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، قال : كانوا أمواتًا فأحياهم الله ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم (1) .
__________
(1) الأثر : 579 - " حصين " . بضم الحاء المهملة : هو ابن عبد الرحمن السلمي . و " أبو مالك " : هو الغفاري الكوفي ، واسمه " غزوان " . سبقت ترجمته في : 168 .
(1/418)
________________________________________
580 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد في قوله : " كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " ، قال : لم تكونوا شيئًا حين خلقكم ، ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ ، ثم يحييكم. وقوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، مثلها.
581 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : حدثني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : هو قوله : " أمتَّنا اثنين وأحييتنا اثنين " .
582 - حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، في قول الله : " كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " ، يقول : حين لم يكونوا شيئًا ، ثم أحياهم حين خلقهم ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.
583 - حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، قال : كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم ، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور ، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة ، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان ، فهو قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون " .
وقال آخرون بما :
584 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السُّدّيّ ، عن أبي صالح : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ، ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون " ، قال : يحييكم في القبر ، ثم يميتكم.
وقال آخرون بما :
585 - حدثنا به بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ،
(1/419)
________________________________________
عن قتادة ، قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية. قال : كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (1) ، فأحياهم الله وخلقهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان (2) .
وقال بعضهم بما :
586 - حدثني به يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " . قال : خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ، حتى بلغ : ( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [سورة الأعراف : 172 - 173]. قال : فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال : وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (3) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا ) [سورة النساء : 1] ، قال : وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (4) ، وقرأ : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) [سورة الزمر : 6] ، قال : خلقا بعد ذلك. قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) ،
__________
(1) في المخطوطة : " في أصلبة " ، والصواب " صلبة " (بكسر الصاد وفتح اللام) أو " أصلب " (بسكون الصاد وضم اللام) . وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب .
(2) الآثار : 575 - 585 : بعضها في ابن كثير 1 : 122 مجملة ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 ، وكرهنا الإطالة بتفصيلها .
(3) القصيري ، بالتصغير : هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع ، وهي أقصرهن .
(4) في المطبوعة : " وبث فيهما بعد ذلك . . " ، وهو خطأ .
(1/420)
________________________________________
وقرأ قول الله : ( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) [سورة الأحزاب : 7]. قال : يومئذ. قال : وقرأ قول الله : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (1) [سورة المائدة : 7].
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه ، وجه ومذهبٌ من التأويل.
* * *
فأما وجه تأويل من تأول قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " ، أي لم تكونوا شيئًا ، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر : هذا شيء ميِّتٌ ، وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت : خُمول ذكره ، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه : هذا أمر حيّ ، وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس ، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ :
فَأَحْيَيْتَ لِي ذكْري ، وَمَا كُنْتُ خَامِلا... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (2)
يريد بقوله : " فأحييتَ لي ذكري " ، أي : رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا ، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله : " وكنتم أمواتًا " لم تكونوا شيئًا ، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم ، وذلك كان موتكم فأحياكم ، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم ، كالذي كنتم قبل أن يحييكم ، من دروس ذكركم ، وتعفِّي آثاركم ، وخمول أموركم ، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ، ونفخ الروح فيها ،
__________
(1) الأثر : 586 - في ابن كثير 1 : 122 ، والشوكاني 1 : 47 ، مختصرًا جدًا .
(2) الأغاني 18 : 140 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 193 ، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته ، كما قال أبو الفرج ، ويقال اسمه : يعمر بن حزن بن زائدة ، من بني سعد بن زيد مناة ، وكان الأغلب عليه الرجز ، وله قصيد قليل ، وكان عاقًّا بأبيه ، فنفاه أبوه عن نفسه . والبيت من أبيات ، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك .
(1/421)
________________________________________
وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة ، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (1) .
* * *
وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك : أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد ، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله " وكنتم أمواتًا " ، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد ، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم ، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (2) . وقوله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " ، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه ، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة ، ومن الضلالة إلى الإنابة ، ولا إنابة في القبور بعد الممات ، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
* * *
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك : أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها ، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره ، نفخُه الأرواح فيها ، وإماتتُه إياهم بعد ذلك ، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك ، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور ، ويبْعثُ الخلق للموعود.
* * *
وأما ابن زيد ، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك ، وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم ، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم ، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم ، وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (3) ، والمصير في البرزخ إلى اليوم
__________
(1) في المطبوعة : " لتعارفوا " ، وهي قريبة في المعنى .
(2) الاستعتاب : الاستقالة من الذنب ، والرجوع إلى ما يجلب الرضا ، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه ، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه . واستعتبه : طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى . والاسترجاع : طلب الرجوع . واسترجعه : رده الله إلى الطاعة .
(3) في المخطوطة : " للعودة إلى التراب " ، وهي قريب .
(1/422)
________________________________________
البعث ، وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه - أنهم قالوا : " ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات ، وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته ، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف - فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين - أعني قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية ، وقوله : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث ، فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.
* * *
وقال بعضُهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة ، فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه ، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور ، فيردّ في جسده روحه (1) ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول ، لأنهم قالوا : موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ
__________
(1) في المخطوطة : " فيرد في جسمه " ، وهي قريب .
(1/423)
________________________________________
ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح ، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه ، والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (1) ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ ، كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا : فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح ، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً ، نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل ، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
* * *
وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بيَّنَّا - بتأويل قول الله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس : من أن معنى قوله : " وكنتم أمواتًا " أمواتَ الذكر ، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا ، لا تُعرفون ولا تُذكرون : فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم ، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة ، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك ، كما قال : " ثم إليه تُرجعون " ، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم ، ثم يحشرهم لموقف الحساب ، كما قال جل ذكره : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) [سورة المعارج : 43] وقال : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) [سورة يس : 51]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ، ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به ، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين : " آمنَّا بالله وباليوم الآخر " ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم ، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين ، فعذَلهم الله بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " ، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم ، [لبعث القيامة ، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن
__________
(1) في المطبوعة : " وأبينت " ، وهذه أجود .
(1/424)
________________________________________
بالإحسان ، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم ، فأنشأكم خلقًا سويًّا ، وجعلكم أحياءً ، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته ، غير مُعجزِه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم - إحياؤكم بعد إماتتكم] (1) وإعادتكم بعد إفنائكم ، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.
ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرْهم لا يؤمنون " - (2) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم ، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها ، بما ركبوا من الآثام ، واجترموا من الأجْرام ، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم ، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم ، ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم ، ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه ، وتعجيل التوبة ، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (3) .
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه ، وما سلف منه من كرامته إليه ، وآلائه لديه ، وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل ، وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل ، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة ، منبهًا لهم على حكمه
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة .
(2) قوله " نعمه " مفعول قوله " ثم عدد ربنا . . " ، وما بينهما فصل .
(3) في المطبوعة " يحذرهم بذلك . . . ويخوفهم . . . أحل بأوائلهم ، ويعرفهم " ، وانظر ما سيأتي في ص : 154 بولاق . وفي المخطوطة والمطبوعة : " من الخلاص . . " بغير واو ، هو لا يستقيم ، فلذلك زدناها . وقوله : " حلول مثلاته " جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال .
(1/425)
________________________________________
في المنيبين إليه بالتوبة ، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة ، إعذارًا من الله بذلك إليهم ، وإنذارًا لهم ، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها ، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم - دون غيرهم من سائر أصناف الأمم ، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (1) ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك ، أنه لله رسولٌ مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده ، إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص ، من مكنون علومهم ، ومصون ما في كتبهم ، وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.
* * *
وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا ، ولا لأسفارهم تاليًا ، ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا ، فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم ، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه ، مع كفرهم به ، وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته - : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة : 29]. فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا ، لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين ، فدليلٌ على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.
فلذلك قال جل ذكره : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا " .
__________
(1) سياق هذه العبارة : " وخاصًّا أهل الكتاب . . بالاحتجاج عليهم . . لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " . وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها ، فصل متتابع ، كعادة الطبري في كتابته .
(1/426)
________________________________________
وقوله : " هو " مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله : " كيف تكفرون بالله " . ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه ، إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و " ما " بمعنى " الذي " .
فمعنى الكلام إذًا : كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً ، ثم يميتكم ، ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ ، لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويْحَكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) [سورة التكوير : 26]. وحل قوله : " وكنتم أمواتًا فأحياكم " محلّ الحال. وفيه ضميرُ " قد " (1) ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن " فعل " إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية " قد " ، كما قال ثناؤه : ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) [سورة النساء : 90] ، بمعنى : قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل : أصبحتَ كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك.
وبنحو الذي قلنا في قوله : " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا " ، كان قتادة يقول :
587 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا " ، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة " وفيه إضمار قد " ، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون ، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 23 - 25 .
(2) الأثر : 587 - في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 ، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري ، وهي : " . . ما في الأرض جميعًا ، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا ، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل " .
هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد ، هذا هو : " في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ، قال : سخّر لكم ما في الأرض جميعًا " . وإسناد هذا الأثر ، هو الذي يأتي برقم : 591 ، لأنه من تمامه ، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني . ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب ، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص ، ومثل هذه الزيادة
(1/427)
________________________________________
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ }
قال أبو جعفر : اختلفوا في تأويل قوله : " ثم استوى إلى السَّماء " .
فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :
أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى... سَوَامِدَ ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ (1)
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى : أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : " واستوين من الضجوع " ، استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه.
وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد :
__________
(1) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم : 795 ، 857) ، وروايته " ثواني " مكان " سوامد " . وشرورى : جبل بين بني أسد وبني عامر ، في طريق مكة إلى الكوفة . والضجوع - بفتح الضاد المعجمة - : موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم . وقوله : " سوامد " جمع سامد . سمدت الإبل في سيرها : جدت وسارت سيرًا دائمًا ، ولم تعرف الإعياء . وسوامد : دوائب لا يلحقهن كلال . والنون في " قطعن " للإبل .
(1/428)
________________________________________
تحوّل فِعله. [وقال بعضهم : قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني به : استوت] (1) . كما قال الشاعر :
أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ... عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ (2)
وقال بعضهم : " ثم استوى إلى السماء " ، عمدَ لها (3) . وقال : بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر ، فهو مستو لما عمد له ، ومستوٍ إليه.
وقال بعضهم : الاستواء هو العلو ، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.
588 - حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " ثم استوى إلى السماء " . يقول : ارتفع إلى السماء (4) .
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع ، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها ، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم : بل العالي عليها : الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (5) .
قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته ، فيقال ، إذا صار كذلك : قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم :
طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ... وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه (6)
__________
(1) هذه الجملة بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، وكأنها مقحمة .
(2) لم أجد هذا البيت . وفي المطبوعة : " قبل الرأس مصعب " ، وهو خطأ لا شك فيه . وفي المخطوطة : " في ثراته " ، ولا معنى لها ، ولعلها " في تراثه " . وأنا في شك من كل ذلك . بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر ، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير .
(3) في المطبوعة : " عمد إليها " .
(4) الأثر : 588 - في الدر المنثور 1 : 43 ، والأثر التالي : 589 ، من تمامه .
(5) في المطبوعة : " العالى إليها " .
(6) ديوانه : 110 ، واللسان (سوى) قال : " وهذا البيت مختلف الوزن ، فالمصراع الأول من المنسرح ، والثاني من الخفيف " . والرسم : آثار الديار اللاصقة بالأرض . ومهدد اسم امرأة . والأبد : الدهر الطويل ، والهاء في " أبده " راجع إلى الرسم . وعفا : درس وذهب أثره . والبلد : الأثر يقول : انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر .
(1/429)
________________________________________
يعني : استقام به. ومنها : الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (1) ، كقولهم : استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها : العلوّ والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه : " ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن " ، علا عليهن وارتفع ، فدبرهنّ بقدرته ، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : " ثم استوى إلى السماء " ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له : زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبلَ ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقُلْ : علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان ، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه ، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل (2) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟
قيل : بعده ، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات ، كما قال جل ثناؤه :
__________
(1) في المخطوطة : " الاستيلاء والاحتواء " .
(2) في المطبوعة : " وإن قال . . . " .
(1/430)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
القول في تأويل قول الله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك :
فقال بعضهم بما :
576 - حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " كيفَ تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " ، يقول : لم تكونوا شيئًا فخلقكم ، ثم يميتكم ، ثم يحييكم يومَ القيامة.
577 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : ( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [سورة غافر : 11] ، قال : هي كالتي في البقرة : " كنتمْ أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " .
578 - حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا عَبْثَر ، قال : حدثنا حُصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، قال : خلقتنا ولم نكن شيئًا ، ثم أمَتَّنَا ، ثم أَحْيَيْتَنَا.
579 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هُشيم ، عن حُصين ، عن أبي مالك ، في قوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، قال : كانوا أمواتًا فأحياهم الله ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم (1) .
__________
(1) الأثر : 579 - " حصين " . بضم الحاء المهملة : هو ابن عبد الرحمن السلمي . و " أبو مالك " : هو الغفاري الكوفي ، واسمه " غزوان " . سبقت ترجمته في : 168 .
(1/418)
________________________________________
580 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد في قوله : " كيف تكفُرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " ، قال : لم تكونوا شيئًا حين خلقكم ، ثم يميتكم الموْتةَ الحقّ ، ثم يحييكم. وقوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، مثلها.
581 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : حدثني عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : هو قوله : " أمتَّنا اثنين وأحييتنا اثنين " .
582 - حُدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، في قول الله : " كيفَ تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " ، يقول : حين لم يكونوا شيئًا ، ثم أحياهم حين خلقهم ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم رَجعوا إليه بعد الحياة.
583 - حُدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : " أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، قال : كنتم تُرابًا قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم ، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور ، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة ، فهذه إحياءة. فهما ميتتان وحياتان ، فهو قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون " .
وقال آخرون بما :
584 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن السُّدّيّ ، عن أبي صالح : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ، ثم يميتكم ثم يحييكم ، ثم إليه ترجعون " ، قال : يحييكم في القبر ، ثم يميتكم.
وقال آخرون بما :
585 - حدثنا به بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زُريع ، عن سعيد ،
(1/419)
________________________________________
عن قتادة ، قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية. قال : كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم (1) ، فأحياهم الله وخلقهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، فهما حياتان وموتتان (2) .
وقال بعضهم بما :
586 - حدثني به يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله تعالى : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " . قال : خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق ، وقرأ : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ، حتى بلغ : ( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) [سورة الأعراف : 172 - 173]. قال : فكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق. قال : وانتزع ضلعًا من أضلاع آدم القُصَيرى (3) فخلق منه حواء - ذكرَه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وذلك قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا ) [سورة النساء : 1] ، قال : وبثّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقًا كثيرًا (4) ، وقرأ : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ ) [سورة الزمر : 6] ، قال : خلقا بعد ذلك. قال : فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، فذلك قول الله : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ) ،
__________
(1) في المخطوطة : " في أصلبة " ، والصواب " صلبة " (بكسر الصاد وفتح اللام) أو " أصلب " (بسكون الصاد وضم اللام) . وكلها جمع صلب (بضم فسكون) : وهو عظم الظهر من لدن الكاهل إلى عجب الذنب .
(2) الآثار : 575 - 585 : بعضها في ابن كثير 1 : 122 مجملة ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 46 ، وكرهنا الإطالة بتفصيلها .
(3) القصيري ، بالتصغير : هي الضلع التي تلي الشاكلة أسفل الأضلاع ، وهي أقصرهن .
(4) في المطبوعة : " وبث فيهما بعد ذلك . . " ، وهو خطأ .
(1/420)
________________________________________
وقرأ قول الله : ( وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ) [سورة الأحزاب : 7]. قال : يومئذ. قال : وقرأ قول الله : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) (1) [سورة المائدة : 7].
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن روَيناها عنه ، وجه ومذهبٌ من التأويل.
* * *
فأما وجه تأويل من تأول قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " ، أي لم تكونوا شيئًا ، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر : هذا شيء ميِّتٌ ، وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت : خُمول ذكره ، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه : هذا أمر حيّ ، وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في الناس ، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ :
فَأَحْيَيْتَ لِي ذكْري ، وَمَا كُنْتُ خَامِلا... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (2)
يريد بقوله : " فأحييتَ لي ذكري " ، أي : رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا ، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله : " وكنتم أمواتًا " لم تكونوا شيئًا ، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم ، وذلك كان موتكم فأحياكم ، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون ، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم ، كالذي كنتم قبل أن يحييكم ، من دروس ذكركم ، وتعفِّي آثاركم ، وخمول أموركم ، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها ، ونفخ الروح فيها ،
__________
(1) الأثر : 586 - في ابن كثير 1 : 122 ، والشوكاني 1 : 47 ، مختصرًا جدًا .
(2) الأغاني 18 : 140 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 193 ، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته ، كما قال أبو الفرج ، ويقال اسمه : يعمر بن حزن بن زائدة ، من بني سعد بن زيد مناة ، وكان الأغلب عليه الرجز ، وله قصيد قليل ، وكان عاقًّا بأبيه ، فنفاه أبوه عن نفسه . والبيت من أبيات ، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك .
(1/421)
________________________________________
وتصييركم بشرًا كالذي كنتم قبل الإماتة ، تتعارفون في بعثكم وعند حشركم (1) .
* * *
وأما وجه تأويل من تأوّل ذلك : أنه الإماتة التي هي خروج الرّوح من الجسد ، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله " وكنتم أمواتًا " ، إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم. وذلك معنى بعيد ، لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم ، لا استعتابٌ واسترجاعٌ (2) . وقوله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " ، توبيخ مُستعتِبٍ عبادَه ، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة ، ومن الضلالة إلى الإنابة ، ولا إنابة في القبور بعد الممات ، ولا توبة فيها بعد الوفاة.
* * *
وأما وجه تأويل قول قتادة ذلك : أنهم كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم. فإنه عنى بذلك أنهم كانوا نطفًا لا أرواح فيها ، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها. وإحياؤه إياها تعالى ذكره ، نفخُه الأرواح فيها ، وإماتتُه إياهم بعد ذلك ، قبضُه أرواحهم. وإحياؤه إياهم بعد ذلك ، نفخُ الأرواح في أجسامهم يوم يُنفخ في الصّور ، ويبْعثُ الخلق للموعود.
* * *
وأما ابن زيد ، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك ، وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم ، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم ، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم ، وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب (3) ، والمصير في البرزخ إلى اليوم
__________
(1) في المطبوعة : " لتعارفوا " ، وهي قريبة في المعنى .
(2) الاستعتاب : الاستقالة من الذنب ، والرجوع إلى ما يجلب الرضا ، أي أن يستقيلوا وبهم ويستغفروه ، ويرجعوا عن إساءتهم ويطلبوا رضاه . واستعتبه : طلب إليه الرجوع إلى ما يرضى . والاسترجاع : طلب الرجوع . واسترجعه : رده الله إلى الطاعة .
(3) في المخطوطة : " للعودة إلى التراب " ، وهي قريب .
(1/422)
________________________________________
البعث ، وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.
وهذا تأويل إذا تدبره المتدبر وجده خلافًا لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه - عن الذين أخبر عنهم من خلقه - أنهم قالوا : " ربنا أمتَّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " ، وزعم ابن زيد في تفسيره أنّ الله أحياهم ثلاث إحياءات ، وأماتهم ثلاث إماتات. والأمر عندنا - وإن كان فيما وَصَف من استخراج الله جل ذكره من صُلب آدم ذرّيته ، وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف - فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين - أعني قوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا " الآية ، وقوله : " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - في شيء. لأن أحدًا لم يدع أن الله أمات من ذَرَأ يومئذ غيرَ الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث ، فيكون جائزًا أن يوجّه تأويل الآية إلى ما وجهه إليه ابن زيد.
* * *
وقال بعضُهم : الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة ، فهي ميّتة من لَدُنْ فراقها جسدَه إلى نفخ الروح فيها. ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها فيجعلها بشرًا سويًّا بعد تاراتٍ تأتي عليها. ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه ، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصُّور ، فيردّ في جسده روحه (1) ، فيعود حيًّا سويًّا لبعث القيامة. فذلك موتتان وحياتان. وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول ، لأنهم قالوا : موتُ ذي الرّوح مفارقة الرّوح إياه. فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حيّ
__________
(1) في المخطوطة : " فيرد في جسمه " ، وهي قريب .
(1/423)
________________________________________
ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح. فكل ما فارق جسده الحي ذا الرّوح ، فارقتْه الحياةُ فصار ميتًا. كالعضو من أعضائه - مثل اليد من يديه ، والرِّجل من رجليه - لو قطعت فأبِينتْ (1) ، والمقطوع ذلك منه حيٌّ ، كان الذي بان من جسده ميتًا لا رُوح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح. قالوا : فكذلك نطفته حية بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح ، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتةً ، نظيرَ ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه. وهذا قولٌ ووجه من التأويل ، لو كان به قائلٌ من أهل القدوة الذين يُرْتضى للقرآن تأويلهم.
* * *
وأولى ما ذكرنا - من الأقوال التي بيَّنَّا - بتأويل قول الله جل ذكره : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " الآية ، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس : من أن معنى قوله : " وكنتم أمواتًا " أمواتَ الذكر ، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا ، لا تُعرفون ولا تُذكرون : فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم ، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون ، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة ، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك ، كما قال : " ثم إليه تُرجعون " ، لأن الله جل ثناؤه يحييهم في قبورهم قبلَ حشرهم ، ثم يحشرهم لموقف الحساب ، كما قال جل ذكره : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) [سورة المعارج : 43] وقال : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ) [سورة يس : 51]. والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل ، ما قد قدّمنا ذكره للقائلين به ، وفساد ما خالفه بما قد أوضحناه قبل.
وهذه الآية توبيخٌ من الله جل ثناؤه للقائلين : " آمنَّا بالله وباليوم الآخر " ، الذين أخبر الله عنهم أنهم مع قيلهم ذلك بأفواههم ، غيرُ مؤمنين به. وأنهم إنما يقولون ذلك خداعًا لله وللمؤمنين ، فعذَلهم الله بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " ، ووبَّخهم واحتجّ عليهم - في نكيرهم ما أنكروا من ذلك وجحودهم ما جحدوا بقلوبهم المريضة - فقال : كيف تكفرون بالله فتجحدون قدرته على إحيائكم بعد إماتتكم ، [لبعث القيامة ، ومجازاة المسيء منكم بالإساءة والمحسن
__________
(1) في المطبوعة : " وأبينت " ، وهذه أجود .
(1/424)
________________________________________
بالإحسان ، وقد كنتم نطفًا أمواتًا في أصلاب آبائكم ، فأنشأكم خلقًا سويًّا ، وجعلكم أحياءً ، ثم أماتكم بعد إنشائكم. فقد علمتم أن مَنْ فعل ذلك بقدرته ، غير مُعجزِه - بالقدرة التي فعل ذلك بكم - إحياؤكم بعد إماتتكم] (1) وإعادتكم بعد إفنائكم ، وحشركم إليه لمجازاتكم بأعمالكم.
ثم عدّد ربنا تعالى ذكره عليهم وعلى أوليائهم من أحبار اليهود - الذين جمع بين قصَصهم وقصَص المنافقين في كثير من آي هذه السورة التي افتتح الخبرَ عنهم فيها بقوله : " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرْهم لا يؤمنون " - (2) نِعَمَه التي سلفت منه إليهم وإلى آبائهم ، التي عَظُمتْ منهم مواقعها. ثم سلب كثيرًا منهم كثيرًا منها ، بما ركبوا من الآثام ، واجترموا من الأجْرام ، وخالفوا من الطاعة إلى المعصية ، محذّرَهم بذلك تعجيلَ العقوبة لهم ، كالتي عجلها للأسلاف والأفْراط قبلهم ، ومُخوّفَهم حُلول مَثُلاتِه بساحتهم كالذي أحلّ بأوّليهم ، ومُعرّفَهم ما لهم من النجاة في سرعة الأوْبة إليه ، وتعجيل التوبة ، من الخلاص لهم يوم القيامة من العقاب (3) .
فبدأ بعد تعديده عليهم ما عدّد من نعمه التي هم فيها مُقيمون ، بذكر أبينا وأبيهم آدم أبي البشر صلوات الله عليه ، وما سلف منه من كرامته إليه ، وآلائه لديه ، وما أحلّ به وبعدوّه إبليس من عاجل عقوبته بمعصيتهما التي كانت منهما ، ومخالفتهما أمره الذي أمرهما به. وما كان من تغمُّده آدمَ برَحمته إذْ تاب وأناب إليه. وما كان من إحلاله بإبليس من لعنته في العاجل ، وإعداده له ما أعدّ له من العذاب المقيم في الآجل ، إذ استكبر وأبى التوبة إليه والإنابة ، منبهًا لهم على حكمه
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة .
(2) قوله " نعمه " مفعول قوله " ثم عدد ربنا . . " ، وما بينهما فصل .
(3) في المطبوعة " يحذرهم بذلك . . . ويخوفهم . . . أحل بأوائلهم ، ويعرفهم " ، وانظر ما سيأتي في ص : 154 بولاق . وفي المخطوطة والمطبوعة : " من الخلاص . . " بغير واو ، هو لا يستقيم ، فلذلك زدناها . وقوله : " حلول مثلاته " جمع مثلة (بفتح الميم وضم الثاء) : وهي العقوبة والعذاب والنكال .
(1/425)
________________________________________
في المنيبين إليه بالتوبة ، وقضائه في المستكبرين عن الإنابة ، إعذارًا من الله بذلك إليهم ، وإنذارًا لهم ، ليتدبروا آياته وليتذكر منهم أولو الألباب. وخاصًّا أهلَ الكتاب - بما ذَكر من قصص آدم وسائر القصص التي ذكرها معها وبعدها ، مما علمه أهل الكتاب وجهلته الأمة الأميَّة من مشركي عبَدة الأوثان - بالاحتجاج عليهم - دون غيرهم من سائر أصناف الأمم ، الذين لا علم عندهم بذلك - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (1) ، ليعلموا بإخباره إياهم بذلك ، أنه لله رسولٌ مبعوث ، وأن ما جاءهم به فمن عنده ، إذْ كان ما اقتص عليهم من هذه القصص ، من مكنون علومهم ، ومصون ما في كتبهم ، وخفيّ أمورهم التي لم يكن يدّعي معرفة علمها غيرُهم وغيرُ من أخذ عنهم وقرأ كتبهم.
* * *
وكان معلومًا من محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن قط كاتبًا ، ولا لأسفارهم تاليًا ، ولا لأحد منهم مصاحبًا ولا مجالسًا ، فيمكنهم أن يدّعوا أنه أخذ ذلك من كتبهم أو عن بعضهم ، فقال جل ذكره - في تعديده عليهم ما هم فيه مقيمون من نعمه ، مع كفرهم به ، وتركهم شكرَه عليها بما يجب له عليهم من طاعته - : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [سورة البقرة : 29]. فأخبرهم جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا ، لأنّ الأرضّ وجميعَ ما فيها لبني آدم منافعُ. أما في الدين ، فدليلٌ على وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاشٌ وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه.
فلذلك قال جل ذكره : " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا " .
__________
(1) سياق هذه العبارة : " وخاصًّا أهل الكتاب . . بالاحتجاج عليهم . . لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " . وما بين هذه الأحرف المتعلقة بمراجعها ، فصل متتابع ، كعادة الطبري في كتابته .
(1/426)
________________________________________
وقوله : " هو " مكنيّ من اسم الله جل ذكره عائد على اسمه في قوله : " كيف تكفرون بالله " . ومعنى خلقه ما خلق جلّ ثناؤه ، إنشاؤه عينه ، وإخراجه من حال العدم إلى الوجود. و " ما " بمعنى " الذي " .
فمعنى الكلام إذًا : كيف تكفرون بالله وكنتم نُطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم بشرًا أحياءً ، ثم يميتكم ، ثم هو مُحييكم بعد ذلك وباعثكم يوم الحشر للثواب والعقاب ، وهو المنعمُ عليكم بما خلق لكم في الأرض من معايشكم وأدلتكم على وحدانية ربكم.
و " كيف " بمعنى التعجب والتوبيخ ، لا بمعنى الاستفهام ، كأنه قال : ويْحَكم كيف تكفرون بالله ، كما قال : ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) [سورة التكوير : 26]. وحل قوله : " وكنتم أمواتًا فأحياكم " محلّ الحال. وفيه ضميرُ " قد " (1) ، ولكنها حذفت لما في الكلام من الدليل عليها. وذلك أن " فعل " إذا حلت محلّ الحال كان معلومًا أنها مقتضية " قد " ، كما قال ثناؤه : ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) [سورة النساء : 90] ، بمعنى : قد حَصِرَت صدورهم. وكما تقول للرجل : أصبحتَ كثرت ماشيتك ، تريد : قد كثرت ماشيتك.
وبنحو الذي قلنا في قوله : " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا " ، كان قتادة يقول :
587 - حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا " ، نَعَمْ والله سخر لكم ما في الأرض (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة " وفيه إضمار قد " ، ولم يرد بالضمير ما اصطلح عليه النحويون ، وإنما أراد المضمر الذي أخفى وستر . وانظر معاني القرآن للفراء 1 : 23 - 25 .
(2) الأثر : 587 - في الدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 ، وفيهما زيادة على الذي في أصول الطبري ، وهي : " . . ما في الأرض جميعًا ، كرامةً من الله ونعمةً لابن آدم متاعًا ، وبُلْغةً ومنفعة إلى أجل " .
هذا وقد زادا معًا أثرًا آخر قالا أخرجه ابن جرير عن مجاهد ، هذا هو : " في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ، قال : سخّر لكم ما في الأرض جميعًا " . وإسناد هذا الأثر ، هو الذي يأتي برقم : 591 ، لأنه من تمامه ، كما هو بين فيما نقله السيوطي والشوكاني . ويوشك أن يكون في نسخ الطبري التي بين أيدينا حذف ألجأ النساخ إليه طول الكتاب ، فقد مضى آنفًا مثل هذا النقص ، ومثل هذه الزيادة
(1/427)
________________________________________
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ }
قال أبو جعفر : اختلفوا في تأويل قوله : " ثم استوى إلى السَّماء " .
فقال بعضهم : معنى استوى إلى السماء ، أقبل عليها ، كما تقول : كان فلان مقبلا على فلان ، ثم استوَى عليّ يشاتمني - واستوَى إليّ يشاتمني. بمعنى : أقبل عليّ وإليّ يشاتمني. واستُشْهِد على أنّ الاستواء بمعنى الإقبال بقول الشاعر :
أَقُولُ وَقَدْ قَطَعْنَ بِنَا شَرَوْرَى... سَوَامِدَ ، وَاسْتَوَيْنَ مِنَ الضَّجُوعِ (1)
فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع ، وكان ذلك عنده بمعنى : أقبلن. وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ ، وإنما معنى قوله : " واستوين من الضجوع " ، استوين على الطريق من الضجوع خارجات ، بمعنى استقمن عليه.
وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل ، ولكنه بمعنى فعله ، كما تقول : كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد :
__________
(1) البيت لتميم بن أبي بن مقبل (معجم ما استعجم : 795 ، 857) ، وروايته " ثواني " مكان " سوامد " . وشرورى : جبل بين بني أسد وبني عامر ، في طريق مكة إلى الكوفة . والضجوع - بفتح الضاد المعجمة - : موضع أيضًا بين بلاد هذيل وبني سليم . وقوله : " سوامد " جمع سامد . سمدت الإبل في سيرها : جدت وسارت سيرًا دائمًا ، ولم تعرف الإعياء . وسوامد : دوائب لا يلحقهن كلال . والنون في " قطعن " للإبل .
(1/428)
________________________________________
تحوّل فِعله. [وقال بعضهم : قوله : " ثم استوى إلى السماء " يعني به : استوت] (1) . كما قال الشاعر :
أَقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى فِي تُرَابِهِ... عَلَى أَيِّ دِينٍ قَتَّلَ النَّاسَ مُصْعَبُ (2)
وقال بعضهم : " ثم استوى إلى السماء " ، عمدَ لها (3) . وقال : بل كلُّ تارك عملا كان فيه إلى آخر ، فهو مستو لما عمد له ، ومستوٍ إليه.
وقال بعضهم : الاستواء هو العلو ، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس.
588 - حُدِّثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " ثم استوى إلى السماء " . يقول : ارتفع إلى السماء (4) .
ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع ، في الذي استوى إلى السّماء. فقال بعضهم : الذي استوى إلى السماء وعلا عليها ، هو خالقُها ومنشئها. وقال بعضهم : بل العالي عليها : الدُّخَانُ الذي جعله الله للأرض سماء (5) .
قال أبو جعفر : الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه : منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته ، فيقال ، إذا صار كذلك : قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب ، يقال منه : استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ ، ومنه قول الطِّرِمَّاح بن حَكيم :
طَالَ عَلَى رَسْمِ مَهْدَدٍ أبَدُهْ... وَعَفَا وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُه (6)
__________
(1) هذه الجملة بين القوسين ، ليست في المخطوطة ، وكأنها مقحمة .
(2) لم أجد هذا البيت . وفي المطبوعة : " قبل الرأس مصعب " ، وهو خطأ لا شك فيه . وفي المخطوطة : " في ثراته " ، ولا معنى لها ، ولعلها " في تراثه " . وأنا في شك من كل ذلك . بيد أن مصعبًا الذي ذكر في الشعر ، هو فيما أرجح مصعب بن الزبير .
(3) في المطبوعة : " عمد إليها " .
(4) الأثر : 588 - في الدر المنثور 1 : 43 ، والأثر التالي : 589 ، من تمامه .
(5) في المطبوعة : " العالى إليها " .
(6) ديوانه : 110 ، واللسان (سوى) قال : " وهذا البيت مختلف الوزن ، فالمصراع الأول من المنسرح ، والثاني من الخفيف " . والرسم : آثار الديار اللاصقة بالأرض . ومهدد اسم امرأة . والأبد : الدهر الطويل ، والهاء في " أبده " راجع إلى الرسم . وعفا : درس وذهب أثره . والبلد : الأثر يقول : انمحى رسمها حتى استوى بلا أثر .
(1/429)
________________________________________
يعني : استقام به. ومنها : الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء (1) ، كقولهم : استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها : العلوّ والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه.
وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه : " ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن " ، علا عليهن وارتفع ، فدبرهنّ بقدرته ، وخلقهنّ سبع سموات.
والعجبُ ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : " ثم استوى إلى السماء " ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ، هربًا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه - إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك - أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها - إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر. ثم لم يَنْجُ مما هرَب منه! فيقال له : زعمت أن تأويل قوله " استوى " أقبلَ ، أفكان مُدْبِرًا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أنّ ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقُلْ : علا عليها علوّ مُلْك وسُلْطان ، لا علوّ انتقال وزَوال. ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه ، لأنبأنا عن فساد قول كل قائل قال في ذلك قولا لقول أهل الحق فيه مخالفًا. وفيما بينا منه ما يُشرِف بذي الفهم على ما فيه له الكفاية إن شاء الله تعالى.
قال أبو جعفر : وإن قال لنا قائل (2) أخبرنا عن استواء الله جل ثناؤه إلى السماء ، كان قبل خلق السماء أم بعده ؟
قيل : بعده ، وقبل أن يسويهن سبعَ سموات ، كما قال جل ثناؤه :
__________
(1) في المخطوطة : " الاستيلاء والاحتواء " .
(2) في المطبوعة : " وإن قال . . . " .
(1/430)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) [سورة فصلت : 11]. والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا ، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.
وقال بعضهم : إنما قال : " استوى إلى السّماء " ، ولا سماء ، كقول الرجل لآخر : " اعمل هذا الثوب " ، وإنما معه غزلٌ.
وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب ، التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهنّ على إرادته ، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (1) .
589 - كما : حُدِّثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فسوَّاهن سبع سموات " يقول : سوّى خلقهن ، " وهو بكل شيء عليم (2) .
وقال جل ذكره : " فسواهن " ، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (3) ، وقد قال قبلُ : " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع ، لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل ، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل : هذه سماءٌ ، وذُكِّرت أخرى (4) فقيل : ( السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ) [سورة المزمل : 18] ،
__________
(1) في المطبوعة : " بعد إرتاقهن " وليست بشيء ، وفي المخطوطة : " بعد أن تتاقهن " ، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه . وارتتق الشيء : التأم والتحم حتى ليس به صدع . وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء : 30 من قول الله سبحانه : {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والفتق : الشق .
(2) الأثر : 589 - في الدر المنثور 1 : 43 ، وهو من تمام الأثر السالف : 588 .
(3) المكني : هو الضمير ، فيما اصطلح عليه النحويون ، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره . وفي المطبوعة : " الجمع " مكان " الجميع " حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة .
(4) في المطبوعة : " أنث السماء . . . وذكر " بطرح التاء .
(1/431)
________________________________________
كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة ، غير أنها تدلّ على السموات ، فقيل : " فسواهن " ، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (1) . قال : وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة ، فيقال : " السماء منفطر به " ، كما يذكر المؤنث (2) ، وكما قال الشاعر :
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا... وَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا (3)
وكما قال أعشى بني ثعلبة :
فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا (4)
__________
(1) " بعض أهل العربية " هو الفراء ، وإن لم يكن اللفظ لفظه ، في كتابه معاني القرآن 1 : 25 ، ولكنه ذهب هذا المذهب ، في كتابه أيضًا ص : 126 - 131 .
(2) هكذا في الأصول " كما يذكر المؤنث " ، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة : " كما تذكر الأرض ، كما قال الشاعر : . . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال : " . . فإن السماء في معنى جمع فقال : (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات . وكذلك الأرض يقع عليها - وهي واحدة - الجمع . ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان ، قال الله عز وجل : (رب السموات والأرض) ثم قال : (وما بينهما) ، ولم يقل : بينهن . فهذا دليل على ما قلت لك " . معاني القرآن . 1 : 25 ، وانظر أيضًا ص : 126 - 131 .
(3) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي ، في سيبويه 1 : 240 ، ومعاني القرآن 1 : 127 والخزانة 1 : 21 - 26 ، وشرح شواهد المغني : 319 ، والكامل 1 : 406 ، 2 : 68 ، وقبله ، يصف جيشًا : وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُو ... كِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَا
كَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِ ... تَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَا
تَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ ، ... كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَا
فلا مزنة . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4) أعشى بني ثعلبة ، وأعشى بني قيس ، والأعشى ، كلها واحد ، ديوانه 1 : 120 ، وفي سيبويه 1 : 239 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 128 ، والخزانة 4 : 578 ، ورواية الديوان : فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَا
ورواية سيبويه كما في الطبري ، إلا أنه روى " أودى بها " . وألوى به : ذهب به وأهلكه . وأودى به : أهلكه ، أيضًا . وأما " أزرى بها " : أي حقرها وأنزل بها الهوان ، من الزرارية وهي التحقير . وكلها جيد .
(1/432)
________________________________________
وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعًا ، كما يقال : ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ ، وبُرْمة أعشار ، للمتكسرة ، وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق ، أي أنّ نواحيه أخلاق (1) .
فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات ، ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جِماع ؟
قيل : إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات ، فلذلك قال جل ذكره : فسوَّاهن سبعًا. كما : -
590 - حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ ، ثم ميَّز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا ، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا ، ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال ، والله أعلم ، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (2) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها ، وأخرج ضُحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال ، وقدر فيها الأقوات ، وبث فيها ما أراد من الخلق ، ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال - فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل
__________
(1) أخلاق ، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي . وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي . وبرمة أجبار ، ضد قولهم برمة أكسار ، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا ، كما لم يقولوا برمة كسر ، مفردًا . وأصله من جبر العظم ، وهو لأمه بعد كسره .
(2) في المخطوطة : " ولم يحبكن " .
(1/433)
________________________________________
خلقهن في يومين ، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته ، ثم قال للسموات والأرض : ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا ، قالتا : أتينا طائعين (1) .
فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (2) وما فيها - وهن سبع من دخان ، فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق ، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (3) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (4) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به ، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها : " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع (5) ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه : " فسوَّاهن " ، إذ كانت السماء بمعنى الجميع ، على ما بينا.
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله " فسواهن " ، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض ؟ ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك (6) ؟
قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (7) .
__________
(1) الأثر : 590 - هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت . ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24 : 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني - في هذا الموضع ، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت . وهو من كلام ابن إسحاق ، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه . وقد صرح الطبري - بعد - أنه إنما ذكره استشهادًا ، لا استدلالا ، إذ وجده أوضح بيانا ، وأحسن شرحًا .
(2) في المطبوعة : " بعد خلقه الأرض " .
(3) في المطبوعة : " عن خبر السموات " .
(4) في المطبوعة : " بتسويتها " ، وسياق كلامه : " أوضح بيانًا . . . من غيره " ، وما بينهما فصل .
(5) في المطبوعة " بمعنى الجمع " ، وفي التي تليها ، وقد مضى مثل ذلك آنفًا .
(6) في المطبوعة : " أم بمعنى " ، وهذه أجود .
(7) في المطبوعة : " ونزيد ذلك توكيدًا " .
(1/434)
________________________________________
591 - فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " . قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : " ن والقلم " ، والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاةُ على ظهر ملَك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض : فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تخر على الأرض ، فذلك قوله : ( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (1) [سورة النحل : 15]. وخلق الجبالَ فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ) يقول : أنبت شجرها( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) يقول : أقواتها لأهلها( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) يقول : قل لمن يسألك : هكذا الأمر (2) ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) [سورة فصلت : 9 - 11] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها
__________
(1) في الأصول : " وجعل لها رواسي أن تميد بكم " ، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح ، والآية كما ذكرتها في سورة النحل ، ومثلها في سورة لقمان : 10
(2) في المخطوطة : " يقول : من سأل ، فهكذا الأمر " .
(1/435)
________________________________________
سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - " وأوحى في كل سماء أمْرها " قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينةً وحِفظًا ، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) [سورة الأعراف : 54]. ويقول : ( كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) (1) [سورة الأنبياء : 30].
592 - وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء " . قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " . قال : بعضُهن فوق بعض ، وسبعَ أرضين ، بعضُهن تحت بعض (2) .
__________
(1) الخبر : 591 - في ابن كثير 1 : 123 ، والدر المنثور 1 : 42 - 43 ، والشوكاني 1 : 48 . وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر : 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري ، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم : 465 ص : 353 : " فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . " . وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده ، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به ، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده . فلئن سألت : فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده ؟ وجواب ذلك : أنه لم يسقه ليحتج بما فيه ، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد ، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان ، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فحبكهن سبعًا ، وأوحى في كل سماء أمرها . وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر ، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه . وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل ، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه ، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه . وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا ، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال .
(2) الأثر : 592 - في ابن كثير 1 : 124 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 .
(1/436)
________________________________________
593 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فسواهنّ سبعَ سموات " قال : بعضُهن فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.
594 - حدثنا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : - حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء - " ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات " ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) [سورة النازعات : 30].
595 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذًا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم ، ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان ، فسوَّاهنَّ وحبَكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (1) .
* * *
__________
(1) الآثار : 593 - 595 ، لم نجدها في شيء من تلك المراجع .
(1/437)
________________________________________
القول في تأويل قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) }
يعني بقوله جل جلاله : " وهو " نفسَه ، وبقوله : " بكل شيء عليم " أن الذي خلقكم ، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا ، وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء ، وأتقن صُنعهنّ ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (1) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور ، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته - المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (2) ، إني بكل شيء عليم.
وقوله : " عليم " بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمَل في علمه.
596 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمَل في علمه (3) .
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " وأهل الكتاب " عطفًا .
(2) في المطبوعة : " بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم . . " .
(3) الخبر : 596 - ليس في مراجعنا .
(1/438)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
القول في تأويل قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ }
قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة (1) : أن تأويل قوله : " وإذ قال ربك " ، وقال ربك ؛ وأن " إذ " من الحروف الزوائد ، وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر :
فَإِذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرهِ... وَالدَّهْرُ يُعْقِب صَالِحًا بِفَسَادِ (2)
__________
(1) هو أبو عبيدة (انظر تفسير ابن كثير 1 : 125) ، وكما مضى آنفًا في مواضع من كلام الطبري . ويؤيد ذلك أن البغدادي نقل في شرح بيت عبد مناف بن ربعى ، (الخزانة 3 : 171 ) ، عن ابن السيد : " وقال أبو عبيدة : إذا ، زائدة ، فلذلك لم يؤت لها بجواب " . هذا والشاهدان الآتيان في زيادة " إذا " لا في زيادة " إذ " ، وهو من جرأة أبي عبيدة وخطئه ، وأيا ما كان قائله ، فهو جريء مخطئ .
(2) المفضليات ، القصيدة رقم : 44 ، وليس البيت في رواية ابن الأنباري شارح المفضليات . وقوله " لامهاه " ، يقال : ليس لعيشنا مهه (بفتحتين) ومهاه : أي ليس له حسن أو نضارة . وقد زعموا أن الواو في قوله " فإذا وذلك . . " زائدة مقحمة ، كأنه قال : فإذا ذلك . . . ، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى : " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " ج 24 ص 24 : " واختلف أهل العربية في موضع جواب " إذا " التي في قوله : (حتى إذا جاءوها) ، فقال بعض نحويي البصرة ، يقال إن قوله : (وقال لهم خزنتها) في معنى : قال لهم . كأنه يلغى الواو . وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة ، كما قال الشاعر : فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلا تَوَهُّمَ حَالِمٍ بِخَيَالِ
فيشبه أن يكون يريد : فإذا ذلك لم يكن " . وقال أبو سعيد السكري في شرح أشعار الهذليين 2 : 100 ، في شرح بيت أبي كبير الهذلي : فَإِذَا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلا حِينَهُ ... وَإِذَا مَضَى شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يُفْعَلِ
قال أبو سعيد : " الواو زائدة . قال : قلت لأبي عمرو : يقول الرجل : ربنا ولك الحمد . فقال : يقول الرجل : قد أخذت هذا بكذا وكذا . فيقول : وهو لك " .
وقال ابن الشجري في أماليه 1 : 358 : " قيل في الآية إن الواو مقحمة ، وليس ذلك بشيء ، لأن زيادة الواو لم تثبت في شيء من الكلام الفصيح " . والذي ذهب إليه ابن الشجري هو الصواب ، ولكل شاهد مما استشهدوا به وجه في البيان ، ليس هذا موضع تفصيله . وكفى برد الطبري في هذا الموضع ما زعمه أبو عبيدة من زيادة " إذ " كما سيأتي : " وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام " إلى آخر ما قال . وهو من سديد الفهم . وشرحه للبيت بعد ، يدل على أنه لا يرى زيادة الواو ، وذلك قوله في شرحه : " فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا " .
(1/439)
________________________________________
ثم قال : ومعناها : وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ :
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ... شَلا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا (1)
وقال : معناه ، حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال : وذلك أن " إذ " حرف يأتي بمعنى الجزاء ، ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل : هو بمعنى التطوُّل ، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به : وهو بمعنى التطوُّل (2) .
__________
(1) ديوان الهذليين 2 : 42 ، ويأتي في تفسير الطبري 14 : 8 ، 18 : 13 ، 24 : 25 (طبعة بولاق) والخزانة 3 : 170 - 174 ، وأمالى ابن الشجري 1 : 358 ، 2 : 289 ، وكثير غيرها . وسلك الرجل الطريق ، وسلكه غيره فيه ، وأسلكه الطريق : أدخله فيه أو اضطره إليه . وقتائدة : جبل بين المنصرف والروحاء ، أي في الطريق بين مكة والمدينة . وشل السائق الإبل : طردها أمامه طردًا . ومر فلان يشل العدو بالسيف : يطردهم طردًا يفرون أمامه . والجمالة : أصحاب الجمال . وشرد البعير فهو شارد وشرود : نفر وذهب في الأرض ، وجمع شارد شرد (بفتحتين) مثل خادم وخدم . وجمع شرود شرد (بضمتين) . ويذكر عبد مناف قومًا أغاروا على عدو لهم ، فأزعجوهم عن منازلهم ، واضطروهم إلى " قتائدة " يطردونهم بالسيوف والرماح والنبال ، كما تطرد الإبل الشوارد . وجواب " إذا " تقديره : شلوهم شلا ، فعل محذوف دل عليه المصدر ، كما سيأتي في كلام الطبري بعد .
(2) في المخطوطة : " هو بمعنى التطول في الكلام " . وهو خطأ . والتطول ، في اصطلاح الطبري وغيره : الزيادة في الكلام بمعنى الإلغاء ، كما مضى آنفًا في ص 140 من بولاق ، وأراد الطبري أن ينفي ما لج فيه بعض النحاة من ادعاء اللغو والزيادة في الكلام ، فهو يقول : إذا كان للحرف أو الكلمة معنى مفهوم في الكلام ، ثم ادعيت أنه زيادة ملغاة ، فجائز لغيرك أن يدعي أن جملة كاملة مفهومة المعنى ، أو كلامًا كاملا مفهوم المعنى - إنما هي زيادة ملغاة أيضًا . وبذلك يبطل كل معنى لكل كلام ، إذ يجوز لمدع أن يبطل منه ما يشاء بما يهوى من الجرأة والادعاء . وهذا تأييد لمذهبنا الذي ارتضيناه في التعليق السالف .
(1/440)
________________________________________
وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله (1) - في بيت الأسود بن يعفر : أن " إذا " بمعنى التطوّل - وجه مفهوم ، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله :
فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه
وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله " ذلك " إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه - " لامهاه لذكره " يعني لا طعمَ له ولا فضلَ ، لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ :
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ... شَلا .................
لو أسقط منه " إذا " بطل معنى الكلام ، لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله. " أسلكوهم شلا " على معنى المحذوف ، فاستغنى عن ذكره بدلالة " إذا " عليه ، فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا (2) - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب :
فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أَيْنَما (3)
وهو يريد : أينما ذهب. وكما تقول العرب : " أتيتك من قبلُ ومن بعدُ " . تريد من قبل ذلك ، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في " إذا " كما يقول القائل :
__________
(1) في المطبوعة " وليس لمدعي الذي . . " وهو خطأ .
(2) في المطبوعة : " كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل . . . " ، وفي المخطوطة : " كما قال . قد ذكرنا فيما مضى . . " ، وكلاهما خطأ ، الأول من تغيير المصححين ، والثاني تصحيف في " قال " ، فهي " دل " ، والنقطة السوداء ، بياض كان في الأصل المنقول عنه ، أو " ما " ضاعت ألفها وبقيت " م " مطموسة ، فظنها ظان علامة فصل .
هذا وقد أشار الطبري إلى ما مضى في كتابه هذا ص : 114 ، ص : 327 فانظره .
(3) من قصيدة محكمة في مختارات ابن الشجري 1 : 16 ، والخزانة 4 : 438 ، وشرح شواهد المغني : 65 ، وبعده : وإنْ تتخطّاكَ أسْبابُها ... فإن قُصَاراكَ أنْ تهرمَا
(1/441)
________________________________________
" إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه ، وإذا لا فلا " . يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.
ومن ذلك قول الآخر :
فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ... فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ (1)
نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : " وإذ قالَ ربك للملائكة " ، لو أبْطِلت " إذ " وحُذِفت من الكلام ، لاستحال عن معناه الذي هو به (2) ، وفيه " إذ " .
فإن قال لنا قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب لـ " إذ " ، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه (3) ؟
قيل له : قد ذكرنا فيما مضى (4) : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " ، بهذه الآيات والتي بعدها ، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم ، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم ؛ ومذكِّرَهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم - بأسَه ، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته (5) ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا ، وسخّر لهم ما في السموات من شمسها
__________
(1) لم أعرف صاحبه . وفي المطبوعة : " في يوم أثل نائلا أو أنكدا "
وهو خطأ عريق . وفي المطبوعة : " أسل نائلا " ، وهي أقرب إلى الصواب . الضر : سوء الحال من فقر أو شدة أو بلاء أو حزن . والنائل : ما تناله وتصيبه من معروف إنسان . ونكده ما سأله : قلل له العطاء ، أو لم يعطه البتة ، يقول القائل : وأعْطِ ما أعطيتَهُ طَيِّبًا ... لا خيرَ في المنكودِ والنَّاكِدِ
(2) قوله : " الذي هو به " ، أي : الذي هو به كلام قائم مفهوم .
(3) في المطبوعة : " فإن قال قائل " ، بحذف : " لنا " .
(4) انظر ما سلف في ص : 424 وما بعدها .
(5) في المطبوعة : " من أسلافهم في معصية الله " ، وفي المخطوطة : " سلافهم " مضبوطة بالقلم بضم السين وتشديد اللام ، وفي المواضع السالفة : " أسلاف " . والأسلاف والسلاف جمع سلف وسالف : وهم آباؤنا الذين مضوا وتقدمونا إلى لقائه سبحانه .
(1/442)
________________________________________
وقمرها ونجومها ، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى : ذكره " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " ، معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا ، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا ، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله : " وإذ قال رَبُّك للملائكة " على المعنى المقتضَى بقوله : " كيف تكفرون بالله " ، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله : اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (1) .
فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم ، أكثرُ من أن يحصى ، من ذلك قول الشاعر :
أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ... وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا (2) وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ... بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا (3)
فقال : " ولا متداركٍ " ، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه (4) ، ولا حرف
__________
(1) هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته ، من أجود النظر في تأويل كتاب الله ، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها ، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى ، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة ، لا لرد حرف على حرف سبق .
(2) هو للمرار بن سعيد الفقعسي ، معاني القرآن للفراء 1 : 171 ، مجالس ثعلب : 159 ، اللسان (بيد) (طفل) (نشغ) ، ومعجم البلدان (ثعيلبات) . وثعيلبات وبيدان موضعان . والناجية : الناقة السريعة ، من النجاء : وهو سرعة السير . والذمول : الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا .
(3) يروى " ولا متلافيًا " بالنصب . وتدارك القوم (متعديًا) ، بمعنى أدركهم ، أو حاول اللحاق بهم . وتلافاه : تداركه أيضًا . والشمس طفل : يعني هنا : عند شروقها - لا عند غروبها - أخذت من الطفل الصغير . ونواشغ الوادي جمع ناشغة : وهي مجرى الماء إلى الوادي . الحمول : هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل . وسميت الإبل وما عليها حمولا ، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة . يقول : لن تدركهم ، فقد بكروا بالرحيل .
(4) في المطبوعة : " يعطف عليه " . وفي المخطوطة " يعطف به " ، وقوله " به " ملصقة إلصاقًا في الفاء من " يعطف " .
(1/443)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ) [سورة فصلت : 11]. والاستواء كان بعد أن خلقها دُخانًا ، وقبل أن يسوِّيَها سبعَ سموات.
وقال بعضهم : إنما قال : " استوى إلى السّماء " ، ولا سماء ، كقول الرجل لآخر : " اعمل هذا الثوب " ، وإنما معه غزلٌ.
وأما قوله " فسواهن " فإنه يعني هيأهن وخلقهن ودبَّرهن وقوَّمهن. والتسوية في كلام العرب ، التقويم والإصلاح والتوطئة ، كما يقال : سوَّى فلان لفلان هذا الأمر. إذا قوّمه وأصلحه وَوَطَّأه له. فكذلك تسوية الله جل ثناؤه سمواته : تقويمه إياهن على مشيئته ، وتدبيره لهنّ على إرادته ، وتفتيقهنّ بعد ارتتاقهنّ (1) .
589 - كما : حُدِّثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " فسوَّاهن سبع سموات " يقول : سوّى خلقهن ، " وهو بكل شيء عليم (2) .
وقال جل ذكره : " فسواهن " ، فأخرج مكنِيَّهن مخرج مكنيِّ الجميع (3) ، وقد قال قبلُ : " ثم استوى إلى السماء " فأخرجها على تقدير الواحد. وإنما أخرج مكنيَّهن مخرج مكنيِّ الجمع ، لأن السماء جمع واحدها سماوة ، فتقدير واحدتها وجميعها إذا تقدير بقرة وبقر ونخلة ونخل ، وما أشبه ذلك. ولذلك أنِّثت مرة فقيل : هذه سماءٌ ، وذُكِّرت أخرى (4) فقيل : ( السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ) [سورة المزمل : 18] ،
__________
(1) في المطبوعة : " بعد إرتاقهن " وليست بشيء ، وفي المخطوطة : " بعد أن تتاقهن " ، وظاهر أنها تحريف لما أثبتناه . وارتتق الشيء : التأم والتحم حتى ليس به صدع . وهذا من تأويل ما في سورة الأنبياء : 30 من قول الله سبحانه : {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} والفتق : الشق .
(2) الأثر : 589 - في الدر المنثور 1 : 43 ، وهو من تمام الأثر السالف : 588 .
(3) المكني : هو الضمير ، فيما اصطلح عليه النحويون ، لأنه كناية عن الذي أخفيت ذكره . وفي المطبوعة : " الجمع " مكان " الجميع " حيث ذكرت في المواضع الآتية في هذه العبارة .
(4) في المطبوعة : " أنث السماء . . . وذكر " بطرح التاء .
(1/431)
________________________________________
كما يُفعل ذلك بالجمع الذي لا فرق بينه وبين واحده غير دخول الهاء وخروجها ، فيقال : هذا بقر وهذه بقر ، وهذا نخل وهذه نخل ، وما أشبه ذلك.
وكان بعض أهل العربية يزعم أنّ السماء واحدة ، غير أنها تدلّ على السموات ، فقيل : " فسواهن " ، يراد بذلك التي ذُكِرت وما دلت عليه من سائر السموات التي لم تُذْكر معها (1) . قال : وإنما تُذكر إذا ذُكِّرت وهي مؤنثة ، فيقال : " السماء منفطر به " ، كما يذكر المؤنث (2) ، وكما قال الشاعر :
فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا... وَلا أَرْضَ أَبْقَل إِبْقَالَهَا (3)
وكما قال أعشى بني ثعلبة :
فَإِمَّا تَرَيْ لِمَّتِي بُدِّلَتْ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَزْرَى بِهَا (4)
__________
(1) " بعض أهل العربية " هو الفراء ، وإن لم يكن اللفظ لفظه ، في كتابه معاني القرآن 1 : 25 ، ولكنه ذهب هذا المذهب ، في كتابه أيضًا ص : 126 - 131 .
(2) هكذا في الأصول " كما يذكر المؤنث " ، وأخشى أن يكون صواب هذه العبارة : " كما تذكر الأرض ، كما قال الشاعر : . . . " وقد ذكر الفراء في معاني القرآن ذلك فقال : " . . فإن السماء في معنى جمع فقال : (فسواهن) للمعنى المعروف أنهن سبع سموات . وكذلك الأرض يقع عليها - وهي واحدة - الجمع . ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان ، قال الله عز وجل : (رب السموات والأرض) ثم قال : (وما بينهما) ، ولم يقل : بينهن . فهذا دليل على ما قلت لك " . معاني القرآن . 1 : 25 ، وانظر أيضًا ص : 126 - 131 .
(3) البيت من شعر عامر بن جوين الطائي ، في سيبويه 1 : 240 ، ومعاني القرآن 1 : 127 والخزانة 1 : 21 - 26 ، وشرح شواهد المغني : 319 ، والكامل 1 : 406 ، 2 : 68 ، وقبله ، يصف جيشًا : وَجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُو ... كِ قَعْقَعْتُ بِالْخَيْلِ خَلْخَالَهَا
كَكِرْ فِئَةِ الْغَيْثِ ذَاتِ الصَّبِيرِ ... تَرْمِي السَّحَابَ وَيَرْمِي لَهَا
تَوَاعَدْتُهَا بَعْدَ مَرِّ النُّجُومِ ، ... كَلْفَاءَ تُكْثِرُ تَهْطَالَهَا
فلا مزنة . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4) أعشى بني ثعلبة ، وأعشى بني قيس ، والأعشى ، كلها واحد ، ديوانه 1 : 120 ، وفي سيبويه 1 : 239 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 128 ، والخزانة 4 : 578 ، ورواية الديوان : فَإِنْ تَعْهَدِينِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَلْوَى بِهَا
ورواية سيبويه كما في الطبري ، إلا أنه روى " أودى بها " . وألوى به : ذهب به وأهلكه . وأودى به : أهلكه ، أيضًا . وأما " أزرى بها " : أي حقرها وأنزل بها الهوان ، من الزرارية وهي التحقير . وكلها جيد .
(1/432)
________________________________________
وقال بعضهم : السماء وإن كانت سماء فوق سماء وأرضًا فوق أرض ، فهي في التأويل واحدةٌ إن شئت ، ثم تكون تلك الواحدة جماعًا ، كما يقال : ثوبٌ أخلاقٌ وأسمالٌ ، وبُرْمة أعشار ، للمتكسرة ، وبُرْمة أكسار وأجبار. وأخلاق ، أي أنّ نواحيه أخلاق (1) .
فإن قال لنا قائل : فإنك قد قلت إن الله جل ثناؤه استوَى إلى السماء وهي دخان قبل أن يسويها سبع سموات ، ثم سواها سبعًا بعد استوائه إليها ، فكيف زعمت أنها جِماع ؟
قيل : إنهن كنّ سبعًا غيرَ مستويات ، فلذلك قال جل ذكره : فسوَّاهن سبعًا. كما : -
590 - حدثني محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، قال : قال محمد بن إسحاق : كان أوّلَ ما خلق الله تبارك وتعالى النورُ والظلمةُ ، ثم ميَّز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلمًا ، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا ، ثم سمك السموات السبع من دخان - يقال ، والله أعلم ، من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبُكْهن (2) . وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها ، وأخرج ضُحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم. ثم دحا الأرض وأرْساها بالجبال ، وقدر فيها الأقوات ، وبث فيها ما أراد من الخلق ، ففرَغ من الأرض وما قدر فيها من أقواتها في أربعة أيام. ثم استوى إلى السماء وهي دخان - كما قال - فحبكهن ، وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها ، وأوحى في كل سماء أمرها ، فأكمل
__________
(1) أخلاق ، جمع خلق (بفتحتين) : وهو البالي . وأسمال جمع سمل (بفتحتين) : وهو الرقيق المتمزق البالي . وبرمة أجبار ، ضد قولهم برمة أكسار ، كأنه جمع برمة جبر (بفتح فسكون) وإن لم يقولوه مفردًا ، كما لم يقولوا برمة كسر ، مفردًا . وأصله من جبر العظم ، وهو لأمه بعد كسره .
(2) في المخطوطة : " ولم يحبكن " .
(1/433)
________________________________________
خلقهن في يومين ، ففرغ من خلق السموات والأرض في ستة أيام. ثم استوى في اليوم السابع فوق سمواته ، ثم قال للسموات والأرض : ائتيا طوعًا أو كرهًا لما أردت بكما ، فاطمئنا عليه طوعًا أو كرهًا ، قالتا : أتينا طائعين (1) .
فقد أخبر ابن إسحاق أنّ الله جل ثناؤه استوى إلى السماء - بعد خلق الأرض (2) وما فيها - وهن سبع من دخان ، فسواهن كما وَصف. وإنما استشهدنا لقولنا الذي قلنا في ذلك بقول ابن إسحاق ، لأنه أوضح بيانًا - عن خلق السموات (3) ، أنهن كُنّ سبعًا من دخان قبل استواء ربنا إليها لتسويتها - من غيره (4) ، وأحسنُ شرحًا لما أردنا الاستدلال به ، من أن معنى السماء التي قال الله تعالى ذكره فيها : " ثم استوى إلى السماء " بمعنى الجميع (5) ، على ما وصفنا. وأنه إنما قال جل ثناؤه : " فسوَّاهن " ، إذ كانت السماء بمعنى الجميع ، على ما بينا.
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما صفة تسوية الله جل ثناؤه السموات التي ذكرها في قوله " فسواهن " ، إذ كن قد خُلِقن سبعًا قبل تسويته إياهن ؟ وما وجه ذِكْر خَلْقهن بعد ذِكْر خَلْق الأرض ؟ ألأنها خلقت قبلها ، أم بمعنى غير ذلك (6) ؟
قيل : قد ذكرنا ذلك في الخبر الذي رويناه عن ابن إسحاق ، ونؤكد ذلك تأكيدًا بما نضم إليه من أخبار بعض السلف المتقدمين وأقوالهم (7) .
__________
(1) الأثر : 590 - هذا الأثر في الحقيقة تفسير للآيات 9 - 12 من سورة فصلت . ولم يذكره الطبري في موضعه عند تفسيرها (24 : 60 - 65 طبعة بولاق) . وكذلك لم يذكره ابن كثير والسيوطي والشوكاني - في هذا الموضع ، ولا في موضعه من تفسير سورة فصلت . وهو من كلام ابن إسحاق ، ولا بأس عليهم في الإعراض عن إخراجه . وقد صرح الطبري - بعد - أنه إنما ذكره استشهادًا ، لا استدلالا ، إذ وجده أوضح بيانا ، وأحسن شرحًا .
(2) في المطبوعة : " بعد خلقه الأرض " .
(3) في المطبوعة : " عن خبر السموات " .
(4) في المطبوعة : " بتسويتها " ، وسياق كلامه : " أوضح بيانًا . . . من غيره " ، وما بينهما فصل .
(5) في المطبوعة " بمعنى الجمع " ، وفي التي تليها ، وقد مضى مثل ذلك آنفًا .
(6) في المطبوعة : " أم بمعنى " ، وهذه أجود .
(7) في المطبوعة : " ونزيد ذلك توكيدًا " .
(1/434)
________________________________________
591 - فحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " . قال : إن الله تبارك وتعالى كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئًا غير ما خلق قبل الماء. فلما أراد أن يخلق الخلق ، أخرج من الماء دخانًا ، فارتفع فوق الماء فسما عليه ، فسماه سماء. ثم أيبس الماء فجعله أرضًا واحدة ، ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين - في الأحد والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، والحوتُ هو النون الذي ذكره الله في القرآن : " ن والقلم " ، والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاةُ على ظهر ملَك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح - وهي الصخرة التي ذكر لقمان - ليست في السماء ولا في الأرض : فتحرك الحوت فاضطرب ، فتزلزت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فالجبال تخر على الأرض ، فذلك قوله : ( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (1) [سورة النحل : 15]. وخلق الجبالَ فيها ، وأقواتَ أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء ، وذلك حين يقول : ( أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ) يقول : أنبت شجرها( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) يقول : أقواتها لأهلها( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) يقول : قل لمن يسألك : هكذا الأمر (2) ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) [سورة فصلت : 9 - 11] ، وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها
__________
(1) في الأصول : " وجعل لها رواسي أن تميد بكم " ، وهو وهم سبق إليه القلم من النساخ فيما أرجح ، والآية كما ذكرتها في سورة النحل ، ومثلها في سورة لقمان : 10
(2) في المخطوطة : " يقول : من سأل ، فهكذا الأمر " .
(1/435)
________________________________________
سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين - في الخميس والجمعة ، وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض - " وأوحى في كل سماء أمْرها " قال : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البَرَد وما لا يُعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينةً وحِفظًا ، تُحفظُ من الشياطين. فلما فرغ من خلق ما أحبّ ، استوى على العرش. فذلك حين يقول : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) [سورة الأعراف : 54]. ويقول : ( كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ) (1) [سورة الأنبياء : 30].
592 - وحدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : " هوَ الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء " . قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرضَ ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : " ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " . قال : بعضُهن فوق بعض ، وسبعَ أرضين ، بعضُهن تحت بعض (2) .
__________
(1) الخبر : 591 - في ابن كثير 1 : 123 ، والدر المنثور 1 : 42 - 43 ، والشوكاني 1 : 48 . وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، واستوعب أخي السيد أحمد شاكر تحقيقه في موضعه (انظر الخبر : 168) ، وقد مضى أيضًا قول الطبري ، حين عرض لهذا الإسناد في الأثر رقم : 465 ص : 353 : " فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كنت بإسناده مرتابًا . . " . وقد مضى الطبري في تفسيره على رواية ما لم يصح عنده إسناده ، لعلمه أن أهل العلم كانوا يومئذ يقومون بأمر الإسناد والبصر به ، ولا يتلقون شيئًا بالقبول إلا بعد تمحيص إسناده . فلئن سألت : فيم يسوق الطبري مثل هذا الخبر الذي يرتاب في إسناده ؟ وجواب ذلك : أنه لم يسقه ليحتج بما فيه ، بل ساقه للاعتبار بمعنى واحد ، وهو أن الله سبحانه سمك السموات السبع من دخان ، ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال ، ثم استوى إلى السماء وهي دخان ، فحبكهن سبعًا ، وأوحى في كل سماء أمرها . وليس في الاعتبار بمثل هذا الأثر ضرر ، لأن المعنى الذي أراده هو ظاهر القرآن وصريحه . وإن كان الخبر نفسه مما تلقاه بعض الصحابة عن بني إسرائيل ، لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا حجة إلا فيما أنزل الله في كتابه ، أو في الذي أوحى إلى نبيه مما صح عنه إسناده إليه . وكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبلناه لا نحكم فيه أحدًا ، فإن قوله هو المهيمن بالحق على أقوال الرجال .
(2) الأثر : 592 - في ابن كثير 1 : 124 ، والدر المنثور 1 : 42 ، والشوكاني 1 : 48 .
(1/436)
________________________________________
593 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " فسواهنّ سبعَ سموات " قال : بعضُهن فوق بعض ، بين كل سماءين مسيرة خمسمئة عام.
594 - حدثنا المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : - حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء ، ثم ذكر السماء قبل الأرض ، وذلك أن الله خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء - " ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات " ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، فذلك قوله : ( وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) [سورة النازعات : 30].
595 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الله بن سلام أنه قال : إنّ الله بدأ الخلق يوم الأحد ، فخلق الأرَضِين في الأحد والاثنين ، وخلق الأقواتَ والرواسيَ في الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات في الخميس والجمعة ، وفرَغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم على عجل. فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذًا : هو الذي أنعم عليكم ، فخلق لكم ما في الأرض جميعا وسخَّره لكم تفضُّلا منه بذلك عليكم ، ليكون لكم بلاغًا في دنياكم ومتاعًا إلى موافاة آجالكم ، ودليلا لكم على وَحدانية ربكم. ثم علا إلى السموات السبع وهي دخان ، فسوَّاهنَّ وحبَكهن ، وأجرى في بعضهن شمسه وقمره ونجومه ، وقدر في كل واحدة منهن ما قدر من خلقه (1) .
* * *
__________
(1) الآثار : 593 - 595 ، لم نجدها في شيء من تلك المراجع .
(1/437)
________________________________________
القول في تأويل قوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) }
يعني بقوله جل جلاله : " وهو " نفسَه ، وبقوله : " بكل شيء عليم " أن الذي خلقكم ، وخلق لكم ما في الأرض جميعًا ، وسوّى السموات السبع بما فيهن فأحكمهن من دخان الماء ، وأتقن صُنعهنّ ، لا يخفى عليه - أيها المنافقون والملحدون الكافرون به من أهل الكتاب (1) - ما تُبدون وما تكتمون في أنفسكم ، وإن أبدى منافقوكم بألسنتهم قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهم على التكذيب به منطوون. وكذّبتْ أحباركم بما أتاهم به رسولي من الهدى والنور ، وهم بصحته عارفون. وجحدوه وكتموا ما قد أخذتُ عليهم - ببيانه لخلقي من أمر محمد ونُبوّته - المواثيق وهم به عالمون. بل أنا عالم بذلك من أمركم وغيره من أموركم. وأمور غيركم (2) ، إني بكل شيء عليم.
وقوله : " عليم " بمعنى عالم. ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقول : هو الذي قد كمَل في علمه.
596 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، قال : حدثني علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : العالم الذي قد كمَل في علمه (3) .
* * *
__________
(1) في المخطوطة : " وأهل الكتاب " عطفًا .
(2) في المطبوعة : " بل أنا عالم بذلك وغيره من أموركم . . " .
(3) الخبر : 596 - ليس في مراجعنا .
(1/438)
________________________________________
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
القول في تأويل قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ }
قال أبو جعفر : زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة (1) : أن تأويل قوله : " وإذ قال ربك " ، وقال ربك ؛ وأن " إذ " من الحروف الزوائد ، وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر :
فَإِذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرهِ... وَالدَّهْرُ يُعْقِب صَالِحًا بِفَسَادِ (2)
__________
(1) هو أبو عبيدة (انظر تفسير ابن كثير 1 : 125) ، وكما مضى آنفًا في مواضع من كلام الطبري . ويؤيد ذلك أن البغدادي نقل في شرح بيت عبد مناف بن ربعى ، (الخزانة 3 : 171 ) ، عن ابن السيد : " وقال أبو عبيدة : إذا ، زائدة ، فلذلك لم يؤت لها بجواب " . هذا والشاهدان الآتيان في زيادة " إذا " لا في زيادة " إذ " ، وهو من جرأة أبي عبيدة وخطئه ، وأيا ما كان قائله ، فهو جريء مخطئ .
(2) المفضليات ، القصيدة رقم : 44 ، وليس البيت في رواية ابن الأنباري شارح المفضليات . وقوله " لامهاه " ، يقال : ليس لعيشنا مهه (بفتحتين) ومهاه : أي ليس له حسن أو نضارة . وقد زعموا أن الواو في قوله " فإذا وذلك . . " زائدة مقحمة ، كأنه قال : فإذا ذلك . . . ، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى : " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " ج 24 ص 24 : " واختلف أهل العربية في موضع جواب " إذا " التي في قوله : (حتى إذا جاءوها) ، فقال بعض نحويي البصرة ، يقال إن قوله : (وقال لهم خزنتها) في معنى : قال لهم . كأنه يلغى الواو . وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة ، كما قال الشاعر : فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلا تَوَهُّمَ حَالِمٍ بِخَيَالِ
فيشبه أن يكون يريد : فإذا ذلك لم يكن " . وقال أبو سعيد السكري في شرح أشعار الهذليين 2 : 100 ، في شرح بيت أبي كبير الهذلي : فَإِذَا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلا حِينَهُ ... وَإِذَا مَضَى شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يُفْعَلِ
قال أبو سعيد : " الواو زائدة . قال : قلت لأبي عمرو : يقول الرجل : ربنا ولك الحمد . فقال : يقول الرجل : قد أخذت هذا بكذا وكذا . فيقول : وهو لك " .
وقال ابن الشجري في أماليه 1 : 358 : " قيل في الآية إن الواو مقحمة ، وليس ذلك بشيء ، لأن زيادة الواو لم تثبت في شيء من الكلام الفصيح " . والذي ذهب إليه ابن الشجري هو الصواب ، ولكل شاهد مما استشهدوا به وجه في البيان ، ليس هذا موضع تفصيله . وكفى برد الطبري في هذا الموضع ما زعمه أبو عبيدة من زيادة " إذ " كما سيأتي : " وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام " إلى آخر ما قال . وهو من سديد الفهم . وشرحه للبيت بعد ، يدل على أنه لا يرى زيادة الواو ، وذلك قوله في شرحه : " فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا " .
(1/439)
________________________________________
ثم قال : ومعناها : وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ :
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ... شَلا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا (1)
وقال : معناه ، حتى أسلكوهم.
قال أبو جعفر : والأمر في ذلك بخلاف ما قال : وذلك أن " إذ " حرف يأتي بمعنى الجزاء ، ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل : هو بمعنى التطوُّل ، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به : وهو بمعنى التطوُّل (2) .
__________
(1) ديوان الهذليين 2 : 42 ، ويأتي في تفسير الطبري 14 : 8 ، 18 : 13 ، 24 : 25 (طبعة بولاق) والخزانة 3 : 170 - 174 ، وأمالى ابن الشجري 1 : 358 ، 2 : 289 ، وكثير غيرها . وسلك الرجل الطريق ، وسلكه غيره فيه ، وأسلكه الطريق : أدخله فيه أو اضطره إليه . وقتائدة : جبل بين المنصرف والروحاء ، أي في الطريق بين مكة والمدينة . وشل السائق الإبل : طردها أمامه طردًا . ومر فلان يشل العدو بالسيف : يطردهم طردًا يفرون أمامه . والجمالة : أصحاب الجمال . وشرد البعير فهو شارد وشرود : نفر وذهب في الأرض ، وجمع شارد شرد (بفتحتين) مثل خادم وخدم . وجمع شرود شرد (بضمتين) . ويذكر عبد مناف قومًا أغاروا على عدو لهم ، فأزعجوهم عن منازلهم ، واضطروهم إلى " قتائدة " يطردونهم بالسيوف والرماح والنبال ، كما تطرد الإبل الشوارد . وجواب " إذا " تقديره : شلوهم شلا ، فعل محذوف دل عليه المصدر ، كما سيأتي في كلام الطبري بعد .
(2) في المخطوطة : " هو بمعنى التطول في الكلام " . وهو خطأ . والتطول ، في اصطلاح الطبري وغيره : الزيادة في الكلام بمعنى الإلغاء ، كما مضى آنفًا في ص 140 من بولاق ، وأراد الطبري أن ينفي ما لج فيه بعض النحاة من ادعاء اللغو والزيادة في الكلام ، فهو يقول : إذا كان للحرف أو الكلمة معنى مفهوم في الكلام ، ثم ادعيت أنه زيادة ملغاة ، فجائز لغيرك أن يدعي أن جملة كاملة مفهومة المعنى ، أو كلامًا كاملا مفهوم المعنى - إنما هي زيادة ملغاة أيضًا . وبذلك يبطل كل معنى لكل كلام ، إذ يجوز لمدع أن يبطل منه ما يشاء بما يهوى من الجرأة والادعاء . وهذا تأييد لمذهبنا الذي ارتضيناه في التعليق السالف .
(1/440)
________________________________________
وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله (1) - في بيت الأسود بن يعفر : أن " إذا " بمعنى التطوّل - وجه مفهوم ، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله :
فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه
وذلك أنه أراد بقوله : فإذا الذي نحن فيه ، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله " ذلك " إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه - " لامهاه لذكره " يعني لا طعمَ له ولا فضلَ ، لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ :
حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ... شَلا .................
لو أسقط منه " إذا " بطل معنى الكلام ، لأن معناه : حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله. " أسلكوهم شلا " على معنى المحذوف ، فاستغنى عن ذكره بدلالة " إذا " عليه ، فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا (2) - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب :
فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أَيْنَما (3)
وهو يريد : أينما ذهب. وكما تقول العرب : " أتيتك من قبلُ ومن بعدُ " . تريد من قبل ذلك ، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في " إذا " كما يقول القائل :
__________
(1) في المطبوعة " وليس لمدعي الذي . . " وهو خطأ .
(2) في المطبوعة : " كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل . . . " ، وفي المخطوطة : " كما قال . قد ذكرنا فيما مضى . . " ، وكلاهما خطأ ، الأول من تغيير المصححين ، والثاني تصحيف في " قال " ، فهي " دل " ، والنقطة السوداء ، بياض كان في الأصل المنقول عنه ، أو " ما " ضاعت ألفها وبقيت " م " مطموسة ، فظنها ظان علامة فصل .
هذا وقد أشار الطبري إلى ما مضى في كتابه هذا ص : 114 ، ص : 327 فانظره .
(3) من قصيدة محكمة في مختارات ابن الشجري 1 : 16 ، والخزانة 4 : 438 ، وشرح شواهد المغني : 65 ، وبعده : وإنْ تتخطّاكَ أسْبابُها ... فإن قُصَاراكَ أنْ تهرمَا
(1/441)
________________________________________
" إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه ، وإذا لا فلا " . يريد : وإذا لم يكرمك فلا تكرمه.
ومن ذلك قول الآخر :
فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ... فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ (1)
نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : " وإذ قالَ ربك للملائكة " ، لو أبْطِلت " إذ " وحُذِفت من الكلام ، لاستحال عن معناه الذي هو به (2) ، وفيه " إذ " .
فإن قال لنا قائل : فما معنى ذلك ؟ وما الجالب لـ " إذ " ، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه (3) ؟
قيل له : قد ذكرنا فيما مضى (4) : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله : " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم " ، بهذه الآيات والتي بعدها ، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم ، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم ؛ ومذكِّرَهم - بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم - بأسَه ، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته (5) ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته; ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا ، وسخّر لهم ما في السموات من شمسها
__________
(1) لم أعرف صاحبه . وفي المطبوعة : " في يوم أثل نائلا أو أنكدا "
وهو خطأ عريق . وفي المطبوعة : " أسل نائلا " ، وهي أقرب إلى الصواب . الضر : سوء الحال من فقر أو شدة أو بلاء أو حزن . والنائل : ما تناله وتصيبه من معروف إنسان . ونكده ما سأله : قلل له العطاء ، أو لم يعطه البتة ، يقول القائل : وأعْطِ ما أعطيتَهُ طَيِّبًا ... لا خيرَ في المنكودِ والنَّاكِدِ
(2) قوله : " الذي هو به " ، أي : الذي هو به كلام قائم مفهوم .
(3) في المطبوعة : " فإن قال قائل " ، بحذف : " لنا " .
(4) انظر ما سلف في ص : 424 وما بعدها .
(5) في المطبوعة : " من أسلافهم في معصية الله " ، وفي المخطوطة : " سلافهم " مضبوطة بالقلم بضم السين وتشديد اللام ، وفي المواضع السالفة : " أسلاف " . والأسلاف والسلاف جمع سلف وسالف : وهم آباؤنا الذين مضوا وتقدمونا إلى لقائه سبحانه .
(1/442)
________________________________________
وقمرها ونجومها ، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى : ذكره " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " ، معنى : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا ، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا ، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله : " وإذ قال رَبُّك للملائكة " على المعنى المقتضَى بقوله : " كيف تكفرون بالله " ، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله : اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً (1) .
فإن قال قائل : فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت ؟ قيل : نعم ، أكثرُ من أن يحصى ، من ذلك قول الشاعر :
أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ... وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا (2) وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ... بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا (3)
فقال : " ولا متداركٍ " ، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه (4) ، ولا حرف
__________
(1) هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته ، من أجود النظر في تأويل كتاب الله ، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها ، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى ، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة ، لا لرد حرف على حرف سبق .
(2) هو للمرار بن سعيد الفقعسي ، معاني القرآن للفراء 1 : 171 ، مجالس ثعلب : 159 ، اللسان (بيد) (طفل) (نشغ) ، ومعجم البلدان (ثعيلبات) . وثعيلبات وبيدان موضعان . والناجية : الناقة السريعة ، من النجاء : وهو سرعة السير . والذمول : الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا .
(3) يروى " ولا متلافيًا " بالنصب . وتدارك القوم (متعديًا) ، بمعنى أدركهم ، أو حاول اللحاق بهم . وتلافاه : تداركه أيضًا . والشمس طفل : يعني هنا : عند شروقها - لا عند غروبها - أخذت من الطفل الصغير . ونواشغ الوادي جمع ناشغة : وهي مجرى الماء إلى الوادي . الحمول : هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل . وسميت الإبل وما عليها حمولا ، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة . يقول : لن تدركهم ، فقد بكروا بالرحيل .
(4) في المطبوعة : " يعطف عليه " . وفي المخطوطة " يعطف به " ، وقوله " به " ملصقة إلصاقًا في الفاء من " يعطف " .
(1/443)
 

أحدث المواضيع

أعلى