تفسير القرآن الكريم

رد: تفسير القرآن الكريم

143 - حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن عُيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن محمد بن عمرو بن الحسن ، عن ابن عباس : (وَيَذَرَكَ وَإلاهَتَك) ، قال : إنما كان فرعونُ يُعبَد ولا يَعبُد (1)
وكذلك كان عبدُ الله يقرؤها ومجاهد.
144 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : أخبرني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : قوله " ويذرَكَ وإلاهتك " قال : وعبادتَك (2) ولا شك أن الإلاهة - على ما فسره ابن عباس ومجاهد - مصدرٌ من قول القائل : ألَه اللهَ فلانٌ إلاهةً ، كما يقال : عَبَد الله فلانٌ عبادةً ، وعَبَرَ الرؤيا عبارةً. فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا : أنّ " أله " عَبد ، وأن " الإلاهة " مصدرُه.
فإن قال : فإن كان جائزًا أن يقال لمن عبد الله : ألهه - على تأويل قول ابن عباس ومجاهد - فكيف الواجبُ في ذلك أن يقال ، إذا أراد المخبر الخبرَ عن استيجاب الله ذلك على عَبْده ؟

__________
(1) الخبران 142 ، 143 - إسنادهما ضعيفان ، من أجل " سفيان بن وكيع بن الجراح " ، شيخ الطبري فيهما ، وسفيان هذا : ضعيف ، كان أبوه إمامًا حجة ، وكان هو رجلا صالحًا ، ولكن وراقه أفسد عليه حديثه ، وأدخل عليه ما ليس من روايته . ونصحه العلماء أن يدعه فلم يفعل ، فمن أجل ذلك تركوه . قال ابن حبان في كتاب المجروحين ، رقم 470 ص238 - 239 : " فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك " .
وهذان الخبران ، سيذكرهما الطبري في تفسير آية سورة الأعراف : 127 (9 : 18 بولاق) ، وهناك شيء من التحريف في أحدهما . ونقل معناهما السيوطي في الدر المنثور 3 : 107 .
والقراءة الصحيحة المعروفة : {ويذرك وآلهتك} . وأما هذه القراءة " وإلاهتك " ، فقد نقلها صاحب إتحاف البشر : 229 عن ابن محيصن والحسن . ونقلها ابن خالويه في كتاب القراءات الشاذة : 45 عن علي وابن مسعود وابن عباس . وذكرها أبو حيان في البحر 4 : 367 عن هؤلاء الثلاثة " وأنس وجماعة غيرهم " .
(2) الخبر 144 - الحسين بن داود : اسمه " الحسين " ولقبه " سنيد " ، بضم السين المهملة وفتح النون . واشتهر بهذا اللقب ، وترجم به في التهذيب 4 : 244 - 245 ، وفي الجرح والتعديل 3 / 1 / 326 . وحجاج : هو ابن محمد المصيصي ، من شيوخ الإمام أحمد . وهذا الأثر عن مجاهد ، سيرويه الطبري في تفسير آية الأعراف (9 : 18 بولاق) - بإسناد آخر .
(1/124)
________________________________________
قيل : أما الروايةُ فلا رواية فيه عندنا ، ولكن الواجب - على قياس ما جاء به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي : -
145 - حدثنا به إسماعيل بن الفضل ، حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مُليكة ، عمن حدثه عن ابن مسعود - ومِسْعَر بن كِدَام ، عن عطية العَوْفي ، عن أبي سعيد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ عيسى أسلمَتْه أمه إلى الكتّاب ليعلّمه فقال له المعلم اكتب " الله " فقال له عيسى : " أتدري ما الله ؟ الله إلهُ الآلهة (1) " .
- أن يقال (2) ، الله جل جلاله ألَهَ العبدَ ، والعبدُ ألَهَه. وأنْ يكون قولُ القائل " الله " - من كلام العرب أصله " الإله " .
فإن قال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، مع اختلاف لفظيهما ؟
قيل : كما جاز أن يكون قوله : (لكِنَّ هُوَ اللهُ رَبِّي) [سورة الكهف : 38] أصله : لكن أنا ، هو الله ربي ، كما قال الشاعر :
وَتَرْمِينَنِي بالطَّرْف ، أَيْ أَنتَ مُذْنبٌ... وتَقْلينَني ، لكِنَّ إياكِ لا أَقْلِي (3)
يريد : لكن أنا إياك لا أقلي ، فحذَف الهمزة من " أنا " فالتقت نون " أنا " " ونون " لكنْ " وهي ساكنة ، فأدغمت في نون " أنا " فصارتا نونًا مشددة. فكذلك " الله " أصله " الإله " ، أسقطت الهمزةُ التي هي فاء الاسم ، فالتقت اللام التي هي عين الاسم ، واللام الزائدة التي دخلت مع الألف الزائدة وهي ساكنة ، فأدغمت في

__________
(1) الحديث 145 - هو حديث لا أصل له . وهو جزء من الحديث الموضوع الذي روى الطبري بعضه فيما مضى 140 ، بهذا الإسناد . وفصلنا القول فيه هناك .
(2) قوله : " أن يقال " من تمام قوله في السطر الثالث " ولكن الواجب - " خبر لكن .
(3) الأضداد لابن الأنباري : 163 ، والخزانة 4 : 490 ، وقال : " لم أقف على تتمته وقائله ، مع أنه مشهور ، قلما خلا منه كتاب نحوي ، والله أعلم " .
(1/125)
________________________________________
الأخرى التي هي عين الاسم ، فصارتا في اللفظ لامًا واحدة مشددة ، كما وصفنا من قول الله(لكنَّ هوَ الله رَبي).
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
قال أبو جعفر : وأما " الرحمن " ، فهو فَعلان ، من رَحم ، و " الرحيم " فعيل منه. والعرب كثيرًا ما تبني الأسماء من " فَعِل يفْعَل " على " فعلان " ، كقولهم من غَضِب : غَضبان ، ومن سَكر : سكران ، ومن عَطش : عطشان. فكذلك قولهم " رَحمن " من رَحِمَ ، لأن " فعِلَ " منه : رَحم يرْحم. وقيل " رحيم " ، وإن كانت عَين " فعِل " منها مكسورة ، لأنه مدح. ومن شأن العرب أن يحملوا أبنية الأسماء - إذا كان فيها مدح أو ذم - على " فعيل " ، وإن كانت عين " فعل " منها مكسورةً أو مفتوحةً ، كما قالوا من " علم " عالم وعليم ، ومن " قدَر " قادر وقدير. وليس ذلك منها بناء على أفعالها ، لأن البناء من " فَعِل يفْعَل " و " فعَل يفعِل " فاعلٌ. فلو كان " الرحمن والرحيم " خارجين عن بناء أفعالهما لكانت صورتهما " الراحم " .
فإن قال قائل : فإذا كان الرحمن والرحيم اسمين مشتقين من الرحمة ، فما وجهُ تكرير ذلك ، وأحدهما مؤدٍّ عن معنى الآخر ؟
قيل له : ليس الأمر في ذلك على ما ظننتَ ، بل لكل كلمة منهما معنى لا تؤدي الأخرى منهما عنها.
فإن قال : وما المعنى الذي انفردت به كل واحدة منهما ، فصارت إحداهما غير مؤدية المعنى عن الأخرى ؟
قيل : أما من جهة العربية ، فلا تَمانُع (1) بين أهل المعرفة بلغات العرب ، أنّ قول القائل : " الرحمن " - عن أبنية الأسماء
__________
(1) لا تمانع : أي لا اختلاف بينهم ، يدعو بعضهم إلى دفع ما يقوله الآخر .
(1/126)
________________________________________
من " فَعِل يفعَل " - أشدُّ عدولا من قوله " الرّحيم " . ولا خلاف مع ذلك بينهم ، أنّ كل اسم كان له أصل في " فَعِلَ يفعَل " - ثم كان عن أصله من " فَعِل يفعَلُ " أشد عدولا - أنّ الموصوف به مفضَّل على الموصوف بالاسم المبني على أصله من " فَعِل يفعَل " ، إذا كانت التسمية به مدحًا أو ذمًّا. فهذا ما في قول القائل " الرحمن " ، من زيادة المعنى على قوله " الرحيم " في اللغة.
وأما من جهة الأثر والخبر ، ففيه بين أهل التأويل اختلاف : -
146 - فحدثني السري بن يحيى التميمي ، قال : حدثنا عثمان بن زفر ، قال : سمعت العَرْزَمي يقول : " الرحمن الرحيم " ، قال : الرحمن بجميع الخلق ، الرّحيم ، قال : بالمؤمنين. (1)
147 - حدثنا إسماعيل بن الفضل ، قال : حدثنا إبراهيم بن العلاء ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مُليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود - ومسعر بن كدام ، عن عطية العَوفي ، عن أبي سعيد - يعني الخدريّ - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ عيسى ابن مريم قال : الرحمن رَحمنُ الآخرة والدنيا ، والرحيم رحيمُ الآخرة " . (2)
فهذان الخبران قد أنبآ عن فرق ما بين تسمية الله جل ثناؤه باسمه الذي هو " رحمن " ، وتسميته باسمه الذي هو " رحيم " ، واختلاف معنى الكلمتين - وإن اختلفا في معنى ذلك الفرق ، فدلّ أحدهما على أنّ ذلك في الدنيا ، ودلّ الآخر على أنه في الآخرة.
فإن قال : فأي هذين التأويلين أولى عندك بالصحة ؟
__________
(1) الأثر 146 - نقله ابن كثير في التفسير 1 : 40 عن هذا الموضع . و " السري بن يحيى ابن السري التميمي الكوفي " ، شيخ الطبري ، لم نجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 285 ، وقال : " لم يقض لنا السماع منه ، وكتب إلينا بشيء من حديثه ، وكان صدوقًا " . و " العرزمي " المرويُّ عنه هذا الكلام هنا : ضعيف جدا ، قال الإمام أحمد في المسند 6938 : " لا يساوي حديثه شيئًا " . وهو " محمد بن عبيد الله بن أبي سليمان العرزمي " . وأما عمه " عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي " ، فإنه تابعي ثقة ، ولكنه قديم ، مات سنة 145 ، فلم يدركه " عثمان بن زفر " المتوفى سنة 218 . و " العرزمي " بفتح العين المهملة وسكون الراء وبعدها زاي ، نسبة إلى " عرزم " . ووقع هنا في الطبري وابن كثير " العرزمي " ، بتقديم الزاي على الراء ، وهو تصحيف .
(2) الحديث 147 - هذا إسناد ضعيف ، بل إسنادان ضعيفان ، كما فصلنا فيما مضى : 140 ، 145 .
(1/127)
________________________________________
قيل : لجميعهما عندنا في الصحة مخرج ، فلا وجه لقول قائل : أيُّهما أولى بالصحة ؟ وذلك أنّ المعنى الذي في تسمية الله بالرحمن ، دون الذي في تسميته بالرحيم : هو أنه بالتسمية بالرحمن موصوف بعموم الرحمة جميعَ خلقه ، وأنه بالتسمية بالرحيم موصوف بخصوص الرحمة بعضَ خلقه ، إما في كل الأحوال ، وإما في بعض الأحوال. فلا شك - إذا كان ذلك كذلك - أنّ ذلك الخصوص الذي في وصفه بالرحيم لا يستحيل عن معناه ، في الدنيا كان ذلك أو في الآخرة ، أو فيهما جميعًا.
فإذا كان صحيحًا ما قلنا من ذلك - وكان الله جل ثناؤه قد خصّ عباده المؤمنين في عاجل الدنيا بما لطف بهم من توفيقه إياهم لطاعته ، والإيمان به وبرسله ، واتباع أمره واجتناب معاصيه ، مما خُذِل عنه من أشرك به ، وكفر وخالف ما أمره به ، وركب معاصيَه ؛ وكان مع ذلك قد جعلَ ، جَلَّ ثناؤه ، ما أعد في آجل الآخرة في جناته من النعيم المقيم والفوز المبين ، لمن آمن به ، وصدّق رسله ، وعمل بطاعته ، خالصًا ، دون من أشرك وكفر به - (1) كان بيِّنًا إن الله قد خص المؤمنين من رحمته في الدنيا والآخرة ، مع ما قد عمَّهم به والكفارَ في الدنيا من الإفضال والإحسان إلى جميعهم ، في البَسْط في الرزق ، وتسخير السحاب بالغَيْثِ ، وإخراج النبات من الأرض ، وصحة الأجسام والعقول ، وسائر النعم التي لا تُحصى ، التي يشترك فيها المؤمنون والكافرون.
فربُّنا جل ثناؤه رحمنُ جميع خلقه في الدنيا والآخرة ، ورحيمُ المؤمنين خاصةً في الدنيا والآخرة. فأما الذي عمّ جميعَهم به في الدنيا من رحمته فكان رَحمانًا لهم به ، فما ذكرنا مع نظائره التي لا سبيل إلى إحصائها لأحد من خلقه ، كما قال جل ثناؤه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا) [سورة إبراهيم : 34 ، وسورة النحل : 18].
وأما في الآخرة ، فالذي عمّ جميعهم به فيها من رحمته ، فكان لهم رحمانًا ، تسويته
__________
(1) جواب قوله " فإذ كان صحيحًا . . . " وما بينهما فصل .
(1/128)
________________________________________
بين جميعهم جل ذكرُه في عَدله وقضائه ، فلا يظلم أحدًا منهم مِثْقال ذَرّة ، وإن تَكُ حسنةً يُضاعفها ويُؤتِ من لَدُنْهُ أجرًا عظيما ، وتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ. فذلك معنى عمومه في الآخرة جميعَهم برحمته ، الذي كان به رحمانًا في الآخرة.
وأما ما خص به المؤمنين في عاجل الدنيا من رحمته ، الذي كان به رحيما لهم فيها ، كما قال جل ذكره : (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [سورة الأحزاب : 43] فما وصفنا من اللطف لهم في دينهم ، فخصّهم به ، دونَ من خذَله من أهل الكفر به.
وأمَّا ما خصّهم به في الآخرة ، فكان به رحيما لهم دون الكافرين ، فما وصفنا آنفًا مما أعدَّ لهم دون غيرهم من النعيم ، والكرامة التي تقصرُ عنها الأمانيّ.
وأما القول الآخر في تأويله فهو ما : -
148 - حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : الرحمن ، الفعلان من الرحمة ، وهو من كلام العرب. قال : الرّحمن الرحيم : الرقيقُ الرفيقُ بمن أحبَّ أن يرحمه ، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنُف عليه. (1) وكذلك أسماؤه كلها.
وهذا التأويل من ابن عباس ، يدل على أن الذي به ربُّنا رحمن ، هو الذي به رحيم ، وإن كان لقوله " الرحمن " من المعنى ، ما ليس لقوله " الرحيم " . لأنه جعل معنى " الرحمن " بمعنى الرقيق على من رقَّ عليه ، ومعنى " الرحيم " بمعنى الرفيق بمن رفق به.
والقول الذي رويناه في تأويل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرناه عن العرْزَمي (2) ، أشبه بتأويله من هذا القول الذي رويناه عن ابن عباس. وإن
__________
(1) الحديث 148 - نقله ابن كثير في التفسير 1 : 41 عن هذا الموضع ، وقد مضى الكلام في هذا الإسناد ، وبيان ضعفه : 137 ، 141 . والذي في الدر المنثور 1 : 8 - 9 " على من أحب أن يضعف عليه العذاب " ، والظاهر أنه تصرف من ناسخ أو طابع .
(2) إشارة إلى ما مضى : 146 ، ووقع في الأصول هنا " العرزمي " أيضًا ، بتقديم الزاي ، وهو خطأ ، كما بينا من قبل .
(1/129)
________________________________________
كان هذا القول موافقًا معناه معنى ذلك ، في أن للرحمن من المعنى ما ليس للرحيم ، وأن للرحيم تأويلا غيرَ تأويل الرحمن.
والقول الثالث في تأويل ذلك ما : -
149 - حدثني به عمران بن بَكَّار الكلاعي ، قال : حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا أبو الأزهر نصر بن عمرو اللَّخمي من أهلِ فلَسْطين ، قال : سمعت عطاء الخراساني يقول : كان الرحمن ، فلما اختزلَ الرحمن من اسمه كان الرحمنَ الرحيمَ. (1)
والذي أراد ، إن شاء الله ، عطاءٌ بقوله هذا : أن الرحمن كان من أسماء الله التي لا يتسمَّى بها أحد من خَلْقِه ، فلما تسمَّى به الكذابُ مسيلمة - وهو اختزاله إياه ، يعني اقتطاعه من أسمائه لنفسه - أخبر الله جلّ ثناؤه أن اسمه " الرحمنُ الرحيمُ " ليفصِل بذلك لعباده اسمَهُ من اسم من قد تسمَّى بأسمائه ، إذ كان لا يسمَّى أحد " الرحمن الرحيم " ، فيجمع له هذان الاسمان ، غيره جلّ ذكره. وإنما يتسمَّى بعضُ خَلْقه إما رحيما ، أو يتسمَّى رَحمن. فأما " رحمن رحيم " ، فلم يجتمعا قطّ لأحد سواهُ ، ولا يجمعان لأحد غيره. فكأنّ معنى قول عطاء هذا : أن الله جل ثناؤه إنما فَصَل بتكرير الرحيم على الرحمن ، بين اسمه واسم غيره من خلقِه ، اختلف معناهما أو اتفقا.
والذي قال عطاءٌ من ذلك غيرُ فاسد المعنى ، بل جائز أن يكون جلّ ثناؤه خصّ نفسه بالتسمية بهما معًا مجتمعين ، إبانةً لها من خلقه ، ليعرف عبادُه بذكرهما مجموعينِ أنه المقصود بذكرهما دون مَنْ سواه من خلقه ، مع مَا في تأويل كل واحد منهما من المعنى الذي ليس في الآخر منهما.
__________
(1) الأثر 149 - نقله السيوطي في الدر المنثور 1 : 9 ونسبه للطبري وحده . وعطاء الخراساني هو عطاء بن أبي مسلم ، وهو ثقة ، وضعفه بعض الأئمة . وهو كثير الرواية عن التابعين ، وكثير الإرسال عن الصحابة ، في سماعه منهم خلاف . وأما الراوي عنه " أبو الأزهر نصر بن عمرو اللخمي " ، فإني لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع ، إلا قول الدولابي في الكنى والأسماء 1 : 110 : " أبو الأزهر الفلسطيني نصر بن عمرو اللخمي ، روى عنه يحيى بن صالح الوحاظي " .
(1/130)
________________________________________
وقد زعم بعضُ أهل الغَباء أنّ العرب كانت لا تعرف " الرحمن " ، ولم يكن ذلك في لغتها (1) ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : ( وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) [سورة الفرقان : 60] ، إنكارًا منهم لهذا الاسم ، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته ، أوْ : لا وكأنه لم يتْلُ من كتاب الله قول الله( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ) - يعني محمدًا - (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [سورة البقرة : 146] وهم مع ذلك به مكذِّبون ، ولنبوته جاحدون! فيَعلمَ بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقةَ ما قد ثبت عندهم صحتُه ، واستحكمتْ لديهم معرفتُه. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء :
أَلا ضربَتْ تلكَ الفتاةُ هَجِينَهَا... أَلا قَضَبَ الرحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا (2)
وقال سلامة بن جَندلٍ السَّعْدي : (3)
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ... وَمَا يَشَإ الرحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقِ (4)
__________
(1) لا يزال أهل الغباء في عصرنا يكتبونه ، ويتبجحون بذكره في محاضراتهم وكتبهم ، نقلا عن الذين يتتبعون ما سقط من الأقوال ، وهم الأعاجم الذين يؤلفون فيما لا يحسنون باسم الاستشراق . ورد الطبري مفحم لمن كان له عن الجهل والخطأ رده تنهاه عن المكابرة .
(2) لم أجد قائل البيت . واستشهد به ابن سيده في المخصص 17 : 152 ، وعلق على البيت محمد محمود التركزي الشنقيطي ، وادعى أن البيت مصنوع ، وأن " بعض الرجال الذين يحبون إيجاد الشواهد المعدومة لدعاويهم المجردة ، صنعه ولفقه ، وأن الوضع والصنعة ظاهران فيه ظهور شمس الضحى ، وركاكته تنادي جهارًا بصحة وضعه وصنعته ، والصواب وهو الحق المجمع عليه ، أن الشاعر الجاهلي المشار إليه ، هو الشنفرى الأزدي ، وهذا البيت ليس في شعره " ، وأنه ملفق من قول الشنفرى : أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي ، والتَلهُّفُ ضَلَّةٌ ... بما ضَرَبَتْ كَفُّ الفَتَاةِ هَجِينَهَا
والشنقيطي رحمه الله كان كثير الاستطالة ، سريعًا إلى المباهاة بعلمه وروايته . والذي قاله من ادعاء الصنعة لا يقوم . وكفى بالبيت الذي يليه دليلا على فساد زعمه أن الدافع لصنعته : إيجاد الشواهد المعدومة ، لدعاوى مجردة . وليس في البيت ركاكة ولا صنعة .
(3) في المخطوطة والمطبوعة : " الطهوي " مكان السعدي ، وهو خطأ . ليس سلامة طهويا .
(4) ديوانه : 19 ، وقد جاء في طبقات فحول الشعراء : 131 في نسب الشاعر : سلامة بن جندل بن عبد الرحمن " ، وهذه رواية ابن سلام ، وغيره يقول : " ابن عبد " ، فإن صحت رواية ابن سلام ، فهي دليل آخر قوي على فساد دعوى الشنقيطي .
(1/131)
________________________________________
وقد زعم أيضًا بعضُ من ضعُفت معرفتُه بتأويل أهل التأويل ، وقلَّت روايته لأقوال السلف من أهل التفسير ، أنّ " الرحمن " مجازه : ذو الرحمة ، و " الرحيم " مجازه : الرّاحم (1) ، ثم قال : قد يقدِّرون اللفظين من لفظٍ والمعنى واحد ، وذلك لاتساع الكلام عندهم. قال : وقد فعلوا مثل ذلك فقالوا : ندمان ونَديم ، ثم استشهد ببيتِ بُرْج بن مُسْهِر الطائي :
وَنَدْمَانٍ يزيدُ الكأسَ طِيبًا ، ... سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ (2)
واستشهد بأبياتٍ نظائره في النَّديم والنَّدمان ، ففرق بين معنى الرحمن والرحيم في التأويل لقوله : الرحمن ذو الرحمة ، والرحيم الراحم ، وإن كان قد ترك بيان تأويل معنيَيْهما على صحته. ثم مثّل ذلك باللَّفظين يأتيان بمعنى واحد ، فعاد إلى ما قد جعله بمعنيين ، فجعله مثال ما هو بمعنى واحد مع اختلاف الألفاظ.
ولا شك أن ذا الرحمة هو الذي ثَبت أن له الرحمة ، وصحَّ أنها له صفة ؛ وأن الراحم هو الموصوف بأنه سيرحم ، أو قد رحم فانقضى ذلك منه ، أو هو فيه.
ولا دلالة له فيه حينئذ أن الرحمة له صفة ، كالدلالة على أنها له صفة ، إذا وُصِف بأنه ذو الرحمة. فأين معنى " الرحمن الرحيم " على تأويله ، من معنى الكلمتين يأتيان مقدَّرتين من لفظ واحد باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني ؟ ولكن القول إذا كان غير أصل معتمد عليه ، كان واضحًا عوارُه.
وإن قال لنا قائل : ولم قدّم اسمَ الله الذي هو " الله " ، على اسمه الذي هو " الرحمن " ، واسمه الذي هو " الرحمن " ، على اسمه الذي هو " الرحيم " ؟
قيل : لأن من شأن العرب ، إذا أرادوا الخبر عن مُخبَر عنه ، أن يقدِّموا اسمه ، ثم يتبعوه صفاتِه ونعوتَه. وهذا هو الواجب في الحُكم : أن يكون الاسم مقدَّمًا قبل نعته وصِفَته ، ليعلم السامع الخبرَ ، عمَّن الخبرُ. فإذا كان ذلك كذلك -
__________
(1) الذي عناه الطبري ، هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه " مجاز القرآن " : 21 ، وقد نقل أكثر كلامه الآتي بنصه .
(2) حماسة أبي تمام 3 : 135 ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : 62 .
(1/132)
________________________________________
وكانَ لله جلَّ ذكره أسماءٌ قد حرَّم على خلقه أن يتسمَّوا بها ، خَصَّ بها نفسه دونهم ، وذلك مثلُ " الله " و " الرحمن " و " الخالق " ؛ وأسماءٌ أباحَ لهم أن يُسمِّيَ بعضهم بعضًا بها ، وذلك : كالرحيم والسميع والبصير والكريم ، وما أشبه ذلك من الأسماء - كان الواجب أن تقدَّم أسماؤه التي هي له خاصة دون جميع خلقه ، ليعرف السامعُ ذلك مَنْ تَوجَّه إليه الحمد والتمجيدُ ، ثم يُتبع ذلك بأسمائه التي قد تسمى بها غيره ، بعد علم المخاطب أو السامع من توجَّه إليه ما يتلو ذلك من المعاني. فبدأ الله جل ذكره باسمه الذي هو " الله " ، لأن الألوهية ليست لغيره جلّ ثناؤه من وجهٍ من الوجوه ، لا من جهة التسمِّي به ، ولا من جهة المعنى. وذلك أنا قد بينَّا أن معنى " الله " تعالى ذكره المعبود (1) ، ولا معبودَ غيرُه جل جلاله ، وأن التسمِّي به قد حرّمه الله جل ثناؤه ، وإن قصد المتسمِّي به ما يقصدُ المتسمِّي بسعيد وهو شقي ، وبحسَنٍ وهو قبيح.
أوَلا تَرى أنّ الله جلّ جلاله قال في غير آية من كتابه : (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ) فاستكبر ذلك من المقرِّ به ، وقال تعالى في خُصوصه نَفسَه بالله وبالرحمن : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [سورة الإسراء : 110]. ثم ثنَّى باسمه ، الذي هو الرحمن ، إذ كان قد مَنع أيضًا خلقه التسمي به ، وإن كان من خلْقه من قد يستحق تسميته ببعض معانيه. وذلك أنه قد يجوز وصْف كثير ممّن هو دون الله من خلقه ، ببعض صفات الرحمة. وغير جائز أن يستحق بعضَ الألوهية أحد دونه. فلذلك جاء الرحمن ثانيًا لاسمه الذي هو " الله " .
وأما اسمه الذي هو " الرحيم " فقد ذكرنا أنه مما هو جائز وصْف غيره به. والرحمة من صفاته جل ذكره ، فكان - إذ كان الأمرُ على ما وصفنا - واقعًا مواقع نعوت الأسماء اللواتي هنّ توابعُها ، بعد تقدم الأسماء عليها. فهذا وجه تقديم اسم الله الذي هو " الله " ، على اسمه الذي هو " الرحمن " ، واسمه الذي هو " الرحمن " على اسمه الذي هو " الرحيم " . (2)
وقد كان الحسنُ البصريّ يقول في " الرحمن " مثل ما قلنا ، أنه من أسماء الله التي مَنَعَ التسميَ بها العبادَ. (3)
150 - حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا حماد بن مسعدة ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : " الرحمن " اسمٌ ممنوع. (4)
مع أن في إجماع الأمة من منع التسمِّي به جميعَ الناس ، ما يُغني عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بقول الحسن وغيره.
__________
(1) في المطبوعة : " أن معنى الله هو المعبود " .
(2) هذا الاحتجاج من أجود ما قيل ، ودقته تدل على حسن نظر أبي جعفر فيما يعرض له . وتفسيره كله شاهد على ذلك . رحمة الله عليه .
(3) غيروه في المطبوعة : " لعباده " .
(4) الأثر 150 - نقله ابن كثير في التفسير 1 : 41 - 42 عن هذا الموضع . والسيوطي في الدر المنثور 1 : 9 ، ونسبه للطبري وحده . و " عوف " الراويه عن الحسن : هو عوف بن أبي جميلة العبدي ، المعروف بابن الأعرابي ، وهو ثقة ثبت .
 
رد: تفسير القرآن الكريم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
(القول في تأويل فاتحة الكتاب)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } :
قال أبو جعفر : ومعنى(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الشكر خالصًا لله جل ثناؤه دون سائر ما يُعبد من دونه ، ودون كلِّ ما برَأَ من خلقه (1) ، بما أنعم على عباده من النِّعم التي لا يُحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحدٌ ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح أجسام المكلَّفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وَغذَاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم لذلك عليه ، ومع ما نبَّههم عليه ودعاهم إليه ، من الأسباب المؤدِّية إلى دوام الخلود في دار المُقام في النعيم المقيم. فلربِّنا الحمدُ على ذلك كله أولا وآخرًا.
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جلّ ذكره وتقدَّست أسماؤه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، جاء الخبرُ عن ابن عباس وغيره : -
151 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد صلى الله عليهما : قل يا محمد " الحمد لله " قال ابن عباس : " الحمد لله " : هو الشكر لله ، والاستخذاء لله ، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه ، وغير ذلك. (2)
__________
(1) في المطبوعة : " ما يرى " ، والصواب من المخطوطة وابن كثير 1 : 42 .
(2) الحديث 151 - هذا الإسناد سبق بيان ضعفه في 137 . و " محمد بن العلاء " شيخ الطبري : هو " أبو كريب " نفسه في الإسناد السابق ، مرة يسميه ومرة يكنيه . وهذا الحديث نقله ابن كثير في التفسير 1 : 43 ، والسيوطي في الدر المنثور 1 : 11 ، والشوكاني في تفسيره الذي سماه فتح القدير 1 : 10 ، ونسبوه أيضًا لابن أبي حاتم في تفسيره .
(1/135)
________________________________________
152 - وحدثني سعيد بن عمرو السَّكُوني ، قال : حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثني عيسى بن إبراهيم ، عن موسى بن أبي حَبيب ، عن الحكم بن عُمَير - وكانت له صحبة - قال : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : إذا قلت " الحمد لله ربِّ العالمين " ، فقد شكرت الله ، فزادك. (1)
__________
(1) الحديث 152 - نقله ابن كثير 1 : 43 بإسناد الطبري هذا ، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 11 ونسبه للطبري والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي " بسند ضعيف " . وإسناده ضعيف حقًا ، بل هو إسناد لا تقوم له قائمة ، كما سنذكر :
أما بقية بن الوليد ، فالحق أنه ثقة ، وإنما نعوا عليه التدليس ، ولا موضع له هنا ، فإنه صرح بالتحديث .
ولكن عيسى بن إبراهيم ، وهو القرشي الهاشمي ، كل البلاء منه في هذا الحديث ، وفي أحاديث من نحوه ، رواها بهذا الإسناد . وقد قال فيه البخاري في الضعفاء : 27 : " منكر الحديث " ، وكذلك النسائي : 22 . وترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 271 - 272 ، وروى عن أبيه قال : " متروك الحديث " ، وعن ابن معين : " ليس بشيء " ، وقال ابن حبان في الضعفاء ، الورقة 163 : " لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد " . وترجمته في الميزان ولسان الميزان فيها العجب .
وشيخه " موسى بن أبي حبيب " مثله : ضعيف تالف ، وقال الذهبي في الميزان : " ضعفه أبو حاتم ، وخبره ساقط . وله عن الحكم بن عمير ، رجل قيل : له صحبة . والذي أراه أنه لم يلقه . وموسى - مع ضعفه - فمتأخر عن لقي صحابي كبير " . فالبلاء من هذين أو من أحدهما .
حتى لقد شك بعض الحفاظ في وجود الصحابي نفسه " الحكم بن عمير " ، من أجلهما! فترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 2 / 125 ، قال : " الحكم بن عمير : روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يذكر السماع ولا لقاء ، أحاديث منكرة ، من رواية ابن أخيه موسى بن أبي حبيب ، وهو شيخ ضعيف الحديث ، ويروي عن موسى بن أبي حبيب عيسى بن إبراهيم ، وهو ذاهب الحديث ، سمعت أبي يقول ذلك " .
وحتى إن الذهبي أنكر صحبته وترجم له في الميزان ، وأخطأ في النقل فيه عن أبي حاتم ، ذكر أنه ضعف الحكم! وكلام أبي حاتم - كما ترى - غير ذلك . وتعقبه الحافظ في لسان الميزان 2 : 337 وأثبت أنه صحابي ، بما ذكره ابن عبد البر وابن منده وأبو نعيم والترمذي وغيرهم ، وأن الدار قطني قال : " كان بدريًا " .
وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات (ص 54) في طبقة الصحابة ، وقال : " يقال إن له صحبة " . ونقل الحافظ هذا في اللسان عن ابن حبان ، ولكن سها فزعم أنه ذكره " في ثقات التابعين " .
وترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب ، رقم 476 : باسم " الحكم بن عمرو الثمالي ، وثمالة في الأزد ، شهد بدرًا ، ورويت عنه أحاديث مناكير من أحاديث أهل الشأم ، لا تصح " . وتسمية أبيه باسم " عمرو " خطأ قديم في نسخ الاستيعاب ، لأن ابن الأثير تبعه في أسد الغابة 1 : 26 ، وأشار إلى الغلط فيه ، ثم ترجمه على الصواب : " الحكم بن عمير الثمالي ، من الأزد ، وكان يسكن حمص " . وحقق الحافظ ترجمته في الإصابة 2 : 30 تحقيقًا جيدًا .
(1/136)
________________________________________
قال : وقد قيل : إنّ قول القائل " الحمد لله " ، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحُسنى ، وقوله : " الشكر لله " ، ثناء عليه بنعمه وأياديه.
وقد رُوي عن كعب الأحبار أنه قال : " الحمد لله " ، ثناءٌ على الله. ولم يبيّن في الرواية عنه ، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك.
153 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصَّدَفي ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : حدثني عمر بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال : أخبرني السلولي ، عن كعب ، قال : من قال " الحمد لله " ، فذلك ثناء على الله. (1)
154 - حدثني علي بن الحسن الخرّاز ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجَرْمي ، قال : حدثنا محمد بن مصعب القُرْقُساني ، عن مُبارك بن فَضالة ، عن الحسن ، عن الأسود بن سريع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس شيءٌ أحبَّ إليه الحمد ، من الله تعالى ، ولذلك أثنى على نَفسه فقال : " الحمد لله " (2) .
__________
(1) الخبر 153 - هذا الإسناد صحيح ، وسواء صح أم ضعف ، فلا قيمة له ، إذ منتهاه إلى كعب الأحبار . وما كان كلام كعب حجة قط ، في التفسير وغيره . و " الصدفي " : بفتح الصاد والدال المهملتين ، نسبة إلى " الصدف " بفتح الصاد وكسر الدال ، وهي قبيلة من حمير ، نزلت مصر . و " السلولي " ، هو : عبد الله بن ضمرة السلولي ، تابعي ثقة .
وهذا الخبر - عن كعب - ذكره ابن كثير 1 : 43 دون إسناد ولا نسبة . وذكر السيوطي 1 : 11 ونسبه للطبري وابن أبي حاتم .
(2) الحديث 154 - إسناده صحيح . علي بن الحسن بن عبدويه أبو الحسن الخراز ، شيخ الطبري : ثقة ، مترجم في تاريخ بغداد 11 : 374 - 375 . و " الخراز " : ثبت في الطبري بالخاء والراء وآخره زاي . وفي تاريخ بغداد " الخزاز " بزاءين ، ولم نستطع الترجيح بينهما . مسلم بن عبد الرحمن الجرمي : مترجم في لسان الميزان 6 : 32 باسم " مسلم بن أبي مسلم " فلم يذكر اسم أبيه ، وهو هو . ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 13 : 100 ، قال : " مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، وهو مسلم بن عبد الرحمن " ، وقال : " كان ثقة ، نزل طرسوس ، وبها كانت وفاته " . و " الجرمي " : رسمت في أصول الطبري ولسان الميزان " الحرمي " بدون نقط . ولكنهم لم ينصوا على ضبطه . وعادتهم في مثل هذا أن ينصوا على ضبط القليل والشاذ ، وأن يدعوا الكثير الذي يأتي على الجادة في الضبط ، والجادة في هذا الرسم " الجرمي " بالجيم ، وبذلك رسم في تاريخ بغداد ، فعن هذا أو ذاك رجحناه . و " محمد بن مصعب القرقساني " ، و " مبارك بن فضالة " : مختلف فيهما . وقد رجحنا توثيقهما في شرح المسند : الأول في 3048 ، والثاني في 521 . و " الحسن " : هو البصري ، وقد أثبتنا في شرح صحيح ابن حبان ، في الحديث 132 أنه سمع من الأسود بن سريع .
وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1 : 12 عن تفسير الطبري . ورواه أحمد في المسند بمعناه مختصرًا 15650 (3 : 435 حلبي) عن روح بن عبادة عن عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن الأسود بن سريع ، قال : " قلت : يا رسول الله ، ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي ؟ قال : أما إن ربك يحب الحمد " . وهذا إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات أثبات . وذكره ابن كثير في التفسير 1 : 43 عن المسند . وكذلك ذكره السيوطي ، ونسبه أيضًا للنسائي والحاكم وغيرهما .
ورواه أحمد أيضًا 15654 ، والبخاري في الأدب المفرد : 51 ، بنحوه ، في قصة مطولة ، من رواية عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود بن سريع .
ومعناه ثابت صحيح ، من حديث ابن مسعود ، في المسند 4153 : " لا أحد أغير من الله ، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله ، ولذلك مدح نفسه " . ورواه أيضًا البخاري ومسلم وغيرهما .
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
قال أبو جعفر : ولا تَمانُع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحُكْم (1) ، لقول القائل : " الحمد لله شكرًا " - بالصحة. فقد تبيّن - إذْ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا - أنّ الحمد لله قد يُنطق به في موضع الشكر ، وأن الشكر قد يوضع موضعَ الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك ، لما جاز أن يُقال " الحمد لله شكرًا " ، فيُخْرِج من قول القائل " الحمد لله " مُصَدَّرَ : " أشكُرُ " ، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد ، كان خطأ أن يُصَدَّرَ من الحمد غيرُ معناه وغير لفظه. (2)
فإن قال لنا قائل : وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد ؟ وهلا قيل : حمدًا لله رب العالمين ؟
قيل : إن لدخول الألف واللام في الحمد ، معنى لا يؤديه قول القائل " حَمْدًا " ، بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد مُنْبِئٌ عن أن معناه (3) : جميعُ المحامد والشكرُ الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دَلّ إلا على أنّ حَمْدَ قائلِ ذلك لله ، دون المحامد كلها. إذْ كان معنى قول القائل : " حمدًا لله " أو " حمدٌ لله " :
__________
(1) انظر ما كتبناه آنفًا : 126 عن معنى " لا تمانع " .
(2) تكلم العلماء في نقض ما ذهب إليه أبو جعفر من أن " الحمد والشكر " بمعنى ، وأن أحدهما يوضع موضع الآخر ، وهو ما ذهب إليه المبرد أيضًا . انظر القرطبي 1 : 116 ، وابن كثير 1 : 42 ، وأخطأ النقل عن القرطبي ، فظنه استدل لصحة قول الطبري ، وهو وهم . والذي قاله الطبري أقوى حجة وأعرق عربية من الذين ناقضوه . وقوله " مصدر أشكر " ، وقوله " أن يصدر من الحمد " ، يعني به المفعول المطلق . وانظر ما مضى : 117 ، تعليق : 1 .
(3) في المطبوعة : " مبني على أن معناه " ، أدخلوا عليه التبديل .
(1/138)
________________________________________
أحمد الله حمدًا ، وليس التأويل في قول القائل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، تاليًا سورةَ أم القرآن : أحمدُ الله ، بل التأويلُ في ذلك ما وصفنا قبلُ ، من أنّ جميع المحامد لله بألوهيّته وإنعامه على خلقه بما أنعم به عليهم من النعم التي لا كِفاء لها في الدين والدنيا ، والعاجل والآجل.
ولذلك من المعنى ، تتابعتْ قراءة القرّاء وعلماء الأمة على رَفع الحمد من(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) دون نصبها ، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك : أحمد الله حمدًا. ولو قرأ قارئ ذلك بالنصب ، لكان عندي مُحيلا معناه ، ومستحقًّا العقوبةَ على قراءته إياه كذلك ، إذا تعمَّد قراءتَه كذلك ، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله.
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله " الحمد لله " ؟ أحَمِد الله نفسه جلّ ثناؤه فأثنى عليها ، ثم علَّمنَاه لنقول ذلك كما قال ووصَف به نفسه ؟ فإن كان ذلك كذلك ، فما وجه قوله تعالى ذكره إذًا( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وهو عزّ ذكرُه معبودٌ لا عابدٌ ؟ أم ذلك من قِيلِ جبريلَ أو محمدٍ رَسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقد بَطل أن يكون ذلك لله كلامًا .
قيل : بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ، ولكنه جلّ ذكره حَمِد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهلٌ ، ثم علَّم ذلك عباده ، وفرض عليهم تلاوته ، اختبارًا منه لهم وابتلاءً ، فقال لهم قولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وقولوا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). فقوله(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مما علمهم جلّ ذكره أن يقولوه ويَدينُوا له بمعناه ، وذلك موصول بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وكأنه قال : قولوا هذا وهذا.
فإن قال : وأين قوله : " قولوا " ، فيكونَ تأويلُ ذلك ما ادَّعَيْتَ ؟
قيل : قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها - إذا عرفتْ مكان الكلمة ،
(1/139)
________________________________________
ولم تَشكَّك أنّ سامعها يعرف ، بما أظهرت من منطقها ، ما حذفت - (1) حذفُ ما كفى منه الظاهرُ من منطقها ، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حُذفت ، قولا أو تأويلَ قولٍ ، كما قال الشاعر :
وأَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَكُونُ رَمْسًا... إذَا سَارَ النَّوَاعِجُ لا يَسِيرُ (2)
فَقَالَ السّائلون لِمَنْ حَفَرْتُمْ?... فَقَالَ المُخْبِرُون لَهُمْ : وزيرُ (3)
قال أبو جعفر : يريد بذلك ، فقال المخبرون لهم : الميِّتُ وزيرٌ ، فأسقَط الميت ، إذ كان قد أتى من الكلام بما دلّ على ذلك. وكذلك قول الآخر :
وَرأَيتِ زَوْجَكِ في الوغَى... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (4)
وقد علم أنّ الرمح لا يُتَقَلَّد ، وإنما أراد : وحاملا رمحًا ، ولكن لما كان معلومًا معناه ، اكتفى بما قد ظَهر من كلامه ، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودَّعوه : " مُصاحَبًا مُعافًى " ، يحذفون " سر ، واخرج " ، إذ كان معلومًا معناه ، وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حُذف من قول الله تعالى ذكره : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، لمَّا عُلم بقوله جل وعزّ : (إيّاكَ نَعبُد) ما أراد بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ،
__________
(1) سياق الكلام : " أن العرب من شأنها . . . حذف " وما بينهما فصل .
(2) تأتي في تفسير آية سورة المؤمنون : 87 (18 : 27 بولاق) . ، ونسبهما لبعض بني عامر ، وكذلك في معاني القرآن للفراء 1 : 170 وهما في البيان والتبيين 3 : 184 منسوبان للوزيري ، ولم أعرفه ، وفيها اختلاف في الرواية . الرمس : القبر المسوى عليه التراب . يقول : أصبح قبرا يزار أو يناح عليه . ورواه الجاحظ : " سأصير ميتًا " ، وهي لا شيء . والنواعج جمع ناعجة : وهي الإبل السراع ، نعجت في سيرها ، أي سارت في كل وجه من نشاطها . وفي البيان ومعاني الفراء " النواجع " ، وليست بشيء .
(3) رواية الجاحظ : " فقال السائلون : من المسجى " . وفي المعاني " السائرون " .
(4) يأتي في تفسير آيات سورة البقرة : 7 / وسورة آل عمران : 49 / وسورة المائدة : 53 / وسورة الأنعام : 99 / وسورة الأنفال : 14 / وسورة يونس : 71 / وسورة الرحمن : 22 . وهو بيت مستشهد به في كل كتاب .
(1/140)
________________________________________
من معنى أمره عبادَه ، أغنتْ دلالةُ ما ظُهِر عليه من القول عن إبداء ما حُذف.
وقد روينا الخبرَ الذي قدمنا ذكره مبتَدأ في تأويل قول الله : (1) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، عن ابن عباس ، وأنه كان يقول : إن جبريل قال لمحمد : قل يا محمد : " الحمد لله رب العالمين " ، وبيّنا أن جبريل إنما علّم محمدًا ما أُمِر بتعليمه إياه (2) . وهذا الخبر يُنبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله : { رَبِّ } .
قال أبو جعفر : قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو " الله " ، في " بسم الله " ، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع.
وأما تأويل قوله(رَبِّ) ، فإن الرّب في كلام العرب منصرفٌ على معان : فالسيد المطاع فيها يدعَى ربًّا ، ومن ذلك قول لَبِيد بن ربيعة :
وأَهْلكْنَ يومًا ربَّ كِنْدَة وابنَه... ورَبَّ مَعدٍّ ، بين خَبْتٍ وعَرْعَرِ (3)
يعني بربِّ كندة : سيِّد كندة. ومنه قول نابغة بني ذُبيان :
تَخُبُّ إلى النُّعْمَانِ حَتَّى تَنالَهُ... فِدًى لكَ من رَبٍّ طَرِيفِي وَتَالِدِي (4)
والرجل المصلح للشيء يُدعى ربًّا ، ومنه قول الفرزدق بن غالب :
__________
(1) في المطبوعة : " في تنزيل قول الله " .
(2) انظر ما مضى آنفًا لحديث رقم : 151 .
(3) ديوانه القصيدة : 15 / 32 . وسيد كندة هو حجر أبو امرئ القيس . ورب معد : حذيفة بن بدر ، كما يقول شارح ديوانه ، وأنا في شك منه ، فإن حذيفة بن بدر قتل بالهباءة . ولبيد يذكر خبتًا وعرعرًا ، وهما موضعان غيره .
(4) ديوانه : 89 ، والمخصص 7 : 154 . الطريف والطارف : المال المستحدث ، خلاف التليد والتالد : وهو العتيق الذي ولد عندك .
(1/141)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
كانُوا كَسَالِئَةٍ حَمْقَاءَ إذْ حَقَنتْ... سِلاءَها فِي أدِيم غَيْرِ مَرْبُوبِ (1)
يعني بذلك : في أديم غير مُصلَحٍ. ومن ذلك قيل : إن فلانًا يَرُبُّ صنيعته عند فلان ؛ إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها ، ومن ذلك قول علقمة بن عَبَدة :
فكُنْتَ امرَأً أَفْضَتْ إليك رِبَابَتي... وَقَبْلَكَ رَبَّتْني ، فَضِعْتُ رُبُوبُ (2)
يعنى بقوله : " أفضتْ إليك " أي وصلتْ إليك رِبَابتي ، فصرتَ أنت الذي ترُبُّ أمري فتصلحه ، لمّا خرجتُ من ربابة غيرك من الملوك الذين كانوا قبلك عليّ (3) ، فضيَّعوا أمري وتركوا تفقُّده - وهم الرُّبوب : واحدهم ربٌّ . والمالك للشيء يدعى رَبَّه. وقد يتصرف أيضًا معنى " الربّ " في وجوه غير ذلك ، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة.
فربّنا جلّ ثناؤه : السيد الذي لا شِبْه لهُ ، ولا مثل في سُؤدده ، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه ، والمالك الذي له الخلق والأمر.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جلّ ثناؤه(رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، جاءت الرواية عن ابن عباس : -
155 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا
__________
(1) ديوانه : 25 . سلأ السمن يسلؤه : طبخه وعالجه فأذاب زبده . والسلاء ، بكسر السين : السمن . وحقن اللبن في الوطب ، والماء في السقاء : حبسه فيه وعبأه . رب نحى السمن يربه : دهنه بالرب ، وهو دبس كل ثمرة ، وكانوا يدهنون أديم النحى بالرب حتى يمتنوه ويصلحوه ، فتطيب رائحته ، ويمنع السمن أن يرشح ، من غير أن يفسد طعمه أو ريحه . وإذا لم يفعلوا ذلك بالنحى فسد السمن . وأديم مربوب : جدا قد أصلح بالرب . يقول : فعلوا فعل هذه الحمقاء ، ففسد ما جهدوا في تدبيره وعمله .
(2) ديوانه : 29 ، ويأتي في تفسير آية سورة آل عمران : 79 ، (3 : 233 بولاق) والمخصص 17 : 154 ، والشعر يقوله للحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان ، وهو الحارث الأعرج المشهور . قال ابن سيده : " ربوب : جمع رب ، أي الملوك الذين كانوا قبلك ضيعوا أمري ، وقد صارت الآن ربابتي إليك - أي تدبير أمري وإصلاحه - فهذا رب بمعنى مالك ، كأنه قال : الذين كانوا يملكون أمري قبلك ضيعوه " . وقال الطبري فيما سيأتي : " يعني بقوله : ربتني : ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه فلم يصلحوه ، ولكنهم أضاعوني فضعت " . والربابة : المملكة ، وهي أيضًا الميثاق والعهد . وبها فسر هذا البيت ، وأيدوه برواية من روى بدل " ربابتي " ، " أمانتي " . والأول أجود .
(3) في المطبوعة : " من الملوك الذين كانوا " ، غيروه ليوافق ما ألفوا من العبارة .
(1/142)
________________________________________
بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحّاك ، عن ابن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : " يا محمد قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) " ، قال ابن عباس : يقول : قل الحمد لله الذي له الخلق كله - السمواتُ كلهن ومن فيهنّ ، والأَرَضُون كلُّهنّ ومن فيهنّ وما بينهن ، مما يُعلم ومما لا يُعلم. يقول : اعلم يا محمد أن ربَّك هذا لا يشبهه شيء. (1)
* * *
القول في تأويل قوله : { الْعَالَمِينَ } .
قاله أبو جعفر : والعالَمون جمع عالَم ، والعالَم : جمعٌ لا واحدَ له من لفظه ، كالأنام والرهط والجيش ، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جِمَاعٍ لا واحد له من لفظه.
والعالم اسم لأصناف الأمم ، وكل صنف منها عالَمٌ ، وأهل كل قَرْن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالَم ، وكل أهل زمان منهم عالمُ ذلك الزمان. والجنُّ عالم ، وكذلك سائر أجناس الخلق ، كلّ جنس منها عالمُ زمانه. ولذلك جُمع فقيل : عالمون ، وواحده جمعٌ ، لكون عالم كلّ زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج :
* فَخِنْدِفٌ هامَةُ هَذَا العَالَمِ * (2)
فجعلهم عالمَ زمانه. وهذا القول الذي قلناه ، قولُ ابن عباس وسعيد بن جبير ، وهو معنى قول عامّة المفسرين.
__________
(1) الحديث 155 - سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد ، برقم 137 . وهذا الحديث في ابن كثير 1 : 44 ، والدر المنثور 1 : 13 ، والشوكاني 1 : 11 . ونسبه الأخيران أيضًا لابن أبي حاتم . وفي المطبوع وابن كثير " والأرض ومن فيهن " .
(2) ديوانه : 60 ، وطبقات فحول الشعراء : 64 ، وخندف : أم بني إلياس بن مضر ، مدركة وطابخة ، وتشعبت منهم قواعد العرب الكبرى .
(1/143)
________________________________________
156 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، الحمد لله الذي له الخلق كله : السموات والأرضون ومَن فيهنّ ، وما بينهن ، مما يُعلم ولا يعلم. (1)
157 - وحدثني محمد بن سنان القَزَّاز ، قال حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : (رب العالمين) : الجن والإنس. (2)
158 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قول الله جل وعزّ(رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال : ربِّ الجن والإنس. (3)
159 - حدثنا أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير : قوله : (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال : الجنّ والإنس. (4)
__________
(1) الحديث 156 - هو مختصر مما قبله : 155 .
(2) الخبر 157 - إسناد صحيح . محمد بن سنان القزاز ، شيخ الطبري : تكلموا فيه من أجل حديث واحد . والحق أنه لا بأس به ، كما قال الدارقطني . وهو مترجم في التهذيب ، وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 5 : 343 - 346 . أبو عاصم : هو النبيل ، الضحاك بن مخلد ، الحافظ الحجة . شبيب : هو ابن بشر البجلي ، ووقع في التهذيب 4 : 306 " الحلبي " وهو خطأ مطبعي ، صوابه في التاريخ الكبير للبخاري 2 / 2 / 232 / 233 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 357 - 358 والتقريب وغيرها ، وهو ثقة ، وثقه ابن معين .
(3) الخبر 158 - إسناده حسن على الأقل ، لأن عطاء بن السائب تغير حفظه في آخر عمره ، وقيس بن الربيع قديم ، لعله سمع منه قبل الاختلاط ، ولكن لم نتبين ذلك بدليل صريح . ووقع في هذا الإسناد خطأ في المطبوع " حدثنا مصعب " ، وصوابه من المخطوطة " حدثنا محمد بن مصعب " ، وهو القرقساني ، كما مضى في الإسناد 154 .
(4) الخبر 159 - إسناده حسن كالذي قبله . وأبو أحمد الزبيري : هو محمد بن عبد الله ابن الزبير الأسدي ، من الثقات الكبار ، من شيوخ أحمد بن حنبل وغيره من الحفاظ . وقيس : هو ابن الربيع . وهذه الأخبار الثلاثة 157 - 159 ، ولفظها واحد ، ذكرها ابن كثير 1 : 44 خبرًا واحدًا دون إسناد . وذكرها السيوطي في الدر المنثور 1 : 13 خبرًا واحدًا ونسبه إلى " الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، عن ابن عباس " .
(1/144)
________________________________________
160 - حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرْقي ، قال : حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن لَهِيعة ، عن عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، قوله : (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال : ابن آدم ، والجن والإنس ، كل أمة منهم عالمٌ على حِدَته. (1)
161 - حدثني محمد بن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال : الإنس والجن. (2)
162 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد بمثله. (3)
163 - حدثنا بشر بن معاذ العَقَدي ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد ، عن قتادة : (رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال : كلّ صنف عالم. (4)
__________
(1) الأثر 160 - أحمد بن عبد الرحيم البرقي : اشتهر بهذا ، منسوبًا إلى جده ، وكذلك أخوه " محمد " وهو : أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم . وقد مضت رواية الطبري عنه أيضًا برقم 22 باسم " ابن البرقي " . ابن أبي مريم : هو سعيد . ابن لهيعة هو عبد الله . عطاء بن دينار المصري : ثقة ، وثقه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما وروى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 332 وفي المراسيل : 58 عن أحمد بن صالح ، قال : " عطاء بن دينار ، هو من ثقات أهل مصر ، وتفسيره - فيما يروى عن سعيد بن جبير - : صحيفة ، وليست له دلالة على أنه سمع من سعيد بن جبير " . وروى في الجرح عن أبيه أبي حاتم ، قال : " هو صالح الحديث ، إلا أن التفسير أخذه من الديوان ، فإن عبد الملك بن مروان كتب يسأل سعيد بن جبير أن يكتب إليه بتفسير القرآن ، فكتب سعيد بن جبير بهذا التفسير إليه ، فوجده عطاء بن دينار في الديوان ، فأخذه فأرسله عن سعيد بن جبير " .
(2) الأثر 161 - إسناده إلى مجاهد ضعيف . لأن سفيان ، وهو الثوري ، لم يسمع من مجاهد ؛ لأن الثوري ولد سنة 97 ، ومجاهد مات سنة 100 أو بعدها بقليل ، والظاهر عندي أن هذه الرواية من أغلاط مهران بن أبي عمر ، راويها عن الثوري ، فإن رواياته عن الثوري فيها اضطراب كما بينا في الحديث الماضي 11 .
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1 : 44 دون نسبة ولا إسناد . وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 13 ، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد .
(3) الأثر 162 - إسناده ضعيف ، لإبهام الرجل راويه عن مجاهد . وهو يدل على غلط مهران في الإسناد قبله ، إذ جعله عن الثوري عن مجاهد مباشرة ، دون واسطة .
(4) الأثر 163 - سعيد : هو ابن أبي عروبة ، وقد مضى أثر آخر عن قتادة بهذا الإسناد. 119 وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 13 ، وفي نسبته هناك خطأ مطبعي : " ابن جريج " بدل " ابن جرير " . وكلام ابن جريج سيأتي 165 مرويًا عنه لا راويًا .
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
164 - حدثني أحمد بن حازم الغِفَاري ، قال : حدثنا عُبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، قال : الإنس عالَمٌ ، والجنّ عالم ، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم ، أو أربعةَ عشر ألف عالم - هو يشكّ - من الملائكة على الأرض ، وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلافِ عالم وخمسمائة عالَمٍ ، خلقهم لعبادته. (1)
165 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُريج ، في قوله : (رَبِّ الَعَالَمِينَ) قال : الجن والإنس. (2)
* * *
القول في تأويل قوله : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
قال أبو جعفر : قد مضى البيانُ عن تأويل قوله(الرحمن الرحيم) ، في تأويل(بسم الله الرحمن الرحيم) ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
ولم نَحْتَجْ إلى الإبانة عن وجه تكرير ذلك في هذا الموضع ، إذْ كنا لا نرى أن
__________
(1) الأثر 164 - أبو جعفر : هو الرازي التميمي ، وهو ثقة ، تكلم فيه بعضهم ، وقال ابن عبد البر : " هو عندهم ثقة ، عالم بتفسير القرآن " . وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 11 : 143 - 147 . وهذا الأثر عن أبي العالية ذكره ابن كثير 1 : 45 والسيوطي 1 : 13 بأطول مما هنا قليلا ، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم ، وقال ابن كثير : " وهذا كلام غريب ، يحتاج مثله إلى دليل صحيح " . وهذا حق .
(2) الأثر 165 - سبق الكلام على هذا الإسناد 144 . وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1 : 44 دون نسبة ولا إسناد .
(1/146)
________________________________________
" بسم الله الرحمن الرحيم " من فاتحة الكتاب - آيةٌ ، فيكونَ علينا لسائلٍ مسألةٌ بأن يقول : ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع ، وقد مضى وصفُ الله عزّ وجلّ به نفسه في قوله " بسم الله الرحمن الرحيم " ، مع قرب مكان إحدى الآيتين من الأخرى ، ومجاورتها صَاحِبتها ؟ بل ذلك لنا حُجة على خطأ دعوى من ادَّعى أن " بسم الله الرحمن الرحيم " من فاتحة الكتاب آية. إذ لو كان ذلك كذلك ، لكان ذلك إعادةَ آية بمعنى واحد ولفظ واحدٍ مرتين من غير فَصْل يَفصِل بينهما. وغيرُ موجودٍ في شيء من كتاب الله آيتان مُتجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد ، لا فصلَ بينهما من كلام يُخالف معناه معناهما. وإنما يُؤتى بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة ، مع فُصولٍ تفصِل بين ذلك ، وكلامٍ يُعترضُ به معنى الآيات المكررات أو غير ألفاظها ، ولا فاصِلَ بين قول الله تبارك وتعالى اسمه " الرحمن الرحيم " من " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وقولِ الله : " الرحمن الرحيم " ، من " الحمدُ لله ربّ العالمين " .
فإن قال : فإن " الحمدُ لِله رَبِّ العالَمين " فاصل من ذلك. (1)
قيل : قد أنكر ذلك جماعة من أهل التأويل ، وقالوا : إن ذلك من المؤخَّر الذي معناه التقديم ، وإنما هو : الحمد لله الرحمن الرحيم رَبّ العالمين مَلِك يوم الدين. واستشهدوا على صحة ما ادعوا من ذلك بقوله : " مَلِك يوم الدين " ، فقالوا : إن قوله " ملِكِ يوم الدين " تعليم من الله عبدَه أنْ يصفَه بالمُلْك في قراءة من قرأ ملِك ، وبالمِلْك في قراءة من قرأ " مالك " . قالوا : فالذي هو أولى أن يكونَ مجاورَ وصفه بالمُلْك أو المِلْك ، ما كان نظيرَ ذلك من الوصف ؛ وذلك هو قوله : " ربّ العالمين " ، الذي هو خبر عن مِلْكه جميع أجناس الخلق ؛ وأن يكون مجاورَ وصفه بالعظمة والألُوهة ما كان له نظيرًا في المعنى من الثناء عليه ، وذلك قوله : (الرحمن الرحيم).
فزعموا أنّ ذلك لهم دليلٌ على أن قوله " الرحمن الرحيم " بمعنى التقديم قبل " رب العالمين " ، وإن كان في الظاهر مؤخرًا. وقالوا : نظائرُ ذلك - من التقديم الذي هو بمعنى التأخير ، والمؤخَّر الذي هو بمعنى التقديم - في كلام العرب أفشى ، وفي منطقها أكثر ، من أن يُحصى. من ذلك قول جرير بن عطية :
__________
(1) في المطبوعة : " فاصل بين ذلك " ، والذي في المخطوطة عربية جيدة .
(1/147)
________________________________________
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
طَافَ الخَيَالُ - وأَيْنَ مِنْكَ? - لِمَامَا... فَارْجِعْ لزَوْرِكَ بالسَّلام سَلاما (1)
بمعنى طاف الخيال لمامًا ، وأين هو منك ؟ وكما قال جل ثناؤه في كتابه : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا ) [سورة الكهف : 1] بمعنى (2) : الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيِّمًا ولم يجعل له عوجًا ، وما أشبه ذلك. ففي ذلك دليل شاهدٌ على صحة قول من أنكر أن تكون - ( بسم الله الرحمن الرحيم ) من فاتحة الكتاب - آيةً (3)
* * *
القول في تأويل قوله : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } .
قال أبو جعفر : القرَّاء مختلفون في تلاوة( ملك يَوْمِ الدِّينِ ). فبعضهم يتلوه " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ، وبعضهم يتلوه(مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وبعضهم يتلوه(مالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) بنصب الكاف. وقد استقصينا حكاية الرواية عمن رُوي عنه في ذلك قراءةٌ في " كتاب القراآت " ، وأخبرنا بالذي نختار من القراءة فيه ، والعلة الموجبة صحّة ما اخترنا من القراءة فيه ، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع ، إذ كان الذي قَصَدْنا له ، في كتابنا هذا ، البيانَ عن وجوه تأويل آي القرآن ، دون وجوه قراءتها.
ولا خلاف بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب ، أن المَلِك من " المُلْك "
__________
(1) ديوانه : 541 ، والنقائض : 38 . طاف الخيال : ألم بك في الليل ، واللمام : اللقاء اليسير . والزور : الزائر ، يقال للواحد والمثنى والجمع : زور . " فارجع لزورك " ، يقول : رد عليه السلام كما سلم عليك .
(2) في المطبوعة : " المعنى : الحمد لله . . . "
(3) وهكذا ذهب أبو جعفر رحمه الله إلى أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليست آية من الفاتحة ، واحتج لقوله بما ترى . وليس هذا موضع بسط الخلاف فيه ، والدلالة على خلاف ما قال ابن جرير .
وقد حققت هذه المسألة ، أقمت الدلائل الصحاح - في نظري وفقهي - على أنها آية من الفاتحة - : في شرحي لسنن الترمذي 2 : 16 - 25 . وفي الإشارة إليه غنية هنا . أحمد محمد شاكر .
(1/148)
________________________________________
مشتق ، وأن المالك من " المِلْك " مأخوذٌ. فتأويل قراءةِ من قرأ ذلك : (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، أن لله المُلْك يوم الدين خالصًا دون جميع خلقه ، الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكًا جبابرة ينازعونه الملك ، ويدافعونه الانفرادَ بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية (1) . فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصَّغَرة الأذِلّة (2) ، وأنّ له - من دُونهم ، ودون غيرهم - المُلك والكبرياء ، والعزة والبهاء ، كما قال جلّ ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) [سورة غافر : 16]. فأخبر تعالى ذكره أنه المنفرد يومئذ بالمُلك دون ملوك الدنيا ، الذين صارُوا يوم الدّين منْ مُلكهم إلى ذِلّة وصَغار ، ومن دُنياهم في المعاد إلى خسار.
وأما تأويلُ قراءة من قرأ : (مالك يوم الدين) ، فما : -
166 - حدثنا به أبو كُريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، يقول : لا يملك أحدٌ في ذلك اليوم معهُ حكمًا كمِلْكِهم في الدنيا. ثم قال : ( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) [سورة النبأ : 38] وقال : ( وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ ) [سورة طه : 108] . وقال : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى ) (3) [سورة الأنبياء : 28].
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالآية ، وأصحُّ القراءتين في التلاوة عندي ،
__________
(1) الجبرية والجبروت واحد ، وهو من صفات الله العلي . الجبار : القاهر فوق عباده ، يقهرهم على ما أراد من أمر ونهي ، سبحانه وتعالى .
(2) الصغرة جمع صاغر : وهو الراضي بالذل المقر به . والأذلة جمع ذليل .
(3) الخبر 166 - سبق الكلام مفصلا في ضعف هذا الإسناد 137 . وهذا الخبر ، مع باقيه الآتي 167 نقله ابن كثير 1 : 46 دون إسناد ولا نسبة ، ونقله السيوطي 1 : 14 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم . وقال ابن كثير : " وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف . وهو ظاهر " .
(1/149)
________________________________________
التأويلُ الأول ، وهي قراءةُ من قرأ " مَلِكِ " بمعنى " المُلك " . لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك ، إيجابًا لانفراده بالمِلْك ، وفضيلة زيادة المِلك على المالك (1) ، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا .
وبعدُ ، فإن الله جلّ ذكره ، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله(ملِكِ يوم الدين) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم ، ومُصلحُهم ، والناظرُ لهم ، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة ، بقوله : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ).
وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه
__________
(1) في المخطوطة : " الملك على الملك " ، وهما سواء .
(1/150)
________________________________________
إيَّاهم كذلك بقوله : (ربِّ العالمين) ، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله(ربِّ العالمين الرَّحمن الرحيم) ، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة ، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه(مالِكِ يوم الدين) ، إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله(ربِّ العالمين) ، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة ، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله : (مالك يوم الدين) ، المعنى الذي في قوله : (مَلِك يوم الدين) ، وهو وصْفه بأنه الملِك.
فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب ، وأحقّ التأويلين بالكتاب ، قراءة من قرأه( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين ، دون قراءة من قرأ(مالك يوم الدين) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء ، متفرِّدًا به دون سائر خلقه.
فإن ظنّ ظانّ أن قوله(رَبّ العَالمين) نبأ عن ملكه إياهم في الدنيا دون الآخرة ، يوجبُ وصْلَ ذلك بالنبأ عن نفسه أنه : مَنْ مَلَكهم في الآخرة على نحو مِلْكه إياهم في الدنيا بقوله(مالك يوم الدين) - فَقد أغفلَ وظنَّ خطأ (1) .
وذلك أنه لو جاز لِظانّ أنْ يظنّ أن قوله(ربّ العالمين) محصورٌ معناه على الخبر عن ربوبِيَّة عالم الدنيا دُونَ عالم الآخرة ، مع عدم الدلالة على أن مَعنى ذلك كذلك في ظاهر التنزيل ، أو في خبرٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم به منقولٍ ، أو بحجّة موجودة في المعقول - لجاز لآخر أن يظنّ أن ذلك محصور على عالم الزمان الذي فيه نزل قوله(رب العالمين) ، دون سائر ما يحدث بعدَه في الأزمنة الحادثة من العالمين. إذْ كان صحيحًا بما قد قدّمنا من البيان ، أنّ عالمَ كل زمان غير عالم الزمان الذي بعده.
فإن غَبِيَ - عن علم صحة ذلك بما قد قدمنا - ذو غباء ، فإنّ في قول الله جل ثناؤه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [سورة الجاثية : 16] دلالةً واضحةً على أنّ عالم كلّ زمان ، غيرُ عالم الزمان الذي كان قَبله ، وعالم الزمان الذي بعدَه ، إذْ كان الله جلّ ثناؤه قد فضّل أمّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم الخالية ، وأخبرهم بذلك في قوله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) الآية [سورة آل عمران : 110]. فمعلومٌ بذلك أن بَني إسرائيل في عصر نبينا لم يكونوا - مع تكذيبهم به صلى الله عليه وسلم - أفضلَ العالمين ، بل كانَ أفضلَ العالمين في ذلك العصر وبعدَه إلى قيام الساعة ، المؤمنون به المتَّبِعون منهاجهُ ، دون من سِواهم من الأمم المكذِّبة الضالة عن منهاجه.
وإذْ كان بيِّنًا فساد تأويل متأوِّلٍ لو تأوّل قوله(ربّ العالمين) أنه معنيٌّ به
__________
(1) قوله " أغفل " ، فعل لازم غير متعد . ومعناه : دخل في الغفلة والنسيان ووقع فيهما ، وهي عربية معرقة ، وإن لم توجد في المعاجم ، وهي كقولهم : أنجد ، دخل نجدًا ، وأشباهها . وحسبك بها عربية أنها لغة الشافعي ، أكثر من استعمالها في الرسالة والأم . من ذلك قوله في الرسالة : 42 رقم : 136 : " وبالتقليد أغفل من أغفل منهم " .
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
أن الله ربُّ عَالمي زَمن نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، دون عالمي سائر الأزمنة غيره - كان واضحًا فساد قول من زعم أنّ تأويلَهُ : ربُّ عالَمِ الدنيا دُون عالَمِ الآخرة ، وأنّ " مالك يوم الدين " استحقَّ الوصلَ به ليُعلَم أنه في الآخرة من مِلْكِهم ورُبُوبيتهم بمثل الذي كان عليه في الدنيا.
ويُسْأل زاعم ذلك ، الفرقَ بينه وبين متحكم مثله - في تأويل قوله(رب العالمين) ، تحكَّم فقال : إنه إنما عنى بذلك أنه ربّ عالمي زمان محمّد صلى الله عليه وسلم ، دون عالمي غيره من الأزمان الماضية قبله ، والحادثة بعده ، كالذي زعم قائل هذا القول : أنه عَنى به عالمي الدنيا دُون عالمي الآخرة - من أصل أو دلالة (1) . فلن يقول في أحدهما شيئًا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الزاعم أن تأويل قوله(مالك يوم الدين) أنه الذي يملكُ إقامة يَوم الدين ، فإن الذي ألزمْنا قَائلَ هذا القول الذي قبله - له لازمٌ. إذْ كانت إقامةُ القيامة ، إنما هي إعادة الخلق الذين قد بادوا لهيئاتهم التي كانوا عليها قبل الهلاك ، في الدار التي أعَدّ الله لهم فيها ما أعدّ. وُهمُ العالَمون الذين قد أخبر جلّ ذكره عنهم أنه ربُّهم في قوله(ربّ العالمين ).
وأما تأويل ذلك في قراءة من قرأ(مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ) ، فإنه أراد : يا مالك يوم الدين ، فنصَبه بنيّة النداء والدعاء ، كما قال جلّ ثناؤه : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) [سورة يوسف : 29] بتأويل : يا يوسف أعرضْ عن هذا ، وكما قال الشاعر من بني أسد ، وهو شعر - فيما يقال - جاهلي :
إنْ كُنْتَ أَزْنَنْتَني بِهَا كَذِبًا... جَزْءُ ، فلاقَيْتَ مِثْلَهَا عَجِلا (2)
__________
(1) سياق العبارة : " ويسأل زاعم ذلك ، الفرق . . . من أصل أو دلالة " ، وما بينهما فصل .
(2) الشعر لجاهلي مخضرم هو حضرمي بن عامر الأسدي ، وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من بني أسد فأسلموا جميعًا . وسبب قوله هذا الشعر : أن إخوته كانوا تسعة ، فجلسوا على بئر فانخسفت بهم ، فورثهم ، فحسده ابن عمه جزء بن مالك بن مجمع ، وقال له : من مثلك ؟ مات إخوتك فورثتهم ، فأصبحت ناعمًا جذلا . وما كاد ، حتى جلس جزء وإخوة له تسعة على بئر فانخسفت بإخوته ونجا هو ، فبلغ ذلك حضرميًا فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كلمة وافقت قدرًا وأبقت حقدًا . يعني قوله لجزء : " فلاقيت مثلها عجلا " . وأزننته بشيء : اتهمته به . انظر أمالي القالي 1 : 67 ، والكامل 1 : 41 - 42 وغيرهما .
(1/152)
________________________________________
يريد : يا جزءُ ، وكما قال الآخر :
كَذَبْتُمْ وبيتِ الله لا تَنْكِحُونَهَا ، ... بَني شَاب قَرْنَاها تَصُرُّ وتَحْلبُ (1)
يريد : يا بني شابَ قرْناها. وإنما أوْرطه في قراءة ذلك - بنصب الكاف من " مالك " ، على المعنى الذي وصفتُ - حيرتهُ في توجيه قَوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وِجْهَته ، مع جر(مالك يوم الدين) وخفضِه. فظنّ أنّه لا يصحّ معنى ذلك بعد جرِّه(مالك يوم الدين) ، فنصب : " مالكَ يوم الدين " ليكون(إياك نعبد) له خطابًا. كأنه أراد : يا مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نَستعين . ولو كان عَلم تأويل أول السورة ، وأن " الحمدُ لله رَبّ العالمين " أمرٌ من الله عبدَه بقيلِ ذلك - كما ذكرنا قبلُ من الخبر عن ابن عباس : أن جبريلَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى ذكره : قل يا محمد ، (الحمدُ لله رب العالمين الرحمن الرحيم مَالكِ يوم الدين) ، وقل أيضًا يا محمد : (إياك نَعبد وإياك نَستعين) (2) - وكان عَقَل (3) عن العرب أنَّ من شأنها إذا حكَت أو أمرت بحكاية خبرٍ يتلو القولَ ، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب ، وتخبرَ عن الغائب ثم تعودَ إلى الخطاب ، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب ، كقولهم للرجل : قد قلتُ لأخيك : لو قمتَ لقمتُ ، وقد قلتُ لأخيك : لو قام لقمتُ (4) - لسَهُل عليه مخرجُ ما استصعب عليه وجْهتُه من جر " مالك يوم الدين " .
__________
(1) نسبه في اللسان (قرن) ومجاز القرآن : 100 إلى رجل من بني أسد والبيت في سيبويه 1 : 295 / 2 : 7 ، 65 ، وهو شاهد مشهور . " وبني شاب قرناها " يعني قومًا ، يقول : بني التي يقال لها : شاب قرناها ، أي يا بني العجوز الراعية ، لا هم لها إلا أن تصر ، أي تشد الصرار على الضرع حتى تجتمع الدرة ، ثم تحلب . وذلك ذم لها . والقرن : الضفيرة .
(2) انظر : 151 ، 155 .
(3) عطف على قوله : " ولو كان علم . . . " .
(4) جواب " لو كان علم . . . وكان عقل " .
(1/153)
________________________________________
ومن نظير " مالك يوم الدين " مجرورًا ، ثم عَوْده إلى الخطاب بـ " إياك نعبد " ، لما ذكرنا قبل - البيتُ السائرُ من شعر أبي كبير الهُذَلي :
يَا لَهْفَ نَفْسي كان جِدَّةُ خَالِدٍ... وَبَيَاضُ وَجْهِكَ للتُّرابِ الأَعْفَرِ (1)
فرجعَ إلى الخطاب بقوله : " وبياضُ وَجْهك " ، بعد ما قد مضى الخبرُ عن خالد على معنى الخبر عن الغائب.
ومنه قول لبيد بن ربيعة :
بَاتَتْ تَشَكَّى إليّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً... وقد حَمَلْتُكِ سَبْعًا بَعْدَ سَبْعِينَا (2)
فرجع إلى مخاطبة نفسه ، وقد تقدم الخبر عنها على وجه الخبر عن الغائب.
ومنه قول الله ، وهو أصدق قيلٍ وأثبتُ حجةٍ : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) [سورة يونس : 22] ، فخاطب ثم رجع إلى الخبر عن الغائب ، ولم يقل : وَجرَين بكم . والشواهدُ من الشعر وكلام العرب في ذلك أكثر من أن تُحصى ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فقراءة : " مالكَ يوم الدين " محظورة غير جائزة ، لإجماع جميع الحجة من القرّاء وعلماء الأمة على رَفض القراءة بها.
* * *
__________
(1) ديوان الهذليين 2 : 101 . في المطبوعة : " جلدة " وهو خطأ وقوله " جدة " يعني شبابه الجديد . والجدة : نقيض البلى . والتراب الأعفر : الأبيض ، قل أن يطأه الناس لجدبه . وخالد : صديق له من قومه ، يرثيه .
(2) القسم الثاني من ديوانه : 46 ، وقال ابن سلام في طبقات فحول الشعراء : ص 50 وذكر البيت وبيتًا معه ، أنهما قد رويا عن الشعبي (ابن سعد 6 : 178) ، وهما يحملان على لبيد ، ثم قال : " ولا اختلاف في أن هذا مصنوع تكثر به الأحاديث ، ويستعان به على السهر عند الملوك والملوك لا تستقصي " . أجهش بالبكاء : تهيأ له وخنقه بكاؤه .
(1/154)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { يَوْمِ الدِّينِ } .
قال أبو جعفر : والدين في هذا الموضع ، بتأويل الحساب والمجازاة بالأعمال ، كما قال كعب بن جُعَيْل :
إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُم... ودِنَّاهُمُ مِثْلَ ما يُقْرِضُونَا (1)
وكما قال الآخر :
وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أنَّ مُلْككَ زائلٌ... واعلمْ بأَنَّكَ مَا تدِينُ تُدَانُ (2)
يعني : ما تَجْزِي تُجازى.
ومن ذلك قول الله جل ثناؤه( كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) - يعني : بالجزاء - ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) [سورة الانفطار : 9 ، 10] يُحصون ما تعملون من الأعمال ، وقوله تعالى( فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) [سورة الواقعة : 86] ، يعني غير مجزيِّين بأعمالكم ولا مُحاسَبين.
وللدين معانٍ في كلام العرب ، غير معنى الحساب والجزاء ، سنذكرها في أماكنها إن شاء الله.
__________
(1) الكامل للمبرد 1 : 191 ، ووقعة صفين لنصر بن مزاحم 1 : 52 ، المخصص 17 : 155 .
(2) الكامل للمبرد 1 : 192 منسوبًا إلى يزيد بن أبي الصعق الكلابي ، وكذلك في جمهرة الأمثال للعسكري : 196 ، والمخصص 17 : 155 ، وفي اللسان (زنأ) و (دان) منسوبين إلى خويلد بن نوفل الكلابي ، وفي الخزانة 4 : 230 إلى بعض الكلابيين . يقولون : إن الحارث بن أبي شمر الغساني كان إذا أعجبته امرأة من قيس عيلان بعث إليها واغتصبها ، فأخذ بنت يزيد بن الصعق الكلابي ، وكان أبوها غائبًا ، فلما قدم أخبر . فوفد إليه فوقف بين يديه وقال : يَا أَيُّهَا المَلِكُ المُقِيتُ ! أمَا تَرى ... لَيْلاً وصُبْحًا كَيْف يَخْتَلِفَانِ ?
هَلْ تَسْتَطِيعُ الشَّمْسَ أن تَأتِي بها ... لَيْلاً ? وهل لَكَ بِالْمَلِيك يَدَانِ?
يَا حَارِ ، أيْقِنْ أنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1/155)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
وبما قُلنا في تأويل قوله(يوم الدين) جاءت الآثار عن السلف من المفسِّرين ، مع تصحيح الشواهد تأويلَهم الذي تأوّلوه في ذلك.
167 - حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : (يَوْمِ الدِّينِ) ، قال : يوم حساب الخلائق ، وهو يوم القيامة ، يدينهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخيرًا ، وإن شرًّا فشرًّا ، إلا من عَفا عنه ، فالأمرُ أمرُه. ثم قال : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) [سورة الأعراف : 54] . (1)
168 - وحدثني موسى بن هارون الهَمْدَاني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد القَنَّاد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، هو يوم الحساب. (2)
169 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا
__________
(1) الخبر 167 - سبق تخريجه في الخبر 166 .
(2) الخبر 168 - هذا الإسناد من أكثر الأسانيد دورانًا في تفسير الطبري ، إن لم يكن أكثرها ، فلا يكاد يخلو تفسير آية من رواية بهذا الإسناد . وقد عرض الطبري نفسه في (ص 121 بولاق ، سطر : 28 وما بعده) ، فقال ، وقد ذكر الخبر عن ابن مسعود وابن عباس بهذا الإسناد : " فإن كان ذلك صحيحًا ، ولست أعلمه صحيحًا ، إذ كان بإسناده مرتابًا . . . . " . ولم يبين علة ارتيابه في إسناده ، وهو مع ارتيابه قد أكثر من الرواية به . ولكنه لم يجعلها حجة قط .
بيد أني أراه إسنادا يحتاج إلى بحث دقيق . ولأئمة الحديث كلام فيه وفي بعض رجاله . وقد تتبعت ما قالوا وما يدعو إليه بحثه ، ما استطعت ، وبدا لي فيه رأي ، أرجو أن يكون صوابًا ، إن شاء الله . وما توفيقي إلا بالله :
أما شيخ الطبري ، وهو " موسى بن هارون الهمداني " : فما وجدت له ترجمة ، ولا ذكرًا في شيء مما بين يدي من المراجع ، إلا ما يرويه عنه الطبري أيضًا في تاريخه ، وهو أكثر من خمسين موضعًا في الجزئين الأول والثاني منه . وما بنا حاجة إلى ترجمته من جهة الجرح والتعديل ، فإن هذا التفسير الذي يرويه عن عمرو بن حماد ، معروف عند أهل العلم بالحديث . وما هو إلا رواية كتاب ، لا رواية حديث بعينه .
" وعمرو بن حماد " : هو عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، وقد ينسب إلى جده ، فيقال عمرو بن طلحة ، وهو ثقة ، روى عنه مسلم في صحيحه ، وترجمه ابن سعد في الطبقات 6 : 285 ، وقال : " وكان ثقة إن شاء الله " مات سنة 222 . وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 1 / 228 ، وروى عن أبيه ويحيى بن معين أنهما قالا فيه : " صدوق " .
أسباط بن نصر الهمداني : مختلف فيه ، وضعفه أحمد ، وذكره ابن حبان في الثقات : 410 ، ةترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 53 فلم يذكر فيه جرحًا ، وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 332 ، وروى عن يحيى بن معين قال : " أسباط بن نصر ثقة " . وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند ، في الحديث 1286 .
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي : هو السدي الكبير ، قرشي بالولاء ، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة ، من بني عبد مناف ، كما نص على ذلك البخاري في تاريخيه : الصغير : 141 - 142 ، والكبير 1 / 1 / 361 ، وهو تابعي ، سمع أنسًا ، كما نص على ذلك البخاري أيضًا ، وروى عن غيره من الصحابة ، وعن كثير من التابعين . وهو ثقة . أخرج له مسلم في صحيحه ، وثقه أحمد بن حنبل ، فيما روى ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 184 ، وروى أيضًا عن أحمد ، قال : " قال لي يحيى بن معين يومًا عند عبد الرحمن بن مهدي : السدي ضعيف ، فغضب عبد الرحمن ، وكره ما قال " : وفي الميزان والتهذيب " أن الشعبي قيل له : إن السدي قد أعطي حظًا من علم القرآن ، فقال : قد أعطي حظًا من جهل بالقرآن! " . وعندي أن هذه الكلمة من الشعبي قد تكون أساسا لقول كل من تكلم في السدي بغير حق . ولذلك لم يعبأ البخاري بهذا القول من الشعبي ، ولم يروه ، بل روى في الكبير عن مسدد عن يحيى قال : " سمعت ابن أبي خالد يقول : السدي أعلم بالقرآن من الشعبي " . وروى في تاريخيه عن ابن المديني عن يحيى ، وهو القطان ، قال : " ما رأيت أحدًا يذكر السدي إلا بخير ، وما تركه أحد " . وفي التهذيب : " قال العجلي : ثقة عالم بالتفسير راوية له " . وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند 807 . وتوفي السدي سنة 127 .
و " السدي " : بضم السين وتشديد الدال المهملتين ، نسبة إلى " السدة " ، وهي الباب ، لأنه كان يجلس إلى سدة الجامع بالكوفة ، ويبيع بها المقانع .
أبو مالك : هو الغفاري ، واسمه غزوان . وهو تابعي كوفي ثقة . ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 108 ، وابن سعد في الطبقات 6 : 206 ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3 / 2 / 55 ، وروى توثيقه يحيى بن معين .
أبو صالح : هو مولى أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمه باذام ، ويقال باذان . وهو تابعي ثقة ، رجحنا توثيقه في شرح المسند 2030 ، وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 144 ، وروى عن محمد بن بشار ، قال : " ترك ابن مهدي حديث أبي صالح " . وكذلك روى ابن أبي حاتم في ترجمته في الجرح والتعديل 1 / 1 / 431 - 432 عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي . ولكنه أيضًا عن يحيى بن سعيد القطان ، قال : " لم أرَ أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ ، وما سمعت أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا ، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان " . وروى أيضًا عن يحيى بن معين ، قال : " أبو صالح مولى أم هانئ ليس به بأس ، فإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء ، وإذا روى عنه غير الكلبي فليس به بأس ، لأن الكلبي يحدث به مرة من رأيه ، ومرة عن أبي صالح ، ومرة عن أبي صالح عن ابن عباس " . يعني بهذا أن الطعن فيما يروي عنه هو في رواية الكلبي ، كما هو ظاهر .
هذا عن القسم الأول من هذا الإسناد . فإنه في حقيقته إسنادان أو ثلاثة . أولهما هذا المتصل بابن عباس .
والقسم الثاني ، أو الإسناد الثاني : " وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود " . والذي يروي عن مرة الهمداني : هو السدي نفسه .
ومرة : هو ابن شراحيل الهمداني الكوفي ، وهو تابعي ثقة ، من كبار التابعين ، ليس فيه خلاف بينهم .
والقسم الثالث ، أو الإسناد الثالث : " وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " .
وهذا أيضًا من رواية السدي نفسه عن ناس من الصحابة .
فالسدي يروي هذه التفاسير لآيات من القرآن : عن اثنين من التابعين عن ابن عباس ، وعن تابعي واحد عن ابن مسعود ، ومن رواية نفسه عن ناس من الصحابة .
وللعلماء الأئمة الأقدمين كلام في هذا التفسير ، بهذه الأسانيد ، قد يوهم أنه من تأليف من دون السدي من الرواة عنه ، إلا أني استيقنت بعدُ ، أنه كتاب ألفه السدي .
فمن ذلك قول ابن سعد في ترجمة " عمرو بن حماد القناد " 6 : 285 : " صاحب تفسير أسباط بن نصر عن السدي " . وقال في ترجمة " أسباط بن نصر " 6 : 261 : " وكان راوية السدي ، روى عنه التفسير " . وقال قبل ذلك في ترجمة " السدي " 6 : 225 : " إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ، صاحب التفسير " . وقال قبل ذلك أيضًا ، في ترجمة " أبي مالك الغفاري " 6 : 206 : " أبو مالك الغفاري صاحب التفسير ، وكان قليل الحديث " .
ولكن الذي يرجح أنه كتاب ألفه السدي ، جمع فيه التفسير ، بهذه الطرق الثلاث ، قول أحمد بن حنبل في التهذيب 1 : 314 ، في ترجمة السدي : " إنه ليحسن الحديث ، إلا أن هذا التفسير الذي يجئ به ، قد جعل له إسنادًا ، واستكلفه " . وقول الحافظ في التهذيب أيضًا 1 : 315 : " قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما ، في تفاسيرهم ، تفسير السدي ، مفرقًا في السور ، من طريق أسباط بن نصر عنه " .
وقول السيوطي في الإتقان 2 : 224 فيما نقل عن الخليل في الإرشاد : " وتفسير إسماعيل السدي ، يورده بأسانيد إلى ابن مسعود وابن عباس . وروى عن السدي الأئمة ، مثل الثوري وشعبة . ولكن التفسير الذي جمعه ، رواه أسباط بن نصر . وأسباط لم يتفقوا عليه . غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي " . ثم قال السيوطي : " وتفسير السدي ، [الذي] أشار إليه ، يورد منه ابن جرير كثيرًا ، من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، و [عن] ناس من الصحابة . هكذا . ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا ، لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد . والحاكم يخرج منه في مستدركه أشياء ، ويصححه ، لكن من طريق مرة عن ابن مسعود وناس ، فقط ، دون الطريق الأول ، وقد قال ابن كثير : إن هذا الإسناد يروي به السدي أشياء فيها غرابة " .
وأول ما نشير إليه في هذه الأقوال : التناقض بين قولي الحافظ ابن حجر والسيوطي ، في أن ابن أبي حاتم أخرج تفسير السدي مفرقًا في تفسيره ، كما صنع الطبري ، في نقل الحافظ ، وأنه أعرض عنه ، في نقل السيوطي . ولست أستطيع الجزم في ذلك بشيء ، إذ لم أرَ تفسير ابن أبي حاتم . ولكني أميل إلى ترجيح نقل ابن حجر ، بأنه أكثر تثبتًا ودقة في النقل من السيوطي .
ثم قد صدق السيوطي فيما نقل عن الحاكم . فإنه يروي بعض هذا التفسير في المستدرك ، بإسناده ، إلى أحمد بن نصر : " حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي ، عن مرة الهمداني ، عن عبد الله بن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " . ثم يصححه على شرط مسلم ، ويوافقه الذهبي في تلخيصه . من ذلك في المستدرك 2 : 258 ، 260 ، 273 ، 321 .
والحاكم في ذلك على صواب ، فإن مسلمًا أخرج لجميع رجال هذا الإسناد . من عمرو بن حماد بن طلحة القناد إلى مرة الهمداني . ولم يخرج لأبي صالح باذام ولا لأبي مالك الغفاري ، في القسم الأول من الإسناد الذي روى به السدي تفاسيره .
أما كلمة الإمام أحمد بن حنبل في السدي " إلا أن هذا التفسير الذي يجيء به ، قد جعل له إسنادًا واستكلفه " فإنه لا يريد ما قد يفهم من ظاهرها : أنه اصطنع إسنادا لا أصل له ؛ إذ لو كان ذلك ، لكان - عنده - كذابًا وضاعًا للرواية . ولكنه يريد - فيما أرى ، والله أعلم - أنه جمع هذه التفاسير ، من روايته عن هؤلاء الناس : عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة ، ثم ساقها كلها مفصلة ، على الآيات التي ورد فيها شيء من التفسير ، عن هذا أو ذاك أو أولئك ، وجعل لها كلها هذا الإسناد ، وتكلف أن يسوقها به مساقًا واحدًا .
أعني : أنه جمع مفرق هذه التفاسير في كتاب واحد ، جعل له في أوله هذه الأسانيد . يريد بها أن ما رواه من التفاسير في هذا الكتاب ، لا يخرج عن هذه الأسانيد . ولا أكاد أعقل أنه يروي كل حرف من هذه التفاسير عنهم جميعا . فهو كتاب مؤلف في التفسير ، مرجع فيه إلى الرواية عن هؤلاء ، في الجملة ، لا في التفصيل .
إنما الذي أوقع الناس في هذه الشبهة ، تفريق هذه التفاسير في مواضعها ، مثل صنيع الطبري بين أيدينا ، ومثل صنيع ابن أبي حاتم ، فيما نقل الحافظ ابن حجر ، ومثل صنيع الحاكم في المستدرك . فأنا أكاد أجزم أن هذا التفريق خطأ منهم ، لأنه يوهم القارئ أن كل حرف من هذه التفاسير مروي بهذه الأسانيد كلها ، لأنهم يسوقونها كاملة عند كل إسناد ، والحاكم يختار منها إسنادًا واحدًا يذكره عند كل تفسير منها يريد روايته . وقد يكون ما رواه الحاكم - مثلا - بالإسناد إلى ابن مسعود ، ليس مما روى السدي عن ابن مسعود نصًا . بل لعله مما رواه من تفسير ابن عباس ، او مما رواه ناس من الصحابة ، روى عن كل واحد منهم شيئًا ، فأسند الجملة ، ولم يسند التفاصيل .
ولم يكن السدي ببدع في ذلك ، ولا يكون هذا جرحًا فيه ولا قدحًا . إنما يريد إسناد هذه التفاسير إلى الصحابة ، بعضها عن ابن عباس ، وبعضها عن ابن مسعود ، وبعضها عن غيرهما منهم . وقد صنع غيره من حفاظ الحديث وأئمته نحوًا مما صنع ، فما كان ذلك بمطعن فيهم ، بل تقبلها الحفاظ بعدهم ، وأخرجوها في دواوينهم . ويحضرني الآن من ذلك صنيع معاصره : ابن شهاب الزهري الإمام . فقد روى قصة حديث الإفك ، فقال : " أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوا . وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا " ، إلخ .
فذكر الحديث بطوله . وهو في صحيح مسلم 2 : 333 - 335 . وسيأتي في تفسير الطبري (18 : 71 - 74 بولاق) . ورواه الإمام أحمد والبخاري في صحيحه ، كما في تفسير ابن كثير 6 : 68 - 73 . ثم قال ابن كثير : " وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري كذلك ، قال : " وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة ، وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة " . وإسناد ابن إسحاق الأخير في الطبري أيضًا . والإسنادان كلاهما رواهما ابن إسحاق عن الزهري ، في السيرة (ص 731 من سيرة ابن هشام) .
والمثل على ذلك كثيرة ، يعسر الآن تتبعها .
وقد أفادنا هذا البحث أن تفسير السدي من أوائل الكتب التي ألفت في رواية الأحاديث والآثار .
وهو من طبقة عالية ، من طبقة شيوخ مالك من التابعين .
وبعد : فأما هذا الخبر بعينه ، فقد رواه الحاكم في المستدرك 2 : 258 ، بالإسناد الذي أشرنا إليه ، من رواية السدي عن مرة عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه " . وافقه الذهبي . ونقله السيوطي في الدر المنثور 1 : 14 عن ابن جرير والحاكم ، وصححه ، عن ابن مسعود وناس من الصحابة " .
(1/156)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
مَعمر ، عن قتادة في قوله : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال : يوم يَدينُ الله العبادَ بأعمالهم. (1)
170 - وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، (مالك يوم الدين) قال : يوم يُدان الناس بالحساب. (2)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .
قال أبو جعفر : وتأويل قوله(إيَّاكَ نعبُدُ) : لك اللهم نَخشعُ ونَذِلُّ ونستكينُ ، إقرارًا لك يا رَبنا بالرُّبوبية لا لغيرك.
171 - كما حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمَارة ، قال : حدثنا أبو رَوق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريلُ لمحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إياكَ نُوحِّد ونخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك (3) .
__________
(1) الأثر 169 - نقله السيوطي 1 : 14 ونسبه لعبد الرزاق وعبد بن حميد . وهو ظاهر في رواية الطبري هذه - أنه من مصنف عبد الرزاق . ونسبه الشوكاني 1 : 12 لهما وللطبري .
(2) الأثر 170 - مضى الكلام على هذا الإسناد : 144 . وأما لفظه فلم يذكره أحد منهم .
(3) الخبر 171 - إسناده ضعيف ، بيناه في : 137 . وهذا الخبر والذي بعده 172 جمعهما السيوطي 1 : 14 ، ونسبهما أيضًا لابن أبي حاتم .
(1/157)
________________________________________
وذلك من قول ابن عباس بمعنى ما قلنا. وإنما اخترنا البيان عن تأويله بأنه بمعنى نَخشع ونذلّ ونستكينُ ، دون البيان عنه بأنه بمعنى نرجو ونَخاف - وإن كان الرّجاء والخوف لا يكونان إلا مع ذلة - لأنّ العبودية ، عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة ، وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام ، وذلّلته السابلة : معبَّدًا . ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد :
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت... وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ (1)
يعني بالموْر : الطريق. وبالمعبَّد : المذلَّل الموطوء (2) . ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج : معبَّد. ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه. والشواهد على ذلك - من أشعار العرب وكلامها - أكثرُ من أن تُحصى ، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفّق لفهمه إن شاء الله تعالى.
* * *
القول في تأويل قوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : وإياك رَبنا نستعين على عبادتنا إيّاك وطاعتنا لك وفي أمورنا كلها - لا أحدًا سواك ، إذْ كان من يكفُر بك يَستعين في أمورِه معبودَه الذي يعبُدُه من الأوثان دونَك ، ونحن بك نستعين في جميع أمورنا مخلصين لك العبادة.
172 - كالذي حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ،
__________
(1) ديوان الستة الجاهليين : 31 . يصف ناقته . تباري : تجاريها وتسابقها . والعتاق جمع عتيق : وهو الكريم المعرق في كرم الأصل . وناجيات : مسرعات في السير ، من النجاء ، وهو سرعة السير . والوظيف : من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه ، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه . وعنى بالوظيف هنا : الخف .
(2) في المخطوطة : " الموطن " ، وهو قريب المعنى .
(1/161)
________________________________________
قال : حدثني بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، قال : إياك نستَعِينُ على طاعتك وعلى أمورنا كلها (1) .
فإن قال قائل : وما معنى أمر الله عبادَه بأن يسألوه المعونةَ على طاعته ؟ أوَ جائزٌ ، وقد أمرهم بطاعته ، أن لا يعينهم عليها ؟ أم هل يقول قائل لربه : إياك نستعين على طاعتك ، إلا وهو على قوله ذلك مُعانٌ ، وذلك هو الطاعة. فما وجهُ مسألة العبد ربَّه ما قد أعطاه إياه ؟
قيل : إن تأويلَ ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه ، وإنما الداعي ربَّه من المؤمنين أن يعينه على طاعته إياه ، داعٍ أن يعينه فيما بقي من عُمره على ما كلّفه من طاعته ، دون ما قد تَقضَّى ومَضى من أعماله الصالحة فيما خلا من عمره . وجازت مسألةُ العبد ربَّه ذلك ، لأن إعطاء الله عبدَه ذلك - مع تمكينه جوارحَه لأداء ما كلَّفه من طاعته ، وافترض عليه من فرائضه ، فضلٌ منه جل ثناؤه تفضّل به عليه ، ولُطْف منه لَطَف له فيه. وليس في تَركه التفضُّلَ على بعض عبيده بالتوفيق - مع اشتغال عبده بمعصيته ، وانصرافه عن مَحبته ، ولا في بَسطه فضلَه على بعضهم ، مع إجهاد العبد نفسه في مَحبته ، ومسارعته إلى طاعته - فسادٌ في تدبير ، ولا جَور في حكم ، فيجوز أن يجهلَ جاهل موضع حُكم الله في أمرِه عبدَه بمسألته عَونَه على طاعته (2) .
وفي أمر الله جل ثناؤه عبادَه أن يقولوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، بمعنى مسألتهم إياه المعونةَ على العبادة ، أدلُّ الدليل على فساد قول القائلين بالتَّفويض من أهل القدر (3) ، الذين أحالوا أن يأمُرَ الله أحدًا من عبيده بأمرٍ ، أو يكلّفه
__________
(1) الخبر 172 - هو بالإسناد الضعيف قبله . وأشرنا إليه هناك .
(2) في المطبوعة : " حكم الله وأمره عبده " ، وفي المخطوطة : " حكم الله امره " بغير واو . والذي أثبتناه أصوب . والحكم : الحكمة ، كما مر مرارًا
(3) أهل القدر : هم نفاة القدر لا مثبتوه . والقائلون بالتفويض هم القدرية والمعتزلة والإمامية . يزعمون أن الأمر فوض إلى الإنسان (أي رد إليه) ، فإرادته كافية في إيجاد فعله ، طاعة كان أو معصية ، وهو خالق لأفعاله ، والاختيار بيده .
(1/162)
________________________________________
فرضَ عمل ، إلا بعدَ إعطائه المعونة على فعلِه وعلى تركِه. ولو كانَ الذي قالوا من ذلك كما قالوا ، لبطلت الرَّغبة إلى الله في المعونة على طاعته. إذ كان - على قولهم ، مع وجود الأمر والنهي والتكليف - حقًّا واجبًا على الله للعبد إعطاؤه المعونة عليه ، سأله عبدُه أو تركَ مسألة ذلك . بل تَرك إعطائه ذلك عندهم منه جَورٌ. ولو كان الأمر في ذلك على ما قالوا ، لكان القائل : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إنما يسأل رَبَّه أن لا يجور.
وفي إجماع أهل الإسلام جميعًا - على تصويب قول القائل : " اللهم إنا نستعينك " ، وتخطئَتِهم قول القائل : " اللهم لا تَجُرْ علينا " - دليل واضحٌ على خطأ ما قال الذين وصفتُ قولهم. إذْ كان تأويلُ قول القائل عندهم : " اللهم إنّا نستعينك - اللهم لا تترك مَعونتنا التي تركُكَها جَوْرٌ منك.
فإن قال قائل : وكيف قيل : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، فقُدِّم الخبرُ عن العِبادة ، وأخِّرتْ مسألةُ المعونة عليها بعدَها ؟ وإنما تكون العِبادة بالمعونة ، فمسألةُ المعونة كانت أحقَّّ بالتقديم قبلَ المُعَان عليه من العمل والعبادةُ بها.
قيل : لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه ، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان ، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل - كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه . كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها : " قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ " ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك ، أو قلتَ : أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي " ، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن ، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل : اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك ، وقوله : اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ.
(1/163)
________________________________________
قال أبو جعفر : وقد ظنّ بعض أهل الغفلة أنّ ذلك من المقدّم الذي معناه التأخيرُ ، كما قال امرؤ القيس :
ولَوْ أَنّ مَا أسْعَى لأَدْنَى مَعِيشةٍ... كَفاني ، ولم أطلُبْ ، قليلٌ من المالِ (1)
يريد بذلك : كفاني قليلٌ من المال ولم أطلب كثيرًا. وذلك - من معنى التقديم والتأخير ، ومن مشابهة بيت امرئ القيس - بمعْزِل. من أجل أنّه قد يكفيه القليلُ من المال ويطلُب الكثيرَ ، فليس وُجودُ ما يكفيه منه بموجبٍ له تركَ طلب الكثير ، فيكونَ نظيرَ العبادة التي بوجُودها وجود المعونة عليها ، وبوجود المعونة عليها وُجُودها ، فيكونَ ذكرُ أحدِهما دالا على الآخر ، فيعتدلَ في صحة الكلام تقديمُ ما قُدِّم منهما قبلَ صاحبه ، أن يكونَ موضوعًا في درجته ومرتَّبًا في مرتَبتِه.
فإن قال : فما وجْه تكراره : " إياك " مع قوله : " نستعين " ، وقد تقدَّم ذلك قَبْل " نعبد " ؟ وهلا قيل : " إياك نعبُدُ ونستعين " ، إذ كان المخبَرُ عنه أنه المعبودُ ، هو المخبر عنه أنه المستعانُ ؟
قيل له : إن الكاف التي مع " إيَّا " ، هي الكاف التي كانت تصل بالفعل - أعني بقوله : " نعبد " - لو كانت مؤخرةً بعدَ الفعل. وهي كنايةُ اسم المخاطبِ المنصوب بالفعل ، فكُثِّرت بـ " إيّا " متقدِّمةً ، إذْ كان الأسماء إذا انفردتْ بأنفسِها لا تكون في كلام العرب على حرف واحد.
فلمّا كانت الكاف من " إياكَ " هي كنايةَ اسم المخاطَب التي كانت تكون كافًا وحدها متصلةً بالفعل إذا كانتْ بعد الفعل ، ثم كان حظُّها أن تعادَ مع كلّ فعل اتصلتْ به ، فيقال : " اللهم إنا نعبدكَ ونستعينكَ ونحمدكَ ونشكرك " ، وكان ذلك أفصحَ في كلام العرب من أن يقال : " اللهم إنا نعبدك ونستعين ونحمد " - كان كذلك ، إذا قدِّمت كنايةُ اسم المخاطب قبل الفعل موصولةً بـ " إيّا " ، كان الأفصح إعادَتها مع كل فعل. كما كان الفصيحُ من الكلام إعادَتها مع
__________
(1) ديوانه 1 : 71 .
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
كل فعل ، إذا كانت بعد الفعل متصلةً به ، وإن كان تركُ إعادتها جائزًا.
وقد ظنّ بعضُ من لم يُنعم النظرَ (1) أنّ إعادة " إياك " مع " نستعين " ، بعد تقدّمها في قوله : " إياك نستعين " ، بمعنى قول عدي بن زيد العِبَاديّ :
وجَاعِل الشَّمس مِصْرًا لا خَفَاءَ بِه... بَيْن النَّهارِ وَبيْنَ اللَّيل قد فَصَلا (2)
وكقول أعشى هَمْدان :
بَيْنَ الأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ باذخٌ... بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وللمَولُودِ (3)
وذلك من قائله جهل ، من أجل أن حظ " إيّاك " أن تكون مكررة مع كل فعل ، لما وصفنا آنفًا من العلة ، وليس ذلك حُكم " بين " لأنها لا تكون - إذ اقتضت اثنين - إلا تكريرًا إذا أعيدت ، إذْ كانت لا تنفَرد بالواحد. وأنها لو أفْرِدت بأحد الاسمين ، في حال اقتضائها اثنين ، كان الكلام كالمستحيل. وذلك أنّ قائلا لو قال : " الشمس قد فَصَلت بين النهار " ، لكان من الكلام خَلْفًا (4) لنُقصان الكلام عما به الحاجة إليه ، من تمامه الذي يقتضيه " بين " .
ولو قال قائل : " اللهمّ إياك نعبد " ، لكان ذلك كلامًا تامًّا. فكان معلومًا بذلك أنّ حاجةَ كلِّ كلمةٍ - كانت نظيرةَ " إياك نعبد " - إلى " إياك " كحاجة
__________
(1) في المطبوعة : " لم يمعن النظر " ، بدلوها ، كما فعلوا في ص : 55 ، تعليق : 3 .
(2) في اللسان (مصر) منسوبًا إلى أمية بن أبي الصلت . واستدركه ابن بري ونسبه لعدي بن زيد . والمصر : الحاجز والحد بين الشيئين . يقول : جعل الشمس حدا وعلامة بين الليل والنهار .
(3) ديوان الأعشين : 323 ، والأغاني 6 : 46 ، 61 . وأعشى همدان هو عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني أبو مصبح ، كان أحد الفقهاء القراء ، ثم ترك ذلك وقال الشعر . يمدح عبد الحمن بن الأشعث بن قيس الكندي ، وكان خرج على الحجاج ، فخرج معه الفقهاء والقراء ، فلما أسر الحجاج الأعشى ، قال له : ألست القائل : وأنشده البيت - والله لا تبخبخ بعدها أبدًا! وقتله . الأشج : هو الأشعث والد عبد الحمن ، وقيس جده . وبخ بخ : كلمة للتعظيم والتفخيم . وهذا البيت والذي سبقه شاهدان على صحة تكرار " بين " ، مع غير الضمير المتصل ، ومثلهما كثير . وأهل عصرنا يخطئون من يقوله ، وهم في شرك الخطأ .
(4) الخلف (بفتح فسكون) : الرديء من القول . يقال هذا خلف من القول ، أي رديء . وفي المثل : " سكت ألفًا ونطق خلفًا " ، يقال للرجل يطيل الصمت ، فإذا تكلم تكلم بالخطأ . أي سكت دهرًا طويلًا ، ثم تكلم بخطأ . كنى بالألف عن الزمن الطويل ، ألف ساعة مثلا .
(1/165)
________________________________________
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
" نُعْبد " إليها (1) وأنّ الصواب أن تكونَ معها " إياك " ، إذْ كانت كل كلمة منها جملةَ خبرِ مبتدأ ، وبيّنًا حُكم مخالفة ذلك حُكم " بين " فيما وَفّق بينهما الذي وصفنا قوله.
* * *
القول في تأويل قوله : { اهْدِنَا } .
قال أبو جعفر : ومعنى قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، في هذا الموضع عندنا : وَفِّقْنا للثبات عليه ، كما رُوي ذلك عن ابن عباس : -
173 - حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد صلى الله عليه : " قل ، يا محمد ، اهدنا الصراط المستقيمَ " . يقول : ألهمنا الطريق الهادي (2) .
وإلهامه إياه ذلك ، هو توفيقه له ، كالذي قلنا في تأويله. ومعناه نظيرُ معنى قوله : " إياك نستعين " ، في أنه مَسألةُ العبد ربَّه التوفيقَ للثبات على العمل بطاعته ، وإصابة الحق والصواب فيما أمَره به ونهاه عنه ، فيما يَستَقبِلُ من عُمُره ، دون ما قد مضى من أعماله ، وتقضَّى فيما سَلف من عُمُره . كما في قوله : " إياك نستعين " ، مسألةٌ منه ربَّه المعونةَ على أداء ما قد كلَّفه من طاعته ، فيما بقي من عُمُره.
فكانَ معنى الكلام : اللهمّ إياك نعبدُ وحدَك لا شريك لك ، مخلصين لك العبادةَ دونَ ما سِواك من الآلهة والأوثان ، فأعِنَّا على عبادتك ، ووفِّقنا لما
__________
(1) يعني أن حاجة الأولى منهما كحاجة الثانية ، فلذلك وجب تكرارها . سياق العبارة : " فكان معلومًا أن حاجة كل كلمة . . . وكان معلومًا أم الصواب أن تكون معها . . . وكان بينًا . . . " إلى آخر الفقرة .
(2) يأتي بتمامه وتخريجه برقم 179 .
(1/166)
________________________________________
وفَّقت له مَن أنعمتَ عليه من أنبيائك وأهل طاعتك ، من السبيل والمنهاج.
فإن قال قائل : وأنَّى وَجدتَ الهدايةَ في كلام العرب بمعنى التَّوفيق ؟
قيل له : ذلك في كلامها أكثرُ وأظهر من أن يُحصى عددُ ما جاء عنهم في ذلك من الشواهد . فمن ذلك قول الشاعر :
لا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ الله مَسْألتِي... وَلا أكُونَنْ كمن أوْدَى به السَّفَرُ (1)
يعنى به : وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر :
ولا تُعْجِلَنِّي هدَاَك المليكُ... فإنّ لكلِّ مَقامٍ مَقَالا (2)
فمعلوم أنه إنما أراد : وفقك الله لإصابة الحق في أمري.
ومنه قول الله جل ثناؤه : ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) في غير آيه من تنزيله. وقد عُلم بذلك ، أنه لم يَعْنِ أنه لا يُبيِّنُ للظالمين الواجبَ عليهم من فرائضه. وكيف يجوزُ أن يكونَ ذلك معناه ، وقد عمَّ بالبيان جميع المكلَّفين من خلقه ؟ ولكنه عَنى جلّ وعزّ أنه لا يُوفِّقهم ، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم.
وقد زعم بعضهم أن تأويل قوله : (اهدِنا) : زدْنا هدايةٍ.
وليس يخلُو هذا القولُ من أحد أمرين : إما أن يكون ظنَّ قائلُه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بمسألة الزيادة في البيان ، أو الزيادةَ في المعونة والتوفيق .
فإن كان ظن أنه أُمِر بمسألة رَبِّه الزيادة في البيان ، فذلك ما لا وجه له ؛ لأن الله جلّ ثناؤه لا يكلِّف عبدًا فرضًا من فرائضه ، إلا بعد تبيينه له وإقامةِ الحجة عليه به. ولو كان مَعنى ذلك معنى مسألتِه البيانَ ، لكانَ قد أمِر أن يدعو ربَّه أن يبين له ما فَرض عليه ، وذلك من الدعاء خَلفٌ (3) ، لأنه لا يفرض فرضًا إلا مبيَّنًا
__________
(1) لم أعرف نسبة البيت ، وأخشى أن يكون من أبيات ودقة الأسدي يقولها لمعن بن زائدة . أمالي المرتضى 1 : 160 .
(2) نسبه المفضل بن سلمة في الفاخر : 253 ، وقال : " أول من قال ذلك طرفة بن العبد ، في شعر يعتذر فيه إلى عمرو بن هند " ، وليس في ديوانه ، وانظر أمثال الميداني 2 : 125 .
(3) أي رديء من القول . انظر ما سلف ص 165 رقم : 1 .
(1/167)
________________________________________
لمن فرضَه عليه. أو يكون أمِر أن يدعوَ ربَّه أن يفرض عليه الفرائضَ التي لم يفرضْها.
وفي فساد وَجه مسألة العبد ربَّه ذلك ، ما يوضِّح عن أن معنى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، غير معنى : بيِّن لنا فرائضَك وحدودَك.
أو يكون ظنّ أنه أمِر بمسألة ربه الزيادةَ في المعونة والتوفيق. فإن كان ذلك كذلك ، فلن تخلوَ مسألتُه تلك الزيادةَ من أن تكون مسألةً للزيادة في المعونة على ما قد مضى من عمله ، أو على ما يحدُث.
وفي ارتفاع حاجةِ العبد إلى المعونة على ما قد تقضَّى من عمله (1) ، ما يُعلِمُ أنّ معنى مسألة تلك الزيادة إنما هو مسألتُه الزيادةَ لما يحدث من عمله. وإذْ كانَ ذلك كذلك ، صارَ الأمر إلى ما وصفنا وقلنا في ذلك : من أنه مسألة العبد ربَّه التوفيقَ لأداء ما كُلِّف من فرائضه ، فيما يَستقبل من عُمُره.
وفي صحة ذلك ، فسادُ قول أهل القدَر الزاعمين أنّ كل مأمور بأمرٍ أو مكلَّف فرضًا ، فقد أعطي من المعونة عليه ، ما قد ارتفعت معه في ذلك الفرض حاجتُه إلى ربِّه (2) . لأنه لو كان الأمرُ على ما قالوا في ذلك ، لبطَلَ معنى قول الله جل ثناؤه : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ). وفي صحة معنى ذلك ، على ما بيَّنا ، فسادُ قولهم.
وقد زعم بعضُهم أنّ معنى قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) : أسْلِكنا طريق الجنة في المعاد ، أيْ قدِّمنا له وامض بنا إليه ، كما قال جلّ ثناؤه : ( فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) [سورة الصافات : 23] ، أي أدخلوهم النار ، كما تُهْدَى المرأة إلى زوجها ، يُعني بذلك أنها تُدخَل إليه ، وكما تُهدَى الهديَّة إلى الرجل ، وكما تَهدِي الساقَ القدمُ ، نظير قَول طَرفة بن العبد :
__________
(1) ارتفع الأمر : زال وذهب ، كأنه كان موضوعا حاضرا ثم ارتفع . ومنه : ارتفع الخلاف بينهما .
(2) انظر ص : 162 التعليق رقم 2 .
(1/168)
________________________________________
لَعبتْ بَعْدِي السُّيُولُ بهِ... وجَرَى في رَوْنَقٍ رِهمُهْ (1)
لِلفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَه قَدَمُهْ (2)
أي تَرِدُ به الموارد.
وفي قول الله جل ثناؤه( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ما ينبئ عن خطأ هذا التأويل ، مع شهادة الحجة من المفسِّرين على تخطئته. وذلك أنّ جميع المفسرين من الصحابة والتابعين مجمِعُون على أنّ معنى " الصراط " في هذا الموضع ، غيرُ المعنى الذي تأوله قائل هذا القول ، وأن قوله : " إياك نستعينُ " مسألةُ العبدِ ربَّه المعونةَ على عبادته. فكذلك قوله " اهْدِنا " إنما هو مسألةُ الثباتِ على الهدى فيما بقي من عُمُره.
والعربُ تقول : هديتُ فلانًا الطريقَ ، وهَديتُه للطريق ، وهديتُه إلى الطريق ، إذا أرشدتَه إليه وسدَّدته له. وبكل ذلك جاء القرآن ، قال الله جلّ ثناؤه : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ) [سورة الأعراف : 43] ، وقال في موضع آخر : ( اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [سورة النحل : 121] ، وقال : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ).
وكل ذلك فاش في منطقها ، موجودٌ في كلامها ، من ذلك قول الشاعر :
أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ، ... رَبَّ العِباد ، إليهِ الوَجْهُ والعَمَلُ (3)
__________
(1) ديوان الستة الجاهليين : 234 ، 237 ، والبيت الأول في فاتحة الشعر ، والأخير خاتمته . والضمير في قوله : " لعبت " للربع ، في أبيات سلفت . ورونق السيف والشباب والنبات : صفاؤه وحسنه وماؤه . ويروى : " في ريق " . وريق الشباب : أوله والتماعه ونضرته . وعنى نباتًا نضيرًا كأنه يقول : في ذي رنق ، أو في ذي ريق . والرهم - بكسر الراء - جمع رهمة : وهي المطرة الضعيفة المتتابعة ، وهي مكرمة للنبات . يقول : أعشبت الأرض ، وجرى ماء السماء في النبت يترقرق . والضمير في " رهمه " عائد على الغيث ، غائب كمذكور .
(2) يقول : حيث سار الفتى عاش بعقله وتدبيره واجتهاده .
(3) يأتي في تفسير آية سورة آل عمران : 121 ، وآية سورة القصص : 88 . وسيبويه 1 : 17 ، والخزانة 1 : 486 ، وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها . قال الشنتمري : " أراد من ذنب ، فحذف الجار وأوصل الفعل فنصب " والذنب هنا اسم جنس بمعنى الجمع . فلذلك قال : " لست محصيه " . والوجه : القصد والمراد ، وهو بمعنى التوجه " .
(1/169)
________________________________________
يريد : أستغفر الله لذنْب ، كما قال جل ثناؤه : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) [سورة غافر : 55] .
ومنه قول نابغة بني ذُبْيان :
فَيَصِيدُنَا العَيْرَ المُدِلَّ بِحُضْرِهِ... قَبْلَ الوَنَى وَالأَشْعَبَ النَبَّاحَا (1)
يريد : فيصيدُ لنا. وذلك كثير في أشعارهم وكلامهم ، وفيما ذكرنا منه كفاية.
* * *
القول في تأويل قوله : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } .
قال أبو جعفر : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن " الصراط المستقيم " ، هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه. وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك قول جرير بن عطية الخَطَفي :
أميرُ المؤمنين عَلَى صِرَاطٍ... إذا اعوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقيمِ (2)
يريد على طريق الحق. ومنه قول الهُذلي أبي ذُؤَيْب :
صَبَحْنَا أَرْضَهُمْ بالخَيْلِ حَتّى... تركْنَاها أَدَقَّ مِنَ الصِّرَاطِ (3)
__________
(1) البيت ليس في ديوانه . ومن القصيدة أبيات فيه : 23 ، (مطبوعة محمد جمال) ، والمجتنى لابن دريد : 23 ، يصف فرسًا . والعير : حمار الوحش . والحضر : العدو الشديد ، وحمار الوحش شديد العدو . والونى : التعب والفترة في العدو أو العمل . والأشعب : الظبي تفرق قرناه فانشعبا وتباينا بينونة شديدة . ونبح الكلب والظبي والتيس ينبح نباحًا ، فهو نباح ، إذا كثر صياحه ، من المرح والنشاط . والظبي إذا أسن ونبتت لقرونه شعب ، نبح (الحيوان 1 : 349) . يصف فرسه بشدة العدو ، يلحق العير المدل بحضره ، والظبي المستحكم السريع ، فيصيدها قبل أن يناله تعب .
(2) ديوانه : 507 ، يمدح هشام بن عبد الملك . والموارد جمع موردة : وهي الطرق إلى الماء . يريد الطرق التي يسلكها الناس إلى أغراضهم وحاجاتهم ، كما يسلكون الموارد إلى الماء .
(3) ليس في ديوانه ، ونسبه القرطبي في تفسيره 1 : 128 لعامر بن الطفيل ، وليس في ديوانه ، فإن يكن هذليا ، فلعله من شعر المتنخل ، وله قصيدة في ديوان الهذليين 2 : 18 - 28 ، على هذه القافية . ولعمرو بن معد يكرب أبيات مثلها رواها القالي في النوادر 3 : 191 .
(1/170)
________________________________________
ومنه قول الراجز :
* فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الصِّراطِ القَاصدِ (1) *
والشواهد على ذلك أكثرُ من أن تُحصى ، وفيما ذكرنا غنًى عما تركنا.
ثم تستعيرُ العرب " الصراط " فتستعمله في كل قولٍ وعمل وُصِف باستقامة أو اعوجاج ، فتصفُ المستقيمَ باستقامته ، والمعوجَّ باعوجاجه.
والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي ، أعني : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، أن يكونا معنيًّا به : وَفّقنا للثبات على ما ارتضيتَه ووَفّقتَ له مَنْ أنعمتَ عليه من عبادِك ، من قولٍ وعملٍ ، وذلك هو الصِّراط المستقيم. لأن من وُفّق لما وفق له من أنعم الله عليه من النبيِّين والصديقين والشهداء ، فقد وُفّق للإسلام ، وتصديقِ الرسلِ ، والتمسكِ بالكتاب ، والعملِ بما أمر الله به ، والانزجار عمّا زَجره عنه ، واتّباع منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وكلِّ عبدٍ لله صالحٍ ، وكل ذلك من الصراط المستقيم.
وقد اختلفتْ تراجمةُ القرآن في المعنيِّ بالصراط المستقيم (2) . يشمل معاني جميعهم في ذلك ، ما اخترنا من التأويل فيه.
ومما قالته في ذلك ، ما رُوي عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال ، وذكر القرآن ، فقال : هو الصراط المستقيم.
174 - حدثنا بذلك موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا حسين الجُعْفي ، عن حمزة الزيات ، عن أبي المختار الطائي ، عن ابن أخي الحارث ، عن الحارث ، عن عليّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
__________
(1) رواه القرطبي في تفسيره 1 : 128 " الصراط الواضح " .
(2) تراجمة القرآن : جمع ترجمان : وأراد المفسرين ، وانظر ما مضى : 70 تعليق : 1
(3) الحديث 174 - إسناده ضعيف جدًا . موسى بن عبد الرحمن المسروقي : ثقة ، روى عنه الترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وغيرهم . مات سنة 258 ، مترجم في التهذيب . حسين الجعفي : هو حسين بن علي بن الوليد ، ثقة معروف ، روى عنه أحمد ، وابن معين ، وغيرهم ، بل روى عنه ابن عيينة وهو أكبر منه . وأخرج له أصحاب الكتب الستة . حمزة الزيات : هو حمزة بن حبيب ، القارئ المعروف . وتكلم في رواية بعضهم ، والحق أنه ثقة ، وأخرج له مسلم في صحيحه . أبو المختار الطائي : قيل اسمه : سعد ، وهو مجهول ، جهله المديني وأبو زرعة . ابن أخي الحارث الأعور : أشد جهالة من ذلك ، لم يسم هو ولا أبوه . عمه الحارث : هو ابن عبد الله الأعور الهمداني ، وهو ضعيف جدا . وقد اختلف فيه العلماء اختلافا كثيرا ، حتى وصفه الشعبي وغيره بأنه " كان كذابًا " ، وقد رجحت في شرح الحديث 565 وغيره من المسند أنه ضعيف جدا .
وأما متن الحديث : فقد رواه - بمعناه - ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن عرفة عن يحيى بن يمان عن حمزة الزيات ، بهذا الإسناد ، فيما نقل ابن كثير 1 : 50 ووقع فيه تحريف الإسناد هناك . وهو جزء من حديث طويل ، في فضل القرآن - رواه الترمذي (4 : 51 - 52 من تحفة الأحوذي) ، عن عبد بن حميد عن حسين الجعفي ، بهذا الإسناد . وقال الترمذي : " هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات ، وإسناده مجهول ، وفي حديث الحارث مقال " . كذلك رواه الدارمي في سننه 2 : 435 عن محمد بن يزيد الرفاعي عن حسين الجعفي . ونقله السيوطي 1 : 15 ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في شعب الإيمان . وأشار إليه الذهبي في الميزان 3 : 380 في ترجمة أبي المختار الطائي ، قال : " حديثه في فضائل القرآن منكر " . ونقله ابن كثير في الفضائل : 14 - 15 عن الترمذي ، ونقل تضعيفه إياه ، ثم قال : " لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات ، بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور . فبرئ حمزة من عهدته ، على أنه وإن كان ضعيف الحديث ، فإنه إمام في القراءة . والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور ، وقد تكلموا فيه ، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده ، أما أنه تعمد الكذب في الحديث - فلا . وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وقد وهم بعضهم في رفعه ، وهو كلام حسن صحيح " .
وسيأتي 175 ، 176 بإسنادين آخرين ، موقوفًا ، من كلام علي رضي الله عنه .
ورواية ابن إسحاق - التي أشار إليها ابن كثير - هي حديث أحمد في المسند : 565 . عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق . وقد ضعفنا إسناده هناك ، بالحارث الأعور ، وبانقطاعه بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب . وليس فيه الحرف الذي هنا ، في تفسير " الصراط المستقيم " .
(1/171)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
175 - وحُدِّثْتُ عن إسماعيل بن أبي كريمة ، قال : حدثنا محمد بن سَلمة ، عن أبي سِنان ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي البَخْتريّ ، عن الحارث ، عن عليّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله (1) .
__________
(1) الحديث 175 - هو الحديث السابق بإسناد آخر . وهذا الإسناد جيد إلى الحارث الأعور ، ثم يضعف به الحديث جدا ، كما قلنا من قبل .
ومحمد بن سلمة : هو الباهلي الحراني ، وهو ثقة ، روى عنه أحمد بن حنبل وغيره ، وأخرج له مسلم في صحيحه ، مات سنة 191 . وشيخه أبو سنان : وهو سعيد بن سنان الشيباني ، وهو ثقة ، ومن تكلم فيه إنما يكون من جهة خطئه بعض الخطأ ، وقال أبو داود : " ثقة من رفعاء الناس " ، وأخرج له مسلم في الصحيح . وعمرو بن مرة : هو المرادي الجملي ، ثقة مأمون بلا خلاف ، قال مسعر : " عمرو من معادن الصدق " . وأبو البختري - بفتح الباء الموحدة والتاء المثناة بينهما خاء معجمة ساكنة : هو سعيد بن فيروز الطائي الكوفي ، تابعي ثقة معروف .
(1/172)
________________________________________
176 - وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزُّبيري ، قال : حدثنا حمزة الزيات ، عن أبي المختار الطائي ، عن أبن أخي الحارث الأعور ، عن الحارث ، عن عليّ ، قال : " الصِّراطُ المستقيم : كتاب الله تعالى ذكره (1) " .
177 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان - ح - وحدثنا محمد بن حُميد الرازي ، قال. حدثنا مِهْران ، عن سفيان ، عن منصور عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : " الصِّراطُ المستقيم " كتابُ الله (2) " .
178 - حدثني محمود بن خِدَاشِ الطالَقاني ، قال : حدثنا حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسِي ، قال : حدثنا علي والحسن ابنا صالح ، جميعًا ، عن عبد الله بن محمد بن عَقِيل ، عن جابر بن عبد الله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : الإسلام ، قال : هو أوسع مما بين السماء والأرض (3) .
__________
(1) الخبر 176 - هو الحديث السابق بالإسنادين قبله ، بمعناه . ولكنه هنا موقوف على ابن أبي طالب . والإسناد إليه منهار انهيار الإسناد 174 ، من أجل الحارث الأعور وابن أخيه . أما من دونهما ، فأبو المختار الطائي وحمزة مضيا في 174 ، وأبو أحمد الزبيري وأحمد بن إسحاق مضيا في 159 .
(2) الخبر 177 - هذا موقوف من كلام عبد الله بن مسعود . وقد رواه الطبري بإسنادين إلى سفيان ، وهو الثوري . أما أولهما : أحمد بن إسحاق عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري - فإسناده صحيح ، لا كلام فيه . وأما ثانيهما : محمد بن حميد الرازي عن مهران ، وهو ابن أبي عمر العطار - فقد بينا في الإسناد 11 أن في رواية مهران عن الثوري اضطرابًا ، ولكنه هنا تابعه عن روايته حافظ ثقة ، هو أبو أحمد الزبيري . وقد رواه الثوري عن منصور ، وهو ابن المعتمر الكوفي ، وهو ثقة ثبت حجة ، لا يختلف فيه أحد . وأبو وائل : هو شقيق بن سلمة الأسدي ، من كبار التابعين الثقات ، قال ابن معين : " ثقة لا يسأل عن مثله " .
وهذا الخبر ، رواه الحاكم في المستدرك 2 : 258 من طريق عمر بن سعد أبي داود الحضري عن الثوري ، بهذا الإسناد . وقال : " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " ، ووافقه الذهبي . وذكره السيوطي 1 : 15 ، والشوكاني 1 : 13 .
(3) الخبر 178 - وهذا موقوف على جابر بن عبد الله . وإسناده صحيح : محمود بن خداش بكسر الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وآخره شين معجمة - الطالقاني : ثقة من أهل الصدق ، مات يوم الأربعاء 14 شعبان سنة 250 ، كما في التاريخ الصغير للبخاري : 247 . وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي : ثقة ثبت عاقل ، روى عنه أحمد وغيره من الحفاظ . والحسن وعلي ابنا صالح بن صالح بن حي : ثقتان ، وهما أخوان توأم . ومن تكلم في الحسن تكلم بغير حجة ، وقد وثقناه في المسند : 2403 . وأخاه فيه : 220 . وعبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، وأمه زينب الصغرى بنت علي بن أبي طالب : تابعي ثقة ، ولا حجة لمن تكلم فيه .
والخبر رواه الحاكم في المستدرك 2 : 258 - 259 ، من طريق أبي نعيم عن الحسن بن صالح - وحده - بهذا الإسناد . وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي . وذكره ابن كثير 1 : 50 ، والسيوطي 1 : 15 ، والشوكاني 1 : 13
(1/173)
________________________________________
179 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمَارة ، قال : حدثنا أبو رَوق ، عن الضحّاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قال جبريل لمحمد : قل يا محمد :
(1/174)
________________________________________
( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) يقول : ألهمنا الطريقَ الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج له (1) .
180 - حدثنا موسى بن سهل الرازي ، قال : حدثنا يحيى بن عوف ، عن الفُرَات بن السائب ، عن ميمون بن مِهْران ، عن ابن عباس ، في قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : ذلك الإسلام (2) .
181 - حدثني محمود بن خِدَاش ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة الكِلابي ، عن إسماعيل الأزرق ، عن أبي عُمر البزّار ، عن ابن الحنفية ، في قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : هو دين الله الذي لا يقبل من العِباد غيرَه (3) .
182 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدّثنا عَمرو بن طلحة القنَّاد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدِّي - في خبر ذكره - عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : هو الإسلام (4)
183 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال : الطريق (5) .
184 - حدثنا عبد الله بن كثير أبو صديف الآمُلي ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، قال : حدثنا حمزة بن المغيرة ، عن عاصم ، عن أبي العالية ، في قوله : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، قال : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحباه من بعدِه أبو بكر وعمر. قال : فذكرتُ ذلك للحسن ، فقال : صدَق أبو العالية ونصح (6)
__________
(1) الحديث 179 - إسناده ضعيف ، سبق بيان ضعفه : 137 . وهذا اللفظ نقله ابن كثير 1 : 50 دون إسناد ولا نسبة . ونقله السيوطي 1 : 14 مختصرًا ، ونسبه للطبري فقط .
(2) الخبر 180 - إسناده ضعيف جدا ، على ما فيه من جهلنا بحال بعض رجاله : فموسى بن سهل الرازي ، شيخ الطبري : لم نجزم بأي الرجال هو ؟ ولعله " موسى بن سهل بن قادم ، ويقال ابن موسى أبو عمر الرملي ، نسائي الأصل " . فهو شيخ للطبري مترجم في التهذيب 10 : 347 ، ولكنه لم ينسب " رازيا " . وكتب في المخطوطة : " سهل بن موسى " ! ولم نجد هذه الترجمة أيضًا ، ونرجح أنه خطأ من الناسخ . . ويحيى بن عوف : لم نجد ترجمة بهذا الاسم قط فيما لدينا من مراجع . واما علة الإسناد ، فهو " الفرات بن السائب الجزري " ، وهو ضعيف جدا ، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 130 : " تركوه ، منكر الحديث " ، وكذلك قال الأئمة فيه ، وقال ابن حبان في المجروحين (في الورقة 187) : كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ، ويأتي بالمعضلات عن الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به ، ولا الرواية عنه ، ولا كتبة الحديث إلا على سبيل الاختبار " . وأما ميمون بن مهران فتابعي ثقة معروف ، فقيه حجة .
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1 : 50 مجهلا بلفظ " وقيل : هو الإسلام " . ونقله السيوطي 1 : 15 منسوبا لابن جريج فقط ، على خطأ مطبعي فيه " ابن جريج " !
(3) الأثر 181 - ابن الحنفية : هو محمد بن علي بن أبي طالب ، والحنفية أمه ، وهي خولة بنت جعفر من بني حنيفة ، عرف بالنسبة إليها . وهذا الإسناد إليه ضعيف : محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي : ثقة من شيوخ أحمد وابن معين . وإسماعيل الأزرق : هو إسماعيل بن سلمان ، وهو ضعيف ، قال ابن معين : " ليس حديثه بشيء " ، وقال ابن نمير والنسائي : " متروك " ، وقال ابن حبان في كتاب المجروحين (ص 78 رقم 35) : " ينفرد بمناكير يرويها عن المشاهير " . وأبو عمر البزار : هو دينار بن عمر الأسدي الكوفي الأعمى ، وهو ثقة . والأثر ذكره ابن كثير 1 : 51 دون نسبة ولا إسناد .
(4) الخبر 182 - هذا من تفسير السدي ، وقد سبق شرح إسناده 168 . وقد نقله ابن كثير 1 : 50 والسويطي 1 : 15 .
(5) الخبر 183 - نقله السيوطي 1 : 14 منسوبا للطبري وابن المنذر . وقد سبق أول هذا الإسناد : 144 ، وهو هنا منقطع ، لأن ابن جريج لم يدرك ابن عباس ، إنما يروي عن الرواة عنه .
(6) الأثر 184 - عبد الله بن كثير أبو صديف الآملي ، شيخ الطبري : لم أعرف من هو ، ولم أجد له ذكرًا ، وأخشى أن يكون فيه تحريف . هاشم بن القاسم : هو ابو النضر - بالنون والصاد المعجمة - الحافظ الخراساني الإمام ، شيخ الأئمة : أحمد وابن راهويه وابن المديني وابن معين وغيرهم .
حمزة بن المغيرة بن نشيط - بفتح النون وكسر الشين المعجمة - الكوفي العابد : ثقة ، مترجم في التهذيب ، وترجمه البخاري في الكبير 2 / 1 / 44 ، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 214 - 215 ، وذكره ابن حبان في الثقات 443 ، قال : " حمزة بن المغيرة العابد ، من أهل الكوفة . يروي عن عاصم الأحول عن أبي العالية (اهدنا الصراط المستقيم) ، قال : هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه . روى عنه أبو النضر هاشم بن القاسم " . ووقع هنا : في الأصول " حمزة بن أبي المغيرة " . وهو خطأ من الناسخين .
عاصم : هو ابن سليمان الأحول ، تابعي ثقة ثبت . أبو العالية : هو الرياحي - بكسر الراء وتخفيف الياء ، واسمه : رفيع - بالتصغير - ابن مهران ، من كبار التابعين الثقات ، مجمع على توثيقه .
وهذا الأثر ذكره ابن كثير 1 : 51 ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم . والسيوطي 1 : 15 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن عدي وابن عساكر . وأبو العالية لم يقله من قبل نفسه : فقد رواه الحاكم في المستدرك 2 : 259 من طريق أبي النضر بهذا الإسناد إلى " أبي العالية عن ابن عباس " . وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه " . ووافقه الذهبي . واختصره السيوطي ونسبه للحاكم فقط .
(1/175)
________________________________________
185 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : " اهدنا الصراط المستقي " ، قال : الإسلام (1) .
186 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، أنّ عبد الرحمن بن جُبير ، حدّثه عن أبيه ، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ضرب الله مثلا صراطًا مستقيمًا " . والصِّراط : الإسلامُ.
187 - حدثنا المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا الليث ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفير ، عن أبيه ، عن نَوَّاس بن سمعان الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله (2) .
__________
(1) الأثر 185 - هذا من كلام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقد نقله ابن كثير 1 : 51 دون نسبة . وعبد الرحمن بن زيد : متأخر ، من أتباع التابعين ، مات سنة 182 . وهو ضعيف جدا ، بينت ضعفه في حديث المسند : 5723 ، ويكفي منه قول ابن خزيمة : " ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه ، لسوء خفظه ، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف ، ليس من أحلاس الحديث " .
(2) الحديث 186 ، 187 - رواه الطبري عن شيخه " المثنى " بإسنادين ، أولهما أعلى من الثاني درجة : بين المثنى وبين معاوية بن صالح في أولهما شيخ واحد ، وفي ثانيهما شيخان .
أما المثنى شيخ الطبري : فهو المثنى بن إبراهيم الآملي ، يروي عنه الطبري كثيرا في التفسير والتاريخ . وأبو صالح ، في الإسناد الأول : هو عبد الله بن صالح المصري ، كاتب الليث بن سعد ، صحبه عشرين سنة . وهو ثقة ، ومن تكلم فيه ، في بعض حديثه عن الليث ، تكلم بغير حجة . وله ترجمة في التهذيب جيدة ، وكذلك في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 86 - 87 ، وتذكرة الحفاظ 1 : 351 - 353 . ولد عبد الله بن صالح سنة 137 ومات سنة 222 . ووقع تاريخ مولده في التهذيب (173) وهو خطأ مطبعي ، صوابه في تذكرة الحفاظ . وآدم العسقلاني ، في الإسناد الثاني : هو آدم بن أبي إياس ، وهو ثقة مأمون متعبد ، من خيار عباد الله ، كما قال أبو حاتم . الليث : هو ابن سعد ، إمام أهل مصر . معاوية بن صالح ، في الإسنادين : هو الحمصي ، أحد الأعلام وقاضي الأندلس ، ثقة ، من تكلم فيه أخطأ . عبد الرحمن بن جبير بن نفير - بالتصغير فيهما - الحضرمي الحمصي : تابعي ثقة . وأبوه : من كبار التابعين ، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو ثقة مشهور بالعلم ، وقد ذكره الطبري في طبقات الفقهاء . النواس - بفتح النون وتشديد الواو - بن سمعان الكلابي : صحابي معروف .
وهذا الحديث مختصر من حديث طويل ، رواه احمد في المسند : 17711 (ج 4 ص 182 حلبي) عن الحسن بن سوار عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح ، به . ونقله ابن كثير 1 : 51 من رواية المسند ، قال : " وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد ، به . ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن علي بن حجر بن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان ، به . وهو إسناد حسن صحيح " . ونسبه السيوطي 1 : 15 ، والشوكاني 1 : 13 أيضًا للحاكم " وصححه " ، ولغيره .
(1/176)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قال أبو جعفر : وإنما وصفه الله بالاستقامة ، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء ، أنه سمّاه مستقيمًا ، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويلٌ لتأويل جميع أهل التفسير خلافٌ ، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه.
* * *
القول في تأويل قوله : : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
وقوله( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ، إبانةٌ عن الصراط المستقيم ، أيُّ الصراط هو ؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد : اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، بطاعتك وعبادتك ، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ
(1/177)
________________________________________
صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) [سورة النساء : 66 - 69].
قال أبو جعفر : فالذي أمِر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم ، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق ، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله ، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يورده مواردهم ، والله لا يخلف الميعاد.
وبنحو ما قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس وغيره.
188 - حدثنا محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمَارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " صراطَ الذين أنعمت عليهم " يقول : طَريقَ من أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، الذين أطاعوك وعبَدُوك (1) .
189 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر عن ربيع : " صراط الذين أنعمتَ عليهم " ، قال : النبيّون (2) .
190 - حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " أنعمت عليهم " قال : المؤمنين (3) .
191 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : قال وكيع : " أنعمت عليهم " ، المسلمين (4) .
__________
(1) الخبر 188 - ضعف هذا الإسناد مفصل في : 137 . وهذا الخبر نقله ابن كثير 1 : 52 . وانظر أيضًا : 179 .
(2) الأثر 189 - ربيع : هو ابن أنس البكري . وسبق شرح هذا الإسناد إليه : 164 . والأثر نقله ابن كثير 1 : 53 ، والسيوطي 1 : 16 .
(3) الخبر 190 - هذا كالخبر 183 منقطع بين ابن جريج وابن عباس . وقد نقله ابن كثير 1 : 53 ، والسيوطي 1 : 16 ، ولكن وقع فيه " ابن حميد " بدل " ابن جرير " .
(4) الأثر 191 - وهذا نقله ابن كثير أيضًا 1 : 53 .
(1/178)
________________________________________
192 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قول الله " صراط الذين أنعمت عليهم " ، قال : النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن معه (1) .
قال أبو جعفر : وفي هذه الآية دليلٌ واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم ، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول : " صراط الذين أنعمت عليهم " ، فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم ؟
فإن قال قائل : وأين تمام هذا الخبر ؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر : " أنعمت عليك " ، مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه ، فأين ذلك الخبرُ في قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم ؟
قيل له : قد قدّمنا البيان - فيما مضى من كتابنا هذا - عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض ، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله : " صراط الذين أنعمتَ عليهم " من ذلك . لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم ، لما كان متقدّمًا قولَه : " صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، الذي هو إبانةٌ عن الصراط المستقيم وإبدالٌ منه - كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم ، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم ، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا ، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك - مع قرب تجاور الكلمتين - مغنيًا عن تكراره.
كما قال نابغة بني ذبيان :
كأَنَّك مِنْ جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بشَنِّ (2)
__________
(1) الأثر 192 - مضى هذا الإسناد : 185 . وأما نص الأثر ، فهو عند ابن كثير 1 : 53 . وقال بعد هذه الروايات : " والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل " . يعني الخبر 188 .
(2) ديوانه : 58 ، سيبويه 1 : 375 ، مجاز القرآن : 101 الخزانة 2 : 314 ، وهذا الشعر يقوله النابغة لعيينة بن حصن الفزاري . بنو أقيش : هم بنو أقيش بن عبيد . وقيل : فخذ من أشجع . وقيل : حي من اليمن في إبلهم نفار شديد . وقيل : هم حي من الجن يزعمون . وقعقع حرك شيئا يابسا فتسمع له صوت . والشن : القربة البالية . يصف عيينة بالجبن والخور وشدة الفزع ، كأنه جمل شديد النفار ، إذا سمع صوت شن يقعقع به
(1/179)
________________________________________
يريد : كأنك من جمال بني أقيش ، جملٌ يُقعقع خلف رجليه بشنّ ، فاكتفى بما ظهر من ذكر " الجمال " الدال على المحذوف ، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب :
تَرَى أَرْباقَهُمْ مُتَقَلِّدِيها... إِذا صَدِئَ الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ (1)
يريد : متقلديها هم ، فحذف " هم " ، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم ، دالا عليها.
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله : " صراط الذين أنعمت عليهم " .
* * *
القول في تأويل قوله : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } .
قال أبو جعفر : والقرَأةُ مجمعةٌ على قراءة " غير " بجر الراء منها (2) . والخفضُ يأتيها من وجهين :
أحدهما : أن يكون " غير " صفة لِ " الذين " ونعتًا لهم فتخفضها. إذ كان " الذين " خفضًا ، وهي لهم نعتٌ وصفةٌ. وإنما جاز أن يكون " غير " نعتًا لِـ " الذين " ، و " الذين " معرفة و " غير " نكرة ، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء
__________
(1) ديوانه : 131 والنقائض : 773 ، ويأتي في تفسير آية سورة الشعراء : 4 (19 : 38 بولاق) ، وهو هناك " على الكتاب " ، وهو خطأ . يهجو جريرا وقومه بني كليب بن يربوع . الأرباق : جمع ربق ، والربق جمع ربقة : وهو الحبل تشد به الغنم الصغار لئلا ترضع . وتقالد السيف : وضع نجاده على منكبه . والكماة ، جمع كمى : وهو البطل الشديد البأس . يصف بني كليب بأنهم رعاء أخساء بخلاء ، لا هم لهم إلا رعية الغنم ، والأبطال في الحرب يصلون حرها الأيام الطوال حتى يصدأ حديد الدروع على أبدانهم من العرق .
(2) في المطبوعة " والقراء مجمعة " ، والقَرَأَة : جمع قارئ . انظر ما مضى : 51 في التعليق ، و 64 تعليق : 4 و : 109 تعليق : 1 .
(1/180)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
التي هي أماراتٌ بين الناس ، مثل : زيد وعمرو ، وما أشبه ذلك (1) ؛ وإنما هي كالنكرات المجهولات ، مثل : الرجل والبعير ، وما أشبه ذلك. فلما كان " الذين " كذلك صفتُها ، وكانت " غير " مضافةً إلى مجهول من الأسماء ، نظيرَ " الذين " ، في أنه معرفة غير موقتة ، كما " الذين " معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون " غير المغضوب عليهم " نعتًا لِ " الذين أنعمت عليهم " كما يقال : " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل " ، يراد : لا أجلس إلا إلى مَن يعلم ، لا إلى مَن يجهل.
ولو كان " الذين أنعمت عليهم " مَعرفة موقتة. كان غير جائز أن يكون " غير المغضوب عليهم " لها نعتًا. وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقَّتة بنكرة - أن تُلْزِم نَعتها النكرةَ إعرابَ المعرفة المنعوت بها ، إلا على نية تكرير ما أعربَ المنعوتَ بها. خطأ في كلامهم أن يقال : " مررت بعبد الله غير العالم " ، فتخفض " غير " ، إلا على نية تكرير الباء التي أعرَبتْ عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك : مَرَرتُ بعبد الله ، مررت بغيرِ العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في : " غير المغضوب عليهم " .
والوجهُ الآخر من وجهي الخفض فيها : أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة. وإذا وُجِّه إلى ذلك ، كانت " غير " مخفوضةً بنية تكرير " الصراط " الذي خُفِض " الذين " عليها ، فكأنك قلت : صراطَ الذين أنعمت عليهم ، صراطَ غير المغضوب عليهم.
وهذان التأويلان في " غير المغضوب عليهم " ، وإن اختلفا باختلاف مُعرِبَيْهما ، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أنَّ من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق ، فقد سلم من غضب رَبه ونجا من الضلال في دينه.
فسواءٌ - إذ كان سَبب قوله : " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت
__________
(1) يعني بقوله : " المعرفة المؤقتة " المعرفة المحددة ، وهو العلم الشخصي الذي يعين مسماه تعيينًا مطلقًا غير مقيد . فقولك " زيد " يعين تعيينًا مطلقًا أو محددًا . والمعرف بالألف واللام إنما يعين مسماه ما دامت فيه " ال " ، فإذا فارقته فارقه التعيين . وانظر معاني الفراء 1 : 7 .
(1/181)
________________________________________
عليهم " غيرَ جائزٍ أن يرتاب ، مع سماعه ذلك من تاليه ، في أن الذين أنْعم الله عليهم بالهداية للصِّراط غيرُ غاضب ربُّهم عليهم ، مع النعمة التي قد عظمت مِنَّته بها عليهم في دينهم ؛ ولا أن يكونوا ضُلالا وقد هداهم الحقَّ ربُّهم. إذْ كان مستحيلا في فِطَرِهم اجتماعُ الرضَى من الله جلّ ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة ، واجتماعُ الهدى والضلال له في وقت واحد - أوُصِف (1) القوم ؛ معَ وَصْف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم ، وإنعامه عَليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم ، بأنهم غيرُ مغضوب عليهم ولا هم ضَالُّون ؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصِّفة الظاهرة التي وُصفوا بها ، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك ، وإن لم يصرِّح وصفَهُم به.
هذا ، إذا وجَّهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير " الصراطِ " الخافضِ " الذين " ، ولم نجعل " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " من صفة " الذين أنعمت عليهم " ، بل إذا حملناهم غيرَهم. وإن كان الفريقان لا شك مُنْعَمًا عليهما في أدْيانهم.
فأمّا إذا وجهنا " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " إلى أنها من نَعت ، " الذين أنعمت عليهم " . فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال ، إذْ كان الصريحُ من معناه قد أغنى عن الدليل.
وقد يجوز نصب " غير " في " غير المغضوب عليهم " ، وإن كنتُ للقراءة بها كارهًا لشذوذها عن قراءة القُرّاء . وإنَّ ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرًا مستفيضًا ، فرأيٌ للحق مخالف. وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين مُتجانفٌ. وإن كان له - لو كانت جائزًا القراءةُ به (2) - في الصواب مخرجٌ.
__________
(1) سياق العبارة : " سواء . . . أوصف القوم . . . أم لم يوصفوا " ، وما بين هذين فصل طويل كدأب أبي جعفر في بيانه .
(2) في المطبوعة : " لو كانت القراءة جائزة به " ، بدلوه ليوافق عبارتهم ، دون عبارة الطبري
(1/182)
________________________________________
وتأويل وجه صوابه إذا نصبتَ : أن يوجَّه إلى أن يكون صفةً للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين " . لأنها وإن كانت مخفوضة بِ " على " ، فهي في محل نصب يقوله : " أنعمت " . فكأن تأويل الكلام - إذا نصبت " غير " التي مع " المغضوب عليهم " - : صراطَ الذين هَدَيتهم إنعامًا منك عليهم ، غيرَ مغَضوبٍ عليهم ، أي لا مغضوبًا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ ، كالنصب في " غير " في قولك : مررت بعبد الله غيرَ الكريم ولا الرشيدِ ، فتقطع " غيرَ الكريم " من " عبد الله " ، إذْ كان " عبدُ الله " معرفة مؤقتة ، و " غير الكريم " نكرة مجهولة.
وقد كان بعضُ نحويِّي البصريين يزعم أنّ قراءة مَنْ نصب " غير " في " غير المغضوب عليهم " ، على وَجه استثناءِ " غير المغضوب عليهم " من معاني صفة " الذين أنعمت عليهم " ، كأنه كان يرى أنّ معنى الذين قرأوا ذلك نصبًا : اهدنا الصراط المستقيم ، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم ، إلا المغضوبَ عَليهم - الذين لم تُنعم عليهم في أديانهم ولم تَهْدهم للحق - فلا تجعلنا منهم. كما قال نابغة بني ذبيان :
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلالا أُسَائِلُها... عَيَّت جَوابًا ، ومَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ (1) إلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُهُا ... والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (2)
__________
(1) ديوانه : 23 ، ويأتي في تفسير آية البقرة : 35 (1 : 186 بولاق) ، وآية النساء : 114 (5 : 178) ، وآية يونس : 98 (11 : 117) وآية سورة الليل : 20 (30 : 146) . يقال : لقيته أصيلالا وأصيلانًا ، إذا لقيته بالعشي . وذلك أن الأصيل هو العشي ، وجمعه أُصُل (بضمتين) وأصلان (بضم فسكون) ، ثم صغروا الجمع فقالوا : أصيلان ، ثم أبدلوا من النون لامًا . فعلوا ذلك اقتدارا على عربيتهم ، ولكثرة استعمالهم له حتى قل من يجهل أصله ومعناه . وعى في منطقه : عجز عن الكلام .
(2) أواري جمع آري (مشدد الياء) : وهو محبس الدابة ومأواها ومربطها ، من قولهم : تأرى بالمكان أقام وتحبس . ولأيا : بعد جهد ومشقة وإبطاء . والنؤى : حفرة حول الخباء تعلى جوانبها بالتراب ، فتحجز الماء لا يدخل الخباء ، والمظلومة : يعني أرضًا مروا بها في برية فتحوضوا حوضًا سقوا فيه إبلهم ، وليس بموضع تحويض لبعدها عن مواطئ السابلة . فلذلك سماها مظلومة ، والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . والجلد : الأرض الصلبة ، يعني أنها لا تنبت شيئًا فلا يرعاها أحد .
(1/183)
________________________________________
والأواريُّ معلومٌ أنها ليست من عِدَاد " أحد " في شيء. فكذلك عنده ، استثنى " غير المغضوب عليهم " من " الذين أنعمت عليهم " ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء.
وأما نحِويُّو الكوفيين ، فأنكروا هذا التأويل واستخفُّوه (1) ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة ، لكان خطأ أن يقال : " ولا الضالين " .
لأن " لا " نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا : لم نجد في شيء من كلام العرب استثناءً يُعطف عليه بجحد ، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء ، وبالجحد على الجحد ، فيقولون في الاستثناء : قام القومُ إلا أخاك وإلا أباك.
وفي الجحد : ما قام أخوك ولا أبوك . وأما : قام القومُ إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا : فلما كان ذلك معدومًا في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزولُه ، علمنا - إذ كان قولُه " ولا الضالين " معطوفًا على قوله " غير المغضوب عليهم " - أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء ، وأن تأويل من وجَّهها إلى الاستثناء خطأ.
فهذه أوجه تأويل " غير المغضوب عليهم " ، باختلاف أوجه إعراب ذلك.
وإنما اعترضْنا بما اعترضنا في ذلك من بَيان وُجوه إعرابه - وإن كان قصدُنا في هذا الكتاب الكشفَ عن تأويل آي القرآن - لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله. فاضطرّتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه ، لتنكشف لطالب تأويله وُجوه تأويله ، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته.
والصَّوابُ من القول في تأويله وقراءته عندنا ، القول الأول ، وهو قراءةُ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) بخفض الراء من " غير " . بتأويل أنها صفة لِ " الذين أنعمت عليهم " ونعتٌ لهم - لما قد قدمنا من البيان - إن شئتَ ، وإن شئت فبتأويلِ تكرار " صراط " . كلُّ ذلك صوابٌ حَسنٌ.
__________
(1) في المطبوعة : " واستخطئوه " ، واستخفوه : رأوه خفيفا لا وزن له .
(1/184)
________________________________________
فإن قال لنا قائل : فمنْ هؤلاء المغضوبُ عليهم ، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟
قيل : هم الذين وصفهم الله جَلّ ثناؤه في تنزيله فقال : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) [سورة المائدة : 60] . فأعلمنا جلّ ذكره ثَمَّة (1) ، ما أحَلَّ بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا ، منّهً منه علينا ، وجه السبيل إلى النجاة من أن يَحِلَّ بنا مثل الذي حَلّ بهم من المَثُلات ، ورأفة منه بنا (2) .
فإن قيل : وما الدليلُ على أنهم أولاء الذين وصفَهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت ؟ قيل :
193 - حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عديّ بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : المغضوبُ عليهم ، اليهود (3) .
194 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عباد بن حُبيش يحدث ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ المغضوبَ عليهم اليهود (4) .
__________
(1) بدلوها في المطبوعة إلى " بمنه " ؛ وثم وثمة (بفتح الثاء) : إشارة للبعيد بمنزلة " هنا " للقريب .
(2) المثلات جمع مثلة (بفتح فضم ففتح) : وهي العقوبة والتنكيل .
(3) الحديث 193 - هذا إسناد صحيح ، وسيأتي بعض هذا الحديث أيضًا بهذا الإسناد 207 . وتخريجه سيأتي في 195 .
(4) الحديث 194 - وهذا إسناد صحيح أيضًا . عباد بن حبيش ، بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة ولآخره شين معجمة ، الكوفي ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 78 . وبعض الحديث سيأتي أيضًا 208 بهذا الإسناد .
(1/185)
________________________________________
195 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مُرِّي بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جلّ وعزّ " غير المغضوب عليهم " قال : هم اليهود (1) .
196 - حدثنا حُميد بن مَسْعَدة السّامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضَّل ، قال : حدثنا الجُرَيْري ، عن عبد الله بن شَقِيق : أنّ رُجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى ، فقال : مَنْ هؤلاء الذين تحاصرُ يا رسول الله ؟ قال : هؤلاء المغضوب عليهم ، اليهود (2) .
__________
(1) الحديث 195 - وهذا إسناد صحيح أيضًا . مري بن قطري الكوفي : ذكره ابن حبان في الثقات ، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 57 ، وقال : " سمع عدي بن حاتم ، روى عنه سماك بن حرب ، يعد في الكوفيين " . و " مري " : بضم الميم وتشديد الراء المكسورة مع تشديد الياء . و " قطري " بفتح القاف والطاء وبعد الراء ياء مشددة . وبعضه سيأتي أيضًا بالإسناد نفسه 209 .
وهذا الحديث عن عدي بن حاتم : أصله قصة مطولة في إسلامه . فرواه - بطوله - أحمد في المسند 4 : 378 - 379 عن محمد بن جعفر عن شعبة ، بالإسناد السابق 194 . . ورواه الترمذي 4 : 67 من طريق عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عباد بن حبيش عن عدي . وقال : " هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب . وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عباد بن حبيش عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم - الحديث بطوله " . وروى بعضه الطيالسي في مسنده : 1040 عن عمرو بن ثابت " عمن سمع عدي بن حاتم " . وقد تبين لنا من روايات الطبري هنا أن سماك بن حرب سمعه من عباد بن حبيش ومن مري بن قطري ، كلاهما عن عدي ، وأن سماك بن حرب لم ينفرد بروايته أيضًا ، إذ رواه إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي . وأن لم يعرفه الترمذي إلا من حديث سماك - لا ينفي أن يعرفه غيره من وجه آخر . وذكره ابن كثير 1 : 54 من رواية أحمد في المسند ، وأشار إلى رواية الترمذي ، وإلى روايات الطبري هنا ، ثم قال : " وقد روى حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها " . وذكره الحافظ في الإصابة ، في ترجمة عدي 2 : 229 من رواية أحمد والترمذي . وذكر السيوطي منه 1 : 16 تفسير الحرفين ، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه . وكذلك صنع الشوكاني 1 : 15 .
(2) الحديث 196 - حميد بن مسعدة السامي ، شيخ الطبري : هو " السامي " بالسين المهملة ، نص على ذلك الحافظ ابن حجر في التقريب . وهو نسبة إلى " سامة بن لؤي بن غالب " . ووقع في نسخ الطبري - هنا وفيما يأتي 210 - " الشامي " بالمعجمة ، وهو تصحيف . و " الجريري " ، بضم الجيم : هو سعيد بن إياس البصري . و " عبد الله بن شقيق العقيلي " ، بضم العين وفتح القاف : تابعي كبير ثقة . وهذا الإسناد مرسل ، لقول عبد الله بن شقيق : " أن رجلا " . وسيأتي مرسلا أيضًا 197 ، 199 ولكنه سيأتي موصولا 198 .
(1/186)
________________________________________
197 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَّية ، عن سعيد الجُرَيْري ، عن عروة ، عن عبد الله بن شَقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه.
198 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بُدَيْل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شَقيق : أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القُرَى ، وهو عَلى فَرسه ، وسأله رجل من بني القَين فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ - قال : المغضوبُ عليهم. وأشار إلى اليهود (1) .
199 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحَذَّاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه
200 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " غير المغضوب عليهم " ، يعني اليهودَ الذين غَضب الله عليهم (2) .
__________
(1) الحديث 198 - بديل ، بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة : هو ابن ميسرة العقيلي ، وهو تابعي ثقة . وهذه الرواية متصلة بإسناد صحيح . لأن عبد الله بن شقيق صرح فيها بانه أخبره " من سمع النبي صلى الله عليه وسلم " ، وجهالة الصحابي لا تضر ، كما هو معروف . والوصل بذكر الصحابي المبهم - زيادة من الثقة ، فهي مقبولة .
وقد ذكر ابن كثير 1 : 54 - 55 هذه الرواية الموصولة ، ثم أشار إلى الروايات الثلاث المرسلة ، ثم قال : " ووقع في رواية عروة تسمية : عبد الله بن عمرو ، فالله أعلم " . ولكنه لم يذكر من خرج رواية عروة التي يشير إليها . ثم قال ابن كثير : " وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم ، قال : اليهود ، قلت : الضالين ؟ قال : النصارى " . وأشار الحافظ في الفتح 8 : 122 إلى رواية ابن مردويه هذه عن أبي ذر " بإسناد حسن " . وذكر أيضًا أن رواية عبد الله بن شقيق الموصولة " أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم " - رواها أحمد . وهذه الروايات أيضًا عند السيوطي 1 : 16 ، والشوكاني 1 : 14 - 15 . وسيأتي تفسير (الضالين) بهذه الأسانيد 210 ، 211 ، 212 ، 213 . وسيأتي في 211 بيان من عروة الذي في الإسناد 197 .
(2) الأثر 200 - أثر الضحاك عن ابن عباس لم يخرجوه . وسيأتي باقيه 215 .
(1/187)
________________________________________
201 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " غير المغضوب عليهم " ، هم اليهود (1) .
202 - حدثنا ابن حميد الرازي ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ، قال : " غير المغضوب عليهم " ، قال : هم اليهود.
203 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : " غير المغضوب عليهم " ، قال : اليهود.
204 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " غير المغضوب عليهم " قال : اليهود.
205 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " غير المغضوب عليهم " ، اليهود.
206 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني ابن زيد ، عن أبيه ، قال : " المغضوب عليهم " ، اليهود (2) .
قال أبو جعفر : واختُلِف في صفة الغضب من الله جلّ ذكره :
فقال بعضهم : غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه ، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه ، إمّا في دنياه ، وإمّا في آخرته ، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) [سورة الزخرف : 55] .
وكما قال : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ
__________
(1) الخبر 201 - ابن كثير 1 : 55 ، والدر المنثور 1 : 16 ، والشوكاني 1 : 15 . وسيأتي باقيه : 217 .
(2) الآثار 202 - 206 : في ابن كثير ، والدر المنثور ، الشوكاني ، كالذي مضى . وسيأتي باقيها : 214 ، 216 ، 218 ، 219 ، 220 .
(1/188)
________________________________________
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ) [ سورة المائدة : 60 ].
وقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من عباده ، ذم منه لهم ولأفعالهم ، وشتم لهم منه بالقول.
وقال بعضهم : الغضب منه معنى مفهوم ، كالذي يعرف من معاني الغضب ، غير أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات (1) - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم.
لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات ، ولكنه له صفة ، كما العلم له صفة ، والقدرة له صفة ، على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد ، التي هي معارف القلوب ، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَلا الضَّالِّينَ } .
قال أبو جعفر : كان بعض أهل البصرة يزعم أن " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام ، والمعنى إلغاؤها ، يستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج :
__________
(1) الإثبات : مذهب أهل السنة في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف نفسه ، وإثبات القدر بلا تأويل ، خلافا لأهل القدر ، وهم نفاته ، وللجهمية والمعطلة للصفات .
(2) بعد هذا الموضع من نسخة دار الكتب المصرية رقم : 100 تفسير ، ما نصه :
" وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .
- على الأصل المنقول منه -
سمعت وأحمد ومحمد والحسن بني عبد الله بن أحمد الفرغاني في يوم الخميس لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلثمائة . ومحمد بن محمد الطوسي " .
(1/189)
________________________________________
فِي بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ (1)
ويتأوله بمعنى : في بئر حور سرى ، أي في بئر هلكة ، وأن " لا " بمعنى الإلغاء والصلة. ويعتل أيضا لذلك بقول أبي النجم :
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَنْ لا تَسْخَرَا... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا (2)
وهو يريد : فما ألوم البيض أن تسخر وبقول الأحوص :
وَيَلْحَيْنَنِي فِي اللَّهْوِ أَنْ لا أُحِبَّه... وَللَّهْوُ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ (3)
يريد : وَيلحينني في اللهو أن أحبه ، وبقوله تعالى : (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ) [سورة الأعراف : 12] ، يريد أن تسجد. وحُكي عن قائل هذه المقالة أنه كان يتأول " غير " التي " مع " المغضوب عليهم " ، أنها بمعنى " سوى (4) . فكأنّ معنى الكلام كانَ عنده : اهدنا الصراط المستقيمَ ، صراط الذين أنعمتَ عليهم ، الذين همُ سوى المغضوب والضالين.
وكان بعضُ نحويي الكوفة يستنكر ذلك من قوله (5) ، ويزعمُ أن " غير "
__________
(1) ديوانه : 16 ، ومعاني القرآن للفراء 1 : 8 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة : 25 والخزانة 2 : 95 ، وأمالي الشجري 2 : 231 ، والأضداد لابن الأنباري : 186 . والقائل بأنها زائدة من البصريين هو أبو عبيدة .
(2) نسبه شارح القاموس عن الصاغاني لأبي النجم وقال : روايته : " إذا رأت ذا الشيبة القفندرا "
وضبطوا " الشمط " بفتح الميم ، أي الشيب ، وجائز أن يكون أبو النجم قاله " الشمط " بكسر الميم على أنه فرح ، طرح ألف " أشمط " ، كما فعلوا في أشعث وشعث . وأحدب وحدب ، وأتعس وتعس ، وأحول وحول ، في الصفات المشبهة من العيوب الظاهرة والحلي . وانظر الفائق للزمخشري 2 : 326 فقد عدد ألفاظًا غيرها . وكأن الصاغاني أبى من رواية " الشمط " بفتحتين ، لأن القفندر : هو الصغير الرأس القبيح المنظر .
والبيت برواية البري في مجاز القرآن لأبي عبيدة : 26 ، والأضداد لابن الأنباري : 185 ، واللسان ( قفندر ) ، ثم انظر أمالي الشجري 2 : 231 ، وغيرها .
(3) الكامل 1 : 49 ، والأضداد لابن الأنباري : 186 ، ولحاه يلحاه لحيًا : عذله ولامه .
(4) هو أبو عبيدة كما أسلفنا في أول هذه الفقرة . وأشار إليه الفراء في معاني القرآن : 8 بقوله : " وقد قال بعض من لا يعرف العربية . . . " ، وكذلك فعل الطبري من قبل في مواضع . وانظر اللسان (غير) .
(5) يعني الفراء الكوفي في كتابه معاني القرآن : 8 ، أو غيره من كتبه .
(1/190)
________________________________________
التي " مع المغضوب عليهم " ، لو كانت بمعنى سوى ، لكان خطأ أن يعطف عليها بـ " لا " ، إذْ كانت " لا " لا يعطف بها إلا على جحد قد تقدمها. كما كان خطأ قول القائل : " عندي سِوَى أخيك ولا أبيك " ، لأن سِوَى ليست من حروف النفي والجحود. ويقول : لما كان ذلك خطأ في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصحِ اللغات من لغات العرب ، كان معلومًا أن الذي زَعمه القائل : أن " غير " مع " المغضوب عليهم " بمعنى : سوى المغضوب عليهم ، خطأ. إذ كان قد كرّ عليه الكلامَ بـ " لا " . وكان يزعم أن " غير " هنالك إنما هي بمعنى الجحد. إذْ كان صحيحًا في كلام العرب ، وفاشيًا ظاهرًا في منطقها توجيه " غير " إلى معنى النفي ومستعملا فيهم : " أخوك غير مُحسِن ولا مُجْمِل " ، يراد بذلك أخوك لا محسن ، ولا مجمل ، ويَستنكرُ أن تأتي " لا " بمعنى الحذف في الكلام مُبتدأً ، ولمَّا يتقدمها جحد. ويقول : لو جاز مجيئها بمعنى الحذف مُبتدأ ، قبل دلالة تدلّ ذلك من جحد سابق ، لصحَّ قول قائل قال : " أردْتُ أن لا أكرم أخاك " ، بمعنى : أردت أن أكرم أخاك. وكان يقول : ففي شهادة أهل المعرفة بلسان العرب على تخطئة قائل ذلك ، دلالةٌ واضحة على أنَّ " لا " تأتي مبتدأة بمعنى الحذف ، ولَمَّا يتقدَّمها جحد. وكان يتأوّل في " لا " التي في بيت العجاج ، الذي ذكرنا أن البصْريّ استشهد به ، بقوله : إنها جَحْدٌ صحيح ، وأنّ معنى البيت : سَرَى في بئر لا تُحيرُ عليه خيرًا ، ولا يتبيَّن له فيها أثرُ عملٍ ، وهو لا يشعُر بذلك ولا يدري به (1) . من قولهم : " طحنت الطَّاحنة فما أحارت شيئًا " ، أي لم يتبيَّن لها أثرُ عملٍ. ويقول في سائر الأبيات الأخر ، أعني مثل بَيت أبي النجم : :
فما ألُوم البيضَ أن لا تسخَرَا
إنما جاز أن تكون " لا " بمعنى الحذف ، لأن الجحد قد تقدمها في أول الكلام ، فكان الكلام الآخر مُواصِلا للأول ، كما قال الشاعر :
__________
(1) عبارة الفراء في معاني القرآن : " كأنك قلت : إلى غير رشد توجه وما درى " .
(1/191)
________________________________________
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمُ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (1)
فجازَ ذلك ، إذْ كان قد تقدَّم الجحدُ في أوّل الكلام.
قال أبو جعفر : وهذا القولُ الآخر أولى بالصواب من الأول ، إذ كان غيرَ موجودٍ في كلام العرب ابتداءُ الكلام من غير جحد تقدَّمه بـ " لا " التي معناها الحذف ، ولا جائزٍ العطفُ بها على " سوى " ، ولا على حرف الاستثناء. وإنما لِـ " غير " في كلام العرب معان ثلاثة : أحدها الاستثناء ، والآخر الجحد ، والثالث سوى. فإذا ثبت خطأ " لا " أن يكون بمعنى الإلغاء مُبتدأ (2) ، وفسدَ أن يكون عطفًا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم " ، لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء ، ولم يَجز أيضًا أن يكون عطفًا عليها لو كانت بمعنى " سوى " ، وكانت " لا " موجودة عطفًا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قَبلها - صحَّ (3) وثبت أن لا وجهَ لـ " غير " ، التي مع " المغضوب عليهم " ، يجوز توجيهها إليه على صحَّة إلا بمعنى الجحد والنفي ، وأن لا وَجه لقوله : " ولا الضالين " ، إلا العطف على " غير المغضوب عليهم " .
فتأويلُ الكلام إذًا - إذْ كان صحيحًا ما قلنا بالذي عليه استشهدنا - اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، لا المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن قال لنا قائل : ومَن هؤلاء الضَّالُّون الذين أمرنا اللهُ بالاستعاذة بالله أن يَسْلُكَ بنا سبيلهم ، أو نَضِلَّ ضلالهم ؟
قيل : هم الذين وصَفهم الله في تنزيله فقال : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا
__________
(1) الشعر لجرير يهجو الأخطل ، ديوانه 263 ، ونقائض جرير والأخطل : 174 ، وأضداد ابن الأنباري : 186 ، ثم تفسير آية سورة البقرة : 158 .
(2) في المخطوطة : " فإذا ثبت خط أن لا يكون بمعنى الإلغاء " غير منقوطة ، ولم يحسن طابعو المطبوعة قراءتها فجعلوها : " فإذا بطل حظ لا أن تكون بمعنى الإلغاء " . وقد صححنا ما في المخطوطة من تقديم " لا " على " يكون " .
(3) جواب قوله " فإذا ثبت خطأ . . . " .
(1/192)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [سورة المائدة : 77].
فإن قال : وما برهانك على أنهم أولاء ؟
قيل :
207 - حدثنا أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشَّعبي ، عن عدي بن أبي حاتم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولا الضالين " قال : النصارى (1) .
208 - حدثنا محمد بن المثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر ، أنبأنا شعبة ، عن سِمَاك ، قال : سمعت عبّاد بن حُبيش يحدث ، عن عدي بن حاتم ، قال : قالَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الضَّالين : النَّصارى " .
209 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مُصْعَب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مُرّيّ بن قَطَريّ ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله : " ولا الضالين " ، قال : النصارى هم الضالون .
210 - حدثنا حُميد بن مَسعدة السَّامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضَّل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصرٌ واديَ القُرَى قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الضّالون : النصارى .
211 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابنُ عُلَيَّة ، عن سعيد الجُرَيري ، عن عروة ، يعني ابن عبد الله بن قيس ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه (2) .
__________
(1) هذه الأحاديث والأخبار والآثار 207 - 220 ، في تفسير (الضالين) ، سبقت أوائلها في تفسير (المغضوب عليهم) ، مع تخريجها ، في الأرقام 193 - 206 ، مع شيء من التقديم والتأخير .
(2) الحديث 211 - سبق هذا الإسناد 197 ولم ينسب فيه " عروة " هذا ، وفي التعليق على الحديث 198 إشارة ابن كثير إلى رواية " عروة " ، ولم يذكر نسبه أيضًا . وقد بين الطبري هنا أنه " عروة بن عبد الله بن قيس " . وأنا أرجح أن كلمة " قيس " محرفة من الناسخين عن كلمة " قشير " .
فإني لم أجد في التراجم قط من يسمى " عروة بن عبد الله بن قيس " ، ويبعد جدا أن لا يذكروه ، وهو يروي عن رجل من كبار التابعين . والذي في هذه الطبقة ، هو " عروة بن عبد الله بن قشير أبو مهل الكوفي " ، مترجم في التهذيب 7 : 186 ، والتاريخ الكبير للبخاري 4 / 1 / 34 ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3 / 1 / 397 ، والثقات لابن حبان : 574 ، والكنى للدولابي 2 : 135 . وذكر الأخيران قولا آخر في اسم جده ، أنه " بشير " . و " أبو مهل " : بفتح الميم والهاء ، كما ذكره الذهبي في المشتبه : 508 .
(1/193)
________________________________________
212 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بُدَيْل العُقَيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق ، أنه أخبره من سَمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو على فرسه وسأله رجل من بني القَين ، فقال : يا رسولَ الله ، من هؤلاء ؟ - قال : هؤلاء الضَّالون " ، يعني النصارى.
213 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو محاصرٌ وادي القُرى وهو على فرس : من هؤلاء ؟ قال : الضالّون. يعني النصارى.
214 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد : " ولا الضالين " قال : النصارى.
215 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عُمارة ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " ولا الضالين " قال : وَغير طريقِ النَّصارى الذين أضلَّهم الله بِفرْيَتهمْ عليه. قال : يقول : فألهِمنا دينك الحق ، وهو لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، حتى لا تغضَبَ علينا كما غضبتَ على اليهود ، ولا تضلَّنا كما أضللتَ النصارى فتعذّبنا بما تعذِّبهم به. يقول امنعْنا من ذلك برفْقِك ورَحمتك وقدرتك.
216 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : الضالين النصارى.
(1/194)
________________________________________
217 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدّيّ في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " ولا الضالين " ، هم النصارى.
218 - حدثني أحمد بن حازم الغِفاري ، قال : أخبرنا عُبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : " ولا الضالين " ، النصارى.
219 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : " ولا الضالين " ، النصارى.
220 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه. قال : الضالين ، النصارى.
* * *
قال أبو جعفر : فكلّ حائدٍ عن قَصْد السبيل ، وسالكٍ غيرَ المنهج القويم ، فضَالٌّ عند العرب ، لإضلاله وَجهَ الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارَى ضُلالا لخطئهم في الحقِّ مَنهجَ السبيل ، وأخذهم من الدِّين في غير الطريق المستقيم.
فإن قال قائل : أوَ ليس ذلك أيضًا من صفة اليهود ؟
قيل : بلى!
فإن قال : كيف خَصّ النصارَى بهذه الصفة ، وَخصّ اليهودَ بما وصفَهم به من أنهم مغضوب عليهم ؟
قيل : كلا الفريقين ضُلال مغضوبٌ عليهم ، غيرَ أن الله جلّ ثناؤه وَسم كل فريق منهم من صِفَته لعباده بما يعرفونه به ، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسمِّ واحدًا من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته ، وإن كان له من صفاتِ الذمّ زياداتٌ عليه.
فيظنُّ بعض أهل الغباء من القدريّة أن في وصف الله جلّ ثناؤه النصارى
(1/195)
________________________________________
بالضّلال ، بقوله : " ولا الضالين " ، وإضافته الضَّلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه ، وتركه وصفهم بأنهم المضلَّلون ، كالذي وَصف به اليهود أنهم المغضوبُ عليهم - دلالةً على صحة ما قاله إخوانُه من جهلة القدرية ، جهلا منه بسَعَة كلام العرب وتصاريف وُجوهه.
ولو كان الأمر على ما ظَنّه الغبي الذي وصفنا شأنه ، لوجب أن يكونَ شأنُ كلِّ موصوفٍ بصفةٍ أو مضافٍ إليه فعلٌ ، لا يجوزُ أن يكون فيه سببٌ لغيره ، وأنْ يكون كلُّ ما كان فيه من ذلك لغيره سببٌ ، فالحقُّ فيه أن يكون مضافًا إلى مُسبِّبه ، ولو وَجب ذلك ، لوجبَ أن يكون خطأ قولُ القائل : " تحركت الشجرةُ " ، إذْ حرَّكتها الرياح ؛ و " اضطربت الأرض " ، إذْ حرَّكتها الزلزلة ، وما أشبهَ ذلك من الكلام الذي يطولُ بإحصائه الكتاب.
وفي قول الله جلّ ثناؤه : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ ) [سورة يونس : 22] - بإضافته الجريَ إلى الفلك ، وإن كان جريها بإجراء غيرِها إيَّاها - ما دلّ على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله : " ولا الضالين " ، وادّعائه أنّ في نسبة الله جلّ ثناؤه الضلالةَ إلى من نَسبها إليه من النصارى ، تصحيحًا لما ادَّعى المنكرون : أن يكون لله جلّ ثناؤه في أفعال خلقه سببٌ من أجله وُجدت أفعالهم ، مع إبانة الله عزّ ذكره نصًّا في آيٍ كثيرة من تنزيله ، أنه المضلُّ الهادي ، فمن ذلك قوله جل ثناؤه : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) [سورة الجاثية : 23]. فأنبأ جلّ ذكره أنه المضلّ الهادي دون غيره.
ولكنّ القرآن نزلَ بلسان العرب ، على ما قدَّمنا البيان عنه في أول الكتاب ، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وُجد منه - وإن كان مسبِّبُه غيرَ الذي وُجِد
(1/196)
________________________________________
منه - أحيانًا ، وأحيانًا إلى مسبِّبه ، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيرُه. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسبًا ، ويُوجِده الله جلّ ثناؤه عَيْنًا مُنْشَأةً ؟ بل ذلك أحرى أن يُضاف إلى مكتسبِه ؛ كسبًا له ، بالقوة منه عليه ، والاختيار منه له - وَإلى الله جلّ ثناؤه ، بإيجاد عينِه وإنشائها تدبيرًا. ( مسألة يَسأل عنها أهل الإلحاد الطَّاعنون في القرآن)
إن سألَنا منهم سائل فقال : إنك قد قدَّمتَ في أول كتابك هذا في وصْف البيان : بأنّ أعلاه درجة وأشرفَه مرتبة ، أبلغُه في الإبانة عن حاجة المُبين به عن نفسه ، وأبينُه عن مُراد قائله ، وأقربُه من فهم سامعه. وقلتَ ، مع ذلك : إنّ أوْلى البيان بأن يكون كذلك ، كلامُ الله جل ثناؤه ، لِفَضْله على سائر الكلام وبارتفاع دَرَجته على أعلى درجات البيان (1) ، فما الوجه - إذ كان الأمر على ما وصفت - في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات ؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان ، وذلك قوله : ( مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ) ، إذْ كان لا شك أنّ من عَرف : مَلك يوم الدين ، فقد عَرَفه بأسمائه الحسنى وصفاته المُثْلى. وأنّ من كان لله مطيعًا ، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه مُتَّبع ، وعن سبيل من غَضِب عليه وضَلَّ مُنْعَدِل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية ، من الحكمة التي لم تَحْوِها الآيتان اللتان ذكرنا ؟
قيل له : إنّ الله تعالى ذكرُه جَمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته - بما أنزل إليه من كتابه - معانيَ لم يجمعْهُنّ بكتاب أنزله إلى نبيّ قبله ، ولا لأمَّة من الأمم قبلهم. وذلك أنّ كُلّ كتاب أنزله جلّ ذكرُه على نبيّ من أنبيائه قبله ، فإنما أنزل ببعض المعاني التي يحوي جميعَها كتابُه الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. كالتَّوراة التي هي مواعظ وتفصيل ، والزَّبُور الذي هو تحميد وتمجيد ، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير - لا مُعجزةَ في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتابُ الذي أنزل على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، يحوي معاني ذلك كله ، ويزيد عليه كثيرًا من المعاني التي سائرُ الكتب غيرِه منها خالٍ.
__________
(1) انظر ما مضى : 9 - 11 .
(1/197)
________________________________________
وقد قدَّمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب (1) .
ومن أشرفِ تلك المعاني التي فَضَل بها كتابُنا سائرَ الكتب قبله ، نظْمُه العجيبُ ورصْفُه الغريب (2) وتأليفُه البديع ؛ الذي عجزتْ عن نظم مثْلِ أصغرِ سورة منه الخطباء ، وكلَّت عن وَصْف شكل بعضه البلغاء ، وتحيَّرت في تأليفه الشُّعراء ، وتبلَّدت - قصورًا عن أن تأتيَ بمثله - لديه أفهامُ الفُهماء ، فلم يجدوا له إلا التسليمَ والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوي ، مَع ذلك ، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب ، وأمرٌ وزجرٌ ، وقَصَص وجَدَل ومَثَل ، وما أشبهَ ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء.
فمهما يكن فيه من إطالة ، على نحو مَا في أمِّ القرآن (3) ، فلِما وصفتُ قبلُ من أن الله جل ذكره أرادَ أن يجمعَ - برَصْفه العجيب ونظْمِه الغريب ، المنعدِلِ عن أوزان الأشعار ، وسجْع الكُهَّان وخطب الخطباء ورَسائل البلغاء ، العاجز عن رَصْف مثله جميع الأنام ، وعن نظم نظيره كل العباد - الدلالةَ (4) على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه ، تنبيهَ (5) العباد على عَظمته وسلطانه وقدرته وعِظم مَملكته ، ليذكرُوه بآلائه ، ويحمدوه على نعمائه ، فيستحقوا به منه المزيدَ ، ويستوجبوا عليه الثوابَ الجزيل ؛ وبما فيه من نَعْتِ من أنعم عليه بمعرفته ، وتفضَّل عليه بتوفيقه لطاعته ، تعريفَ (6) عباده أن كل ما بهم من نعمة ، في دينهم ودنياهم ، فمنه ، ليصرفوا رَغبتهم إليه ، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دُون ما سواهُ من الآلهة والأنداد ، وبما فيه من ذكره ما أحلّ بمن عَصَاه منْ مَثُلاته ، وأنزل بمن خالف أمره من عقوباته - ترهيبَ (7) عباده عن ركوب
__________
(1) انظر ما مضى : 71
(2) في المطبوعة " ووصفه " . ورصف الشيء ضم بعضه إلى بعض ونظمه حتى يكون مستويا محكما منضدا .
(3) في المخطوطة : " آية القرآن " غير منقوطة .
(4) " الدلالة " مفعول " أن يجمع . . . " ، ثم عطف عليها بعد ، ما سننبه له .
(5) هذه جميعًا معطوفة على قوله " الدلالة " ، كما ذكرنا آنفًا .
(6) هذه جميعًا معطوفة على قوله " الدلالة " ، كما ذكرنا آنفًا .
(7) هذه جميعًا معطوفة على قوله " الدلالة " ، كما ذكرنا آنفًا .
(1/199)
________________________________________
معاصيه ، والتعرُّضِ لما لا قِبَل لهم به من سَخَطه ، فيسلكَ بهم في النكال والنَّقِمات سبيلَ من ركب ذلك من الهُلاك.
فذلك وَجْه إطالة البيان في سورة أم القرآن ، وفيما كان نظيرًا لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة.
* * *
221 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، عن أبي السائب مولى زُهْرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قال العبد : " الحمد لله ربّ العالمين " ، قال الله : " حمدني عبدي " . وإذا قال : " الرحمن الرحيم " ، قال : " أثنى عليّ عبدي " . وإذا قال : " مالكِ يوم الدين " ، قال : " مجَّدني عبدي. فهذا لي " . وإذا قَال : " إيّاك نَعبُد وإيّاكَ نستعين " إلى أن يختم السورة ، قال : " فذاكَ لهُ (1) .
222 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبدة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة ، قال : إذا قال العبد : " الحمد لله " ، فذكر نحوه ، ولم يرفعه (2) .
223 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا الوليد بن كثير ، قال : حدثني العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرَقَة ، عن أبي السائب ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله (3) .
224 - حدثني صالح بن مسمار المروزي ، قال : حدثنا زيد بن الحُبَاب ،
__________
(1) الحديث 221 - المحاربي : هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد ، وهو ثقة ، أخرج له الجماعة .
محمد بن إسحاق : هو ابن يسار ، صاحب السيرة ، ثقة معروف ، تكلم فيه بعضهم بغير حجة وبغير وجه . العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة - بضم الحاء وفتح الراء - : تابعي ثقة . أبو السائب مولى زهرة : تابعي ثقة ، قال ابن عبد البر : " أجمعوا على أنه ثقة مقبول النقل " . والحديث رواه الطبري بعد هذا موقوفًا بإسنادين . وسنذكر تخريجه في آخرهما : 223 .
(2) الحديث 222 - عبدة : هو ابن سليمان الكلابي ، من شيوخ أحمد وإسحاق ، قال أحمد : " ثقة ثقة وزيادة ، مع صلاح في بدنه " .
(3) الحديث 223 - أبو أسامة : هو حماد بن أسامة . الوليد بن كثير المخزومي : ثقة ثبت أخرج له الجماعة .
وهذا الحديث - بإسناديه الموقوفين - مرفوع حكمًا ، وإن كان في هاتين الروايتين موقوفًا لفظًا . فإن هذا مما لا يعلم بالرأي ، ولا يدخل فيه مناط الاجتهاد .
ثم إن الرفع زيادة من الثقة ، وهي مقبولة . وفوق هذا كله ، فإنه لم ينفرد برفعه راويه في الإسناد الأول ، وهو المحاربي ، بل ورد بأسانيد أخر مرفوعًا .
وهو قطعة من حديث طويل ، رواه مالك في الموطأ : 84 - 85 عن العلاء بن عبد الرحمن ، بهذا الإسناد مرفوعًا . وكفى بمالك حجة في التوثق من رفعه لفظا فوق رفعه حكمًا . وكذلك رواه مسلم 1 : 166 (4 : 101 - 104 من شرح النووي) ، من طريق مالك ، ومن طريق سفيان بن عيينة ، ومن طريق ابن جريج ، ومن طريق أبي أويس - كلهم عن العلاء عن أبي السائب ، به مرفوعًا . وزاد أبو أويس عن العلاء قال : " سمعت من أبي ومن أبي السائب ، وكانا جليسي أبي هريرة . . . " ، فذكره مرفوعا .
ونسبه السيوطي 1 : 6 لسفيان بن عيينة في تفسيره ، وأبي عبيدة في فضائله ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في جزء القراءة ، وأصحاب السنن الأربعة ، وابن حبان ، وغيرهم . وذكر ابن كثير 1 : 24 - 25 بعض طرقه مفصلة .
(1/200)
________________________________________
قال : حدثنا عَنْبسة بن سعيد ، عن مُطَرِّف بن طَرِيف ، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرة ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجلّ : " قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نِصْفين ، وله ما سَأل " . فإذا قال العبد : " الحمدُ لله ربّ العالمين " قال الله : " حمدَني عَبدي " ، وإذا قال : " الرحمن الرحيم " ، قال : " أثنى عليّ عَبدي " ، وإذا قال : " مالكِ يَومِ الدين " قال : " مجَّدني عَبدي " قال : " هذا لي ، و ما بقي " (1) . " آخرُ تفسيرِ سُورَةِ فَاتِحةُ الكتابِ " .
__________
(1) الحديث 224 - هذا إسناد جيد صحيح . صالح بن مسمار السلمي المروزي : ثقة ، روى عنه مسلم في صحيحه ، وقال أبو حاتم : " صدوق " ، كما في كتاب ابنه 2 / 1 / 415 ، وذكره ابن حبان في الثقات . عنبسة بن سعيد الضريس الرازي قاضي الري : ثقة ، وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو داود وغيرهم ، وصرح البخاري في الكبير 4 / 1 / 35 بأنه يروي عن مطرف . و " الضريس " : بضم الضاد المعجمة وآخره سين مهملة ، كما ضبطه الحافظ في التقريب . مطرف بن طريف : ثقة ثبت ، أخرج له الجماعة . سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة : ثقة لا يختلف فيه ، كما قال ابن عبد البر ، وهو من شيوخ مالك . وروايته عن جابر متصلة ، لأنه يروي عن أبيه " إسحاق بن كعب " يوم الحرة سنة 63 ، وقد عاش جابر بعدها أكثر من عشر سنين .
والحديث ذكره السيوطي 1 : 6 ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما . وذكره ابن كثير 1 : 25 عن هذا الموضع من الطبري - ووقع في إسناده غلط مطبعي - وقال : " وهذا غريب من هذا الوجه " ّ ولعله يريد أنه لم يروه أحد من حديث جابر إلا بهذا الإسناد . وليس من ذلك باس ، وقد ثبت معناه من حديث أبي هريرة ، فهو شاهد قوي لصحته .
(1/201)
________________________________________
الم (1)
تفسير سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ أعنْ
(القول في تفسير السورة التي يُذْكر فيها البقرة)
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : { الم } .
قال أبو جعفر : اختلفت تراجمة القرآن في تأويل قول الله تعالى ذكره (1) " ألم " فقالَ بعضُهم : هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكرُ من قال ذلك :
225 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ألم " ، قال : اسم من أسماء القرآن.
226 - حدثني المثنى بن إبراهيم الآملي ، قال : حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : " ألم " ، اسم من أسماء القرآن.
227 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قال : " ألم " ، اسم من أسماء القرآن.
وقال بعضُهم : هو فَواتحُ يفتح الله بها القرآن.
* ذكر من قال ذلك :
187 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : " ألم " ، فواتح يفتح الله بها القرآن.
__________
(1) تراجمة القرآن : مفسروه ، كما مر آنفًا : 170 ، تعليق : 4 وما قبلها 70 ، تعليق : 10
(1/205)
________________________________________
229 - حدثنا أحمد بن حازم الغِفَاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد ، قال : " ألم " ، فواتح.
230 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : " ألم " ، و " حم " ، و " ألمص " ، و " ص " ، فواتحُ افتتح الله بها (1) .
231 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثلَ حديث هارون بن إدريس.
وقال آخرون : هو اسم للسورة.
* ذكرُ من قال ذلك :
232 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أنبأنا عبد الله بن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن قول الله : " ألم ذلك الكتاب " و " ألم تَنزيل " ، و " ألمر تلك " ، فقال : قال أبي : إنما هي أسماء السُّوَر.
وقال بعضهم : هو اسم الله الأعظم.
* ذكر من قال ذلك :
233 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت السُّدِّي عن " حم " و " طسم " و " ألم " ، فقال : قال ابن عباس : هو اسْم الله الأعظم.
234 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثني أبو النعمان ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل السُّدِّي ، عن مُرّة الهمداني ، قال : قال عبدُ الله فذكر نحوه.
235 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عُبيد الله بن موسى ، عن إسماعيل ، عن الشعبي قال : فواتح السور من أسماء الله.
وقال بعضهم : هو قسمٌ أقسمَ الله به ، وهو من أسمائه.
* ذكر من قال ذلك :
__________
(1) الأثر 230 - إسحاق بن الحجاج : هو الطاحوني المقرئ ، ترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/1/ 217 ، وقال : " سمعت أبا زرعة يقول : كتب عبد الرحمن الدشتكي تفسير عبد الرزاق عن إسحاق بن الحجاج " .
(1/206)
________________________________________
236 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : هو قَسَم أقسمَ الله به ، وهو من أسماء الله.
237 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَّية ، قال : حدثنا خالد الحذّاء ، عن عكرمة ، قال : " ألم " ، قسم (1) .
__________
(1) الأثر 237 - يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح : هو الدورقي الحافظ البغدادي .
(1/207)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
وقال بعضهم : هو حُرُوف مقطَّعةٌ من أسماء وأفعالٍ ، كلُّ حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
* ذكر من قال ذلك :
238 - حدثنا أبو كريب قال حدثنا وكيع - وحدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : " ألم " قال : أنا الله أعلم (1) .
239 - حُدِّثتُ عن أبي عُبيد ، قال : حدثنا أبو اليقظان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قوله : " ألم " ، قال : أنا الله أعلم.
240 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد القنَّاد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السُّدِّي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهمداني ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : " ألم " قال : أما " ألم " فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.
241 - حدثنا محمد بن معْمَر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : " ألم " و " حم " و " ن " ، قال : اسم مُقطَّع (2) .
وقال بعضهم هي حروفُ هجاءٍ موضوعٍ.
* ذكر من قال ذلك :
242 - حُدِّثتُ عن منصور بن أبي نُويرة ، قال : حدثنا أبو سعيد المؤدِّب ، عن خُصَيْف ، عن مجاهد ، قال : فواتح السور كلها " ق " و " ص " و " حم " و " طسم " و " ألر " وغير ذلك ، هجاء موضوع.
وقال بعضهم : هي حروف يشتمل كل حرفٍ منها على معان شتى مختلفة.
* ذكر من قال ذلك :
243 - حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، قال : حدثني أبي ، عن الربيع بن أنس ، في قول الله تعالى ذكره : " ألم " ، قال : هذه الأحرف ، من التسعة والعشرين حرفًا ، دارت فيها الألسُن كلها. ليس منها حرف إلا وهو مِفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو في آلائه وبَلائه ، وليس منها حرف إلا وهو في مدّةِ قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريم : " وعجيب ينطقون في أسمائه ، ويعيشون في رزقه ، فكيف يكفرون ؟ " . قال : الألف : مفتاح اسمه : " الله " ، واللام : مفتاح اسمه : " لطيف " ، والميم : مفتاح اسمه : " مجيد " . والألف آلاء الله ، واللام لطفه ، والميم : مجده. الألف سنةٌ ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة.
244 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حَكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بنحوه (3) .
وقال بعضُهم : هي حُروف من حساب الجُمَّل - كرهنا ذكْر الذي حُكي ذلك عنه ، إذْ كان الذي رواه ممن لا يُعتمد على روايته ونقله. وقد مَضت الروايةُ بنظير ذلك من القول عن الربيع بن أنس (4) .
__________
(1) الخبر 238 - رواه الطبري عن شيخين عن وكيع : عن أبي كريب ، وعن سفيان بن وكيع ، كلاهما عن وكيع عن شريك ، وهو ابن عبد الله النخعي القاضي . وجاء الإسناد الثاني منهما في مطبوعة بولاق محرفا : " سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن أبي شريك " . وصحح من المخطوطة .
(2) الخبر 241 - محمد بن معمر بن ربعي ، شيخ الطبري : هو المعروف بالبحراني ، وهو ثقة ، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين ، وهو متأخر الوفاة ، مات في العام الذي مات فيه البخاري سنة 256 ، كما ذكر الذهبي في تذكرة الحفاظ 2 : 129 ، وأما شيخه " عباس بن زياد الباهلي " فلم أجد له ترجمة قط .
(3) الأخبار 225 - 244 : ذكرها ابن كثير 1 : 65 - 66 ، بعضها بالإسناد ، وبعضها دون إسناد ، وسردها السيوطي 1 : 22 - 23 مع غيرها من الروايات . ونقل الشوكاني بعضها 1 : 21 .
(4) يشير إلى الروايتين السابقتين : 243 ، 244 .
(1/208)
________________________________________
وقال بعضهم : لكل كتاب سرٌّ ، وسرُّ القرآن فواتحه.
* * *
وأمَّا أهل العربية ، فإنهم اختلفوا في معنى ذلك. فقال بعضهم : هي حروف من حُرُوف المعجم ، استُغْنِيَ بذكر ما ذُكر منها في أوائل السور عن ذكر بَواقيها ، التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفًا ؛ كما استغنى المُخبرُ - عمن أخبرَ عنه أنه في حروف المعجم الثمانية والعشرين حرفًا - بذكر " أ ب ت ث " ، عن ذكر بواقي حروفها التي هي تتمة الثمانية والعشرين : قال. ولذلك رُفع( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، لأنّ معنى الكلام : الألف واللام والميم من الحروف المقطعة ، ذلك الكتابُ الذي أنزلته إليك مجموعًا لا ريب فيه.
فإن قال قائل : فإن " أ ب ت ث " ، قد صارتْ كالاسم في حروف الهجاء ، كما كان " الحمدُ " اسما لفاتحة الكتاب.
قيل له : لما كان جائزًا أن يقول القائل : ابني في " ط ظ " ، وكان معلومًا بقيله ذلك لو قاله أنَّه يريد الخبر عن ابنه أنَّه في الحروف المقطَّعة - عُلم بذلك أنّ " أ ب ت ث " ليس لها باسْم ، وإن كان ذلك آثَرَ في الذكر من سائرها (1) . قال : وإنما خُولف بين ذكر حُرُوف المعجم في فواتح السور ، فذُكِرت في أوائلها مختلفةً ، وذِكْرِها إذا ذُكرت بأوائلها التي هي " أ ب ت ث " ، مؤتلفةً ، ليفصل بين الخبر عنها إذا أريد - بذكر ما ذكر منها مختلفًا - الدلالةُ على الكلام المتصل ؛ وإذا أريد - بذكر ما ذكر منها مؤتلفًا - الدلالةُ على الحروف المقطعة بأعيانها. واستشهدوا - لإجازة قول القائل : ابني في " ط ظ " وما أشبه ذلك ، من الخبر عنه أنه في حرُوف المعجم ، وأن ذلك من قيله في البيان يَقوم مقام قوله : ابني في " أ ب ت ث " - برجز بعض الرُّجّاز من بني أسد :
لَمَّا رَأيْتُ أمرَهَا في حُطِّي... وفَنَكَتْ في كَذِب ولَطِّ... أَخذْتُ منها بقُرُونٍ
__________
(1) في المطبوعة : " يؤثر في الذكر " . وآثر : يؤثره الناس ويقدمونه .
(1/209)
________________________________________
شُمْطٍ... فلم يَزَلْ صَوْبِي بها ومَعْطِي... حَتى علا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي (1)
فزعم أنه أراد بذلك الخبر عن المرأة أنها في " أبي جاد " ، فأقام قوله : " لما رأيت أمرها في حُطِّي " مقامَ خبرِه عنها أنها في " أبي جاد " ، إذْ كان ذاك من قوله ، يدلّ سامعَه على ما يدلُّه عليه قوله : لما رأيت أمرَها في " أبي جاد " .
وقال آخرون : بل ابتدئت بذلك أوائل السُّور ليفتح لاستماعه أسماعَ المشركين - إذ تواصَوْا بالإعراض عن القرآن - حتى إذا استمعوا له ، تُلي عليهم المؤلَّفُ منه.
وقال بعضهم : الحروفُ التي هي فواتح السُّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه.
فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟
قيل (2) : معنى هذا أنه افتتح بها ليُعْلم أن السورة التي قبلها قد انقضت ، وأنه قد أخذ في أخرى ، فجعل هذا علامةَ انقطاعِ ما بينهما ، وذلك في كلام العرب ، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول :
بل * وبلدةٍ مَا الإنسُ من آهَالِها (3)
ويقول :
لا بَل * مَا هاج أحزانًا وشَجْوًا قد شَجَا (4)
و " بل " ليست من البيت ولا تعد في وزنه ، ولكن يقطع بها كلامًا ويستأنفُ الآخر.
__________
(1) أولها في اللسان (فنك) . فنك في الكذب : مضى فيه ولج ومحك . ولط الحق : جحده ومنعه وخاصم فأحمى الخصومة . والقرون ، جمع قرن : وهو الضفيرة . وشمط ، جمع أشمط : وهو الذي اشتعل رأسه شيبا . صاب يصوب صوبًا : انحدر من علو إلى سفل . وفي المطبوعة : " ضربى " . والمعط : المد والجذب ، وعنى بذلك إصعاده بها وهو يجذب ضفائرها ، وذلك في انحداره بها وصعوده .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " فإن قيل : هل يكون من القرآن ما ليس له معنى ؟ فإن معنى هذا . . . " ، وهو كلام مضطرب ، والصواب ما أثبتناه .
(3) اللسان (أهل) غير منسوب ، وكأنه لأبي النجم فيما أذكر .
(4) هو للعجاج ، ديوانه : 7 ، ويأتي بعد قليل في : 212 أيضًا و : 223 .
(1/210)
________________________________________
قال أبو جعفر : ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك ، وجهٌ معروفٌ.
فأما الذين قالوا : " ألم " ، اسم من أسماء القرآن ، فلقولهم ذلك وجهان :
أحدهما : أن يكونوا أرادوا أن " ألم " اسم للقرآن ، كما الفُرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك ، كان تأويل قوله( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، على معنى القسم. كأنه قال : والقرآن ، هذا الكتابُ لا ريب فيه.
والآخر منهما : أن يكونوا أرادوا أنه اسمٌ من أسماء السورة التي تُعرف به ، كما تُعرَف سائر الأشياء بأسمائها التي هي لها أمارات تعرف بها ، فيَفهم السامع من القائل يقول : - قرأت اليوم " ألمص " و " ن " - ، أيُّ السُّوَر التي قرأها من سُوَر القرآن (1) ، كما يفهم عنه - إذا قال : لقيتُ اليوم عمرًا وزيدًا ، وهما بزيد وعمرو عارفان - مَن الذي لقي من الناس.
وإن أشكل معنى ذلك على امرئ فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، وَنظائر " ألم " " ألر " في القرآن جماعةٌ من السُّور ؟ وإنما تكون الأسماء أماراتٍ إذا كانت مميِّزة بين الأشخاص ، فأما إذا كانت غير مميزة فليست أمارات.
قيل : إن الأسماء - وإن كانت قد صارت ، لاشتراك كثير من الناس في الواحد منها ، غيرَ مميِّزة إلا بمعانٍ أخرَ معها من ضَمِّ نسبة المسمَّى بها إليها أو نعته أو صفته ، بما يفرِّق بينه وبين غيره من أشكالها - فإنها وُضعت ابتداءً للتمييز لا شَكَّ. ثم احتيج ، عند الاشتراك ، إلى المعاني المفرِّقة بين المسمَّيْن بها (2) . فكذلك ذلك في أسماء السور. جُعل كلّ اسم - في قول قائل هذه المقالة - أمارةً للمسمى به من السُّور. فلما شارك المسمَّى به فيه غيرَه من سور القرآن ، احتاج المخبر عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة : " أي السورة التي قرأها . . " .
(2) في المطبوعة والمخطوطة : " بين المسمى بها " .
(1/211)
________________________________________
سورةٍ منها أن يضمّ إلى اسمها المسمَّى به من ذلك ، ما يفرِّق به السامع بين الخبر عنها وعن غيرها ، من نعتٍ وصفةٍ أو غير ذلك. فيقول المخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة ، إذا سماها باسمها الذي هو " ألم " : قرأتُ " ألم البقرة " ، وفي آل عمران : قرأت " ألم آل عمران " ، و " ألم ذلك الكتاب " ، و " ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " . كما لو أراد الخبر عن رَجلين ، اسم كل واحد منهما " عمرو " ، غير أنّ أحدهما تميمي والآخر أزديَّ ، للزمه أن يقول لمن أراد إخباره عنهما : لقيت عمرًا التميمي وعمرًا الأزديَّ ، إذْ كان لا يفرُقُ بينهما وبين غيرهما ممن يُشاركهما في أسمائهما ، إلا بنسبتهما كذلك. فكذلك ذلك في قول من تأوَّل في الحروف المقطعة أنها أسماءٌ للسُّور.
وأما الذين قالوا : ذلك فواتحُ يفتتح الله عز وجل بها كلامه ، فإنهم وجهوا ذلك إلى نحو المعنى الذي حكيناه عمَّن حكينا عنهُ من أهل العربية ، أنه قال : ذلك أدِلَّةٌ على انقضاء سُورة وابتداءٍ في أخرى ، وعلامةٌ لانقطاع ما بينهما ، كما جعلت " بل " في ابتداء قصيدةٍ دلالةً على ابتداء فيها ، وانقضاءِ أخرى قَبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداءَ في إنشاد قصيدة ، قالوا :
بل * ما هاجَ أحْزَانًا وشجوًا قد شَجا
و " بل " ليست من البيت ولا داخلةً في وزنه ، ولكن ليَدُلَّ به على قطع كلام وابتداء آخر.
وأما الذين قالوا : ذلك حروف مقطَّعة بعضها من أسماء الله عز وجل ، وبعضُها من صفاته ، ولكل حرف من ذلك معنى غيرُ معنى الحرف الآخر ، فإنهم نَحَوْا بتأويلهم ذلك نحو قول الشاعر :
قُلْنَا لها : قِفِي لنا ، قالت : قافْ... لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينا الإيجاف (1)
__________
(1) الرجز للوليد بن عقبة . الأغاني 5 : 131 ، شرح شواهد الشافية : 271 ، ومشكل القرآن : 238 . الإيجاف : حيث الدابة على سرعة السير ، وهو الوجيف .
(1/212)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
يعني بقوله : " قالت قاف " ، قالت : قد وقفتُ. فدلت بإظهار القاف من " وقفت " ، على مرادها من تمام الكلمة التي هي " وقفت " . فصرفوا قوله : " ألم " وما أشبه ذلك ، إلى نحو هذا المعنى. فقال بعضهم : الألف ألف " أنا " ، واللام لام " الله " ، والميم ميم " أعلم " ، وكلُّ حرف منها دال على كلمة تامة. قالوا : فجملة هذه الحروف المقطَّعة إذا ظهر مع كل حرفٍ منهن تَمام حروف الكلمة ، " أنا " الله أعلم " . قالوا : وكذلك سائر جميع ما في أوائل سُور القرآن من ذلك ، فعلى هذا المعنى وبهذا التأويل. قالوا : ومستفيضٌ ظاهرٌ في كلام العرب أن ينقُصَ المتكلم منهم من الكلمةِ الأحرفَ ، إذا كان فيما بقي دلالة على ما حذف منها - ويزيدَ فيها ما ليس منها ، إذا لم تكن الزيادة مُلبِّسةً معناها على سامعها - كحذفهم في النقص في الترخيم من " حارثٍ " الثاءَ ، فيقولون : يا حارِ ، ومن " مالك " الكافَ ، فيقولون : يا مالِ ، وأما أشبه ذلك ، وكقول راجزهم :
مَا لِلظليم عَالَ? كَيْفَ لا يَا... يَنْقَذُّ عنه جِلْدُه إذا يَا (1)
كأنه أراد أن يقول : إذا يَفعل كذا وكذا ، فاكتفى بالياء من " يفعل " ، وكما قال آخر منهم :
بالخيرِ خيراتٍ وإنْ شرًّا فَا
يريد : فشرًّا.
ولا أُرِيد الشرَّ إلا أن تَا (2)
.
يريد : إلا أن تَشاء ، فاكتفى بالتاء والفاء في الكلمتين جَميعًا ، من سائر حروفهما ، وما أشبهَ ذلك من الشواهد التي يَطول الكتاب باستيعابه.
__________
(1) شرح شواهد الشافية : 267 . عال : دعاء عليه ، من قولهم " عال عوله " أي ثكلته أمه ، فاختصر . و " يا " في البيت الأول كأنه أراد أن يقول " ينقد عنه . . . " فوقف ، ثم عاد يقول : " ينقد " ، و " يا " في الآخر : أي إذا يعدو هذا العدو .
(2) سيبويه 2 : 62 ، الكامل 1 : 240 ، والموشح : 120 ، وشرح شواهد الشافية : 262 ، ونسبه في 264 للقيم بن أوس .
(1/213)
________________________________________
245 - وكما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُليَّة ، عن أيوب ، وابن عون ، عن محمد ، قال : لما مات يزيدُ بن معاوية قال لي عَبْدَة : إني لا أراها إلا كائنةً فتنةً ، فافزع منْ ضَيْعَتِكَ والحقْ بأهلك. قلت : فما تأمرني ؟ قال : أحَبُّ إليّ لك أنْ تا - قال أيوبُ وابن عون بَيده تحت خدِّه الأيمن ، يصف الاضطجاع - حتى ترى أمرا تَعرفه (1) .
قال أبو جعفر : يعني بـ " تا " تضطجع ، فَاجتزأ بالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر في الزيادة في الكلام (2) على النحو الذي وصفت :
أقُول إِذْ خَرَّتْ على الكَلكالِ... يَا ناقَتِي ما جُلْتِ من مَجَالِ (3)
يريد : الكَلْكل ، وكما قال الآخر :
إنّ شَكْلِي وَإن شَكْلَك شَتَّى... فَالزْمي الخُصَّ واخْفِضِي تَبْيضِضِّي (4)
.
فزاد ضادًا ، وليست في الكلمة.
قالوا : فكذلك ما نقصَ من تمام حُروف كل كلمة من هذه الكلمات التي ذَكرنا أنها تتمة حروف " ألم " ونظائرها - نظيرُ ما نقص من الكلام الذي حكيناهُ عن العرب في أشعارها وكلامها.
وأما الذين قالوا : كل حرف من " ألم " ونظائرها ، دالُّ على معان شتى -
__________
(1) الأثر 245 - محمد : هو ابن سيرين . وعبدة : لم أوقن من هو ولم أرجح . بل أكاد أوقن أن هذا تحريف ، صوابه " عبيدة " بفتح العين وكسر الباء الموحدة وآخرها هاء . وهو عبيدة بن عمرو - أو ابن قيس - السلماني ، من كبار التابعين ، من طبقة الصحابة ، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يلقه . وكان ابن سيرين من أروى الناس عنه . وهو مترجم في التهذيب ، وفي ابن سعد 6 : 62 - 64 ، وعند ابن أبي حاتم 3/1/ 91 . وأما يزيد : فهو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، مات سنة 64 . وقوله : " قال أيوب . . . " ، أي أشار .
(2) في المطبوعة : " في الكلام " .
(3) اللسان (كلل) ، ومشكل القرآن : 235 . والكلكل : الصدر من البعير وغيره .
(4) اللسان (بيض) (خفض) ، ومشكل القرآن : 234 . يقوله لامرأته . والخص : البيت من قصب . وقوله " اخفضى " من الخفض : وهو الدعة ولين العيش . يقول لها : نحن مختلفان ، فالزمى بيتك وعيشي في دعة وخفض ، يزدك لين العيش بياضًا ونعمة . أما أنا فالرحلة دأبى ، تشقيني وتلوحني .
(1/214)
________________________________________
نحو الذي ذكرنا عن الربيع بن أنس - فإنهم وَجَّهوا ذلك إلى مثل الذي وَجَّهه إليه من قال : هو بتأويل " أنا الله أعلم " ، في أنّ كلَّ حرف منه بعضُ حروفِ كلمةٍ تامة ، استُغْنِيَ بدلالته عَلى تَمامه عن ذكر تمامه - وإن كانوا له مُخالفين في كلِّ حرف من ذلك : أهو من الكلمة التي ادَّعى أنه منها قائلو القول الأول ، أم من غيرها ؟ فقالوا : بل الألف من " ألم " من كلمات شتى ، هي دالةٌ على معاني جميع ذلك وعلى تمامه. قالوا : وإنما أفرِد كلُّ حرف من ذلك ، وقصَّر به عن تمام حروف الكلمة ، أن جميعَ حُروف الكلمة لو أظهِرت ، لم تدلَّ الكلمة التي تُظهر - التي بعضُ هذه الحروف المقطعة بعضٌ لها - إلا على معنى واحد لا على معنيين وأكثر منهما. قالوا : وإذْ كان لا دلالة في ذلك ، لو أظهر جميعها ، إلا على معناها الذي هو معنى واحدٌ ، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكلّ حرف منها على معان كثيرة لشيء واحد - لم يَجُز إلا أن يُفرَد الحرفُ الدالُّ على تلك المعاني ، ليعلمَ المخاطبون به أنّ الله عز وجل لم يقصد قصد مَعنًى واحدٍ ودلالةٍ على شيء واحد بما خاطبهم به ، وأنه إنما قصد الدلالةَ به على أشياء كثيرة. قالوا : فالألف من " ألم " مقتضيةٌ معانيَ كثيرةً ، منها تمامُ اسم الربّ الذي هو " الله " ، وتمامُ اسم نعماء الله التي هي آلاء الله ، والدلالةَ على أجَلِ قومٍ أنه سنة ، إذا كانت الألف في حساب الجُمَّل واحدًا. واللام مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هو لطيف ، وتمامَ اسم فَضْله الذي هو لُطفٌ ، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه ثلاثون سنة. والميم مقتضيةٌ تمامَ اسم الله الذي هوَ مجيد ، وتمامَ اسم عظمته التي هي مَجْد ، والدلالةَ على أجَلِ قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام - في تأويل قائل القول الأول - أن الله جل ثناؤه افتتح كلامه بوَصْف نفسه بأنه العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء ، وَجعل ذلك لعباده مَنهجًا يسلكونه في مُفتتح خطبهم ورسائلهم ومُهِمِّ أمورهم ، وابتلاءً منه لهم ليستوجبوا به عظيمَ الثواب في دار الجزاء ، كما افتتح ب( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، و( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ ) ، [سورة الأنعام : 1] وما أشبه ذلك من السُّور التي جعل مَفاتحها الحمدَ لنفسه ، وكما جعل مفاتحَ بَعضها تعظيم نَفسه وإجلالها بالتسبيح ، كما قال جل ثناؤه : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا ) [سورة الإسراء : 1] ، وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن ، التي جعل مفاتحَ بعضها تحميدَ نفسه ، ومفاتحَ بعضها تمجيدَها ، ومفاتح بعضها تعظيمَها وتنزيهها. فكذلك جَعل مفاتحَ السور الأخَر التي أوائلها بعضُ حروف المعجم ، مدائحَ نفسه ، أحيانًا بالعلم ، وأحيانًا بالعدل والإنصاف ، وأحيانًا بالإفضال والإحسان ، بإيجاز واختصار ، ثم اقتصاصَ الأمور بعدَ ذلك.
وعلى هذا التأويل يجبُ أن يكون الألف واللام والميم في أماكن الرفع ، مرفوعًا بعضُها ببعض ، دون قوله( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ، ويكون " ذلك الكتاب " خبرا مبتدأ مُنقطِعًا عن مَعنى " ألم " . وكذلك " ذلك " في تأويل قول قائل هذا القول الثاني ، مرفوعٌ بعضه ببعض ، وإن كان مخالفًا معناهُ معنى قول قائل القول الأول.
وأما الذين قالوا : هنّ حروف من حروف حساب الجُمَّل دون ما خالف ذلك من المعاني ، فإنهم قالوا : لا نعرف للحروف المقطَّعة معنًى يُفهم سوى حساب الجُمَّل ، وسوى تَهَجِّي قول القائل : " ألم " . وقالوا : غيرُ جائز أن يخاطبَ الله جلّ ثناؤه عبادَه إلا بما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلما كان ذلك كذلك - وكان قوله " ألم " لا يُعقَل لها وجهٌ تُوجَّه إليه ، إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا ، فبطل أحدُ وَجهيه ، وهو أن يكون مُرادًا بها تهجِّي " ألم " - صحَّ وثبت أنه مرادٌ به الوجه الثاني ، وهو حساب الجُمَّل ؛ لأن قول القائل : " ألم " لا يجوز أن يليَه من الكلام " ذلك الكتاب " ، لاستحالة معنى الكلام وخرُوجه عن المعقول ، إنْ وَلي " ألم " " ذلك الكتاب " .
واحتجوا لقولهم ذلك أيضا بما : -
246 - حدثنا به محمد بن حُميد الرازي ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، قال : مرَّ
(1/215)
________________________________________
أبو ياسر بن أخْطب برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) ، فأتى أخَاه حُيَيّ بنَ أخطب من يَهودَ فقال : تعلمون والله (1) ، لقد سمعتُ محمدًا يتلو فيما أنزل الله عز وجل عليه( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ ) فقالوا : أنت سمعته ؟ قال : نعم! قال : فمشى حُيَيُّ بن أخطب في أولئك النَّفر من يهودَ إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالوا : يا محمد ، ألمْ يذكُرْ لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك " ألم ذلك الكتاب " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بلى! فقالوا : أجاءك بهذا جبريلُ من عند الله ؟ (2) قال : نعم! قالوا : لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبياء ، ما نعلمه بيَّن لنبيّ منهم ، ما مدَّة ملكه وما أكْل أمَّته غيرَك! (3) فقال : حُييّ بن أخطب ، وأقبلَ على من كان معه فقال لهم : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدَى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نَبيّ إنما مدّة مُلكه وأكْل أمّته إحدى وسبعون سنة (4) ؟ قال : ثم أقبلَ على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيرُه ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : (ألمص). قال : هذه أثقلُ وأطولُ ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. هل مَع هذا يا محمَّد غيره ؟ قال : نعم ! قال : ماذا ؟ قال : (ألر). قال : هذه والله أثقلُ وأطولُ. الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فقال : هل مع هذا غيرُه يا محمد ؟ قال : نعم ، (ألمر) ، قال : فهذه والله أثقل وأطولُ ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال : لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمَّد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيتَ أم كثيرًا ؟ ثم قاموا عنه. فقال أبو ياسر لأخيه حُيي بن أخطب ، ولمن معه من الأحبار : ما يُدْريكم لعلَّه قد جُمع هذا كله لمحمد ، إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، ومائتان وإحدى وثلاثون ، ومائتان وإحدى وسبعون ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون! فقالوا : لقد تشابه علينا أمره! ويزعمون أنّ هؤلاء الآيات نزلت فيهم : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (5) .
قالوا : فقد صرّح هذا الخبر بصحة ما قلنا في ذلك من التأويل ، وفساد ما قاله مخالفونا فيه.
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور ، التي هي حروف المعجم : أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة ، لا على معنى واحد ، كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي : أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع ، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية : أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء ، استُغني
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة : " تعلمون " ، ونص محمد بن إسحاق ، سيرة ابن هشام 2 : 194 . " تعلموا " بتشديد اللام ، أي اعلموا . وهي كثيرة الورود في سيرة ابن هشام وغيره .
(2) الذي في سيرة ابن هشام : " أجاءك بها جبريل من عند الله " .
(3) في المطبوعة ، وفي سائر الكتب التي خرجت الخبر عن الطبري : " ما أجل " .
(4) في المطبوعة " قال ، فقال لهم : أتدخلون . . . " و " أجل أمته " والتصحيح من المخطوطة وابن هشام . والأكل (بضم فسكون) : الرزق . يقال : هو عظيم الأكل في الدنيا ، أي واسع الرزق ، وهو الحظ من الدنيا ، كأنه يؤكل . ويراد به : مدة العمر التي يعيشها الناس في الدنيا يأكلون مما رزقهم الله . فيقال للميت : انقطع أكله ، بمعنى : انقضى عمره .
(5) الحديث 246 - هذا حديث ضعيف الإسناد ، رواه محمد بن إسحاق بهذا الإسناد الضعيف ، وبأسانيد أخر ضعاف :
فرواه في السيرة ، التي هذبها عبد الملك بن هشام النحوي البصري ، ورواها عن زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق ، وعرفت واشتهرت بأنها " سيرة ابن هشام " . وابن هشام هذا : ثقة ، وثقه ابن يونس وغيره ، مات سنة 218 . وشيخه زياد البكائي : ثقة ، من شيوخ أحمد . و " البكائي " ، بفتح الباء وتشديد الكاف : نسبة إلى " البكاء " ، وهو : ربيعة بن عامر بن صعصعة .
فقال ابن هشام 2 : 194 - 195 (2 : 35 - 37 من الروض الأنف شرح السيرة) : قال ابن إسحاق : وكان ممن نزل فيه القرآن بخاصة من الأحبار وكفار يهود ، الذين كانوا يسألونه ويتعنتونه ، ليلبسوا الحق بالباطل ، فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله بن رئاب : أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم . . . " .
فهذا إسناد ضعيف ، جهله ابن إسحاق ، فجاء به معلقًا بصيغة التمريض . وفيه أن الرواية عن ابن عباس وجابر ، معًا .
ورواه البخاري في التاريخ الكبير ، في ترجمة " جابر بن عبد الله بن رئاب " 1/2/ 207 - 208 بثلاثة أسانيد ، بعادته الدقيقة المتقنة ، في الإيجاز والإشارة إلى الأسانيد وعللها :
وأولها : " حدثني عمرو بن زرارة ، قال : حدثنا زياد : قال ابن إسحاق : حدثني مولى لزيد بن ثابت عن سعيد بن جبير وعكرمة ، عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله : أن أبا ياسر بن أخطب مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو (ألم . ذلك الكتاب) " .
فهذه هي إشارة البخاري إلى الإسناد الأول من الثلاثة الأسانيد .
و " زياد " في هذا الإسناد : هو البكائي . فهذا إسناد صحيح إلى ابن إسحاق . ولكن فيه الضعف بجهالة أحد رواته " مولى لزيد بن ثابت " . وهو كإسناد السيرة : عن ابن عباس وجابر معًا . ولعل عمرو ابن زرارة - شيخ البخاري - روى السيرة عن البكائي ، كما رواها عنه ابن هشام .
وثانيها : " وقال سلمة : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد ، عن ابن عباس : (ألم . ذلك الكتاب) - بطوله " .
وهذه إشارة البخاري إلى الإسناد الثاني . يريد أنه رواه سلمة - وهو ابن الفضل الذي في إسناد الطبري هنا - عن ابن إسحاق . ولم يذكر لفظ الحديث ، اكتفاء بهذه الإشارة إليه .
وابن إسحاق - في هذا الإسناد - يرويه عن " محمد بن أبي محمد " ، وهو الأنصاري المدني ، مولى زيد بن ثابت . زعم الذهبي في الميزان أنه " لا يعرف " ! وهو معروف ، ترجمه البخاري في الكبير 1/1/225 فلم يذكر فيه جرحًا ، وذكره ابن حبان في الثقات . وكفى بذلك معرفة وتوثيقًا . ولعله هو " مولى زيد بن ثابت " الذي أبهم في الإسناد الأول . ولكن اضطرب هذا الإسناد على ابن إسحاق ، أو على سلمة بن الفضل - فكانت الرواية فيه : عن عكرمة ، أو سعيد ، يعني ابن جبير ، على الشك . ثم كانت عن ابن عباس ، دون ذكر " جابر بن عبد الله بن رئاب " .
ثالثها : " وعن ابن إسحاق : كان مما نزل فيه القرآن من الأحبار ، فيما حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رئاب : مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلو (ألم) ، بطوله - في الحساب " .
وهذه الرواية الثالثة ، بالإسناد الذي عند الطبري هنا . تابعة للرواية الثانية ، عن سلمة بن الفضل ، عطفها عليها بقوله " وعن ابن إسحاق " ، ليست تعليقًا جديدًا .
وأشار البخاري - بصنيعه هذا - إلى اضطراب الرواية على سلمة بن الفضل ، بين هذا وذاك . ولذلك ذهب إلى جرح " سلمة " بهذا الاضطراب ، فقال عقب ذلك : " قال علي [يريد به شيخه علي بن المديني ، إمام الجرح والتعديل] : ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديث سلمة " .
وقال في ترجمة سلمة 2/2/85 : " سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري ، سمع محمد بن إسحاق ، روى عنه عبد الله بن محمد الجعفي . عنده مناكير . يقال : مولاهم . مات بعد التسعين . وهنه علي " ، يعني شيخه ابن المديني . ويعني أن سلمة مات بعد سنة 190 . وقال في التاريخ الصغير ص 217 : " مات سلمة بن الفضل أبو عبد الله الأبرش الرازي الأنصاري بعد تسعين ومائة . قال علي [يعني ابن المديني] : رمينا بحديثه قبل أن نخرج من الري . وضعفه إسحاق بن إبراهيم " . وقال في ترجمته أيضًا ، في كتاب الضعفاء (ص 16) : " سمع محمد بن إسحاق ، روى عنه عبد الله بن عمر بن أبان ومحمد بن حميد . ولكن عنده مناكير . وفيه نظر " .
وأنا أذهب إلى توثيق سلمة بن الفضل ، فقد وثقه ابن معين ، فيما رواه ابن أبي حاتم في كتابه ، وله عنده ترجمة جيدة وافية 2/1/168 - 169 . وروى أيضًا عن جرير ، قال : " ليس من لدن بغداد إلى أن تبلغ خراسان أثبت في ابن إسحاق - من سلمة بن الفضل " . وقد رجحت توثيقه أيضًا في شرح المسند : 886 .
وعندي أن هذا الاضطراب إنما هو من ابن إسحاق ، أو لعله رواه بهذه الأسانيد كما سمعه . وكلها ضعيف مضطرب . وأشدها ضعفًا الرواية التي هنا ، والتي أشار إليها البخاري : من رواية الكلبي عن أبي صالح .
ولله در الحافظ ابن كثير ، فقد وضع الحق موضعه ، حين قال في التفسير 1 : 69 - 70 : " وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد ، وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفن والملاحم - فقد ادعى ما ليس له ، وطار في غير مطارد! وقد ورد في ذلك حديث ضعيف ، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته " . ثم نقل هذا الحديث من هذا الموضع من الطبري - ثم قال : " فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي ، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ، ثم كان مقتضى هذا المسلك - إن كان صحيحًا : أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها . وذلك يبلغ منه جملة كثيرة . وإن حسبت مع التكرار ، فأطم وأعظم!! " .
ومحمد بن السائب الكلبي : ضعيف جدا ، رمى بالكذب ، بل روى ابن أبي حاتم في الجرح 3/1/270 - 271 في ترجمته ، عن أبي عاصم النبيل ، قال : " زعم لي سفيان الثوري قال : قال لنا الكلبي : ما حدثت عنى عن أبي صالح عن ابن عباس ، فهو كذب ، فلا تروه " . وقال أبو حاتم : " الناس مجتمعون على ترك حديثه ، لا يشتغل به ، هو ذاهب الحديث " .
والطبري نفسه قد ضعفه جدا ، فيما مضى : 66 إذ أشار إلى رواية عن ابن عباس : " روى جميع ذلك عن ابن عباس ، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله " ، ثم ذكر أن الذي روى ذلك " الكلبي عن أبي صالح " . ووصف الحديث : 72 الذي رواه من طريقه ، بأنه " خبر في إسناده نظر " .
فكان عجبًا منه بعد هذا ، أن يحتج بهذه الروايات المتهافتة ، ويرضى هذا التأويل المستنكر ، بحساب الجمل! إذ يختار فيما سيأتي (هذه الصفحة سطر : 8 وما بعدها) ، أن هذه الأحرف تحوي سائر المعاني التي حكاها إلا قولا واحدًا غير هذا المعنى المنكر . بل هو يصرح بعد ذلك ص : 222 سطر : 8 أن من المعاني التي ارتضاها : أنهن " من حروف حساب الجمل " !!
وقد نقل السيوطي هذا الحديث في الدر المنثور 1 : 22 ، و 2 : 4 - 5 ، ووصفه في الموضع الأول بالضعف . وكذلك نقله الشوكاني 1 : 20 ، وضعفه .
وقوله في آخره : " ويزعمون أن هؤلاء الآيات . . " - هو من تتمة الرواية . وهو من كلام ابن إسحاق حكاية عمن روى عنهم .
(1/217)
________________________________________
بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور ، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم ، بتأويل : أن هذه الحروف ، ذلك الكتاب ، مجموعة ، لا ريب فيه - فإنه قول خطأ فاسدٌ ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل (1) . فكفى دلالة على خَطئة ، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع " ذلك الكتاب " - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه ، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله " لا ريب فيه " ومرة بقوله " هدى للمتقين " . وذلك تركٌ منه لقوله : إن " ألم " رافعةٌ " ذلك الكتاب " ، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل " ألم ذلك الكتاب " ، وأنّ تأويل ذلك : هذه الحروف ذلك الكتاب.
فإن قال لنا قائل : وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة ؟
قيل : كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ ، كقولهم للجماعة من الناس : أمَّة ، وللحين من الزمان : أمَّة ، وللرجل المتعبِّد المطيع لله : أمّة ، وللدين والملة : أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص : دين ، وللسلطان والطاعة : دين ، وللتذلل : دين ، وللحساب : دِينٌ ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد ، وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه : " ألم " و " ألر " ، و " ألمص " وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور ، كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى ، شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ ، مع ذلك ، فواتح السور ، كما قاله من قال ذلك.
__________
(1) الخالفين جمع خالف . خلف قوم بعد قوم يخلفون خلفًا فهم خالفون : جاءوا بعدهم وتبعوهم على آثارهم . تقول : أنا خاِلفه وخاِلفته : أي جئت بعده .
(1/221)
________________________________________
وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته ، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها ، وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها ، فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم ، أحدُ مَعاني أوائلها : أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن ، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه ، على ما قدَّمنا البيان عنها ، ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا ، مما بيَّنا ، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك ، أو بشيء منه ، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك (1) ، دون سائر المعاني غيره ، لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه و سلم إبانةَ ذلك - أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض - أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه ، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة ، باللفظ الواحد ، في كلام واحد.
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك ، سُئِل الفرقَ بين ذلك ، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد ، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة ، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك - على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة : " مما لا يحتمله ذلك " ، وهو محيل لمعناه .
(1/222)
________________________________________
التي وصفنا - عن البرهان على دَعْواه ، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك ، ويسأل الفرقَ بينه وبينه : من أصْل ، أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وأما الذي زعم من النحويين : أنّ ذلك نظيرُ " بل " في قول المنشد شعرًا :
بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنى له ، وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى (1)
أحدها : أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها ، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ " بل " - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ " ألم " و " ألر " و " ألمص " ، بمعنى ابتدائها ذلك بـ " بل " . وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن ، بما يعرفون من لغاتهم ، ويستعملون بينهم من منطقهم ، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم ، التي افتُتِحت بها أوائل السور ، التي هن لها فواتح ، سَبيلُ سائر القرآن ، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين ، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم ، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن ، فقال تعالى ذكره : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين (2) ، في قول قائل هذه المقالة ، ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين ، في قوله ؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين ، ما يُكذِّب هذه المقالة ، وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به
__________
(1) انظر ما مضى : 210 .
(2) في المطبوعة : " ما لا يعقله ولا يفقهه " .
(1/223)
________________________________________
عالمين ، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك : إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له ، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه : أن " بل " في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها ، وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم : ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله ، وما أشبه ذلك من الكلام ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
وَلأشْرَبَنَّ ثَمَانِيًا وثَمَانِيًا... وثَلاثَ عَشْرَةَ واثْنَتَينِ وأَرْبَعَا (1)
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله :
بالجُلَّسَانِ ، وطَيِّبٌ أرْدَانُهُ... بِالوَنِّ يَضْرِبُ لِي يَكُرُّ الإصْبَعَا (2)
ثم قال :
بَلْ عَدِّ هذا ، فِي قَريضٍ غَيْرِهِ... وَاذكُرْ فَتًى سَمْحَ الخَلِيقةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال : دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ " بل " إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام ، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف (3) ، من غير أن يدلّ على معنى ، فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها ، سوى الذي ذكرتُ قوله ، فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مُشبهةً - فكيف وهي من الشبه به بعيدة ؟
* * *
__________
(1) ديوان الأعشى ، زيادات : 248 ، باختلاف في الرواية . وانظر مراجعه هناك .
(2) الجلسان : قبة أو بيت ينثر فيه الورد والريحان للشرب . وقوله : " وطيب أردانه " يعني قينة تغنيهم وتعزف لهم ، طيبة الريح ، تضمخت وتزينت . والأردان جمع ردن (بضم فسكون) : وهو مقدم كم القميص . والون : صنج يضرب بالأصابع . وقوله " يكر " أي يرد إصبعه مرة بعد مرة في ضربه بالصنج ، وأراد به سرعة حركة أصابعها بالصنج . وفي المطبوعة " يكد " بالدال ، وهو خطأ .
(3) انظر ما مضى : 18 تعليق : 2 ، وعنى بالتطول : الزيادة .
(1/224)
________________________________________
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
القول في تأويل قوله جَل ثناؤه : { ذَلِكَ الْكِتَابُ } .
قال عامّة المفسرين : تأويل قول الله تعالى( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب.
* ذكر من قال ذلك :
247 - حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفيّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جُريج ، عن مجاهد : " ذلك الكتاب " قال : هو هذا الكتاب.
248 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : أخبرنا خالد الحذّاء ، عن عكرمة ، قال : " ذلك الكتاب " : هذا الكتاب.
249 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا الحَكَم بن ظُهَير ، عن السُّدِّي ، في قوله " ذلك الكتاب " قال : هذا الكتاب (1) .
250 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود. قال : حدثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قوله : " ذلك الكتاب " : هذا الكتاب. قال : قال ابن عباس : " ذلك الكتاب " : هذا الكتاب (2) .
فإن قال قائل : وكيف يجوزُ أن يكون " ذلك " بمعنى " هذا " ؟ و " هذا " لا شكّ إشارة إلى حاضر مُعايَن ، و " ذلك " إشارة إلى غائب غير حاضر ولا مُعايَن ؟
__________
(1) الأثر 249 - الحكم بن ظهير - بضم الظاء المعجمة - الفزاري ، أبو محمد بن أبي ليلى الكوفي : ضعيف جدًا ، رمى بوضع الحديث . قال البخاري في الكبير 1/2/ 342 - 343 : " تركوه منكر الحديث " . وقال ابن أبي حاتم في الجرح 1/2/ 118 - 119 عن أبي زرعة : " واهي الحديث " . وقال ابن حبان في كتاب المجروحين ، رقم 239 : " كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، يروى عن الثقات الأشياء الموضوعات " .
(2) هذه الآثار جميعًا 247 - 250 ذكرها ابن كثير في تفسيره 1 : 70 ، والدر المنثور 1 : 24 ، والشوكاني 1 : 21 .
(1/225)
________________________________________
قيل : جاز ذلك ، لأن كل ما تَقضَّى ، بقُرْبِ تَقضِّيه من الإخبار (1) ، فهو - وإن صار بمعنى غير الحاضر - فكالحاضر عند المخاطب. وذلك كالرجل يحدِّث الرجلَ الحديثَ فيقول السامع : " إن ذلك والله لكما قلت " ، و " هذا والله كما قلت " ، و " هو والله كما ذكرت " ، فيخبرُ عنه مَرَّة بمعنى الغائب ، إذْ كان قد تَقضَّى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر ، لقُرْب جوابه من كلام مخبره ، كأنه غير مُنْقَضٍ. فكذلك " ذلك " في قوله(ذلك الكتاب) لأنه جلّ ذكره لما قدم قبلَ " ذلك الكتاب " " ألم " ، التي ذكرنا تصرُّفَها في وجُوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : يا محمد ، هذا الذي ذكرته وبيَّنته لك ، الكتابُ. ولذلكَ حسن وضع " ذلك " في مكان " هذا " ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمَّنهُ قوله " ألم " من المعاني ، بعد تقضّي الخبر عنه بـ " ألم " ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضِّيه ، كالحاضر المشار إليه ، فأخبر به بـ " ذلك " لانقضائه ، ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب ، وترجمهُ المفسِّرون (2) : أنه بمعنى " هذا " ، لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكانَ كالمشاهَد المشار إليه بـ " هذا " ، نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ ) [سورة ص : 48 ، 49] فهذا ما في " ذلك " إذا عنى بها " هذا " .
وقد يحتمل قوله جل ذكره(ذلك الكتاب) أن يكون معنيًّا به السُّوَرُ التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، اعلم أنّ ما تضمَّنتْه سُوّرُ الكتاب التي قد أنزلتها إليك ، هو الكتابُ الذي لا ريبَ فيه. ثم ترجمه المفسرون (3) بأن معنى " ذلك " " هذا الكتاب " ،
__________
(1) في المطبوعة " وقرب تقضيه " . يريد : أن ذكر ما انقضى ، وانقضاؤه قريب من إخبارك عنه .
(2) ترجمه : أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف . انظر ما مضى 70 تعليق 1/93 : 4/ ومواضع أخر .
(3) ترجمه : أي فسره المفسرون وبينوه بوضع حرف مكان حرف . انظر ما مضى 70 تعليق 1/93 : 4/ ومواضع أخر .
(1/226)
________________________________________
إذْ كانت تلك السُّور التي نزلت قبل سورة البقرة ، من جملة جميع كتابنا هذا ، الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم.
وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون ، لأنّ ذلك أظهرُ معاني قولهم الذي قالوه في " ذلك " .
وقد وَجَّه معنى " ذلك " بعضُهم ، إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السُّلميّ :
فَإن تَكُ خَيْلي قد أُصِيبَ صَمِيمُها... فَعَمْدًا على عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا (1) أقولُ له ، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ : ... تأمَّل خُفاَفًا ، إنني أنا ذلِكَا (2)
كأنه أراد : تأملني أنا ذلك. فزعم أنّ " ذلك الكتاب " بمعنى " هذا " ، نظيرُه (3) . أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب ، وهو مخبر عن نفسه. فكذلك أظهر " ذلك " بمعنى الخبر عن الغائب (4) ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهَد.
والقول الأول أولى بتأويل الكتاب ، لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم : (ذلك الكتاب) ، يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وُجّه
__________
(1) الأغاني 2 : 329/ 13 : 134 ، 135/16 : 134 ، والخزانة 2 : 470 ، وغيرهما ، ويأتي في الطبري 1 : 314 ، 437 . يقول الشعر في مقتل ابن عمه معاوية بن عمرو أخى الخنساء . ومالك ، هو مالك بن حِمَار الشمخي الفزاري . والخيل هنا : هم فرسان الغارة ، وكان معاوية وخفاف غزوَا بني مرة وفزارة . والصميم : الخالص المحض من كل شيء . وأراد معاوية ومقتله يومئذ . ويقال : " فعلت هذا الأمر عمد عين ، وعمدًا على عين " ، إذا تعمدته مواجهة بجد ويقين . وتيمم : قصد وأمَّ .
(2) " أقول له " ، يعني لمالك بن حِمَار . وأطر الشيء يأطره أطرًا : هو أن تقبض على أحد طرفي الشيء ثم تعوجه وتعطفه وتثنيه . وأراد أن حر الطعنة جعله يتثنى من ألمها ، ثم ينحني ليهوى صريعًا إذ أصاب الرمح مقتله . وأرى أن الإشارة في هذا البيت إلى معنى غائب ، كأنه قال : " أنا ذلك الذي سمعت به وببأسه " . وهذا المعنى يخرج البيت عن أن يكون شاهدًا على ما أراد الطبري .
(3) في المطبوعة : " كأنه أراد : تأملني أنا ذلك ، فرأى أن " ذلك الكتاب " بمعنى " هذا " نظير ما أظهر خفاف من اسمه . . . " ، وهو تغيير لا خبر فيه .
(4) في المطبوعة : " فلذلك أظهر ذلك . . " .
(1/227)
________________________________________
 
رد: تفسير القرآن الكريم

تأويل " ذلك " إلى هذا الوجه ، فلا مؤونة فيه على متأوِّله كذلك ، لأن " ذلك " يكون حينئذ إخبارًا عن غائب على صحة.
* * *
القول في تأويل قوله : { لا رَيْبَ فِيهِ } .
وتأويل قوله : " لا ريب فيه " " لا شك فيه " . كما : -
251 - حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربي عن ابن جُريج ، عن مجاهد : لا ريب فيه ، قال : لا شك فيه.
252 - حدثني سَلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خَلَف بن ياسين الكوفي ، عن عبد العزيز بن أبي رَوَّاد ، عن عطاء ، " لا ريب فيه " : قال : لا شك فيه (1) .
253 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحَكم بن ظُهَير ، عن السُّدِّيّ ، قال : " لا ريب فيه " ، لا شك فيه.
254 - حدثني موسى بن هارون الهَمْداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : " لا ريب فيه " ، لا شك فيه.
255 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ،
__________
(1) الأثر 252 - سلام ، شيخ الطبري : لم أجد له ترجمة إلا في تاريخ بغداد 9 : 198 قال : " سلام بن سالم أبو مالك الخزاعي الضرير : حدث عن يزيد بن هارون ، وعمر بن سعيد التنوخي ، وموسى بن إبراهيم المروزي ، والفضل بن جبير الوراق . روى عنه الحسين بن إسماعيل المحاملي " . ليس غير . وأما شيخ سلام في هذا الإسناد " خلف بن ياسين الكوفي " : فلم أجد إلا ترجمة في الميزان 1 : 211 ولسان الميزان 2 : 405 لراو اسمه " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات " ، وهو رجل سخيف كذاب ، لا يشتغل به . لا أدري أهو هذا أم غيره ؟
(1/228)
________________________________________
عن ابن عباس : " لا ريبَ فيه " ، قال : لا شكّ فيه.
256 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " لا ريب فيه " ، يقول : لا شك فيه.
257 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة : " لا ريب فيه " ، يقول : لا شك فيه.
258 - حُدِّثت عن عَمّار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : قوله " لا ريب فيه " ، يقول : لا شك فيه (1) .
وهو مصدر من قول القائل : رابني الشيء يَريبني رَيبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذليّ :
فقالوا : تَرَكْنَا الحَيَّ قد حَصِرُوا به ، ... فلا رَيْبَ أنْ قد كان ثَمَّ لَحِيمُ (2)
ويروى : " حَصَرُوا " و " حَصِرُوا " والفتحُ أكثر ، والكسر جائز. يعني بقوله " حصروا به " : أطافوا به. ويعني بقوله " لا ريب " . لا شك فيه. وبقوله " أن قد كان ثَمَّ لَحِيم " ، يعني قتيلا يقال : قد لُحِم ، إذا قُتل.
والهاء التي في " فيه " عائدة على الكتاب ، كأنه قال : لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هُدًى للمتقين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { هُدًى }
259 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا
__________
(1) هذه الآثار جميعًا 251 - 258 ساقها ابن كثير 1 : 71 ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 24 ، والشوكاني 1 : 22 . وقال ابن كثير بعد سياقتها : " قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافًا " .
(2) ديوان الهذليين 1 : 232 ، واللسان (حصر) .
(1/229)
________________________________________
سفيان ، عن بَيَان ، عن الشعبي ، " هُدًى " قال : هُدًى من الضلالة (1) .
260 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السُّدّي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مُرة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ، " هدى للمتقين " ، يقول : نور للمتقين (2) .
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك : هديتُ فلانًا الطريق - إذا أرشدتَه إليه ، ودللَته عليه ، وبينتَه له - أهديه هُدًى وهداية.
فإن قال لنا قائل : أوَ ما كتابُ الله نورًا إلا للمتّقين ، ولا رَشادًا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه رّبنا عزّ وجل. ولو كان نورًا لغير المتقين ، ورشادًا لغير المؤمنين ، لم يخصُصِ الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدًى ، بل كان يعُمّ به جميع المنذَرين. ولكنه هدًى للمتقين ، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين ، وَوَقْرٌ في آذان المكذبين ، وعمىً لأبصار الجاحدين ، وحجةٌ لله بالغةٌ على الكافرين. فالمؤمن به مُهتدٍ ، والكافر به محجوجٌ (3) .
وقوله " هدى " يحتمل أوجهًا من المعاني :
أحدُها : أن يكون نصبًا ، لمعنى القطع من الكتاب ، لأنه نكرة والكتاب معرفة (4) . فيكون التأويل حينئذ : ألم ذلك الكتاب هاديًا للمتقين. و " ذلك " مرفوع بـ " ألم " ، و " ألم " به ، والكتابُ نعت لـ " ذلك " .
وقد يحتمل أن يكون نصبًا ، على القطع من رَاجع ذكر الكتاب الذي في
__________
(1) الأثر 59 - بيان ، بفتح الباء الموحدة والياء التحتية المخففة : هو ابن بشر الأحمسي ، ثقة من الثقات ، كما قال أحمد . وسفيان ، الراوي عنه : هو الثوري . وهذا الأثر نقله السيوطي 1 : 24 ، ونسبه لوكيع والطبري .
(2) الخبر 260 - نقله ابن كثير 1 : 71 ، ونقله السيوطي 1 : 24 ، والشوكاني 1 : 22 مع الخبر الآتي 263 ، جعلاه خبرًا واحدًا ، وذكراه عن ابن مسعود فقط .
(3) حجه يحجه فهو محجوج : غلبه بالحجة فهو مغلوب .
(4) يريد بقوله " لمعنى القطع " ، أن يقطع عن نعت الكتاب ، ويصير حالا .
(1/230)
________________________________________
" فيه " ، فيكونُ معنى ذلك حينئذ : ألم الذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في " فيه " ، ومن " الكتاب " ، على أن " ألم " كلام تام ، كما قال ابن عباس إنّ معناه : أنا الله أعلم. ثم يكون " ذلك الكتاب " خبرًا مستأنفًا ، فيرفع حينئذ " الكتاب " بـ " ذلك " ، و " ذلك " بـ " الكتاب " ، ويكون " هُدًى " قطعًا من " الكتاب " ، وعلى أن يرفع " ذلك " بالهاء العائدة عليه التي في " فيه " ، و " الكتاب " نعتٌ له ؛ والهدى قطع من الهاء التي في " فيه " . وإن جُعِل الهدى في موضع رفع ، لم يجز أن يكون " ذلك الكتاب " إلا خبرًا مستأنفًا ، و " ألم " كلاما تامًّا مكتفيًا بنفسه ، إلا من وجه واحد ، وهو أن يُرفع حينئذ " هُدًى " بمعنى المدح ، كما قال الله جل وعز : ( ألم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ ) [سورة لقمان : 1 - 3] في قراءة من قرأ " رحمةٌ " . بالرفع ، على المدح للآيات.
والرفع في " هدى " حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه : أحدُها ما ذكرنا من أنه مَدْحٌ مستأنفٌ. والآخر : على أن يُجعل مُرافعَ " ذلك " ، و " الكتاب " نعتٌ " لذلك " . والثالث : أن يُجعل تابعًا لموضع " لا ريب فيه " ، ويكون " ذلك الكتاب " مرفوعًا بالعائد في " فيه " . فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) [سورة الأنعام : 92].
وقد زعم بعض المتقدمِّين في العلم بالعربية من الكوفيين ، أنّ " ألم " مرافعُ " ذلك الكتاب " بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتابُ الذي وعدتُك أن أوحَيه إليك (1) . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نَقْضَه ، وهَدمَ ما بنى فأسرع هَدْمَه ، فزعم أن الرفع في " هُدًى " من وجهين ، والنصبَ من وجهين. وأنّ أحد وَجهي الرفع : أن يكون " الكتابُ " نعتًا لِـ " ذلك " و " الهدى " في موضع رفعٍ خبرٌ لِـ " ذلك " .
__________
(1) يعني بصاحب هذا القول ، الفراء في كتابه معاني القرآن 1 : 10 .
(1/231)
________________________________________
كأنك قلت : ذلك هدًى لا شكّ فيه (1) . قال : وإن جعلتَ " لا ريب فيه " خبرَه ، رفعتَ أيضًا " هدى " ، بجعله تابعًا لموضع " لا ريب فيه " ، كما قال الله جل ثناؤه : ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ) ، كأنه قال : وهذا كتابٌ هُدًى من صفته كذا وكذا. قال : وأما أحدُ وجهي النَّصْب فأن تَجعَل الكتاب خبرًا لـ " ذلك " ، وتنصبَ " هدى " على القطع ، لأن " هدى " نكرة اتصلت بمعرفة ، وقد تمّ خبرُها فنصبْتَها (2) لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت " هدى " على القطع من الهاء التي في " فيه " كأنك قلت : لا شك فيه هاديًا (3) .
قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصَّله في " ألم " وأنها مرفوعة بـ " ذلك الكتاب " ، ونبذه وراء ظهره. واللازم كان له على الأصل الذي أصَّله ، أن لا يجيز الرَّفع في " هدى " بحالٍ إلا من وَجْه واحدٍ ، وذلك من قِبَلِ الاستئناف ، إذ كان مَدْحًا. فأما على وجه الخبر " لذلك " ، أو على وجه الإتباع لموضع " لا ريب فيه " ، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ. وذلك أن " ألم " إذا رافعت " ذلك الكتاب " ، فلا شك أن " هدى " غيرُ جائز حينئذٍ أن يكون خبرًا " لذلك " ، بمعنى المرافع له ، أو تابعًا لموضع " لا ريب فيه " ، لأن موضعه حينئذ نصبٌ ، لتمام الخبر قبلَه ، وانقطاعه - بمخالفته إيّاه - عنه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { لِلْمُتَّقِينَ (2) }
261 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، قوله : " للمتقين " قال : اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهم ، وأدَّوا ما افتُرِض عليهم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " ذلك لا شك فيه " ، والتصحيح من معاني القرآن للفراء 1 : 11 .
(2) في المطبوعة " فتنصبها " ، والتصحيح من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء .
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1 : 11 - 12 .
(1/232)
________________________________________
262 - حدثنا محمد بن حُميد ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " للمتقين " ، أي الذين يحذَرُون من الله عز وجل عقوبتَه في تَرْك ما يعرفون من الهُدى ، ويرجون رحمَته بالتَّصديق بما جاء به.
263 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : " هدًى للمتقين " ، قال : هم المؤمنون.
264 - حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عيّاش ، قال : سألني الأعمش عن " المتقين " ، قال : فأجبتُه ، فقال لي : سئل عنها الكَلْبَيّ. فسألتُه ، فقال : الذين يَجتنِبُون كبائِرَ الإثم. قال : فرجَعْت إلى الأعمش ، فقال : نُرَى أنه كذلك. ولم ينكره.
265 - حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال حدثنا عمر أبو حفص ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة : " هدى للمتقين " ، هم مَنْ نعتَهم ووصفَهم فأثبت صفتهم ، فقال : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .
266 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عُمَارة ، عن أبي رَوق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " للمتقين " قال : المؤمنين الذين يتَّقُون الشِّرك بي ، ويعملون بطاعتي (1) .
وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه(هدى للمتقين) ، تأويلُ من وصَف القومَ بأنهم الذين اتَّقوُا اللهَ تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه ، فتجنبوا
__________
(1) الآثار 261 - 266 ساقها جميعًا ابن كثير في تفسيره 1 : 71 - 72 ، وبعضها في الدر المنثور 1 : 24 ، والشوكاني 1 : 22 .
(1/233)
________________________________________
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
معاصِيَه ، واتَّقوْه فيما أمرهم به من فرائضِه ، فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وصَفهم بالتقوَى ، فلم يحصُرْ تقواهم إياه على بعضِ ما هو أهلٌ له منهم دون بعض (1) . فليس لأحد من الناس أن يحصُر معنى ذلك ، على وَصْفهم بشيء من تَقوى الله عز وجل دون شيء ، إلا بحجة يجبُ التسليمُ لها. لأن ذلك من صفة القوم - لو كان محصورًا على خاصّ من معاني التقوى دون العامّ منها - لم يدعِ الله جل ثناؤه بيانَ ذلك لعباده : إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ، إذْ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فسادُ قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو : الذين اتَّقَوُا الشرك وبرئوا من النِّفاق. لأنه قد يكون كذلك ، وهو فاسقٌ غيرُ مستَحِق أن يكون من المتقين ، إلا أن يكون - عند قائل هذا القول - معنى النفاق : ركوبُ الفواحش التي حَرَّمها الله جل ثناؤه ، وتضييعُ فرائضه التي فرضها عليه. فإن جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمِّي من كان يفعل ذلك منافقًا. فيكون - وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم - مصيبًا تأويلَ قول الله عز وجل " للمتقين " .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }
267 - حدثنا محمد بن حُميد الرازي ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " الذين يؤمنون " ، قال : يصدِّقون.
268 - حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السَّهمي ، قال : حدثنا أبو صالح ،
__________
(1) في المطبوعة : " وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم " ، ولا فائدة من زيادة " إنما " . ثم جاء في المخطوطة والمطبوعة : " فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض " ؛ وهو كلام مختلط ، وصوابه ما أثبته ، وهو معنى الكلام كما ترى بعد .
(1/234)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يؤمنون " : يصدِّقون (1) .
269 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " يؤمنون " : يخشَوْنَ.
270 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، قال : قال الزهري : الإيمانُ العملُ (2) .
271 - حُدِّثْتُ عن عمّار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن العلاء بن المسيَّب بن رافع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الإيمان : التَّصْديق (3) .
ومعنى الإيمان عند العرب : التصديق ، فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولا مؤمنًا به ، ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله ، مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه : ( وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) [سورة يوسف : 17] ، يعني : وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان ، الذي هو تصديق القولِ بالعمل. والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرارَ بالله وكتُبه ورسلِه ، وتصديقَ الإقرار بالفعل. وإذْ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل الآيةِ ، وأشبه بصفة القوم : أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغَيْبِ قولا واعتقادًا وعملا إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصُرْهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى ، بل أجمل وصْفهم به ، من غير خُصوصِ شيء من معانيه أخرجَهُ من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ.
* * *
__________
(1) الأثر 267 - سيأتي باقيه بهذا الإسناد : 272 . ونقلهما ابن كثير 1 : 73 مفرقين . ونقل 268 مع أولهما . ونقل السيوطي 1 : 25 الثلاثة مجتمعة .
(2) الأثران 269 - 270 : ذكرهما ابن كثير 1 : 73
(3) الخبر 271 - عبد الله : هو ابن مسعود . وقد نقل ابن كثير هذا الخبر وحده 1 : 73 ، ثم نقل الخبر الآتي 273 وحده . وفصل إسناد كل واحد منهما . أما السيوطي 1 : 25 فقد جمع اللفظين دون بيان ، وأدخل معهما لفظ الخبر 277! وهو تصرف غير سديد ، لاختلاف الإسنادين أولا ، ولأن 273 ، 277 ليسا عن ابن مسعود وحده ، كما ترى .
(1/235)
________________________________________
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : { بِالْغَيْبِ }
272 - حدثنا محمد بن حُميد الرازي ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " بالغيب " ، قال : بما جاء منه ، يعني : من الله جل ثناؤه.
273 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، " بالغيب " : أما الغيْبُ فما غابَ عن العباد من أمر الجنة وأمرِ النار ، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهُم بذلك - يعني المؤمنين من العرب - من قِبَل أصْل كتابٍ أو عِلْم كان عندَهم.
274 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزّبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زرٍّ ، قال : الغيبُ القرآن (1) .
275 - حدثنا بشر بن مُعَاذ العَقَدي ، قال : حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله " الذين يُؤمنون بالغيب " ، قال : آمنوا بالجنّة والنار ، والبَعْث بعدَ الموت ، وبيوم القيامة ، وكلُّ هذا غيبٌ (2) .
276 - حُدِّثت عن عمّار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ،
__________
(1) الأثر 274 - سفيان : هو الثوري ، عاصم : هو ابن أبي النجود - بفتح النون - القارئ . زر ، بكسر الزاي وتشديد الراء : هو ابن حبيش ، بضم الحاء . وهو تابعي كبير إمام . وهذا الأثر عند ابن كثير 1 : 73 - 74 .
(2) الأثر 275 - ذكره ابن كثير والسيوطي أيضًا .
(1/236)
________________________________________
عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، " الذين يؤمنون بالغيب " : آمنوا بالله وملائكته ورُسُلِه واليومِ الآخِر ، وجَنّته وناره ولقائه ، وآمنوا بالحياة بعد الموت. فهذا كله غيبٌ (1) .
وأصل الغيب : كُلّ ما غاب عنك من شيءٍ. وهو من قولك : غاب فُلان يغيبُ غيبًا.
وقد اختلفَ أهلُ التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الآيتين من أول هذه السورة فيهم ، وفي نَعْتهم وصِفَتهم التي وَصفَهم بها ، من إيمانهم بالغيب ، وسائر المعاني التي حوتها الآيتان من صفاتهم غيرَه.
فقال بعضُهم : هم مؤمنو العربِ خاصة ، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب.
واستدَلُّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم ، بالآية التي تتلو هاتين الآيتين ، وهو قول الله عز وجل : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) . قالوا : فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الذي أنزله الله عزّ وجلّ على محمد صلى الله عليه وسلم ، تدينُ بتصديقِه والإقرار والعملِ به. وإنما كان الكتابُ لأهل الكتابين غيرِها. قالوا : فلما قصّ الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله - بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب - علمنا أن كلَّ صِنفٍ منهم غيرُ الصنف الآخر ، وأن المؤمنين بالغيب نوعٌ غيرُ النوع المصدِّق بالكتابين اللذين أحدهما مُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والآخرُ منهما على مَنْ قَبْلَ رسول الله (2) .
__________
(1) الأثر 276 - ذكره ابن كثير 1 : 73 هكذا : " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع ابن أنس عن أبي العالية . . . " . وذكره السيوطي 1 : 25 هكذا : " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية . . " . فأخشى أن يكون ذكر " عن أبي العالية " سقط من الإسناد من نسخ الطبري ، لثبوته عند هذين الناقلين عنه .
(2) في المخطوطة : " والآخر منهما على من قبله رسول الله " ، والظاهر أن صوابها : " على من قبل رسول الله " ، كما أثبتناها . وأما المطبوعة ففيها : " على من قبله من رسل الله تعالى ذكره " .
(1/237)
________________________________________
قالوا : وإذْ كان ذلك كذلك ، صحَّ ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار ، والثَّواب والعقاب والبعث ، والتصديقِ بالله ومَلائكته وكُتُبه ورسله ، وجميع ما كانت العرب لا تدينُ به في جاهليِّتها ، مما أوجب الله جل ثناؤه على عِبَاده الدَّيْنُونة به - دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك :
277 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حمّاد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم : أما( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، فهم المؤمنون من العرب ، ( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ). أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار ، وما ذكر الله في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتاب أو علم كان عندهم.( و الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (1) .
وقال بعضهم : بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة ، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرونها ، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك منهم في تنزيله ، أنه من عند الله جل وعز ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها ، لما استقر عندهم - بالحجة التي احتج الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه ، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم - أن جميع ذلك من عند الله.
__________
(1) الخبر 277 - سبق أوله بهذا الإسناد : 273 . ولم يذكره ابن كثير بهذا اللفظ المطول . وقد مضى في شرح 271 أن السيوطي جمع الألفاظ الثلاثة : 271 ، 273 ، 277 في سياقة واحدة!
(1/238)
________________________________________
وقال بعضهم : بل الآيات الأربع من أول هذه السورة ، أنزلت على محمد صلى الله عليه و سلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم ، وأهل الكتابين وسواهم (1) . وإنما هذه صفة صنف من الناس ، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه و سلم ، وما أنزل من قبله ، هو المؤمن بالغيب.
قالوا : وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله ، بعد تقضي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب ، لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب ، كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه الإيمان بها ، مما لم يروه ولم يأت بعد مما هو آت ، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ومن الكتب.
قالوا : فلما كان معنى قوله تعالى ذكره : ( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ ) غير موجود في قوله( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) - كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم ، نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ، ليعلموا ما يرضى الله من أفعال عباده ويحبه من صفاتهم ، فيكونوا به - إن وفقهم له ربهم - [مؤمنين] (2) .
* ذكر من قال ذلك :
278 - حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون المكي ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين ،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " وأهل الكتابين سواهم " ، والصواب أن يقال " وسواهم " . فقد ذكر الطبري ثلاثة أقوال : أما الأول : فهو أن المعنى به العرب خاصة ، والثاني : أن المعنى به أهل الكتاب خاصة ، فيكون الثالث : أن يعني به الصنفين جميعا وسواهم من الناس .
(2) هذه الزيادة بين القوسين واجبة لتمام المعنى . وليست في المطبوعة ولا المخطوطة .
(1/239)
________________________________________
وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين (1) .
279 - حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، بمثله (2) .
280 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثله (3) .
281 - حُدِّثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : أربعُ آياتٍ من فاتحة هذه السورة - يعني سورة البقرة - في الذين آمنوا ، وآيتان في قادة الأحزاب.
وأولى القولين عندي بالصواب ، وأشبههما بتأويل الكتاب ، القولُ الأول ، وهو : أنّ الذين وَصَفهم الله تعالى ذِكره بالإيمان بالغيب ، وبما وصفهم به جَلَّ ثناؤه في الآيتين الأوَّلتَيْن (4) ، غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزِل على محمد والذي أنزل على مَنْ قبله من الرسل ، لما ذكرت من العلل قبلُ لمن قال ذلك.
ومما يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول ، أنه جنَّسَ - بعد وصف المؤمنين بالصِّفتين اللتين وَصَف ، وبعد تصنيفه كلَّ صنف منهما على ما صنَّف الكفار -
__________
(1) الأثر 278 - أبو عاصم : هو النبيل ، الحافظ الكبير . عيسى بن ميمون المكي : هو المعروف بابن داية ، قال ابن عيينة : " كان قارئًا للقرآن . قرأ على ابن كثير " . وثقه أبو حاتم وغيره .
(2) الأثر 279 - هذا إسناد ضعيف ، بضعف سفيان بن وكيع ، ولإبهام الرجل الذي روى عنه سفيان الثوري . ولكن الأثر موصول بالإسنادين اللذين قبله وبعده .
(3) الأثر 280 - موسى بن مسعود : هو أبو حذيفة النهدي ، وهو ثقة ، روى عنه البخاري في صحيحه ، ووثقه ابن سعد والعجلي . وترجمه البخاري في الكبير 4/1/ 295 . شبل : هو ابن عباد المكي القارئ ، وهو ثقة ، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما .
وهذا الأثر ، بأسانيده الثلاثة ، ذكره ابن كثير 1 : 80 دون تفصيلها ، قال : " والظاهر قول مجاهد - فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ، ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، أنه قال . . . " .
(4) الأولة : الأولى ، وليست خطأ .
(1/240)
________________________________________
جنْسَيْن (1) فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه ، مختومًا عليه ، مأيوسًا من إيابه (2) والآخرَ منافقًا ، يُرائي بإظهار الإيمان في الظاهر ، ويستسرُّ النفاق في الباطن. فصيَّر الكفار جنسَيْن ، كما صيَّر المؤمنين في أول السورة جِنْسين. ثم عرّف عباده نَعْتَ كلِّ صنف منهم وصِفَتَهم ، وما أعدَّ لكلّ فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وَذمّ أهل الذَّم منهم ، وشكرَ سَعْيَ أهل الطاعة منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَيُقِيمُونَ }
وإقامتها : أداؤها - بحدودها وفروضها والواجب فيها - على ما فُرِضَتْ عليه. كما يقال : أقام القومُ سُوقَهم ، إذا لم يُعَطِّلوها من البَيع والشراء فيها ، وكما قال الشاعر :
أَقَمْنَا لأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الـ... ـضِّرَاب فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا (3)
282 - وكما حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، " ويقيمون الصلاة " ، قال : الذين يقيمون الصلاةَ بفرُوضها.
283 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، " ويقيمون الصلاة " قال : إقامة
__________
(1) سياقه : " جنَّس . . . جنسين " ، وما بينهما فصل ، وجنس الشيء : جعله أجناسًا ، كصنفه أصنافًا .
(2) في المطبوعة : " إيمانه " ، وهي صحيحة المعنى أيضًا . والإياب : الرجوع إلى الله بالتوبة والطاعة . ومنه قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
(3) في المطبوعة " فحاسوا " ، وفي المخطوطة " مجآمرا " . وخام في الحرب عن قرنه بخيم خيمًا : جبن ونكص وانكسر . ولم أعرف قائل البيت .
(1/241)
________________________________________
الصلاة تمامُ الرُّكوع والسُّجود ، والتِّلاوةُ والخشوعُ ، والإقبالُ عليها فيها (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { الصَّلاةَ }
284 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جُوَيْبر ، عن الضحاك في قوله : " الذين يقيمون الصلاة " : يعني الصلاة المفروضة (2) .
وأما الصلاةُ فإنها في كلام العرب الدُّعاءُ ، كما قال الأعشى :
لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا (3)
يعني بذلك : دعا لها ، وكقول الأعشى أيضًا (4) .
وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا... وصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ
__________
(1) الخبران 282 ، 283 - في تفسير ابن كثير 1 : 77 ، والدر المنثور 1 : 27 ، والشوكاني 1 : 25 .
(2) الأثر 284 - إسناده ضعيف جدًّا . يحيى بن أبي طالب جعفر بن الزبرقان : قال الذهبي : " محدث مشهور . . . وثقه الدارقطني وغيره . . . والدارقطني من أخبر الناس به " . مات سنة 275 عن 95 سنة . يزيد : هو ابن هارون ، أحد الحفاظ الأعلام المشاهير ، من شيوخ الأئمة أحمد وابن معين وابن راهويه وابن المديني . جويبر - بالتصغير : هو ابن سعيد الأزدي البلخي ، ضعيف جدًّا ، ضعفه يحيى القطان ، فيما روى عنه البخاري في الكبير 1/2/ 256 ، والصغير : 176 ، وقال النسائي في الضعفاء : 8 " متروك الحديث " ، وفي التهذيب 2 : 124 " قال أبو قدامة السرخسي : قال يحيى القطان : تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث . ثم ذكر الضحاك وجويبرًا ومحمد بن السائب . وقال : هؤلاء لا يحتمل حديثهم ، ويكتب التفسير عنهم " .
(3) ديوانه : 200 ، يذكر الخمر في دنها . وزمزم العلج من الفرس : إذا تكلف الكلام عند الأكل وهو مطبق فمه بصوت خفي لا يكاد يفهم . وفعلهم ذلك هو الزمزمة . " ذبحت " أي بزلت وأزيل ختمها . وعندئذ يدعو مخافة أن تكون فاسدة ، فيخسر .
(4) في المطبوعة والمخطوطة : " وكقول الآخر أيضًا " ، والصواب أنه الأعشى ، وسبق قلم الناسخ .
(1/242)
________________________________________
(1)
وأرى أن الصلاة المفروضة سُمِّيت " صلاة " ، لأنّ المصلِّي متعرِّض لاستنجاح طَلِبتَه من ثواب الله بعمله ، مع ما يسأل رَبَّه من حاجاته ، تعرُّضَ الداعي بدعائه ربَّه استنجاحَ حاجاته وسؤلَهُ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }
اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما : -
285 - حدثنا به ابن حُميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " ومما رزقناهم ينفقون " ، قال : يؤتون الزكاة احتسابًا بها.
286 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، " ومما رزقناهم ينفقون " ، قال : زكاةَ أموالهم (2) .
287 - حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جُوَيْبر ، عن الضحاك ، " ومما رزقناهم يُنفقون " ، قال : كانت النفقات قُرُبات يتقرَّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجُهْدهم ، حتى نَزَلت فرائضُ الصدقات : سبعُ آيات في سورة براءَة ، مما يذكر فيهنّ الصدقات ، هنّ المُثْبَتات الناسخات (3) .
وقال بعضهم بما : -
288 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّي في خبر ذَكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب
__________
(1) ديوان الأعشى : 29 . وقوله " وقابلها الريح " أي جعلها قبالة مهب الريح ، وذلك عند بزلها وإزالة ختمها . ويروى : " فأقبلها الريح " وهو مثله . وارتسم الرجل : كبر ودعا وتعوذ ، مخافة أن يجدها قد فسدت ، فتبور تجارته .
(2) الخبر 286 - في المخطوطة " ابن المثنى " ، وهو خطأ . والخبر ذكره ابن كثير 1 : 77 .
(3) الأثر 287 - ذكره ابن كثير 1 : 77 ، والسيوطي 1 : 27 ، والشوكاني 1 : 25 . وقوله " المثبتات " : بفتح الباء ، أي التي أثبت حكمها ولم ينسخ ، ويجوز كسرها ، بمعنى أنها أثبتت الفريضة بعد نسخها ما سبقها في النزول . وبدلها عند السيوطي والشوكاني " الناسخات المبينات " . وليس بشيء
(1/243)
________________________________________
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
النبي صلى الله عليه وسلم ، " ومما رَزقناهم ينفقون " : هي َنفقَةُ الرّجل على أهله. وهذا قبل أن تنزِل الزكاة (1) .
وأوْلى التأويلات بالآية وأحقُّها بصفة القوم : أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم ، مُؤدِّين ، زكاةً كان ذلك أو نفَقةَ مَنْ لزمتْه نفقتُه ، من أهل وعيال وغيرهم ، ممن تجب عليهم نَفَقتُه بالقرابة والمِلك وغير ذلك. لأن الله جل ثناؤه عَمّ وصفهم إذْ وصَفهم بالإنفاق مما رزقهم ، فمدحهم بذلك من صفتهم. فكان معلومًا أنه إذ لم يخصُصْ مدْحَهم ووصفَهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبُها دونَ نوعٍ بخبر ولا غيره - أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمودِ عليها صاحبُها من طيِّب ما رزقهم رَبُّهم من أموالهم وأملاكهم ، وذلك الحلالُ منه الذي لم يَشُبْهُ حرامٌ.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النعت ، وأي أجناس الناس هم (2) . غير أنَّا نذكر ما رُوي في ذلك عمن روي عنه في تأويله قولٌ :
289 - فحدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " والذين يؤمنون بما أنزِل إليك وما أنزل من قبلك " : أي يصدِّقونك
__________
(1) الخبر 288 - نقله ابن كثير أيضًا . ونقله السيوطي مختصرًا ، وجعله من كلام ابن مسعود وحده . وقلده الشوكاني دون بحث .
(2) انظر 237 - 241 .
(1/244)
________________________________________
بما جئت به من الله جلّ وعز وما جاء به مَنْ قبلك من المرسلين ، لا يفرِّقون بينهم ، ولا يجْحَدون ما جاءوهم به من عند ربهم (1) .
290 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة الهَمْداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " : هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
قال أبو جعفر : أما الآخرةُ فإنها صفة للدار ، كما قال جل ثناؤه( وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) [سورة العنكبوت : 64]. وإنما وصفت بذلك لمصيرها آخِرةً لأولى كانت قبلها ، كما تقول للرجل : " أنعمتُ عليك مرَّة بعد أخرى ، فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة " ، وإنما صارت آخرة للأولى ، لتقدُّم الأولى أمامها. فكذلك الدارُ الآخرة ، سُمِّيت آخرةً لتقدُّم الدار الأولى أمامها ، فصارت التاليةُ لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سُمِّيت آخرةً لتأخُّرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا " دنيا " لِدُنُوِّها من الخلق.
__________
(1) الخبر 289 - ذكره ابن كثير 1 : 79 مع باقيه الآتي : 291 . وذكره السيوطي 1 : 27 ، والشوكاني 1 : 25 بزيادة أخرى على الروايتين ، منسوبًا لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم .
(2) الخبر 290 - وهذا ذكره ابن كثير أيضًا ، لكن بالإشارة إليه دون سياقة لفظه . وقلده الشوكاني .
وعلى الأصل المخطوط بعد هذا ما نصه
سمع أحمد ومحمد والحسن ، بنو عبد الله بن أحمد الفرغاني جميعه .
سمع محمد بن محمد الطرسوسي والحسن بنو محمد بن عبدان ، والحسن بن إبراهيم الحناس جميعه . والحمد لله كثيرًا .
(1/245)
________________________________________
وأما الذي وصف الله جل ثناؤه به المؤمنين - بما أنزل إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من المرسلين - من إيقانهم به من أمر الآخرة ، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين : من البعث والنشور والثواب والعقاب والحساب والميزان ، وغير ذلك مما أعد الله لخلقه يوم القيامة. كما : -
291 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) : أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، أي ، لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ، ويكفرون بما جاءك من ربك (1) .
وهذا التأويل من ابن عباس قد صرح عن أن السورة من أولها - وإن كانت الآيات التي في أولها من نعت المؤمنين - تعريض من الله عز وجل بذم كفار أهل الكتاب ، الذين زعموا أنهم - بما جاءت به رسل الله عز وجل الذين كانوا قبل محمد صلوات الله عليهم وعليه - مصدقون ، وهم بمحمد صلى الله عليه مكذبون ، ولما جاء به من التنزيل جاحدون ، ويدعون مع جحودهم ذلك أنهم مهتدون ، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. فأكذب الله جل ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله : ( ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ). وأخبر جل ثناؤه عباده : أن هذا الكتاب هدى لأهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، المصدقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البينات والهدى - خاصة ، دون من كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وادعى أنه مصدق بمن قبل محمد عليه الصلاة والسلام من الرسل
__________
(1) الخبر 291 - هو تتمة الخبر السابق 289 وقد أشرنا إليه هناك .
(1/246)
________________________________________
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
وبما جاء به من الكتب. ثم أكد جل ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرسل - بقوله : ( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح خاصة دون غيرهم ، وأن غيرهم هم أهل الضلال والخسار.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : " أولئك على هدى من ربهم " : فقال بعضهم : عنى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني : المؤمنين بالغيب من العرب ، والمؤمنين بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل. وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه ، وأنهم هم المفلحون.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
292 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أما " الذين يؤمنون بالغيب " ، فهم المؤمنون من العرب ، " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " ، المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال : " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " (1) .
وقال بعضهم : بل عنى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب ، وهم الذين يؤمنون
__________
(1) الخبر 292 - نقله ابن كثير 1 : 81 ، والشوكاني 1 : 26 . ونقله السيوطي 1 : 25 مطولا ، جمع معه الأخبار الماضية : 273 ، 277 ، 281 ، جعلها سياقا واحدا ، عن ابن مسعود وحده ، ونسبه للطبري .
(1/247)
________________________________________
بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل.
وقال آخرون : بل عنى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التأويل الآخر يحتمل أن يكون( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) في محل خفض ، ومحل رفع.
فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما : من قبل العطف على ما في " يؤمنون بالغيب " من ذكر " الذين " ، والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، أو يكون " أولئك على هدى من ربهم " ، مرافعها.
وأما الخفض فعلى العطف على " المتقين " ، وإذا كانت معطوفة على " الذين " اتجه لها وجهان من المعنى : أحدهما : أن تكون هي و " الذين " الأولى ، من صفة المتقين. وذلك على تأويل من رأى أن الآيات الأربع بعد " ألم " ، نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين. والوجه الثاني : أن تكون " الذين " الثانية معطوفة في الإعراب على " المتقين " بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول. وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله " ألم " ، غير الذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون " الذين " الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الائتناف (1) ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة. وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الائتناف ، إذ كانت في مبتدأ آية ، وإن كانت من صفة المتقين.
فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين.
وأولى التأويلات عندي بقوله( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس ، وأن تكون " أولئك " إشارة إلى الفريقين ، أعني :
__________
(1) في المطبوعة : " الاستئناف " في هذا الموضع والذي يليه . وهما بمعنى .
(1/248)
________________________________________
المتقين ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك ، وتكون " أولئك " مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله " على هدى من ربهم " ؛ وأن تكون " الذين " الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام ، على ما قد بيناه.
وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ، ثم أثنى عليهم. فلم يكن عز وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء ، مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات. كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال ، فيخص أحدهما بالجزاء دون الآخر ، ويحرم الآخر جزاء عمله. فكذلك سبيل الثناء بالأعمال ، لأن الثناء أحد أقسام الجزاء.
وأما معنى قوله( أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ) فإن معنى ذلك : أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد ، بتسديد الله إياهم ، وتوفيقه لهم. كما : -
293 - حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ،
(1/249)
________________________________________
عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، " أولئك على هدى من ربهم " : أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }
وتأويل قوله : " وأولئك هم المفلحون " أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب. كما : -
294 - حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي الذين أدْركوا ما طلبوا ، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا.
ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح ، إدراكُ الطَّلِبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :
اعْقِلِي ، إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ، ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ (2)
يعني ظَفِر بحاجته وأصابَ خيرًا ، ومنه قول الراجز :
عَدِمتُ أُمًّا ولَدتْ رِياحَا... جَاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحًا فِرْكَاحَا (3) تَحْسِبُ أَنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجَاحَا!... أَشْهَدُ لا يَزِيدُهَا فَلاحَا
يعني : خيرًا وقربًا من حاجتها. والفلاحُ مصدر من قولك : أفلح فلان يُفلح إفلاحًا وفلاحًا وفَلَحًا. والفلاح أيضًا : البقاءُ ، ومنه قول لبيد :
نَحُلُّ بِلادًا ، كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا... وَنَرْجُو الْفَلاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ (4)
يريد البقاء ، ومنه أيضًا قول عَبيد :
أَفْلِحَ بِمَا شِئْتَ ، فَقَدْ يُدْرَكُ بِالضَّـ... ـعْفِ ، وَقَدْ يُخْدَعُ الأَرِيبُ (5)
يريد : عش وابقَ بما شئت ، وكذلك قول نابغة بني ذبيان :
وَكُلُّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ... وَإِنْ أَثْرَى ، وَإِنْ لاقَى فَلاحًا (6)
أي نجاحًا بحاجته وبَقاءً.
* * *
__________
(1) الخبر 293 - ذكره ابن كثير 1 : 81 مع تتمته الآتية : 294 .
(2) ديوانه 2 : 12 ، والخطاب في البيت لصاحبته .
(3) البيت الثاني في اللسان (فركح) . والفركحة : تباعد ما بين الأليتين . والفركاح والمفركح منه ، يعني به الذم وأنه لا يطيق حمل ما يحمَّل في حرب أو مأثرة تبقى .
(4) ديوانه القصيدة رقم : 14 ، يرثى من هلك من قومه .
(5) ديوانه : 7 ، وفي المطبوعة والديوان " فقد يبلغ " ، وهما روايتان مشهورتان .
(6) من قصيدة ليست في زيادات ديوانه منها إلا أبيات ثلاثة ، ليس هذا أحدها . وشعوب : اسم للمنية والموت ، غير مصروف ، لأنها تشعب الناس ، أي تصدعهم وتفرقهم . وشعبته شعوب : أي حطمته من ألافه فذهبت به وهلك .
(1/250)
________________________________________
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
القول في تأويل قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) }
اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بهذه الآية ، وفيمن نزلَتْ. فكان ابن عباس يقول ، كما : -
295 - حدثنا به محمد بن حميد ، قال حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " إن الذين كفروا " ، أي بما أنزِل إليك من ربِّك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك (1) .
وكان ابن عباس يرى أنَّ هذه الآية نزلتْ في اليهود الذين كانوا بنَواحي المدينةِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توبيخًا لهم في جُحودهم نبوَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبِهم به ، مع علمهم به ومعرفتِهم بأنّه رسولُ الله إليهم وإلى الناس كافّة.
296 - وقد حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن صَدر سورة البقرة إلى المائة منها ، نزل في رجال سَمَّاهم بأعيانهم وأنْسَابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج. كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم (2) .
__________
(1) الخبر 295 - ذكره ابن كثير 1 : 82 مع باقيه الآتي : 299 . وساقه السيوطي 1 : 29 بأطول من ذلك ، زاد فيه ما يأتي : 307 ، 311 ، ونسبه أيضًا لابن إسحاق وابن أبي حاتم ، وكذلك نسبه الشوكاني 1 : 28 دون الزيادة الأخيرة .
(2) الخبر 296 - ذكره ابن كثير 1 : 86 بنحوه ، من رواية ابن إسحاق . ونقله السيوطي 1 : 29 بلفظ الطبري ، عنه وعن ابن إسحاق . ونقله الشوكاني موجزًا 1 : 29 . ومن الواضح أن قوله " كرهنا تطويل الكتاب . . " من كلام الطبري نفسه . وانظر ما يأتي : 312 .
(1/251)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

(1/251)
________________________________________
وقد رُوِي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -
297 - حدثنا به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ أن يؤمن جميعُ الناس ويُتَابعوه على الهدى ، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمنُ إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذّكْر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول (1) .
وقال آخرون بما : -
298 - حُدِّثت به عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : آيتان في قادةِ الأحزاب : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ، قال : وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) [سورة إبراهيم : 28 ، 29] ، قال : فهم الذين قُتلوا يوم بدر (2) .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويلُ ابن عباس الذي ذكره محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير عنه. وإنْ كان لكلِّ قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب.
__________
(1) الخبر 297 - هو في ابن كثير 1 : 82 ، والسيوطي 1 : 28 - 29 ، والشوكاني 1 : 28 ، ونسباه أيضًا لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي .
(2) الأثر 298 - هكذا هو في الطبري ، من قول الربيع بن أنس . وذكره ابن كثير 1 : 82 - 83 مختصرًا من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية ، ولم يذكر من خرجه . ونقله السيوطي 1 : 29 ، والشوكاني 1 : 28 ، بأطول مما هنا بذكر الأثر : 309 معه ، من قول أبي العالية أيضًا ، ونسباه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم . فالظاهر أن الطبري قصر بإسناده أو قصر به شيخه المبهم .
(1/252)
________________________________________
فأما مذهب من تأوَّل في ذلك ما قاله الربيع بن أنس ، فهو أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون ، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم ، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه ، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة (1) - لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
وأمَّا عِلَّتُنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك ، فهي أنّ قول الله جل ثناؤه( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عَقِيبَ خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب ، وعَقِيبَ نعتهم وصِفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأوْلى الأمور بحكمة الله ، أن يُتلِيَ ذلك الخبرَ عن كُفّارهم ونُعُوتهم ، وذمِّ أسبابهم وأحوالهم (2) ، وإظهارَ شَتْمهم والبراءةَ منهم. لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم - فإن الجنس يجمع جميعَهم بأنهم بنو إسرائيل.
وإنما احتجّ الله جلّ ثناؤه بأوّل هذه السورة لنبيِّه صلى الله عليه وسلم على مشرِكي اليهود من أحبار بني إسرائيل ، الذين كانوا مع علمهم بنبوّته مُنْكِرين نبوّته - بإظهار نبيِّه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تُسِرُّه الأحبار منهم وتكتُمه ، فيجهلُهُ عظْم اليهود وتعلمُه الأحبار منهم (3) - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك ، هو الذي أنزل الكتابَ على موسى. إذْ كان ذلك من الأمور التي لم يكنْ محمد
__________
(1) سياق عبارته " فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم . . . لم يجز . . . "
(2) الأسباب جمع سبب : وأراد بها الطرق والوسائل .
(3) عظم اليهود : معظمهم وأكثرهم .
(1/253)
________________________________________
صلى الله عليه وسلم ولا قومُه ولا عشيرتُه يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنَهم ادّعاء اللَّبس في أمره عليه السلام أنه نبيٌّ ، وأنّ ما جاء به فمن عند الله (1) . وأنَّى يُمكنُ ادّعاء اللَّبس في صدق أمِّيٍّ نشأ بين أمِّيِّين لا يكتب ولا يقرأ ، ولا يحسُب ، فيقال قرأ الكتب فعَلِم ، أو حَسَب (2) فنجَّم ؟ وانبعثَ على أحْبارٍ قُرَّاءٍ كَتَبَة (3) - قد دَرَسوا الكتب ورَأسوا الأمم - يخْبرهم عن مستور عُيوبهم ، ومَصُون علومهم ، ومكتوم أخبارهم ، وخفيّات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم. إنّ أمرَ من كان كذلك لغَيرُ مُشْكِلٍ ، وإنّ صدقَه لبَيِّن.
ومما ينبئ عن صحة ما قُلنا - من أنّ الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) هُم أحبارُ اليهود الذين قُتلوا على الكفرِ وماتوا عليه - اقتصاصُ الله تعالى ذكره نَبأهم ، وتذكيرُه إياهم ما أخَذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمدٍ عليه السلام ، بَعْد اقتصاصه تعالى ذكرُه ما اقتصّ من أمر المنافقين ، واعتراضِه بين ذلك بما اعترضَ به من الخبر عن إبليسَ وآدمَ - في قوله : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) [سورة البقرة : 40 وما بعدها] ، واحتجاجُه لنبيِّه عليهم ، بما احتجَّ به عليهم فيها بعد جُحُودهم نبوّته. فإذْ كان الخبر أوّلا عن مُؤمِني أهل الكتاب ، وآخرًا عن مشركيهم ، فأولى أن يكون وَسطًا : - عنهم. إذْ كان الكلامُ بعضُه لبعض تَبَعٌ ، إلا أن تأتيهم دلالةٌ واضحةٌ بعُدول بعض ذلك عما ابتَدأ به من معانيه ، فيكونَ معروفًا حينئذ انصرافه عنه.
__________
(1) في المطبوعة : " من عند الله " .
(2) يعني بالحساب هنا : حساب سير الكواكب وبروجها ، وبها يعرف المنجم أخبار ما يدّعى من علم الغيب .
(3) في المطبوعة : " وانبعث على أحبار " ، كأنه معطوف على كلام سابق . وليس صحيحًا ، بل هو استئناف كلام جديد .
(1/254)
________________________________________
وأما معنى الكفر في قوله " إن الذين كفروا " فإنه الجُحُود. وذلك أن الأحبار من يَهودِ المدينة جحدوا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم وستَروه عن الناس وكتمُوا أمره ، وهُمْ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وأصْلُ الكفر عند العرب : تَغطيةُ الشيء ، ولذلك سمَّوا الليل " كافرًا " ، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه ، كما قال الشاعر :
فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا ، بَعْدَ مَا... أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ (1)
وقال لبيدُ بن ربيعة :
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا (2)
يعني غَطَّاها. فكذلك الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته ، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ) [سورة البقرة : 159] ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ).
* * *
__________
(1) الشعر لثعلبة بن صعير المازني ، شرح المفضليات : 257 . والضمير في قوله " فتذكرا " للنعامة والظليم . والثقل : بيض النعام المصون ، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون : ثقل . ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد : وضع بعضه فوق بعض ونضده . وعنى بيض النعام ، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض . وذكاء : هي الشمس .
(2) معلقته المشهورة ، ويأتي في تفسير آية سورة المائدة : 12 (6 : 98 بولاق) . ويروى " ظلامها " . وصدره : " يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا "
يعني البقرة الوحشية ، قد ولجت كناسها في أصل شجرة ، والرمل يتساقط على ظهرها .
(1/255)
________________________________________
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) }
وتأويل " سواءٌ " : معتدل. مأخوذ من التَّساوي ، كقولك : " مُتَساوٍ هذان الأمران عندي " ، و " هما عِندي سَواءٌ " ، أي هما متعادلان عندي ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ) [سورة الأنفال : 58] ، يعني : أعْلمهم وآذِنْهم بالحرب ، حتى يَستوي علمُك وعلمُهم بما عليه كلُّ فريقٍ منهم للفريقِ الآخر. فكذلك قوله " سَواءٌ عليهم " : معتدلٌ عندهم أيّ الأمرين كان منك إليهم ، الإنذار أم ترك الإنذار لأنهم لا يؤمنون (1) ، وقد خَتمتُ على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرُّقَيَّات :
تُغِذُّ بيَ الشّهبَاءُ نَحْوَ ابن جَعْفٍر... سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا ونَهَارُهَا (2)
يعني بذلك : معتدلٌ عندها في السير الليلُ والنهارُ ، لأنه لا فُتُورَ فيه. ومنه قول الآخر (3)
وَلَيْلٍ يَقُولُ المَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِه... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا
لأن الصحيح لا يبصر فيه إلا بصرًا ضعيفًا من ظُلْمته.
وأما قوله : ( أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، فإنه ظهرَ به الكلام ظهورَ الاستفهام وهو خبرٌ ; لأنه وَقع مَوقع " أيّ " كما تقول : " لا نُبالي أقمتَ أم
__________
(1) في المطبوعة " كانوا لا يؤمنون " .
(2) ديوانه : 163 ، والكامل للمبرد 1 : 398 ، 399 . يمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب . أغذ السير وأغذ فيه : أسرع . ورواية ديوانه ، والكامل " تقدت " . وتقدى به بعيره : أسرع على سنن الطريق . والشهباء : فرسه ، للونها الأشهب ، وهو أن يشق سوادها أو كمتتها شعرات بيض حتى تكاد تغلب السواد أو الكمتة .
(3) الشعر لمضرس بن ربعي الفقعسي . حماسة ابن الشجري : 204 .
(1/256)
________________________________________
قعدت " ، وأنت مخبرٌ لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع " أي " . وذلك أنّ معناه إذا قلتَ ذلك : ما نبالي أيّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قوله : " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " ، لمَّا كان معنى الكلام : سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم - حسُن في موضعه مع سواءٌ : " أفعلتَ أم لم تفعل " .
وكان بعضُ نحوِيِّي البصرة يزعمُ أنّ حرفَ الاستفهام إنما دَخَل مع " سواء " ، وليس باستفهام ، لأن المستفهِم إذا استفهَم غيرَه فقال : " أزيد عندك أم عمرو ؟ " مستثبتٌ صاحبه أيُّهما عنده. فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهام من الآخر. فلما كان قوله : " سَواء عليهم أأنذرتهم أم لم تُنذرهم " بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهامَ ، إذ أشبهه في التَّسوية. وقد بينّا الصَّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا : معتدلٌ يا محمد - على هؤلاء الذين جحدوا نبوَّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ أن لا يكتموا ذلك ، وأن يبيِّنوه للناس ، وُيخْبرُوهم أنهم يجدُون صِفَتَك في كتبهم - أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، فإنهم لا يؤمنون ، ولا يرجعون إلى الحق ، ولا يصدقونَ بك وبما جئتَهم به. كما : -
299 - حدثنا محمد بن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ، أي أنهم قد كفروا بما عندهم من العِلْم من ذكرٍ ، وجحدوا ما أخِذ عليهم من الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك ، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك ، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك ؟ (1) .
* * *
__________
(1) الخبر 299 - سبق تخريجه مع الخبر 295 .
(1/257)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
311 - حدثنا ابنُ حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ولهم بما هُمْ عليه من خلافك عذابٌ عظيم. قال : فهذا في الأحبار من يهود ، فيما كذَّبوكِ به من الحق الذي جاءك من رّبك بعد معرفتهم (1) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) }
قال أبو جعفر : أما قوله : " ومن الناس " ، فإن في " الناس " وجهين :
أحدهما : أن يكون جمعًا لا واحدَ له من لَفْظِه ، وإنما واحدهم " إنسانٌ " ، وواحدتهم " إنسانة " (2) .
والوجه الآخر : أن يكون أصله " أُناس " أسقِطت الهمزة منها لكثرة الكلام بها ، ثم دخلتها الألف واللام المعرِّفتان ، فأدغِمت اللام - التي دخلت مع الألف فيها للتعريف - في النون ، كما قيل في( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) [سورة الكهف : 38] ، على ما قد بينا في " اسم الله " الذي هو الله (3) . وقد زعم بعضهم أن " الناس " لغة غير " أناس " ، وأنه سمع العرب تصغرهُ " نُوَيْس " من الناس ، وأن الأصل لو كان أناس لقيل في التصغير : أُنَيس ، فرُدَّ إلى أصله.
وأجمعَ جميع أهل التأويل على أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهلِ النِّفاق ، وأن هذه الصِّفة صِفتُهم.
__________
(1) الخبر 311 - هو تتمة الأخبار : 295 ، 299 ، 307 ، ساقها السيوطي 1 : 29 مساقًا واحدًا ، كما أشرنا من قبل . ولكنه حذف من آخره ما بعد قوله " فهذا في الأحبار من يهود " . لعله ظنه من كلام الطبري . والسياق واضح أنه من تتمة الخبر .
(2) في المطبوعة : " واحده إنسان ، وواحدته إنسانة " .
(3) انظر ما مضى ص 125 - 126 .
(1/268)
________________________________________
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل بأسمائهم :
312 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني المنافقين من الأوْس والخَزْرج ومَنْ كان على أمرهم.
وقد سُمِّي في حديث ابن عباس هذا أسماؤهم عن أبيّ بن كعب ، غير أني تركت تسميتهم كراهة إطالة الكتاب بذكرهم (1) .
313 - حدثنا الحسين بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزّاق ، قال : أنبأنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، حتى بلغ : ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) قال : هذه في المنافقين (2) .
314 - حدثنا محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، قال : هذه الآية إلى ثلاث عشرة ، في نَعت المنافقين.
315 - حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، مثله.
316 حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله.
__________
(1) الخبر 312 - مضى نحو معناه : 296 ، وأشرنا إلى هذا هناك .
وأسماء المنافقين ، من الأوس والخزرج ، الذين كره الطبري إطالة الكتاب بذكرهم - حفظها علينا ابن هشام ، في اختصاره سيرة ابن إسحاق ، بتفصيل واف : 355 - 361 (طبعة أوربة) ، 2 : 166 - 174 (طبعة الحلبي) ، 2 : 26 - 29 (الروض الأنف) .
(2) الأثر 313 - الحسن بن يحيى ، شيخ الطبري ؛ وقع في الأصول هنا " الحسين " ، وهو خطأ . وقد مضى مثل هذا الإسناد على الصواب ، رقم : 257 .
(1/269)
________________________________________
317 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن إسماعيل السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليهِ وسلم : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) هم المنافقون.
318 - حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : (ومن الناس مَنْ يقول آمنا بالله وباليوم الآخر) إلى(فزادهم الله مَرَضًا ولهم عذاب أليم) ، قال : هؤلاء أهلُ النفاق.
319 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، في قوله : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) قال : هذا المنافقُ ، يخالِفُ قولُه فعلَه ، وسرُّه علانِيَتَه ومدخلُه مخرجَه ، ومشهدُه مغيبَه (1) .
وتأويل ذلك : أنّ الله جل ثناؤه لما جمع لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أمرَهُ في دار هجرته ، واستَقرَّ بها قرارُه ، وأظهرَ الله بها كلمتَه ، وفشا في دور أهلها الإسلام ، وقَهَر بها المسلمون مَنْ فيها من أهل الشرك من عبدة الأوثان ، وذَلّ بها مَن فيها من أهل الكتاب - أظهر أحبارُ يَهودها لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضَّغائن ، وأبدوا له العداوة والشنآنَ ، حسدًا وَبغيًا (2) ، إلا نفرًا منهم هداهم الله للإسلام فأسلَموا ، كما قال جل ثناؤه : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) [سورة البقرة : 109] ، وطابَقَهم سرًّا على مُعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
__________
(1) الروايات 314 - 319 : ساق بعضها ابن كثير 1 : 86 بين نص وإشارة . وساق بعضها أيضًا السيوطي 1 : 29 . والشوكاني 1 : 29 .
(2) في : المخطوطة " العداوة والشنار " ، وهو خطأ . والشنآن والشناءة : البغض يكشف عنه الغيظ الشديد . شنئ الشيء يشنؤه : أبغضه بغضًا شديدًا .
(1/270)
________________________________________
وَبغْيِهم الغوائِل ، قومٌ - من أرَاهط الأنصار الذين آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَصَروه (1) - وكانوا قد عَسَوْا في شركهم وجاهليِّتِهم (2) قد سُمُّوا لنا بأسمائهم ، كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم وأنسابهم ، وظاهروهم على ذلك في خَفاءٍ غير جِهارٍ ، حذارَ القتل على أنفسهم ، والسِّباءِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وركونًا إلى اليهود لما هم عليه من الشرك وسوء البصيرة بالإسلام. فكانوا إذا لَقُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به من أصحابه قالوا لهم - حِذارًا على أنفسهم - : إنا مؤمنون بالله وبرسوله وبالبَعْث ، وأعطَوْهم بألسنتهم كلمةَ الحقِّ ، ليدرأوا عن أنفسهم حُكم الله فيمن اعتقدَ ما هم عليه مقيمون من الشرك ، لو أظهروا بألسنتهم ما هم معتقدوه من شركهم. وإذا لقُوا إخوانَهم من اليهود وأهل الشّركِ والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، فخلَوْا بهم قَالُوا : ( إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ). فإياهم عَنَى جلّ ذكره بقوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) ، يعني بقوله تعالى خبرًا عنهم : آمنّا بالله - : وصدّقنا بالله (3) .
وقد دللنا على أنّ معنى الإيمان : التصديق ، فيما مضى قبل من كتابنا هذا (4) .
وقوله : ( وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، يعني : بالبعث يوم القيامة ، وإنما سُمّى يومُ القيامة " اليومَ الآخر " ، لأنه آخر يوم ، لا يومَ بعده سواه.
فإن قال قائل : وكيف لا يكون بعده يوم ، ولا انقطاعَ للآخرة ولا فناء ، ولا زوال ؟
__________
(1) الغوائل جمع غائلة : وهي : النائبة التي تغول وتهلك . وأراهط جمع رهط ، والرهط : عدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة ، لا يكون فيهم امرأة . وعنى بهم العدد القليل من بطون الأنصار .
(2) في المطبوعة : " عتوا في جاهليتهم " وكلتاهما صواب . عسا الشيء يعسو : اشتد وصلب وغلظ من تقادم العهد عليه ، وعسا الرجل : كبر . والعاسي : هو الجافي ، ومثله العاتي . وعتا يعتو ، في معناه . وانظر ما مضى ص : 36 ، تعليق .
(3) في المطبوعة " وصدقنا بالله " ، وزيادة الواو خطأ .
(4) انظر ما مضى ص : 234 - 235 .
(1/271)
________________________________________
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
قيل : إن اليومَ عند العرب إنما سُمي يومًا بليلته التي قبله ، فإذا لم يتقدم النهارَ ليلٌ لم يسمَّ يومًا. فيوم القيامة يوم لا ليلَ بعده ، سوى الليلة التي قامت في صبيحتها القيامة ، فذلك اليوم هو آخر الأيام. ولذلك سمّاه الله جل ثناؤه " اليوم الآخر " ، ونعتَه بالعَقِيم. ووصفه بأنه يوم عَقيم ، لأنه لا ليل بعده (1) .
وأما تأويل قوله : " وما هم بمؤمنين " ، ونفيُه عنهم جلّ ذكره اسمَ الإيمان ، وقد أخبرَ عنهم أنّهم قد قالوا بألسنتهم : آمَنَّا بالله وباليوم الآخر - فإن ذلك من الله جل وعزّ تكذيبٌ لهم فيما أخبَرُوا عن اعتقادهم من الإيمان والإقرار بالبعث ، وإعلامٌ منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنّ الذي يُبْدونه له بأفواههم خلافُ ما في ضمائر قلوبهم ، وضِدُّ ما في عزائم نفوسهم.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحة على بُطول ما زَعَمتْه الجهميةُ : من أنّ الإيمان هو التصديق بالقول ، دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق ، أنهم قالوا بألسنتهم : " آمنا بالله وباليوم الآخر " ، ثم نفَى عنهم أن يكونوا مؤمنين ، إذْ كان اعتقادهم غيرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُم ذلك.
وقوله " وما هم بمؤمنين " ، يعني بمصدِّقين " فيما يزعمون أنهم به مُصَدِّقون.
* * *
القول في تأويل جل ثناؤه : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا }
قال أبو جعفر : وخداعُ المنافق ربَّه والمؤمنينَ ، إظهارُه
__________
(1) وذلك قول ربنا سبحانه في سورة الحج : 55 : { وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } .
(1/272)
 
رد: تفسير القرآن الكريم

________________________________________
بلسانه من القول والتصديق ، خلافَ الذي في قلبه من الشكّ والتكذيب ، ليدْرَأ عن نفسه ، بما أظهر بلسانه ، حكمَ الله عز وجلّ - اللازمَ مَن كان بمثل حاله من التكذيب ، لو لم يُظْهِرْ بلسانه ما أظهرَ من التصديق والإقرار - من القَتْل والسِّباء. فذلك خِداعُه ربَّه وأهلَ الإيمان بالله.
فإن قال قائل : وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مُخادِعًا ، وهو لا يظهر بلسانه خلافَ ما هو له معتقدٌ إلا تَقِيَّةً ؟
قيل : لا تمتنعُ العربُ من أنْ تُسمّي من أعطى بلسانه غيرَ الذي هو في ضميره تَقِيَّةً لينجو مما هو له خائف ، فنجا بذلك مما خافه - مُخادِعًا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التَّقيّة. فكذلك المنافق ، سمي مخادعًا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقيَّةً ، مما تخلَّص به من القتل والسِّباء والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر مستبطِنٌ. وذلك من فعلِه - وإن كان خِدَاعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادعٌ ، لأنه يُظهر لها بفعله ذلك بها ، أنه يُعطيها أمنيَّتها ، وُيسقيها كأسَ سُرورها ، وهو مُورِدُها به حِياض عَطَبها ، ومجَرِّعها به كأس عَذابها ، ومُزِيرُها من غَضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به (1) . فذلك خديعَتُه نفسه ، ظَنًّا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال جل ثناؤه : " وما يخدَعُون إلا أنفسهم ومَا يشعُرُون " ، إعلامًا منه عبادَه المؤمنين أنَّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفُسهم في إسخاطهم رَّبهم بكُفْرهم وشكِّهم وتكذيبهم - غيرُ شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عَمْيَاء من أمرِهم مُقيمون.
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، كان ابن زيد يقول.
320 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت عبد الرحمن بن زيد عن قوله الله جل ذكره : ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) إلى
__________
(1) في المطبوعة : " ومذيقها من غضب الله " ، وفي المخطوطة : " ومربدها . . . " ، وفي تفسير ابن كثير 1 : 87 " ومز برها . . . " ، والصواب ما أثبتناه ، وأزاره : حمله على الزيارة . وفي حديث طلحة : " . . . حتى أزرته شعوب " ، وشعوب هي المنية ، أي أوردته المنية فزارها . وجعلها زيارة ، وهي هلاك . سخرية بهم واستهزاء ، لقبح غرورهم بربهم ، وفرحهم بما مد لهم من العمر والمال والمتاع .
(1/273)
________________________________________
آخر الآية ، قال : هؤلاء المنافِقُون ، يخادعون الله ورسولَه والذين آمنوا ، أنهم مؤمنون بما أظهروا (1) .
وهذه الآية من أوضح الدليل على تكذيب الله جلّ ثناؤه الزاعمين : أن الله لا يُعذِّب من عباده إلا من كَفَر به عنادًا ، بعد علمه بوحدانيته ، وبعد تقرُّر صحة ما عاندَ ربّه تبارك وتعالى عليه مِن تَوْحيده ، والإقرار بكتبه ورُسله - عنده. لأن الله جلّ ثناؤه قد أخبرَ عن الذين وَصفهم بما وصفهم به من النفاق ، وخِداعهم إياه والمؤمنين - أنهم لا يشعرون أنهم مُبْطلون فيما هم عليه من الباطل مُقِيمون ، وأنَّهم بخداعهم - الذي يحسبون أنهم به يُخادعون ربهم وأهلَ الإيمان به - مخدوعون. ثم أخبر تعالى ذكره أنّ لهم عذابًا أليمًا بتكذيبهم بما كانوا يكذِّبون من نبوة نبيّه ، واعتقاد الكفر به ، وبما كانوا يَكذِبون في زعمهم أنهم مؤمنون ، وهم على الكفر مُصِرُّون.
فإن قال لنا قائل : قد علمت أن " المُفاعلة " لا تكون إلا من فاعلَيْن ، كقولك : ضاربتُ أخاك ، وجالست أباك - إذا كان كل واحد مجالس صَاحبه ومضاربَه. فأما إذا كان الفعلُ من أحدهما ، فإنما يقال : ضربتُ أخاك ، وجلست إلى أبيك ، فمَنْ خادع المنافق فجاز أن يُقال فيه : خادع الله والمؤمنين ؟
قيل : قد قال بعضُ المنسوبين إلى العلم بلغات العرب (2) : إنّ ذلك حرفٌ جاء بهذه الصورة أعني " يُخَادِع " بصورة " يُفَاعل " ، وهو بمعنى " يَفْعَل " ، في حروفٍ أمثالها شاذةٍ من منطقِ العرب ، نظيرَ قولهم : قاتَلك الله ، بمعنى قَتَلك الله.
وليس القول في ذلك عندي كالذي قال ، بل ذلك من " التفاعل " الذي لا يكون إلا من اثنين ، كسائر ما يُعرف من معنى " يفاعل ومُفاعل " في كل كلام العرب. وذلك : أن المنافق يُخادع الله جل ثناؤه بكَذبه بلسانه - على ما قد تقدّم
__________
(1) الأثر 320 - في الدر المنثور 1 : 30 ، والشوكاني 1 : 30 بتمامه ، ويأتي تمامه في تفسير بقية الآية برقم : 321 .
(2) يعني أبا عبيدة في كتابه " مجاز القرآن " : 31 .
(1/274)
________________________________________
وصفه - والله تبارك اسمه خادِعُه ، بخذلانه عن حسن البصيرة بما فيه نجاةُ نفسه في آجل مَعادِه ، كالذي أخبر في قوله : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ) [سورة آل عمران : 178] ، وبالمعنى الذي أخبرَ أنه فاعلٌ به في الآخرة بقوله : ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) [سورة الحديد : 13] ، فذلك نظيرُ سائر ما يأتي من معاني الكلام بـ " يُفاعِل ومُفاعل " . وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول : لا تكون المفاعلة إلا من شيئين ، ولكنه إنما قيل : " يُخادِعون الله " عند أنفسهم ، بظنِّهم أن لا يعاقَبُوا ، فقد علموا خلافَ ذلك في أنفسهم ، بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته ، وما يخدعون إلا أنفسهم. قال : وقد قال بعضُهم : " وما يخدعون " يقول : يخدَعُون أنفسهم بالتَّخْلية بها (1) . وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ }
إن قال قائل : أو ليس المنافقون قد خدعُوا المؤمنين - بما أظهرُوا بألسنتهم من قيل الحق - عن أنفسهم وأموالِهم وذَرَاريهم حتى سلمت لهم دنياهم ، وإن
__________
(1) يعني بقوله " بالتخلية بها " ، أي بالانفراد بها وإخفاء ما يبطنون من الكفر . كأن أراد أن يجعل اشتقاق " يخدعون " من المخدع ، وهو البيت الصغير داخل البيت الكبير ، وأراد الستر الشديد لما يبطنون . وأخلى بفلان يخلى به إخلاء : انفرد به في مكان خال . واستعمل " التخلية " بمعنى أنه حمل على الخلوة ، كأنه حمل نفسه على الخلوة بها والانفراد ، ليخفى ما فيها . وهذا الذي ذكره شرح لبقية الآية الذي سيأتي بعد .
(1/275)
________________________________________
كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم ؟
قيل : خَطأٌ أن يقال إنهم خَدعوا المؤمنين. لأنَّا إذا قلنا ذلك ، أوجبنا لهم حقيقةَ خدعةٍ جازت لهم على المؤمنين (1) . كما أنَّا لو قلنا : قتل فلان فلانًا ، أوجبنا له حقيقةَ قتلٍ كان منه لفلان. ولكنا نقول : خادَع المنافقون رَبَّهم والمؤمنين ، ولم يَخْدَعوهم بَل خَدعوا أنفسهم ، كما قال جل ثناؤه ، دون غيرها ، نظيرَ ما تقول في رجل قاتَل آخر ، فقتَل نفسَه ولم يقتُل صاحبه : قاتَل فلان فلانًا فلم يقتل إلا نفسه ، فتوجبُ له مقاتَلةَ صاحبه ، وتنفي عنه قتلَه صاحبَه ، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول : " خادَعَ المنافقُ ربَّه والمؤمنين فلم يخدعْ إلا نفسه " ، فتثبت منه مخادعةَ ربه والمؤمنين ، وتنفي عنه أن يكونَ خَدع غير نَفسه ، لأن الخادعَ هو الذي قد صحّت الخديعة له ، وَوقع منه فعلُها. فالمنافقون لم يخدَعوا غيرَ أنفسهم ، لأنّ ما كان لهم من مال وأهلٍ ، فلم يكن المسلمون مَلَكوه عليهم - في حال خِداعهم إياهم عنه بنفاقهم وَلا قَبْلها - فيستنقِذُوه بخداعهم منهم ، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غيرَ الذي في ضمائرهم ، ويحكُم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورِهم بحُكْم ما انتسبوا إليه من الملّة ، والله بما يُخْفون من أمورِهم عالم. وإنما الخادع من خَتَل غيرَهُ عن شيئِه ، والمخدوعُ غير عالم بموضع خديعةِ خادعِهِ. فأما والمخادَع عارفٌ بخداعِ صاحبه إياه غير لاحقِه من خداعه إيّاه مكروهٌ ، بل إنما يَتجافى للظَّانّ به أنه له مُخادع ، استدراجًا ، ليبلغ غايةً يتكامل له عليه الحُجَّةُ للعقوبة التي هو بها مُوقع عند بلوغه إياها (2) ، والمُسْتَدرَج غيرُ عالم بحال نفسه عند مستدرِجِه ، ولا عارف باطِّلاعه على ضميره ، وأنّ إمهالَ مستدرِجِه إياه ، تركه معاقبته على جرمه (3) ليبلغ المخاتِل المخادِعُ - من استحقاقه عقوبةَ مستدرِجِه ،
__________
(1) في المطبوعة : " جاءت لهم على المؤمنين " ، وهو خطأ .
(2) في المطبوعة : " التي هو بها موقع " ، وعنى : العقوبة التي هو موقعها به . . .
(3) في المطبوعة : " وأن إمهال مستدرجه ، وتركه إياه معاقبته على جرمه " ، وهو خطأ مفسد للمعنى .
(1/276)
________________________________________
بكثرة إساءته ، وطولِ عِصيانه إياه ، وكثرة صفح المستدرِج ، وطول عفوه عنه أقصى غايةٍ (1) فإنما هو خادع نفسه لا شك ، دون من حدّثته نفسه أنه له مخادعٌ. ولذلك نَفى الله جل ثناؤه عن المنافق أن يكونَ خدَعَ غيرَ نفسه ، إذ كانت الصِّفةُ التي وَصَفنا صفتَه.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا من خِدَاع المنافق ربَّه وأهلَ الإيمان به ، وأنه غير صائر بخداعه ذلك إلى خديعةٍ صحيحة إلا لنفسه دون غيرها ، لما يُوَرِّطها بفعله من الهلاك والعطب - فالواجب إذًا أن يكون الصحيح من القراءة : ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ) دون( وما يخادعون ) لأن لفظ " المخادع " غير مُوجب تثبيتَ خديعةٍ على صحَّة ، ولفظ " خادع " موجب تثبيت خديعة على صحة. ولا شك أن المنافق قد أوْجبَ خديعة الله عز وجل لِنَفْسه بما رَكِبَ من خداعه ربَّه ورسولَه والمؤمنين - بنفاقه ، فلذلك وجبَت الصِّحةُ لقراءة من قرأ : ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ ).
ومن الدلالة أيضًا على أن قراءة من قرأ : ( وَمَا يَخْدَعُونَ ) أولى بالصحة من قراءة من قرأ : ( وما يخادعون ) ، أن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يُخادعون الله والمؤمنين في أول الآية ، فمحال أن يَنفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه ، لأن ذلك تضادٌّ في المعنى ، وذلك غير جائزٍ من الله جلّ وعزّ.
القول في تأويل قول الله جل ثناؤه : { وَمَا يَشْعُرُونَ (9) }
يعني بقوله جل ثناؤه " وما يَشعرون " ، وما يَدْرُون. يقال : ما شَعَرَ فلانٌ بهذا الأمر ، وهو لا يشعر به - إذا لم يَدْرِ ولم يَعْلم - شِعرًا وشعورًا. وقال الشاعر :
__________
(1) سياق هذه العبارة : " ليبلغ المخاتل المخادع . . . أقصى غاية " ، وسياق الذي يليها من صدر الجملة : " فأما والمخادع عارف . . . فإنما هو خادع نفسه . . . " ، وما بينهما فصل طويل .
(1/277)
________________________________________
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
عَقَّوْا بِسَهمٍ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَحَدٌ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا : حَبَّذَا الوَضَحُ (1)
يعني بقوله : لم يَشعر به ، لم يدر به أحد ولم يعلم. فأخبر الله تعالى ذكره عن المنافقين : أنهم لا يشعرون بأن الله خادِعُهم ، بإملائه لهم واستدراجِه إياهم ، الذي هو من الله جل ثناؤه إبلاغٌ إليهم في الحجة والمعذرة ، ومنهم لأنفسهم خديعةٌ ، ولها في الآجل مَضرة. كالذي - :
321 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألت ابن زيد عن قوله : ( وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، قال : ما يشعرون أنهم ضَرُّوا أنفسهم ، بما أسَرُّوا من الكفر والنِّفاق. وقرأ قول الله تعالى ذكره : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) ، قال : هم المنافقون حتى بلغ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) [سورة المجادلة : 18] ، قد كان الإيمان ينفعهم عندكم (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ }
قال أبو جعفر : وأصل المرَض : السَّقم ، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا ، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره
__________
(1) الشعر للمتنخل الهذلي ، ديوان الهذليين 2 : 31 ، وأمالي القالي 1 : 248 ، وسمط اللآلئ 563 . عقى بالسهم : رمى به في السماء لا يريد به شيئًا ، وأصله في الثأر والدية ، وذلك أنهم كانوا يجتمعون إلى أولياء المقتول بدية مكملة ، ويسألونهم قبول الدية . فإن كانوا أقوياء أبوا ذلك ، وإلا أخذوا سهمًا ورموا به في السماء ، فإن عاد مضرجًا بدم ، فقد زعموا أن ربهم نهاهم عن أخذ الدية . وإن رجع كما صعد ، فقد زعموا أن ربهم أمرهم بالعفو وأخذ الدية . وكل ذلك أبطل الإسلام . وفاء واستفاء : رجع . والوضح : اللبن . يهجوهم بالذلة والدناءة ، فأهدروا دم قتيلهم ، ورموا بالسهم الذي يزعمونه يأمرهم وينهاهم ، ورجعوا عن طلب الترة إلى قبول الدية ، وآثروا إبل الدية وألبانها على دم قاتل صاحبهم ، وقالوا في أنفسهم : اللبن أحب إلينا من القود وأنفع .
(2) الأثر 321 - هو تمام الأثر الذي سلف : 320 .
(1/278)
________________________________________
عن مرض قلوبهم ، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب ، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقاد - استغنى بالخبَر عن القلب بذلك والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم (1) كما قال عُمر بن لَجَأ :
وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ ، لا تَلُمْهَا ، ... رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا (2)
يريد : وسبَّح أهل المدينة ، فاستغنى بمعرفة السامعين خَبَرَه بالخبَرِ عن المدينة ، عن الخبر عن أهلها. ومثله قول عنترة العبسي :
هَلا سَأَلتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ?... إنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي (3)
يريد : هلا سألتِ أصحاب الخيل ؟ ومنه قولهم : " يا خَيْلَ الله اركبي " ، يراد : يا أصحاب خيل الله اركبوا. والشواهد على ذلك أكثر من أن يُحصيها كتاب ، وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه.
فكذلك معنى قول الله جل ثناؤه : ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) إنما يعني : في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الدين ، والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من عند الله - مَرَض وسُقْم. فاجتزأ بدلالة الخبَر عن قلوبهم على معناه ، عن تصريح الخبر عن اعتقادهم.
والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه : هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله ، وتحيُّرُهم فيه ، فلا هم به موقنون إيقان إيمان ، ولا هم له منكرون إنكارَ إشراك ، ولكنهم ، كما وصفهم الله عز وجل ، مُذَبْذَبُونَ بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء (4) كما يقال : فلانٌ يمَرِّضُ في هذا الأمر ،
__________
(1) في المطبوعة : " والكناية عن تصريح الخبر . . . " ، وقوله : " والكفاية عن تصريح الخبر . . . " معطوف على قوله " الخبر عن مرض ما في قلوبهم . . . "
(2) يأتي البيت في تفسير آية البقرة : 110 (1 : 391 بولاق) .
(3) في معلقته المشهورة .
(4) تضمين آية سورة النساء : 143 .
(1/279)
________________________________________
أي يُضَعِّف العزمَ ولا يصحِّح الروِيَّة فيه.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك ، تَظاهر القول في تفسيره من المفسِّرين.
* ذكر من قال ذلك :
322 - حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " في قلوبهم مرضٌ " ، أي شكٌّ.
323 - وحدِّثت عن المِنْجَاب ، قال : حدثنا بشر بن عُمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : المرض : النفاق.
324 - حُدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السُّدّيّ في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " في قلوبهم مرضٌ " يقول : في قلوبهم شكّ.
325 - حُدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله : " في قلوبهم مَرَضٌ " ، قال : هذا مرض في الدِّين ، وليس مَرَضًا في الأجساد ، قال : وهم المنافقون.
326 - حدثني المثنَّى بن إبراهيم ، قال : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، قال : أخبرنا ابنُ المبارك قراءةً ، عن سعيد ، عن قتادة ، في قوله " في قلوبهم مَرَض " قال : في قلوبهم رِيبَة وشك في أمر الله جل ثناؤه.
327 - وحدِّثت عن عمّار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : " في قلوبهم مَرَضٌ " قال : هؤلاء أهلُ النفاق ، والمرضُ الذي في قلوبهم : الشك في أمر الله تعالى ذكره.
328 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) حتى بلغ( فِي
(1/280)
 

أحدث المواضيع

أعلى