فن القصة القصيرة

zanaty

مؤسسي الموقع
إنضم
Sep 10, 2006
المشاركات
5,331
الإقامة
Egypt - Alex
e7ca6d76d7.gif



القصة القصيرة ليست مجرد قصة تقع في صفحات قلائل بل هي لون من ألوان الأدبالحديث ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وله خصائص ومميزات شكلية معينة.

الحلقة الأولى:

الخبر والقصة

من المعروف أن القصة تروي خبراً ولكن لا يمكن أن نعتبر كل خبر أو مجموعةمن الأخبار قصة .. فلأجل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوفر فيه خصائص معينةأولها أن يكون له أثر كلي. ولكي نفهم ما نعني بالأثر الكلي دعنا نقرأالمقتطف التالي من خطاب "لليدي ماري مونتاجيو":

"
أظن أن هذه هي المرة الأولى التي تأخرت فيها في الكتابة إليك، وقد تعجبإذا عرفت أن تأخيري جاء نتيجة لانشغالي إنشغالاً كلياً. فأنا أقضي ساعاتطويلة في ركوب الخيل وصيد الغزال وقد حققت في هذا المضمار مهارة عظيمةجعلتني شديدة الرضا عن نفسي ..

وصاحب السمو الملكي يصيد في "ريتشموند بارك" وأنا من ضمن رفاقه في الصيد،ولعلك بعد ذلك لا تقول إني امرأة عجوز. وقد عاد اللورد بولينجبروك إلىانجلترا، وأغرب الأنباء هنا هي مغازلة اللورد بانهرست للأميرات مما أثارالتخمينات في المجتمعات ولكني أنا التي لا يغيب عني شيء أعتقد أن هناكعلاقة أكيدة بي اللورد بانهرست ومسز هوارد".

في هذا الخطاب تقص الليدي ماري مونتاجيو عدة أنباء فهي تخبرنا أنها جدمشغولة وأنها تقضي ساعات طويلة في ركوب الخيل وصيد الغزلان وأنها راضيةلذلك عن نفسها، ونحن نعلم أيضاً أن ولي العهد يصيد في "ريتشموند بارك" وأناللورد "بولينجبروك" قد عاد إلى انجلترا وأن "الليدي ماري مونتاجيو" تعتقدأن هناك علاقة بين لورد بانهرست ومسز هوارد. والواقع أن الخطاب مليءبالأخبار، ولكنها رويت بحيث جاء كل خبر منها منفصلاً عن الآخر لا يرتبط بهبعلاقة. ومما لا شك فيه أن كل خبر في هذا الخطاب يزودنا بقسط من المعلومات - أي أن لكل خبر معنى .. ولكن هذه الأخبار مجتمعة كما جاءت في الخطاب ليسلها معنى واحداً ولذلك فلا يمكن أن يكون لها أثراً كلياً.

دعنا الآن نقرأ هذا المقتطف من كتاب عن حياة الشاعر "دانتي":

"
من المحقق أن سيدة تسمى مادونا بياتريس عاشت فعلاً في فلورنس في عصردانتي، وكانت تنتمي إلى عائلة فلورنسية تدعى عائلة بوتيناري - وقد عرف عنهذه السيدة الجمال وحسن الخلق ... وأعجب بها دانتي وأحبها ونظم الأغاني فيمدحها. وبعد موتها أراد أن يعلي اسمها ومن ثم ظهرت عدة مرات في قصيدتهالكبيرة الكوميديا الالهية".

هذا المقتطف أيضاً مليء بالأخبار ... فالكاتب يخبرنا أن سيدة تسمى بياتريسعاشت في فلورنس في عصر دانتي، وأنها كانت جميلة، تنتمي إلى أسرة فلورنسية،وأن دانتي أحبها ولذلك نظم فيها الأغاني في حياتها، وأعلى اسمها بعدمماتها في شعره ... ولو أنك أخذت كل خبر في هذه الأخبار على حدة لما وجدتله معنى. فمثلاً لو أنك قلت إن سيدة تدعى "بياتريس" عاشت في "فلورنس" لماكان لذلك معنى مستقلاً ولو أنك قلت إن سيدة تدعى "بياتريس" كانت جميلة لماكان لذلك معنى في ذاته أيضاً وبالمثل لو قلت إن سيدة تدعى بياتريس كانتتنتمي إلى عائلة فلورنسية ولكنك لو قلت:

إن سيدة تدعى "بياتريس" عاشت في "فلورنس" وأنها كانت تنتمي إلى عائلة "فلورنسية" كانت جميلة وأن "دانتي" أحبها ونظم الشعر فيها إلى آخر ما فيالمقتطف لوجدت أن هذه الأخبار في مجموعها تعني شيئاً، إذ أن الكاتب قدرواها بحيث يرتبط كل خبر منها بغيره من الأخبار فيكون لمجموعها معنى وبذلكيمكن أن نقول إن لها أثراً كلياً.

وهذا هو أول مستلزمات القصة: أي أن الخبر الذي ترويه يجب أن تتصل تفاصيلهأو أجزاؤه بعضها مع البعض بحيث يكون لمجموعها أثراً أو معنى كلياً.

ولكن الأثر أو المعنى الكلي لا يكفي وحده لكي يجعل من الخبر قصة .. فلكييروي الخبر قصة يجب أن يتوفر فيه شرط آخر ... وهو أن يكون للخبر بدايةووسط ونهاية، أي أن يصوّر ما نسميه "بالحدث".

ولأجل أن نفهم ما نعني بالحدث دعنا نقرأ المقتطف التالي من كتاب عن حياة الرعاة في انجلترا.

"
عندما خيم الظلام خرج "بيتر" مع كلبه فوجد الغزلان ما زالت ترعى علىالربوة. وتسلل بخفة خلف الأجمة حتى واجهته الربوة وخلف قمتها السماء مليئةبالنجوم واتضحت أما عينيه وهو يتقدم أجسام الغزلان برؤوسها المنحنية،وتراجع قليلاً ثم اختفى في خندق وراء حائط وبدأ يتقدم من جديد. وكانت خطتهتنحصر في إثارة خوف الغزلان حتى إذا ما تفرقت في طريقها إلى الغابة مرت بهواصطاد إحداها ...

ولم تسمع الغزلان وقع أقدامه حتى أصبح على مبعدة ستين ياردة منها فقفزتعبر الخندق متفرقة في اتجاهات مختلفة ولم يمر في اتجاه الغابة إلا غزالواحد، وراء هذا الغزال أرسل "بيتر" كلبه ..

ومرق الكلب كما يمرق السهم من القوس و "بيتر"، يجري وراءه كما لم يجر منقبل حياته .. ولفترة قصيرة ظهر الغزال على الثلج والكلب يطارده مطاردةحامية، ثم ابتلعهما الظلام، ولكن في أقل من نصف دقيقة وصل إلى مسمع "بيتر" صرخة طويلة باكية لغزال في محنة .. وكان الكلب قد أمسك صيده من إحدى ساقيهالأماميتين فوق الحافر بقليل وشدد قبضته عليها، وكانا يكافحان على الثلجعندما وصل "بيتر" وألقى" بنفسه على ضحيته وغرز سكينة في القصبة الهوائيةللغزال، وبعد أن قتله ألقاه على ظهره وعاد إلى البيت لا عبر البوابة ولاالطريق العام وإنما عبر الحقول والأدغال حتى وصل إلى الجهة الخلفية لكوخأمه. ولم يكن بتلك الجهة باب ولكن كان لها نافذة، وعندما فزعها وفتحتهاأمه دفع بالغزال داخل البيت دون أن ينطق بكلمة ثم استدار إلى واجهة البيتودخل من الباب.

إن الخبر الذي يحتويه هذا المقتطف يختلف عن الخبر السابق، الذي أفدنا منهالشاعر دانتي أحب فتاة فلورنسية تدعى بياتريس وأنها كانت جميلة وأنه نظمالشعر فيها، فهذا مجرد خبر يزودنا بالمعلومات كالأخبار التي نسمعها أونقرؤها في الصحف. أما خبر اصطياد "بيتر" للغزال فلا يقتصر على تزويدنابالمعلومات إذ أنه يهدف إلى غرض آخر وهو أن يصوّر حدثا ..

ولو أننا دققنا النظر في هذا الحدث لوجدناه يتكون - كل حدث آخر - من مراحلثلاث: المرحلة الأولى وهي البداية. والمرحلة الثانية وهي الوسط والمرحلةالثالثة وهي النهاية ..

ففي المرحلة الأولى وهي البداية، أو كما يسميها بعض النقاد الموقف، عرفناأن الوقت كان ليلاً وأن الغزلان كانت ترعى على الربوة وأن "بيتر" خرج معكلبه للصيد، أي أنه في هذه المرحلة اجتمعت كل القوى أو العوامل التي ترتبعلى وجودها معاً موقف معين نشأ منه الحدث.

وتلي ذلك المرحلة الثانية التي نسميها الوسط، وهي تنمو حتماً وبالضرورة منالموقف أو البداية وتتطور إلى سلسلة من النقاط تمثل تعقيداً أو تشابكاًمتزايداً بين العوامل أو القوى التي يحتويها الموقف. "فبيتر" يتسلل خلفالأجمة، ثم يتراجع، ثم يتربص في الخندق ثم يتقدم من جديد خلف الحائط،وتسمعه الغزلان فتقفز في اتجاهات مختلفة ويتجه واحد منها إلى الغابةويلاحقه الكلب وينقض عليه ويمسك بساقه الأمامية إلى أن يأتي "بيتر" فيلقيبنفسه على ضحيته ويغرز سكينة في رقبتها وهكذا يقتل الغزال. ولكن الحدث لاينتهي هنا ... فبعد أن يقتل "بيتر" الغزال يخبرنا الكاتب أنه يحمله علىظهره ويسير به عبر الحقول والأدغال حتى يصل إلى الجانب الخلفي لكوخ أمهفيقرع نافذة وتفتحها أمه فيدفع بالغزال إلى داخل البيت ثم يستدير إلىواجهة البيت ويدخل من الباب، وهذه هي المرحلة الثالثة أو النهاية وفيهاتتجمع كل القوى التي احتواها الموقف أو البداية في نقطة واحدة يتحقق بهاالاكتمال للحدث ..

فلو أن الكاتب قد توقف عند النقطة التي قتل فيها "بيتر" الغزال في الغابةلما كان للحدث معنى بل لما كان له وجود فلم يخرج "بيتر" لمجرد قتل الغزالوإنما خرج ليصيده ويعود به إلى البيت ولذلك فإن الحدث ينتهي أو يتكاملعندما يحقق "بيتر" ذلك، عندما يقرع النافذة وتفتحها أمه ويدفع بالغزال إلىداخل البيت ثم يستدير ليدخل هو من الباب، فهذه النقطة بالذات هي السبب فيوجود الحدث في الأصل، ولذلك نرى أن كل العوامل التي تجمعت في البدايةوالتي نشأ عنها موقف معين نما منه الحدث وتطور في الوسط تنتهي بالضرورةإلى هذه النقطة ... وهي النقطة التي يكتسب بها الحدث معناه، ولهذا السبباصطلح بعض النقاد على تسمية هذه النقطة - وهي التي تمثل نهاية الحدث - بنقطة التنوير ..

يتضح من تحليل المقتطفات الثلاث أن ليس كل خبر يروى قصة. فمن الأخبار مايمكن أن توضع جنباً إلى جنب (كما في خطاب ليدي منتاجيو) ومع ذلك تظلمجموعة أخبار متفرقة لا تنتج أثراً كلياً - ومن الأخبار ما توضع جنباً إلىجنب (كما في المقتطف عن بياتريس ودانتي) فتنتج أثراً كلياً ومع ذلك تظلمجرد خبر يزودنا بالمعلومات ولكنه لا يروي قصة.

فلقد اتضح لنا أنه لكي يروى الخبر (كقصة اصطياد بيتر للغزال) لا يكفي أنيكون الخبر ذا أثر كلي بل يجب أن يصوّر حدثاً له بداية ووسط ونهاية - أيأنه ينشأ بالضرورة عن موقف معين ويتطور وينمو بالضرورة إلى نقطة معينة.

والفرق بين الخبر الذي يقتصر على تزويدنا بالمعلومات والخبر الذي يصوّرحدثاً هو الفرق بين مجرد الخبر وبين القصة. ولقد يظن البعض أن الفرق بينالخبر والقصة أن الخبر مستمد من الحقيقة وأن القصة من نسيج الخيال، ولكنهذا غير صحيح. فقصة اصطياد (بيتر) للغزال قصة حقيقية حدثت بالفعل ولا أثرللخيال فيها ومع ذلك فقد تحققت لها مقومات القصة لأنها تصوّر حدثاً في حينأن الكثير من القصص أو الحكايات التي تنسجها أخيلة الكتّاب ليست في الواقعقصصاً على الإطلاق، وإنما هي مجرد أخبار تزودنا بالمعلومات ولكنها لاتصوّر حدثاً له بداية ووسط ونهاية.

ولقد يظن البعض أن كل حكاية تنشر أو تروى لا بد وأن لها بداية ووسط ونهايةوإنها بناءً على ذلك لا بد وأن تصوّر حدثاً، أي أنها قصة، ولكن هذا غيرالواقع، فالكثير مما ينشر على أنه قصص ليس قصصاً على الإطلاق، بل مجردأخبار، وهذه الأخبار التي يكتبها الكتّاب وينشرونها على الناس متنكرة فيزي قصص كثيرة، بل إن الصحف والمجلات مليئة بها.
 

المواضيع المتشابهة



تتمة الحلقة الأولى:

ولكي ندرك بوضوح الفرق بين الخبر والقصة دعنا نقرأ الحكاية التالية التينشرت في إحدى الصحف الانجليزية على أنها قصة الأسبوع بعنوان ... (قتل أمانتحار)

(
قتل أم انتحار)

حاولت أن أركز اهتمامي في الفيلم الذي يعرض أمامي ولكني يئست وأغلقت عيني وركزت فكري في المشكلة التي تواجهني.

وكانت مشكلتي مشكلة عادية .. كيف أهرب من نتائج حماقتي؟ أما حماقتي فكانتبدورها حماقة عادية. فقد دفعني إدمان الخمر والتعلق بالنساء والمقامرة إلىالاستدانة طيلة السنة الماضية حوالي ألفين من الجنيهات من أصحاب المكتبالذي أعمل به.

وللآن لم يدرك أصحاب العمل أنهم أسدوا إليّ هذه الخدمة، ولكن الحسابالسنوي سيجري قريباً وبعد أيام سيصل المحاسبون، وإن لم أقم بعمل سريع،سيكون موقفي وأنا الصرّاف موقفاً محرجاً. ولم يكن أمامي إلا ثلاث طرق،فأنا أستطيع أن أعترف لأصحاب العمل وأطلب الصفح، وأستطيع أن أنتظر حتىيكتشف المحاسبون الاختلاس، أو أستطيع أن أجمع ملابسي وأغادر المدينة فيسرعة. وكان علي أن أختار واحداً من هذه الحلول، وإن لم يرق لي أحدها. ولمأكن قد وفقت إلى حل حين خرجت من دار السينما إلى شوارع جلاسجو المضيئة. ولم أكن في عجلة من أمري فلن يواتيني النوم لو عدت إلى بيتي.

وفي الطريق كان هناك رجلاً واقفا، وكدت لا أراه وأنا أتمشى مشغول البال،وكان يستند إلى النافورة، وما كدت أقترب منه حتى تهالك ووقع من على الرصيفإلى الشارع، وسمعت نفير عربة قادمة وجذبت ذراعه بشدة وسألته:

- "
وما هذا؟ أتريد أن تقتل نفسك؟"

وأجاب غاضباً:

- "
وما دخلك أنت؟"

وإذ ذاك لاحظت أنه ليس مخموراً بل مريضاً.

وأسندته إلى النافورة وقلت له

- "
انتظر قليلاً وسأعود حالا" وعندما عدت بقدحين من القهوة من المقهىالمجاور كان ما زال واقفاً في مكانه، وقد انحنت رأسه على صدره. وقلت:

- "
خذ اشرب هذا القدح"

وخيل إليّ أنه سيرفض ولكنه مد يداً مرتجفة وقال في صوت خشن

- "
متشكر"

ورفع رأسه لأول مرة وحدّق في وجهي. وكاد القدح يسقط من يدي من فرط الدهشة. فعندما نظر إليّ خيّل إليّ أنني أنظر في مرآة.

كان الشبه بيننا عجيباً وحتى لحيته التي أطلقها لم تخف هذا الشبه. وفي هذهاللحظة خطر لي حل رائع لمشكلتي .. وأخافتني أفكاري فمنذ دقائق أنقذت حياةهذا الرجل وكان في نيتي أن آخذه إلى مستشفى أو طبيب. والآن أفكر في قتلهحتى وأنا أبتسم له! ولم يبد أنه لاحظ الشبه بيننا ولعله كان منشغلاًبمرضه. وقلت:

- "
اسمع يا صديقي يبدو أنك مريض، دعني أصحبك إلى بيتك، أين تسكن"

وهز الرجل كتفيه

- "
لا بيت لي"

وحاولت أن أخفي فرحي فلا ينم عنه صوتي وقلت

- "
إنني أريد مساعدتك، فهل تأتي معي إلى بيتي؟"

وأشرت إلى سيارة أجرة دون أن أنتظر إجابته، وفتحت الباب وانتظرت في ترقب أن يدخل الرجل العربة وتردد هو قليلاً ثم دخل في احتراس.

ولم أتكلم مع ضحيتي المقبلة طيلة الطريق إلى شقتي. وكنت أزن الموضوع فيعقلي وأرى إمكانيات اكشتاف مثل هذه الجريمة .. الجريمة الكاملة التي يكتبالكتاب عنها، ولكنها لا تتحقق إلا نادراً.

ولم يكن هناك من سبيل لاكتشاف مثل هذه الجريمة، إلا إذا وجد أقارب للقتيل،فهل لهذا الرجل أقارب أو أصدقاء من المحتمل أن يبدأوا البحث عنه إذا مااختفى؟ لا أظن ذلك، ولكن لا بد من التأكد.

ودخلنا الشقة دون أن يلحظنا أحد ....

وأشرت إليه بالجلوس على أحد المقاعد، وقلت وأنا أبحث عن الكبريت لإشعال الموقد:

- "
لست بطباخ ماهر، ولكني سأعد الطعام، إني أحياناً أود لو كنت متزوجاً لتطبخ لي زوجتي"

وسألته في نبرة طبيعية دون أن أنظر إليه.

- "
هل أنت متزوج؟"

وتوقف عن الإجابة لحظة، ثم قال في صوت هادئ:

- "
كنت متزوجاً؟"

ونظرت إليه في تساؤل فقال:

- "
لقد توفيّت زوجتي منذ ثلاثة أسابيع، ومن يومها وأنا أتجول في الشوارع بلا هدف".

وسألته:

- "
ولكن أقاربك .. ألا يزعجهم مسلكك هذا؟"

وهز رأسه ببطء .....

ومسحت على شفتي وأنا أسأل سؤالي الأخير:

- "
ولكن لا بد وأن لك أصدقاء يمكن أن تلجأ إليهم ...."

واستمر يهز رأسه. وارتفعت روحي المعنوية ارتفاعاً كبيراً ودون أن أنطقبكلمة أخرى تركت الغرفة ورجعت بكأس من العصير وذوبت فيها كل الحبوبالمنومة التي وجدتها في الأنبوبة وقلت:

- "
اشرب هذا ريثما أتم إعداد الطعام"

واستغرق في نوم عميق بعد عشر دقائق .. وفي نور حجرتي لم أجد الشبه بينناكاملاً، ولكنه كان كافياً لخداع أي شخص يطلب إليه التعرف على شخصيتي... ولم يكن لي بدوري أقارب يقلقهم أمري وهكذا كان الموضوع بسيطاً للغاية.

وخلعت ملابسه وألبسته ملابسي، وحلقت ذقنه ولم يتحرك. وأسفر البحث فيملابسي الجديدة عن محفظة فارغة فيها جواب معنون إلى (جون سميث) على عنوانهفي لندن وصورة له ولزوجته ووضعت كل هذه الأشياء في جيبي ومعها ما تبقى ليمن نقود. وبعد تفكير كتبت ورقة تركتها على المائدة وكتبت فيها "هذا هوالمخرج الوحيد لي" وأمضيتها باسمي "جون رامزي" ...

وأقفلت الغاز ثم فتحته من جديد دون أن أشعله، وألقيت نظرة أخيرة على المكان وأطفأت النور وتركت الشقة.

ولعلك قرأت في الجرائد عن مدى نجاح خطتي فقد ظهرت إحداها بعنوان (مختلسينتحر) وكان خبر انتحاري المزعوم موضع اهتمام الجرائد لعدة أيام بقيتأثناءها مختبئاً في "جلاسجو" ثم أخذت القطار إلى لندن.

ولكن ما وطأت قدماي أرض المحطة في لندن حتى ألقي القبض علي. وكان منالطبيعي أن أحتج وأن أقول لرجال البوليس أنهم يرتكبون خطأً كبيراً، وأننيجون سميث، بل أنني أبرزت الصورة لأثبت صحة قولي، ولا عجب أن كانوا قدنظروا إليّ نظرتهم إلى مجنون، فقد كان جون سميث مجرماً خطيراً .. لقدأخبرني أن زوجته ماتت، وكان الأخرى أن يخبرني كيف ماتت، كان الأحرى به أنيخبرني أنه قد خنقها.

هذه القصة مختلفة عن قصة الصياد - فهي لا تصور حدثاً ينمو ويتطور إلى أنيبلغ نهايته بل هي مجموعة من الأخبار وضعت جنباً إلى جنب لتبدو في شكل قصةوهذه الأخبار هي:

أولاً: نتعرف على رجل يدعى جون رامزي مغرم بالخمر والنساء والقمار ونعلمأن هذا الرجل قد اختلس ألفين من الجنيهات من مستخدميه كما نعلم أن عليه أنيسلك إحدى سبل ثلاث فإما أن يطلب الصفح من مستخدميه أو يهرب أو ينتظر حتىيكتشف أمره ويوضع في السجن.

ثانياً: يقابل رجلاً آخر يسمى "جون سميث" ماتت زوجته حديثاً وهو مريضوتعيس ويشبه "جون رامزي" كثيراً ويأخذ "رامزي" هذا الرجل إلى شقته ويقتلهونتحل شخصيته.

ثالثاً: يغادر "رامزي" "جلاسجو" إلى "لندن" فيقبض عليه هناك باعتباره "جون سميث" الذي خنق زوجته.

والخبر الأول وهو الذي يصّور المأزق الذي كان جون رامزي فيه بعد اختلاسهللألفي جنيه يمثل بداية القصة أو الموقف. ولكن الخبر الثاني وهو ما يقابلوسط القصة ويصوّر مقابلة رامزي لجون سميث وقتله له وانتحاله لشخصيته فلاينمو من الموقف بل يروي خبراً جديداً يكاد أن يكون مستقلاً عن البداية ولايرتبط بها إلا بعامل الصدفة. أما الخبر الثالث أي ما يقابل نهاية القصةويصوّر القبض على "جون رامزي" باعتباره "جون سميث" الذي قتل زوجته فيرويهو الآخر خبراً جديداً لا ينمو من الخبر السابق ولا يرتبط به إلا بالصدفةأيضاً.

وهكذا نجد أن هذه القصة تتكون من ثلاثة أخبار يرتبط كل منها بالآخربالصدفة بدل أن يؤدي كل منها إلى الآخر بالضرورة والحتمية، ولذلك فهي لاتصوّر حدثاً ينمو ويتطور من نقطة إلى أخرى وبالتالي فلا يمكن أن نقول أنلهذه القصة بداية ووسط ونهاية ...
والواقع أنه من الخطأ اعتبارها قصة على الإطلاق إذ أنها كما تبيّن لا تعدوأن تكون مجموعة أخبار ربط الكاتب بينها بطريقة مصطنعة ليوهمنا بأنها قصة.

ويسمي أرسطو هذا النوع من القصص (بقصص الأخبار) ويعتبره أحط أنواع القصص.

وفي الحلقة الثانية سنتكلم إن شاء الله عن الشخصيّات.

دمتم بحفظ الله ورعايته.


 
الحلقة الثانية عن بناء القصة:

ب - الشخصيات

في كثير من الأحيان ينشأ الحدث عن موقف معين ثم يتطور إلى نهاية معينة ومعذلك يظل الحديث ناقصاً. فتطوره من نقطة إلى أخرى إنما يفسر لنا كيف وقعولكنه لا يفسر لنا لم وقع. فلكي يستكمل الحدث وحدته، أي لكي يصبح حدثاًكاملاً، يجب أن لا يقتصر الخبر على الإجابة على الأسئلة الثلاث المعرفةوهي كيف وقع وأين ومتى؟ بل يجب أن يجيب على سؤال رابع مهم وهو لم وقع؟والإجابة على هذا السؤال تتطلب البحث عن الدافع أو الدوافع التي أدت إلىوقع الحدث بالكيفية التي وقع بها. والبحث عن الدوافع يتطلب بدوره التعرفعلى الشخص أو الأشخاص الذين فعلوا الحدث أو تأثروا به.

فمن البديهي أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها وإلا كاننتيجة لوجود شخص معين أو أشخاص معينين، كما أن وجود شخص معين أو أشخاصمعينين يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة. وبذلك يكون من الخطأ الفصل أوالتفرقة بين الشخصية وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل أو هوالفاعل وهو يفعل. فلو أن الكاتب اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لكانتقصته أقرب إلى الخبر المجرد من القصة، لأن القصة إنما تصوّر حدثاًمتكاملاً له وحدة، ووحدة الحدث لا تتحقق إلاّ بتصوير الشخصية وهي تعمل، أيعندما يجيب الكاتب على أسئلة أربعة وهي: كيف وأين ومتى ولِم وقع الحدث. ولكي ندرك ما نعني بذلك دعونا نقرأ القصة التالية بعنوان:

شرف اللصوص.

كان "مارتن" موضع ثقة في بلده "ملبورن".

وقد مارس المهنة لمدة خمس وعشرين عاماً ولم يزاول يوماً عملاً من الأعمالالشاقة ولذلك كان يشعر أنه ضرب رقم قياسياً في ذلك الصدد والآن وهو فيالثانية والخمسين من عمره كان قد اعتزل العمل أو كاد، وكان يقضي أغلب وقتهيتمتع بهوايته في الغرفة التي أعدها للتصوير الفوتوغرافي في شقته.

وكان ما يزال يقوم ببعض الأعمال، ولكن دون أن يرهق نفسه، فحسابه في البنكحساب ضخم. ولم يتجاوز عدد العمليات التي يقوم بها سنوياً ثلاث عمليات.

وفي بعض الأحيان كان من الممكن أن يكون رقيق القلب كما كان مثلاً مع "ساره بيرنكروفت".

كان قد قابلها في صالة فندق أوستريا بينما كان يشرب القهوة بعد الانتهاء من الغداء.

ولمدة نصف ساعة ظل يراقبها بصورة غير ملحوظة وبعد ذلك استدعاها الخادملترد على مكالمة تليفونية وغابت عن عينه فترة من الوقت ولمح الدموع فيعينيها حين عادت، وبينما كانت تجمع حاجياتها لتخرج من المكان اتجه هو إلىمائدتها وقدّم إليها نفسه في هدوء، وأعرب عن رغبته في مساعدتها.

وفي بادئ الأمر ابتسمت ابتسامة واهية وهي تهز رأسها ثم استمعت إليه وهويتكلم واستسلمت لكلماته المؤثرة، والتي كانت من أسباب نجاح "مارتن" فيمهنته. وسمحت له باصطحابها إلى مائدته وأفضت له بمشكلتها.

قالت أنها متزوجة برجل عمره ضعف عمرها وأنها تعلقت برجل غيره أثناء رحلةمن رحلات الزوج إلى انجلترا، ولكنها أدركت سريعاً مدى حماقتها وقطعتعلاقاتها بذلك الرجل ولكن من سوء الحظ أنها كتبت لذلك الرجل خطاباً. ولمتدرك إلاّ بعد ذلك بفترة خطورة هذا الخطاب وخطورة وقوعه في يد زوجها. ولكيتزيل القلق الذي استولى عليها اتصلت بالرجل تليفونياً، وطلبت منه إعادةالخطاب إليها .. وفي بادئ الأمر وافق الرجل على ذلك واتفقا على أن يتقابلافي فندق أوستريا ولكنه لم يحضر، وتكلم أخيراً في التليفون ليساومها بصراحةعلى الخطاب وحد مبلغ ألف جنيه ثمناً للخطاب نظراً لغنى زوجها.

وقال "مارتن" في رقة:

-
وهل لديك ألف جنيه؟

وهزت "سارة" رأسها.

-
ليس زوجي بالرجل الكريم، وأنا دائماً في حاجة إلى نقود، ولكني أستطيع أنأجمع ألف جنيه، فعندي بعض المجوهرات وأستطيع أن أبيعها دون أن يدري ولكن ...

وقال "مارتن" في عطف ...

-
ولكن ماذا؟

-
ولكني خائفة فقد يأخذ مني ستيوارت المبلغ دون أن يسلمني الجواب. الواقع إني فقدت الثقة فيه.

وقال "مارتن وهو يربت على يدها:

-
أنت تحتاجين يا عزيزتي إلى رجل يقوم بالمبادلة، وأنا على استعداد لتقديمخدماتي وأؤكد لك أن ستيوارت سيسلمني الخطاب وترددت سارة في بادئ الأمرولكن مارتن استمر في الإلحاح حتى وافقت أخيراً.

وبعد أن ترك "مارتن" سارة مر بصديق له يعمل في تزييف الأوراق الماليةواشترى منه بمبلغ عشرة جنيهات ألف ورقة مزيفة من فئة الجنيه. ولم يكنتزييفها دقيقاً ولكنها تخدم الغرض الذي يهدف إليه "مارتن" وفي الساعةالثامنة كانت "سارة" تنتظر في صالة فندق "ريدج"، وبعد أن تناولا مشروباًخفيفاً أعطته لفة صغيرة ملفوفة في ورق بني وأخرج ورقة وقلماً وبدأ يكتب ...

وقالت هي:

-
ماذا تكتب؟

-
صكاً أتعهد فيه أن أدفع لمسز "سارة برنكروفت" مبلغ ألف جنيه ... مقابل،مقابل ماذا؟ .. دعينا نقول .. مقابل بعض الخدمات، والآن هذا هو عنواني.

ورفضت سارة أن تأخذ العنوان ولكنه أسكتها بابتسامة وقام

-
أستأذن الآن فعلي أن أذهب لمقابلة صديقك، وميعادي معكِ هناك في العاشرة هذه الليلة.

وأمسك باللفة ثم خرج.

وفي شقته فتح اللفة ووجد فيها ألف جنيه أصيل أخذ منها عشرين جنيهاً، ثموضع بقية النقود الأصلية في خزانته. وأخرج من مكتبه النقود المزيفة وقسمهاإلى حزم وفوق وتحت كل حزمة وضع جنيهين أصيلين من العشرين جنيهاً.

وفي شقة "ستيوارت" لم يصادف "مارتن" أي عناء. وتطلع "ستيوارت" إلى النقودبرهة وجيزة فطالعته النقود الأصلية في أول وآخر كل حزمة ولم يلبث حتى أعطى "مارتن" الخطاب.

وعاد "مارتن" إلى شقته ولف بقية النقود الأصلية وقدرها 980 جنيهاً فيورقها وأخذها معه وهو متجه إلى ميعاد "سارة" في فندق "ريدج" في العاشرة.

وعندما رأى "سارة" سلّمها الخطاب في هدوء. وفحصت هي الخطاب وتنفست تنفساًعريضاً، ووضعته في حقيبتها. وابتسم هو وأعطاها بقية النقود وهو يقول:

-
إن خطابك لم يكلف إلاّ عشرين جنيهاً وها هي بقية نقودك. واستولت عليه الدهشة.

-
ولكن كيف، كيف استطعت أن تفعل ذلك؟

وأخبرها في تواضع عمّا حدث، وعندما انتهى استغرقت "سارة" في الضحك بينما أشرق وجه "مارتن" وقال:

-
إني أنصحك أن تحرقي الخطاب في الحال، ويمكنك أن تحرقيه في المدفأة في الغرفة المجاورة لنا.

وقامت سارة وأمسكت حقيبتها وخرجت قاصدة الغرفة المجاورة.

وجلس "مارتن" ينتظر رجوعها والسعادة تغمر قلبه، ولكن بدأ القلق يستوليعليه حين مضت عشر دقائق ولم تعد "سارة"، وذهب يبحث عنها وأخبره كاتبالاستعلامات أن السيدة رمت ورقة في النار، وانتظرت حتى احترقت ثم طلبتتاكسي وغادرت الفندق.

ومشى "مارتن" إلى بيته والأفكار تتزاحم في رأسه.

وفي صباح اليوم التالي زاره مندوب إحدى الشركات القانونية وأخبره المندوبأن عميلته مسز "بيرونكروفت" قد أدت لمارتن خدمات معينة لا ترغب فيتحديدها، وأن "مارتن" مدين لها بمبلغ ألف جنيه مقابل هذه الخدمات، وأبرزالصك الذي كتبه "مارتن" بخط يده. وأضاف المندوب أن عميلته ترغب في تحصيلالمبلغ في الحال، وإلا اضطرت إلى اتخاذ الإجراءات القانونية لتحقيق هذاالهدف.

وهز "مارتن" رأسه وأدرك أن لا مفر له من الدفع، وكتب شيكاً بالمبلغ المطلوب وتسلم الصك من المندوب.

وبعد أن خرج المندوب جلس "مارتن" ساهماً، لقد خدم الفتاة وحفظ لها نقودهاوماذا كان جزاؤه؟ سرقته، نعم سرقت منه مبلغ ألف جنيه إلى جانب العشرةالجنيهات التي دفعها ثمناً للنقود المزيفة. أليست المرأة مخلوقاً متقلباًلا يمكن الاعتماد عليه؟ أليس من الخبر دائماً أن يحترس الإنسان من المرأة؟

وقام "مارتن" إلى خزانته وفتحها وأخرج منها نسخة فوتوغرافية من خطاب "سارة"، نسخة كان قد صوّرها في الليلة الماضية عقب قراءة الخطاب.

وأمسك بالنسخة في يده، ستدفع "سارة" مبلغ الألف جنيه والعشر الجنيهات. ستدفع كل ذلك عن رضا ثمناً لهذه النسخة من الخطاب.

هذه القصة تصور حدثاً يمكن أن نلخصه فيما يلي:

أولاً: نتعرف على رجل يدعى "مارتن" وهو محتال يتعرف على سيدة تدعى "مسزبيرونكروفت" ويعلم أنها في مأزق لأن عشيقها يرفض أن يرد إليها خطاباً منخطاباتها إلاّ إذا دفعت له ألف جنيه وهي تخشى أن لا يرد إليها الخطاب حتىولو دفعت له هذا المبلغ المطلوب، وهذا هو الموقف أو بداية الحدث.

ثانياً: يتطوع "مارتن" بمساعدتها وفعلاً تعطيه "مسز بيرونكروفت" الألفجنيه ويكتب لها صكاً يتعهد فيه بأن يدفع لها مبلغ ألف جنيه مقابل بعضالخدمات. ويذهب "مارتن" فيحصل على ألف جنيه مزيفة ثم يرتبها مع عشرينجنيهاً أصلية بحيث يختفي تزييفها ويسلمها لعشيق مسز "بيرونكروفت" الذييسلمه بدوره الخطاب. وبعد ذلك يذهب "مارتن" لمقابلة "مسز بيرونكروفت" فيردإليها ما تبقى من نقودها وهو مبلغ 980 جنيهاً كما يرد إليها خطابها ويشرحلها ما حدث وتشكره مسز "بيرونكروفت" وتذهب لتحرق الخطاب ولكنها لا تعودويعلم "مارتن" أنها غادرت الفندق وهذا هو تطور الموقف أو وسط الحدث.

ثالثاً: في اليوم التالي يحضر وكيل "مسز بيرونكروفت" لمقابلة "مارتن" ويطالبه بأن يفي بالتعهد الذي أخذه على نفسه وهو أن يدفع لموكلته مبلغ ألفجنيه ويريه الصك الذي كتبه بيده. ويدفع "مارتن" المبلغ ثم نعلم أنه كان قدأخذ صورة لخطابها لعشيقها وأنها ستضطر طبعاً إلى أن تدفع مبلغ الألف جنيهحتى يعطيها صورة الخطاب - وهذه هي نهاية الحدث.

والحدث كما يبدو يتطور من نقطة إلى أخرى، أي أن كل جزء فيه يبدو وكأنهيؤدي إلى الجزء الذي يليه، فنحن نعلم أنه كنتيجة لمقابلة "مارتن" (لمسزبيرونكروفت) استرد الخطاب وأعاده إلى السيدة كما أعاد إليها نقودها كاملةتقريباً، وهذا عمل نبيل وخاصة إذا صدر عن محتال مثل "مارتن" ونحن نعلمأيضاً أنه كنتيجة لحصول (مسز بيرونكروفت) على خطابها استغلت الصك الذيكتبه "مارتن" وابتزت منه ألف جنيه، ولكن خطتها لم تنجح تماماً لأن مارتنيملك صورة من خطابها ويستطيع بهذه الصورة أن يستعيد نقوده.

نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي تبدو كما قلت متصلة ببعضها اتصالاً وثيقاً،فكل منها يبدو مترتباً على ما سبقه ومؤدياً إلى ما يليه، ومع ذلك فالحدثلا يقنعنا. وقد تكون كل هذه الأشياء التي ترويها القصة قد حدثت بالفعلولكنها مع ذلك لا تقنعنا، لأن الكاتب في روايته لها قد فشل في الإجابة علىسؤال مهم وهو، لما حدثت كل هذه الأشياء؟

"
فمارتن" محتال محترف له في مهنة الاحتيال خمس وعشرين عاماً وتسنح له فرصةذهبية للاستيلاء على ألف جنيه وخدمة السيدة في نفس الوقت، ومع ذلك لاينتهز هذه الفرصة، فهو يحتال على العشيق لا ليأخذ النقود لنفسه، بلليعيدها إلى السيدة ومعها الخطاب.

ونحن نعلم أن (مسز بيرونكروفت) سيدة متزوجة وأن زوجها غني وأنها مخلصة فيرغبتها في استرداد خطابها من عشيقها، وأنها سلّمت ألف جنيه لمارتن رغم أنهبالنسبة إليها رجل غريب تكاد لا تعرفه، وأنها لم تطلب منه صكاً أو إيصالاًبالمبلغ وإنما هو الذي تطوع بكتابة ذلك الصك، وكل هذا يدل على أنها أمينةأو على الأقل لا يدل على أنها محتالة، ولذلك فنحن نتساءل لماذا تحتال على "مارتن" وتطالبه بالألف جنيه التي تعهد بدفعها في الصك؟

ونحن نتساءل أيضاً لماذا أخذ "مارتن" صورة لخطاب (مسز بيرونكروفت) إلىعشيقها؟ ألكي يبتز أموالها في المستقبل؟ إن الكاتب يخبرنا أن "مارتن" سيستخدم صورة الخطاب في استرداد الألف جنيه التي دفعها فحسب، أي أنه لميكن ينوي في الأصل ابتزاز أموال السيدة. فلماذا أخذ صورة الخطاب إذن؟ وإذاكان يريد ابتزاز أموالها فلماذا أعاد إليها 980 جنيه مع أنه لم يكن بحاجةإلى أن يفعل ذلك؟ كل هذا أسئلة يفشل الكاتب في الإجابة عليها، بل أنه لايحاول الإجابة عليها على الإطلاق، ولذلك فرغم ما يبدو من ترابط بين أجزاءالحديث الذي تصوره هذه القصة فهي في الحقيقة غير مترابطة. لأننا لا نعلمالسبب في وقوعها بالكيفية التي وقعت بها القصة. ومن ثم فنحن لا نستطيع أننقول إن بداية الحدث تؤدي بالضرورة إلى الوسط وأن الوسط يؤدي بالضرورة إلىالنهاية.

أي أن الحدث الذي تصوره هذه القصة لا يمكن اعتباره حدثاً متكاملاً له وحدة.

فالحدث هو تصوير الشخصية وهي تعمل .. والكاتب في هذه القصة قد اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل، ولذلك جاء الحدث ناقصاً.

ولما كانت القصة - أية قصة - يجب أن تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، لذلكلا يمكن اعتبار هذه القصة قصة على الإطلاق، فهي في الواقع مجرد خبر منالممكن أن تنشره احدى الصحف في صفحة الحوادث بعنوان "محتال يساعد سيدةفيحتال عليه"، خبر ظريف يمكن أن تقرأه وتنساه، ويمكن أن تقرأه ثم تلخصهوترويه لأحد أصدقائك دون أن يفقد معناه. لأنه إنما يزودك بالمعلومات، بأنكذا وكذا قد حدث، تماماً كما تستطيع أن تلخص صفحة في كتاب من كتبالجغرافيا، فتقول مثلاً إن الأرض كروية وإن سرعة دورانها حول نفسها كذا،فهذه كلها أخبار قد تكون مترابطة بعضها مع البعض ترابطاً وثيقاً، ولكنهالا تعدو أن تكون مجرد أخبار، ولذلك يمكن أن تلخصها وتنقلها بوسيلة أو أخرىدون أن تفقد مدلولها. ولكن لا تستطيع أن تفعل الشيء مع القصة الجيدة، لاتستطيع أن تلخصها وترويها دون أن تفقد معناها، لأن القصة لا تعنى بنقلالخبر بل بتصوير حدث متكامل له وحدة، والحدث كما سبق أن قلت هو تصويرالشخصية وهي تعمل.

ولكن لأجل أن يتضح لنا هذا المفهوم سوف نقرأ القصة التالية "لجي دي موباسان" بعنوان (ضوء القمر) وذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
 

اخى العزيز العزيز (( زناتى ))

الموهبة بدون معرفة مبادئها ومصطلحاتها تعتبر ابداع فقط

ولكن حينما نعرف مصطلحاتهاوكل ما يتعلق بها ياتى الفن المبتكر الجديد الذى يمزج بين روح الموهبة والعلم الخاص بها

موضوع فى شدة الروعة والفائدة وانتظر الباقية الخاصة بالموضوع

تحياتى

 
بسم الله الرحمن الرحيم

أخي العزيز عماد

الموهبه ياعزيزي هي هبه من عند الله سبحانه وتعالي وإكتشافها يحتاج أيضا لموهبه

وتلك الموهبه إذا ما أصقلت بالعلم وصهرت بين يدي متمرس خبير وصلت لمرحلة الإبداع

أشكرك عزيزي علي إضافتك ومتابعتك
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

نظراً لأن القصة تحتوي على بعض الكلمات غير المناسبة وغير المقبولة في ديننا الحنيف، قمت باستبدال بعضها وحذف البعض الآخر. فالمقصود هنا هو توضيح الحدث الكامل وتصوير الشخصية وأرجو أن لا تفسروا طرحي لهذه القصة لأي هدف آخر والآن دعونا نستعرض القصة.

في ضوء القمر:

كان القس مارينيان لديه خبرة طويلة، وذا نفس متسامية (حسب ما يدعي طبعا). وكان طويلاً نحيلاً متعصباً إلى حد ما. ولكنه كان يعامل زملائه باحترام.

وكان أحياناً يتساءل وهو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل فيها "لماذا خلقنا الله" ويفكر جاهداً ويرضى عن نفسه في بعض الأحيان إذ يجد الجواب. ولم يكن القس "مارينيان" من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع "إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها مدارك الرجال" بل كان يقول "أنا علي أن أبذل جهدي في طاعة الله".

وخيّل إليه أن كل شيء في هذه الدنيا خلق بمنطق مطلق جدير بالاعجاب، وأن هناك دائماً توازناً بين الأشياء ومسبباتها، فالشروق يبعث البهجة في نفس الإنسان وهو يستيقظ، وبظهور الشمس تساعد على نضج المحاصيل، والأمطار لترويها، والأمسيات ليستعد للنوم والليل الحالك للنوم. والفصول الأربعة تتفق تماماً وحاجيات الزراعة. وكان من المستحيل أن يداخل الشك "مارينيان" في أن الكون لا هدف له.

ولكنه كان يكره النساء لأنه يعتقد بأن المرأة هي أغوت الإنسان (وهذا اعتقاد خاطئ طبعاً).

وكانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله وكان قد يريد أن يجعل منها راهبة. وكانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. وكثيراً ما كان يحدثها عن الله، وهو إلى جوارها في الحقول ونادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر إلى السماء والى العشب والى الزهور وعيناها تلتمعان بفرحة الحياة وكانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ثم تعود بها وهي تصيح "أنظر أنظر كم هي جميلة، بودي أن أقبلها".

وفي يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت "مارينيان" أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها عشيقاً.

وعانى مارينيان إحساساً مؤلماً. وقف مختنقاً والصابون يغطي وجهه وهو يحلق وعندما استعاد القدرة على الكلام صاح:

-
كذب كذب .... أنت تكذبين يا "مالينا".

ولكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها وقالت:

-
ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا مارينيان إنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك. وهما يتقابلان بجانب النهر. وما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل وستراها بعينيك.

وتوقف مارينيان عن حك ذقنه وبدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. وعندما حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاثة جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.

وظل طوال اليوم ساكناً وقد امتلأ غضباً وثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي لهذا شعر أن كرامته قد أهينت كمعلم. شعر أن طفلة قد خدعته وسخرت منه وسلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهما ابنتهما أنها قد اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما.

وبعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً ولكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة وازداد غضباً على غضب. وعندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه وهي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً لزيارة المرضى. وابتسم وهو يرقب العصا الغليظة وقد استقرت في قبضة يده القوية. وأدار العصا في الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة وهو يجز بأسنانه وانهال على كرسي فحطم ظهره.

وفتح باب بيته ليخرج ولكنه توقف عند بابه مبهوتا. كان بهاء القمر رائعاً، وأحس بما حوله وشعر فجأة أن جمال الليل الشاحب وبهاءه قد حرك قلبه. وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب تكسوها الخضرة ومن الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوة علقت كروح عطرة بالليل الدافئ الصحو.

وبدأ يتنفس تنفساً عميقاً. يحتسى الهواء كما يحتسي عاشق القهوة فنجانه. وسار ببطء مبهوراً حتى كاد ينسى ابنة أخته.

وعندما وصل إلى بقعة عالية وقف يرقب الوادي بأجمعه وقد امتد تحت بصره وبهاء القمر يحتضنه، وسحر الليل الهادئ الحنون يغرقه، ونقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة، والبلابل عن بعد أشجاها القمر فغرّدت.

واستمر مارينيان يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو كان التعب والإرهاق قد تسربا إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على مخلوقاته الجميلة.

وتحت بصره. حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار وفوق شطي النهر تكونت سحابة خفيفة بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة وبريقها.

وتوقف مارينيان من جديد وقد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد واستولى عليه شك وقلق وشعر أن سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور إذ ذاك في عقله.

ما سر هذا الكون، إذا كان الليل للنوم، للراحة، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، وأحلى من الغروب والشروق. وهذا الكوكب البطيء الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، والذي يضيء الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس .... هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال؟ ولم لا يأوي البلبل الصداح إلى النوم كغيره من الطيور ولم هذا الخمول الذي يغزو الجسد؟ ولم هذا الوشاح الذي ينسدل على الأرض، وهذا السحر الذي لا ينعم الإنسان إذ يأوي إلى فراشه في الليل؟ لمن خلق الله عز وجل هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ ولم يجد مارينيان لهذه الأسئلة التي ثارت في نفسه جواباً.

ولكن إذ ذاك في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.

وفجأة انتعشت الحياة في الأماكن المهجورة التي أحاطت بهما وبدا الشخصان وكأنهما كائن واحد. وقد اقتربا من مارينيان كإجابة حية على سؤاله.

وقف مارينيان مصعوقاً وقلبه ينبض بشدة. وقال لنفسه ربما خلق الله مثل الليلة مثلاً لحب الإنسان.

وتراجع بعيداً عنهما. وكانت فعلاً ابنة أخته. وكان مارينيان يتساءل الآن ... ألم يكن على وشك الخروج عن طاعة الله عز وجل؟

وهرب مارينيان مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان اجتاز هيكلاً لا حق له في اجتيازه.


لو أنك حاولت أن تلخص الخبر الذي ترويه هذه القصة لقلت إن قسيساً يدعى مارينيان سمع أن ابنة أخته على علاقة بأحد الشبان فخرج ليضبطهما وتربص لهما في الحقول. وبعد مدى رآهما قادمين في ضوء القمر فخجل من نفسه وعاد إلى بيته.

خبر في ذاته تافه لا معنى له ولا يشبه القصة أو يعادلها في كثير أو قليل ومع ذلك فهو نفس الخبر الذي تحويه القصة، نفس الخبر الذي يعني الشيء الكثير عندما تقرأ القصة بأكملها. والسبب واضح فالخبر في القصة لم يعزل ويجرد كما عزل وجرد في الملخص. فنحن نعلم من هو "مارينيان" وما هي مشاعره بالنسبة للخالق وما هي احساساته بالنسبة للنساء. ونحن نعلم أنه دائم السؤال عن مظاهر الخليقة وأنه دائماً يجد سبباً لكل ظاهرة من هذه المظاهر. ونحن نعلم كيف كانت مشاعره عندما رأى ضوء القمر يغمر الحقول، وأنه حاول جاهداً أن يجد سبباً لهذا الجمال الذي يغمر الكون في ضوء القمر، إذ كان يعتقد أن الله عز وجل لا يخلق شيئاً دون سبب، وأنه عندما رأى ابنه أخته مع زوجها قادمين اهتدى إلى السبب. وأحس كما لو كان على وشك أن يطأ هيكلا حرّم عليه دخوله فعاد إلى بيته ... نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي أشياء لا يمكن أن تنفصل عن الخبر الذي تنقله القصة لأنها السبب فيه ولذلك فإن الخبر بدونها لا معنى له بل ولا جود له ...

والواقع أن هذه القصة لا تعني بنقل خبر على الإطلاق وإنما تعنى بتصوير حدث متكامل له وحدة، ولذلك فأنت لا يمكنك أن تلخصها أو أن ترويها.

والحدث الذي تصوره قصة "موباسان" ينقسم ككل حدث متكامل إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: وهي البداية أو الموقف وتتكون من خطوط ثلاثة:

الخط الأول: ويصور مارينيان رجل ذو نفس متسامية يعتقد أن كل شيء خلقه الله لا بد وأن يكون له سبب، وهو يدرك هذه الأسباب ويفهمها جيداً.

الخط الثاني: ويصور كراهية مارينيان للنساء، لسحرهن الفتاك ولاغوائهن، ونحن لا نعلم أكثر من ذلك عن مارينيان. ولكننا نعلم ما يفي بالغرض.

أما الخط الثالث: فيصور إبنة أخت مارينيان التي أراد لها أن تكون راهبة ولكن قلبها مفعم بالرغبة في الحياة ولا نعلم أكثر من ذلك عنها ولكن ما نعلمه يفي بالغرض.

هذه الخطوط الثلاثة تمثل عوامل الحدث. وهي تسير متوازية ما دامت لم تتعد مرحلة البداية أو الموقف، ولكنها لا يمكن أن تظل متوازية إلى الأبد. فالقس مارينيان كتشف أن ابنة أخته على علاقة بأحد الشبان وأنها تخرج للقائه كل مساء، وهنا تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة الوسط أو التشابك. فنلاحظ أن الخط الثاني، وهو الذي يصور كراهية مارينيان للنساء والحب، يبدأ يتشابك مع الخط الثالث، وهو الذي يصور رغبة مارينيان في أن تكون ابنة اخته راهبة، لذلك نجه يثور ويمسك بعصاه ويهشم بها الكرسي ثم يصمم على الخروج ليضع حداً لهذا الغرام.

ولكنه ما يكاد يفتح الباب ليخرج حتى يقف على العتبة وقد راعه بهاء القمر، ولما كان ذا نفس متسامية فقد أحس فجأة بالحنان يملأ قلبه والرقة تغمر نفسه، فوقف مبهوتاً يتأمل جمال الليل الهادئ الشاحب وعند هذه النقطة يبدأ الخط الأول وهو الذي يصور تدين مارينيان ونفسه المتسامية في التشابك مع الخطين الثاني والثالث. ويتجول مارينيان بين الحقول، ويزداد تأمله لجمال الليل في ضوء القمر ويزداد قلبه امتلاءً بالخشوع وتزداد نفسه امعاناً في الرقة. ويتساءل كعادته عندما لا يفهم أمراً من أمور الله. عن السر في وجود هذا الجمال، ما دام الليل قد جعل للنوم. ويحتار وتشتد حيرته وعند ذاك يظهر على بعد ظلان يسيران جنباً إلى جنب، تحت الأشجار المتعانقة.

وفجأة خيّل إلى مارينيان أن الحياة قد انتعشت في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما. واقتربا من مارينيان كاجابة حية على سؤاله. وتراجع بعيداً عنهما وكانت فعلاً ابنة اخته وراح مارينيان يتساءل "ألم يكن على وشك الخروج على طاعة الله"؟ وهرب مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز شيئاً لا يحق له اجتيازه وهذه هي المرحلة الثالثة أو نهاية الحدث .. وهي كما ترى ليست شيئاً مفروضاً على الحدث من الخارج بل هي النتيجة المحتومة لجميع عوامل الحدث كما عرفناها في مرحلة البداية. مارينيان ونفسه المتسامية واعتقاده الراسخ أن كل شيء خلقه الله لا بد وأن يكون له سبباً. وأيضاً كرهه للنساء، ثم ابنة اخته اليافعة ذات القلب المليء بالرغبة في الحياة، كل هذه العوامل قد تشابكت وتفاعلت بعضها مع البعض إلى أن انتهت إلى نقطة واحدة، تكامل بها الحدث وتحققت وحدته.

وكل هذه العوامل، كما هو واضح تتضمن الفعل والفاعل أو الشخصية وهي تعمل. ولذلك كانت قصة موباسان قصة بالمعنى الحقيقي، لأنها تصور حدثاً متكاملاً له وحدة. فلأجل أن تتحقق للحدث وحدته يجب ألا يقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لأن الفعل والفاعل أو الحدث والشخصية شيء واحد لا يمكن تجزئته فإن اقتصر تصويرنا على الفعل وحده لما استطعنا أن نصور الحدث كاملاً، بل لما استطعنا أن نصور الحدث على الإطلاق، إذ يجيء ما نكتب خبراً، وإن كنا نريد له أن يكون قصة ... .

أعيد وأكرر بأن الهدف من هذه القصة هو بيان تصوير الحدث المتكامل وحاولت قدر المستطاع حذف ما يمكنني حذفه وتغيير بعض المسميّات بقدر لا يؤثر على سير تصوير الحدث.

وفي الحلقة الثالثة سوف نتكلم عن أحد عناصر بناء القصة وهو (المعنى).
 
نكمل معكم موضوعنا وهو فن كتابة القصة القصيرة

الحلقة الثالثة عن بناء القصة:

ج - المعنى

رأينا أن تطور الحوادث بالضرورة من موقف إلى وسط إلى نهاية لا يكفي لتصوير الحدث إذ أن الحدث هو تصوير الشخصية وهي تعمل.

ولكن تصوير الشخصية وهي تعمل لا يكفي بدوره لاكتمال الحدث فالحدث المتكامل هو تصوير الشخصية وهي تعمل عملاً له معنى. وليس هذا المعنى شيئاً مستقلاً عن الحدث يمكن أن نضيفه إليه أو أن نفصله عنه فنقول مثلاً أن هذه القصة تعالج مشكلة الفقر... أو تثبت أن الفضيلة أقوى من الرذيلة، فكل قصة تعالج ما تعالج فقط، وتعني ما تعني فقط في نطاق الحدث المعين الذي تصوره وليس خارج هذا النطاق، ولذلك فكل حدث له معناه المعين الذي يميزه عن غيره من الأحداث. وهذا المعنى ينشأ من الحدث نفسه فهو جزء لا يتجزأ منه.

وبدون المعنى لا يمكن أن يتحقق للحدث الاكتمال لأن أركان الحدث الثلاثة وهي الفعل والفاعل والمعنى وحدة لا يمكن تجزئتها. فليس للفعل والفاعل قيمة إن لم يكشفا عن معنى.

وقد يرسم الكاتب شخصيات قصته رسماً رائعاً دقيقاً. كما قد يبدع في تصوير ما تقوم به من أفعال ومع ذلك تظل قصته ناقصة لأن الحدث لم يكتمل. إذ لا وجود لحدث لا غرض له وبالتالي فلا وجود لحدث لا معنى له. والكثير من القصص التي تصوّر الحوادث والأشخاص دون الإفصاح عن معنى معين لها، متعللة في ذلك بمذهب الواقعية ليست من الواقعية في شيء، لأن الواقعية هي تصوير الحدث كاملا، وذلك يتضمن - كما قلت - الإفصاح عن معنى الحدث. ومثل هذه القصص الخالية من المعنى هي في الحقيقة أقرب إلى التاريخ منها إلى الأدب ولذلك فنحن نسميها قصصاً (تسجيلية) لأنها تكتفي بتسجيل الحوادث تماماً كما تفعل كتب التاريخ، ومهما كان ذلك التسجيل أميناً أو متقناً فإنه لا يكفي وحده لأن يجعل منها قصصاً بالمعنى الصحيح، لأن كاتب القصة غير كاتب التاريخ، لا يصوّر الحدث من أجل الحدث نفسه، بل لأن هذا الحدث يعني بالنسبة له شيئاً معيناً.

فالمعنى بالنسبة لكاتب القصة ركن من أركان الحدث وجزء لا ينفصل عنه. ولذلك فإن الفعل والفاعل، أو الحوادث والشخصيات، يجب أن تقوم على خدمة المعنى من أول القصة إلى آخرها، فإن لم تفعل ذلك، كان المعنى دخيلاً على الحدث، وكانت القصة بالتالي مختلة البناء.

أحب أن أذكر لكم بأنه في نهاية القصة كلام غير صحيح في اعتقادنا والذي يقول فيه الراوي بأن طبيعة البشر غريبة. هذا للتنويه من قبل حسن خليل (مشرف القصص والروايات).

أذكر قصة "لسمر ست موم" بعنوان الزوجين السعيدين تقع في حوالي ثلاثين صفحة، يبدأها الكاتب برسم شخصية قاض إنجليزي في الخمسين من عمره اسمه Landon وهو يستغرق في رسم هذه الشخصية صفحات طوال حتى ليخيل إلينا أن القاضي Landon هو بطل القصة، ومن ثم نتوقع أن تبنى حوادث القصة على هذه الشخصية التي رسمها الكاتب بإسهاب، ولكن ذلك لا يحدث. فبعد قليل ينتقل الكاتب إلى شخصية أخرى لسيدة تدعى "مس جراى" في الأربعين من عمرها وما زالت على شيء من الجمال، يتعرف بها الكاتب في "الريفيرا" حيث يقضي الصيف. ويرسم الكاتب شخصية "مس جراى" هي الأخرى بإسهاب ودقة حتى يخيل إلينا أنها بطلة القصة أو أن القصة ستتطور بعد ذلك بحيث تلعب فيها شخصية "مس جراى" بعاداتها وأخلاقها وجمالها دوراً فعّالاً، ولكن ذلك لا يحدث، ففي المرحلة التالية للقصة يحضر القاضي "لاندن" إلى "الريفيرا" هو الآخر وينزل ضيفاً على الكاتب، ويتعرف بطبيعة الحال على "مس جراى" والقاضي أعرب "ومس جراى" بدورها لم يسبق لها الزواج، ويعجب بها القاضي إعجاباً شديداً، ويسهب الكاتب في وصف هذا الإعجاب حتى يخيل إلينا أن علاقة ما ستنشأ بين "لاندن" "ومس جراى" نتيجة لذلك الإعجاب، ولكن ذلك لا يحدث. ففي المرحلة التالية للقصة نتعرف على شخصين جديدين هما "مستر ومسز كريج" وكلاهما متقدم في العمر، ولكنهما يحبان بعضهما حباً شديداً أشبه بحب الشبان المراهقين. ولهما طفل ما زال رضيعاً، وهما لا يتزاوران مع الناس، وكل ذلك يثير فضول "مس جراى" فتدعوهما للغداء وتدعو القاضي "لاندن" والكاتب طبعاً وعندما يقابلهما القاضي يبدو عليه أنه يعرفهما، وفي أثناء الغداء يقع "مستر كريج" مغشياً عليه، ويحملونه إلى منزله وفي صباح اليوم التالي تخبره "مس جراى" الكاتب والقاضي أن "مستر ومسز كريج" قد اختفيا، رحلا أثناء الليل فجأة دون أن يعلما أحد بمقصدهما، ويثير ذلك تكهنات الكاتب ويلح على القاضي فيخبره بقصتهما. وهي تتلخص في أن "مسز كريج" كانت تعمل منذ سنوات كمديرة بيت لسيدة غنية عجوز، وفجأة ماتت هذه السيدة وتركت كل ما تملك "لمسز كريج" ودهش أهل السيد: العجوز واشتكوا، ولكن الوصية كانت صحيحة سليمة لا غبار عليها، غير أنه كانت في خدمة السيدة العجوز فتاة قروية أخذت تثير الشكوك حول موت سيدتها إلى أن أنصت إليها البوليس وأعاد الكشف على الجثة. وأثبت الكشف الطبي أن السيدة ماتت بنتيجة لجرعة مضاعفة من دواء معين للقلب. وهنا يلقي القبض على "مستر كريج" الذي كان في ذلك الوقت الطبيب الخاص للسيدة العجوز، ويسفر التحقيق عن وجود علاقة بين الطبيب "كريج" والسيدة مدبرة البيت، أي مسز كريج فيما بعد، ويقدما للمحاكمة.

ويستمر القاضي "لاندن" في سرد قصته فيقول:

"
كنت واثقاً كل الثقة من أن المحلفين سيدينون الطبيب والسيدة ولكني أدركت أني كنت مخطئاً عندما رأيت المحلفين يدخلون قاعة المحكمة بعد المداولة، فقد قضوا بالبراءة، أما أنا فكنت أعتقد وما زلت أن الطبيب ومدبرة البيت قد قتلا السيدة العجوز".

ويسأله الكاتب أو راوي القصة "ولكن ما الذي دعا المحلفين إلى تبرئتهما؟" يجيب القاضي "لقد سألت نفسي نفس السؤال فهل تعرف التفسير الوحيد لحكم المحلفين بالبراءة؟ إن الكشف الطبي قد أثبت أن مدبرة البيت كانت عذراء وبذلك لم يثبت أنها كانت عشيقة للطبيب".

وكانت عذرية السيدة هي أغرب معالم القضية، فهذه المرأة التي رضيت أن ترتكب جريمة قبل لتنال الرجل الذي تحبه، لم ترض أن تقوم بينها وبينه علاقة غير شرعية.

ويعلق الراوي بقوله "إن الطبيعة البشرية غريبة، أليس كذلك؟" ويقول "لاندن" "غريبة جداً في الواقع" ويحتسي ما تبقى في كوبه من القهوة. وهذه هي نهاية القصة.

وبما أن الحدث يكتمل في المرحلة الثالثة من مراحل بناء القصة وهي مرحلة النهاية فإن معنى الحدث يتضح بطبيعة الحال في هذه المرحلة، أي عندما تنتهي خيوط الحدث التي أبان عنها الكاتب في المرحلة الأولى وهي مرحلة الموقف عند نقطة نهائية، وهي ما نسميها (بنقطة التنوير) والنقطة التي تنتهي إليها قصة "موم" هذه هي أن الطبيعة البشرية غريبة. لأن مدبرة البيت رضيت أن تقتل لتنال الرجل الذي لم تحبه ولم ترض رغم ذلك أن تقوم بينه وبينها علاقة غير شرعية. هذا هو المعنى الذي يريد الكاتب أن يفصح عنه. ونحن لا نناقش هذا المعنى. وإنما الذي نناقشه أن الأحداث والشخصيات التي صوّرها الكاتب في قصته لا تخدم هذا المعنى. فلم يكن هناك ما يدعو إلى وصف القاضي "لاندن" بكل هذا الإسهاب، ولم يكن هناك مثلاً ما يدعو إلى أن يكون أعزباً في الخمسين من عمره، محافظاً متزمتاً، إذ أن أي قاض مهما كان عمره ومهما كانت أخلاقه، كان من الممكن أن يحضر مثل هذه المحاكمة ويري قصة "مستر ومسز كريج". ولم يكن هناك ما يدعو أيضاً إلى وصف "مس جراى" بالجمال، وإلى القول بأنه لم يسبق لها الزواج وأنها في الأربعين من عمرها فأية امرأة كانت تستطيع أن تحل محلها، أي أن أية امرأة كانت تستطيع أن تدعو "مستر ومسز كريج" إلى مأدبة غداء ليراهما القاضي "لاندن" ويروي قصتهما، ولم يكن هناك أيضاً ما يدعو إلى أن يقوم بين القاضي وبين "مس جراى" إعجاب شديد يقرب من المحبة لأن هذا لا علاقة له بقصة "مستر ومسز كريج".

فكل هذه الدلائل في الواقع تجعلنا نتوقع أشياء معينة لا يتحقق حدوثها في القصة، بل تحدث بدلاً منها أشياء أخرى لا علاقة لها بما مهد الكاتب له وما توقعنا نحن القراء حدوثه. وذلك لأن الكاتب يعتمد في تحقيق المعنى على إثارة الدهشة في القارئ، وهو في ذلك مخطئ لأنه بهذا يجرد قصته من الشكل. فالشكل في العمل الفني لا يعتمد على إثارة أمور لا تتحقق، بل على إثارة الرغبة ثم إشباعها.

ويتضح اختلال البناء في قصة "موم" إذا تأملت الخيوط التي رسمها المؤلف في بداية القصة. فإن هذه الخيوط تظل إلى النهاية خيوطاً متفرقة لا تتجمع في نقطة واحدة، في حين أننا نجد أن النقطة التي ينهي بها الكاتب قصته لا علاقة لها بالشخصيات والأحداث التي صوّرها في القصة، أي بالخيوط التي رسمها. ومعنى ذلك أن نقطة التنوير وهي النقطة التي تكتمل بها معنى الحدث، لم تأت في هذه القصة كنتيجة محتومة لما سبقها.

وبذلك نستطيع أن نقول أن هذه القصة تصوّر حدثاً لا معنى له، لأن الحوادث التي رواها الكاتب والشخصيات التي رسمها لا تؤدي إلى المعنى الذي أنهى به الكاتب قصته، فهذا المعنى لم يأت كنتيجة لاكتمال الحدث، بل هو دخيل على الحدث مفروض عليه من الخارج. وبناءً عليه نستطيع أن نقول أن هذه القصة مختلة البناء لأنها لا تصوّر حدثاً له بداية ووسط ونهاية.

ومعنى القصة لا يقوم أو يتضح في جزء من أجزائها دون الأجزاء الأخرى وإلاّ كان هذا المعنى دخيلاً على الحدث كما رأينا في قصة "موم" لأن أركان الحدث الثلاثة وهي الحوادث والشخصيات والمعنى وحدة لا تتجزأ، يساند كل منها الآخر ويقوم على خدمته. ولذلك فالمعنى ينبغي أن يوجد في جميع مراحل القصة من بداية الحدث إلى نهايته.

ولكي ندرك ما نعني بذلك دعونا نقرأ القصة التالية للكاتبة الإنجليزية "كاترين مانسفيلد" بعنوان "سعادة".. والتي سأطرحها خلال أيام إن شاء الله.

آملاً أن تكونوا قد استفدتم من هذا الجهد المتواضع.
 

أحدث المواضيع

أعلى