ألف ليله وليله ...... حدوته قبل النوم ......!!



في الليلة الثانية والثلاثين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال للدلال اقبض الألف درهم وسمع الدلال ذلك عرف أن قضيته مشكلة فتوجه بالعقد إلى كبير السوق وأعطاه إياه فأخذه وتوجه به إلى الوالي وقال له: إن هذا العقد سرق من عندي ووجدنا الحرامي لابساً لباس أولاد التجار فلم أشعر إلا والظلمة قد أحاطوا بي وأخذوني وذهبوا بي إلى الوالي فسألني الوالي عن ذلك العقد فقلت له ما قلته للدلال فضحك الوالي وقال: ما هذا كلام الحق فلم أدر إلا وحواشيه جردوني من ثيابي وضربوني بالمقارع على جميع بدني فأحرقني الضرب فقلت: أنا سرقته ولا أقول إن صاحبته مقتولة عندي فيقتلوني فيها، فلما قلت أني سرقته قطعوا يدي وقلوها في الزيت فغشي علي فسقوني الشراب حتى أفقت فأخذت يدي وجئت إلى القاعة فقال صاحب القاعة حيثما جرى لك هذا فادخل القاعة وانظر لك موضعاً آخر لأنك متهم بالحرام فقلت له: يا سيدي اصبر علي يومين أو ثلاثة حتى أنظر لي موضعاً، قال: نعم ومضى وتركني.

فبقيت قاعد أبكي وأقول: كيف أرجع إلى أهلي وأنا مقطوع اليد والذي قطع يدي لم يعلم أني بريء فلعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، وصرت أبكي بكاء شديداً فلما مضى صاحب القاعة عني لحقني غم شديد فتشوشت يومين وفي اليوم الثالث ما أدري غلا وصاحب القاعة جاءني ومعه بعض الظلمة وكبير السوق وادعى علي أني سرقت العقد فخرجت لهم وقلت: ما الخبر؟

فلم يمهلوني بل كتفوني ووضعوا في رقبتي جنزيراً وقالوا لي: إن العقد الذي كان معك طلع لصاحب دمشق ووزيرها وحاكمها وقالوا: إن هذا العقد قد ضاع من بيت الصاحب من مدة ثلاث سنين ومعه ابنته فلما سمعت هذا الكلام منهم ارتعدت مفاصلي وقلت في نفسي إنهم سيقتلونني ولا محالة، والله لا بد أنني أحكي للصاحب حكايتي فإن شاء قتلني وإن شاء عفى عني، فلما وصلنا إلى الصاحب أوقفني بين يديه فلما رآني قال: أهذا هو الذي سرق العقد ونزل به ليبيعه؟ إنكم قطعتم يده ظلماً ثم أمر بسجن كبير السوق وقال له: أعط هذا دية يده وإلا أشنقك وآخذ جميع مالك، ثم صاح على أتباعه فأخذوه وجردوه وبقيت أنا والصاحب وحدنا بعد أن فكوا الغل من عنقي بإذنه وحلوا وثاقي ثم نظر إلي الصاحب وقال: يا ولدي حدثني واصدقني كيف وصل إليك هذا العقد؟ فقلت: يا مولاي إني أقول لك الحق، ثم حدثته بجميع ما جرى لي مع الصبية الأولى وكيف جاءتني بالثانية وكيف ذبحتها من الغيرة وذكرت له الحديث بتمامه.

فلما سمع كلامي هز رأسه وحط منديله على وجهه وبكى ساعة ثم أقبل علي وقال لي: اعلم يا ولدي أن الصبية ابنتي وكنت أحجز عليها فلما بلغت أرسلتها إلى ابن عمها بمصر فجاءتني وقد تعلمت العهر من أولاد مصر وجاءتك أربع مرات، ثم جاءتك بأختها الصغيرة والاثنتان شقيقتان وكانتا محبتين لبعضهما فلما جرى للكبيرة ما جرى أخرجت سرها على أختها فطلبت مني الذهاب معها ثم رجعت وحدها فسألتها عنها فوجدتها تبكي عليها وقالت: لا اعلم لها خبر ثم قالت لأمها سراً جميع ما جرى من ذبحها أختها فأخبرتني أمها سراً ولم تزل تبكي وتقول: والله لا أزال أبكي عليها حتى أموت وكلامك يا ولدي صحيح فإني أعلم بذلك قبل أن تخبرني به فانظر أن أزوجك ابنتي الصغيرة فإنها ليست شقيقة لهما وهي بكر ولا آخذ منك مهراً فأجعل لكما راتباً من عندي وتبقى عندي بمنزلة ولدي فقلت له: الأمر كما تريد يا سيدي ومن أين لي أن أصل إلى هذا فأرسل الصاحب في الحال من عنده بريد وأتاني بمالي الذي خلفه والدي والذي أنا اليوم في أرغد عيش.

فتعجبت منه وأقمت عنده ثلاثة أيام وأعطاني مالاً كثيراً، وسافرت من عنده فوصلت إلى بلدكم هذه فطابت لي المعيشة وجرى لي مع الأحدب ما جرى، فقال ملك الصين: ما هذا بأعجب من حديث الأحدب ولا بد لي من شنقكم جميعاً وخصوصاً الخياط الذي هو رأس كل خطيئة قال: يا خياط إن حدثتني بشيء أعجب من حديث الأحدب وهبت لكم أرواحكم.

 
حكاية مزين بغداد

فعند ذلك تقدم الخياط وقال: اعلم يا ملك الزمان أن الذي جرى لي أعجب مما جرى للجميع لأني كنت قبل أن أجتمع بالأحدب أول النهار في وليمة بعض أصحاب أرباب الصنائع من خياطين وبزازين ونجارين وغير ذلك، فلما طلعت الشمس حضر الطعام لنأكل، وإذا بصاحب الدار قد دخل علينا ومعه شاب وهو أحسن ما يكون من الجمال غير أنه أعرج فدخل علينا وسلم فقمنا، فلما أراد الجلوس رأى فينا إنساناً مزيناً فامتنع عن الجلوس وأراد أن يخرج من عندنا فمنعناه نحن وصاحب المنزل وشددنا عليه وحلف عليه صاحب المنزل وقال له: ما سبب دخولك وخروجك؟ فاقل: بالله يا مولاي لا تتعرض لي بشيء فإن سبب خروجي هذا المزين الذي هو قاعد.

فلما سمع منه صاحب الدعوة هذا الكلام تعجب غاية العجب وقال: كيف يكون هذا الشاب من بغداد وتشوش خاطره من هذا المزين ثم التفتنا إليه وقلنا له: إحك لنا ما سبب غيظك من هذا المزين فقال الشاب: يا جماعة إنه جرى لي مع هذا المزين أمر عجيب في بغداد بلدي وكان هو سبب عرجي وكسر رجلي وحلفت أني ما بقيت قاعداً في مكان ولا أسكن في بلد هو ساكن بها وقد سافرت من بغداد ورحلت منها وسكنت في هذه المدينة وأنا الليلة لا أبيت إلا مسافر فقلنا: بالله عليك أن تحكي لنا حكايتك معه فاصفر لون المزين حين سألنا الشاب، ثم قال الشاب: اعلموا يا جماعة الخير أن والدي من أكابر تجار بغداد ولم يرزقها لله تعالى بولد غيري.

فلما كبرت وبلغت مبلغ الرجال توفي والدي إلى رحمة الله تعالى وخلف لي مالاً وخدماً وحشماً فصرت ألبس الملابس وآكل أحسن المآكل، وكان الله سبحانه وتعالى بغضني في النساء إلى أن كنت ماشياً يوماً من الأيام في أزقة بغداد وإذا بجماعة تعرضوا لي في الطريق فهربت ودخلت زقاقاً لا ينفذ وارتكنت في آخره على مصطبة فلم أقعد غير ساعة وإذا بطاقة قبالة المكان الذي أنا فيه فتحت وطلت منها صبية كالبدر في تمامه لم أر في عمري مثلها ولها زرع تسقيه وذلك الزرع تحت الطاقة فالتفتت يميناً وشملاً ثم قفلت الطاقة وغابت عن عيني.

فانطلقت في قلبي النار واشتغل خاطري بهما وانقلب بغضي للنساء محبة فما زلت جالساً في المكان إلى المغرب وأنا غائب عن الدنيا من شدة الغرام وإذا بقاضي المدينة راكب وقدامه عبيد ووراءه خدم فنزل ودخل البيت الذي طلت منه تلك الصبية فعرفت أنه أبوها، ثم إني جئت منزلي وأنا مكروب ووقعت على الفراش مهموماً فدخلن علي جواري وقعدن حولي ولم يعرفن ما بي وأنا لم أبد لهن أمراً ولم أرد لخطابهن جواباً، وعظم مرضي فصارت الناس تعودني فدخلت علي عجوز فلما رأتني لم يخف عليها حالي، فقعدت عند رأسي ولاطفتني وقالت لي: قل لي خبرك؟ فحكيت لها حكايتي وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
في الليلة الثالثة والثلاثين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما حكى للعجوز حكايته قالت له: يا ولدي إن هذه بنت قاضي بغداد وعليها الحجر والموضع الذي رأيتها فيه هو طبقتها وأبوها له هالة في أسفل وهي وحدها وأنا كثيراً ما أدخل عندهم ولا تعرف وصالها إلا مني فشد حيلك فتجلدت وقويت نفسي حين سمعت حديثها وفرح أهلي في ذلك اليوم وأصبحت متماسك الأعضاء مرتجياً تمام الصحة، ثم مضت العجوز ورجعت ووجهها متغيراً فقالت: يا ولدي لا تسأل عما جرى منها، لما قلت لها ذلك فإنها قالت لي: إن لم تسكتي يا عجوز النحس عن هذا الكلام لأفعلن بك ما تستحقينه ولا بد أن أرجع إليها ثاني مرة. فلما سمعت ذلك منها ازددت مرضاً على مرضي، فلما كان بعد أيام أتت العجوز وقالت: يا ولدي أريد منك البشارة.

فلما سمعت ذلك منها ردت روحي إلى جسمي وقلت لها: لك عندي كل خير فقالت: إني ذهبت بالأمس إلى تلك الصبية، فلما نظرتني وأنا منكسرة الخاطر باكية العين قالت: يا خالتي أراك ضيقة الصدر، فلما قالت لي ذلك بكيت وقلت لها: يا ابنتي وسيدتي إني أتيتك بالأمس من عند فتى يهواك وهو مشرف على الموت من أجلك فقالت لي وقد رق قلبها: ومن يكون هذا الفتى الذي تذكرينه؟ قلت: هو ولدي وثمرة فؤادي ورآك من الطاقة من أيام مضت وأنت تسقين زرعك ورأى وجهك فهام بك عشقاً وأنا أول مرة أعلمته بما جرى لي معك فزاد مرضه ولزم الوساد وما هو إلا ميت ولا محالة، فقالت وقد اصفر لونها: هل هذا كله من أجلي؟ قلت: إي والله فماذا تأمرين؟ قالت: أمضي إليه وأقرئيه مني السلام وأخبريه أن عندي أضعاف ما عنده فإذا كان يوم الجمعة قبل الصلاة يجيء إلى الدار وأنا أقول افتحوا له الباب وأطلعه عندي وأجتمع أنا وإياه ساعة ويرجع قبل مجيء والدي من الصلاة.

فلما سمعت كلام العجوز زال ما كنت أجده من الألم واستراح قلبي ودفعت إليها ما كان علي من الثياب وانصرفت وقالت لي: طيب قلبك فقلت لها: لم يبق في شيء من الألم وتباشر أهل بيتي وأصحابي بعافيتي، ولم أزل كذلك إلى يوم الجمعة وإذ بعجوز دخلت علي وسألتني عن حالي فأخبرتها أني بخير وعافية ثم لبست ثيابي وتعطرت ومكثت أنظر الناس يذهبون إلى الصلاة حتى أمضي إليها فقالت لي العجوز: إن معك الوقت اتساعاً زائداً فلو مضيت إلى الحمام وأزلت شعرك لا سيما من أثر المرض لكان في ذلك صلاحك، فقلت لها: إن هذا هو الرأي الصواب لكن أحلق رأسي أولاً، ثم أدخل الحمام فأرسلت إلى المزن ليحلق لي رأسي وقلت للغلام: امض إلى السوق وائتني بمزين يكون عاقلاً قليل الفضول لا يصدع رأسي بكثرة كلامه فمضى الغلام وأتى بهذا الشيخ فلما دخل سلم علي فرددت: عليك السلام فقال: أذهب الله غمك وهمك والبؤس والأحزان عنك.

فقلت له: تقبل الله منك، فقال: أبشر يا سيدي فقد جاءتك العافية أتريد تقصير شعرك أو إخراج دم فإنه ورد عن ابن عباس أنه قال: من قصر شعره يوم الجمعة صرف الله عنه سبعين داء وروي أيضاً أنه قال: من أحتجم يوم الجمعة، فإنه يأمن ذهاب البصر وكثرة المرض.

فقلت له: دع عنك هذا الهذيان وقم في هذه الساعة احلق لي رأسي، فإني رجل ضعيف فقام ومد يده وأخرج منديلاً وفتحه، وإذا فيه اصطرلاب وهو سبع صفائح فأخذه ومضى إلى وسط الدار ورفع رأسه إلى شعاع الشمس ونظر ملياً وقال لي: اعلم أنه مضى من يومنا هذا وهو يوم الجمعة، وهو عاشر صفر سنة ثلاث وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وطالعه بمقتضى ما أوجبه علم الحساب المريخ سبع درج وستة دقائق واتفق أنه يدل على أن حلق الشعر جيد جداً، ودل عندي على أنك تريد الإقبال على شخص وهو مسعود لكن بعده كلام يقع وشيء لا أذكره لك فقلت له وقد أضجرتني وأزهقت روحي وفولت علي، وأنا ما طلبتك إلا لتحلق رأسي ولا تطل علي الكلام فقال: والله لو علمت حقيقة الأمر لطلبت مني زيادة البيان وأنا أشير عليك أنك تعمل اليوم بالذي أمرك به، بمقتضى حساب الكواكب وكان سبيلك أن تحمد الله ولا تخافني، فإني ناصح لك وشفيق عليك وأود أن أكون في خدمتك سنة كاملة وتقوم بحقي ولا أريد منك أجرة على ذلك فلما سمعت ذلك منه قلت له: إنك قاتلي في هذا اليوم، ولا محالة وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الرابعة والثلاثين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال له: إنك قاتلي في هذا اليوم فقال: يا سيدي أنا الذي تسميني الناس الصامت لقلة كلامي دون إخوتي لأن أخي الكبير اسمه البقبوق والثاني الهدار والثالث بقبق والرابع اسمه الكوز الأصوني والخامس اسمعها العشار والسادس اسمه شقالق والسابع اسمه الصامت وهو أنا فلما زاد علي هذا المزين بالكلام رأيت أن مرارتي انفطرت، وقلت للغلام: أعطه ربع دينار وخله ينصرف عني لوجه الله، فلا حاجة إلى حلاقة رأسي، فقال المزين حين سمع كلامي مع الغلام: يا مولاي، ما أظنك تعرف بمنزلتي فإن يدي تقع رأس الملوك والأمراء والوزراء والحكماء والفضلاء، وفي مثلي قال الشاعر:

جميع الصنائع مثل العقود ......وهذا المزين در السلـوك
فيعلو على كل ذي حكـمة ......وتحت يديه رؤوس الملوك

فقلت: دع ما لا يعنيك فقد ضيقت صدري وأشلت خاطري فقال: أظنك مستعجلاً؟ فقلت له: نعم فقال: تمهل على نفسك، فإن العجلة من الشيطان وهي تورث الندامة والحرمان وقد قال عليه الصلاة والسلام: خير الأمور ما كان فيه تأن وأنا والله رأبني أمرك فأشتهي أن تعرفني ما الذي أنت مستعجل من أجله ولعله خير فإني أخشى أن يكون شيئاً غير ذلك وقد بقي من الوقت ثلاث ساعات ثم غضب ورمى الموس من يده وأخذ الاصطرلاب ومضى إلى الشمس ووقف حصة مديدة وعاد وقال: قد بقي لوقت الصلاة ثلاث ساعات لا تزيد ولا تنقص فقلت له: بالله عليك، اسكت عني فقد فتت كبدي فأخذ الموس وسنه كما فعل أولاً وحلق بعض رأسي وقال: أنا مهموم من عجلتك فلو أطلعتني على سببها لكان خيراً لك لأنك تعلم أن والدك ما كان يفعل شيئاً إلا بمشورتي. فلما علمت أن مالي منه خلاص قلت في نفسي قد جاء وقت الصلاة وأريد أن أمضي قبل أن تخرج الناس من الصلاة فإن تأخرت ساعة لا أدري أين السبيل إلى الدخول إليها فقلت: أوجز ودع عنك هذا الكلام والفضول فإني أريد أن أمضي إلى دعوة عند أصحابي.

فلما سمع ذكر الدعوة قال: يومك يوم مبارك علي لقد كنت البارحة حلفت علي جماعة من أصدقائي ونسيت أن أجهز لهم شيئاً يأكلونه وفي هذه الساعة تذكرت ذلك وافضيحتاه منهم فقلت له: لا تهتم بهذا الأمر بعد تعريفك أنني اليوم في دعوة فكل ما في داري من طعام وشراب لك إن أنجزت أمري، وعجلت حلاقة رأسي فقال: جزاك الله خيراً صف لي ما عندك لأضيافي حتى أعرفه؟ فقلت: عندي خمسة أوان من الطعام وعشر دجاجات محمرات وخروف مشوي فقال: أحضرها لي حتى أنظرها فأحضرت له جميع ذلك فلما عاينه، قال: بقي لله درك ما كرم نفسك لكن بقي الشراب فقلت له: عندي قال: أحضره فأحضرته له، قال: لله درك ما أكرم نفسك لكن بقي البخور الطيب فأحضرت له درجاً فيه نداً وعوداً وعنبر ومسك يساوي خمسين ديناراً وكان الوقت قد ضاق حتى صار مثل صدري فقلت له: خذ هذا واحلق لي جميع رأسي بحياة محمد فقال المزين: والله ما آخذه حتى أرى جميع ما فيه.

فأمرت الغلام ففتح له الدرج فرمى المزين الصطرلاب من يده وجلس على الأرض يقلب الطيب والبخور والعود الذي في الدرج حتى كادت روحي أن تفارق جسمي ثم تقدم وأخذ الموسى وحلق من رأسه شيئاً يسيراً وقال: والله يا ولدي ما أدري كيف أشكرك وأشكر والدك لن دعوتي اليوم كلها من بعض فضلك وإحسانك وليس عندي من يستحق ذلك وإنما عندي زيتون الحمامي وصليع الفسخاني وعوكل الفوال وعكرشة البقال، وحميد الزبال وعكارش اللبان، ولكل هؤلاء رقصة يرقصها فضحكت عن قلب مشحون بالغيظ وقلت له: أقض شغلي وأسير أنا في أمان الله تعالى وتمضي أنت إلى أصحابك فإنهم منتظرون قدومك، فقال: ما طلبت إلا أن أعاشك بهؤلاء القوام فإنهم من أولاد الناس الذين ما فيهم فضولي ولو رأيتهم مرة واحدة لتركت جميع أصحابك فقلت نعم الله سرورك بهم ولا بد أن أحضرهم عندي يوماً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الخامسة والثلاثين


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال للمزين لا بد أن أحضر أصحابك عند يوماً فقال له: إذا أردت ذلك وقدمت دعوى أصحابك في هذا اليوم فاصبر حتى أمضي بهذا الإكرام الذي أكرمتني به وأدعه عند أصحابي يأكلون ويشربون ولا ينتظرون، ثم أعود إليك وأمضي معك إلى أصدقائك فليس بيني وبين أصدقائي حشمة تمنعني عن تركهم والعود إليك عاجلاً، وأمضي معك أينما توجهت فقلت: لا حول ولا قوة غلا بالله العلي العظيم امضي أنت إلى أصدقائي وأكون معهم في هذا اليوم فإنهم ينتظرون قدومي فقال المزين لأدعك تمضي وحدك، فقلت له: إن الموضع الذي أمضي إليه لا يقدر أحد أن يدخل فيه غيري، فقال: أظنك اليوم في ميعاد واحد وإلا كنت تأخذني معك وأنا أحق من جميع الناس وأساعدك على ما تريد فإني أخاف أن تدخل على امرأة أجنبية فتروح روحك فإن هذه مدينة بغداد لا يقدم أحد أن يعمل فيها شيئاً من هذه الأشياء لا سيما في مثل هذا اليوم وهذا ولي بغداد صار عظيم فقل: ويلك يا شيخ الشر أي شيء هذا الكلام الذي تقابلني به.

فسكت سكوتا طويلاً وأدركنا وقت الصلاة وجاء وقت الخطبة وقد فرغ من حلق رأسي. فقلت له: أمضي إلى أصحابك بهذا الطعام والشراب وأنا أنتظرك حتى تمضي معي.

ولم أزل أخادعه لعله يمضي، فقال لي إنك تخادعني وتمضي وحدك وترمي نفسك في مصيبة لا خلاص لك منها، فبالله لا تبرح حتى أعود إليك وأمضي معك حتى أعلم ما يتم من أمرك، فقلت له: نعم لا تبطئ علي فأخذ ما عطيته من الطعام والشراب وغيره وأخرج من عندي فسلمه إلى الحمال ليوصله إلى منزله وأخفى نفسه في بعض الأزقة ثم قمت من ساعتي وقد أعلنوا على المنارات بسلام الجمعة فلبست ثيابي وخرجت وحدي وأتيت إلى الزقاق ووقعت على البيت الذي رأيت فيه تلك الصبية وإذا بالمزين خلفي ولا أعلم به فوجدت الباب مفتوحاً فدخلت وإذا بصاحب الدار عاد إلى منزله من الصلاة ودخل القاعة وغلق الباب، فقلت من أين أعلم هذا الشيطان بي؟ فاتفق في هذه الساعة، لأمر يريده الله من هتك ستري أن صاحب الدار أذنبت جارية عنده فضربها فصاحت فدخل عنده عبد ليخلصها فضربه فصاح الآخر فاعتقد المزين أنه يضربني فصاح ومزق أثوابه وجثا التراب على رأسه وصار يصرخ ويستغيث والناس حوله وهو يقول قتل سيدي في بيت القاضي ثم مضى إلى داري وهو يصيح والناس خلفه وأعلم أهل بيتي وغلماني فما دريت إلا وهم قد أقبلوا يصيحون واسيداه كل هذا والمزين قدامهم وهو يمزق الثياب والناس معهم ولم يزالوا يصرخون وهو في أوائلهم يصرخ وهم يقولوا واقتيلاه وقد أقبلوا نحو الدار التي أنا فيها فلما سمع القاضي ذلك عظم عليه الأمر وقام وفتح الباب فرأى جمعاً عظيماً فبهت وقال: يا قوم ما القصة؟ فقال له الغلمان إنك قتلت سيدنا، فقال يا قوم وما الذي فعله سيدكم حتى أقتله، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة السادسة والثلاثين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن القاضي قال للغلمان: وما الذي فعله سيدكم حتى أقتله وما لي لا أرى هذا المزين بين أيديكم، فقال له المزين: أنت ضربته في هذه الساعة بالمقارع وأنا أسمع صياحه، فقال القاضي، وما الذي فعله حتى أقتله ومن أدخله داري ومن أين جاء وإلى أين يقصد، فقال له الزين لا تكن شيخاً نحساً فأنا أعلم الحكاية وسبب دخوله دارك وحقيقة الأمر كله وبنتك تعشقه وهو يعشقها، فعلمت أنه قد دخل دارك وأمرت غلمانك فضربوه والله ما بيننا وبينك إلا الخليفة أو تخرج لنا سيدنا ليأخذه أهله ولا تحوجني إلى أن أدخل وأخرجه من عندكم وعجل أنت بإخراجه فالتجم القاضي عن الكلام وصار في غاية الخجل من الناس وقال للمزين: إن كنت صادقاً، فادخل أنت وأخرجه فنهض المزين ودخل الدار، فلما رأيت المزين أردت أن أهرب فلم أجد لي مهرباً غير أني رأيت في الطبقة التي أنا فيها صندوقاً فدخلت فيه ورددت الغطاء عليه وقطعت النفس، فدخل بسرعة ولم يلتفت إلى غير الجهة التي أنا فيها بل قصد الموضع الذي أنا فيه والتفت يميناً وشمالاً فلم يجد إلا الصندوق الذي أنا فيه فحمله على رأسه.

فلما رأيته فعل ذلك غاب رشدي ثم مر مسرعاً فلما علمت أنه ما يتركني فتحت الصندوق وخرجت منه بسرعة ورميت نفسي على الأرض فانكسرت رجلي، فلما توجعت إلى الباب وجدت خلقاً كثيراً لم أر في عمري مثل هذا الازدحام الذي حصل في ذلك اليوم فجعلت أنثر الذهب على الناس ليشتغلوا به فاشتغل الناس به وصرت أجري في أزقة بغداد وهذا المزين خلفي وأي مكان دخلت فيه يدخل خلفي وهو يقول أرادوا أن يفجعوني في سيدي الحمد لله الذي نصرني عليهم، وخلص سيدي من أيديهم فما زلت يا سيدي مولعاً بالعجلة لسوء تدبيرك حتى فعلت بنفسك هذه الأفعال فلولا من الله عليك بي ما كنت خلصت من هذه المصيبة التي وقعت فيها وربما كانوا يرمونك في مصيبة لا تخلص منها أبداً فاطلب من الله أن أعيش لك حتى أخلصك، والله لقد أهلكتني بسوء تدبيرك وكنت تريد أن تروح وحدك، ولكن لا نؤاخذك على جهلك لأنك قليل العقل عجول.

فقلت له: أما كفاك ما جرى منك حتى تجري ورائي في الأسواق وصرت أتمنى الموت لأجل خلاصي منه فلا أجد موتاً ينقذني منه، فمن شدة الغيظ، فررت ودخلت دكاناً في وسط السوق واستجرت بصاحبها فمنعه عني، وجلست في مخزن وقلت في نفسي ما بقيت أقدر أن أفترق من هذا المزين، بل يقيم عندي ليلاً ونهاراً ولم يبق في قدرة على النظر إلى وجهه، فأرسلت في الوقت أحضر الشهود وكتبت وصية لأهلي وجعلت ناظراً عليهم وأمرته أن يبيع الدار والعقارات وأوصيته بالكبار والصغار، وخرجت مسافراً من ذلك الوقت حتى أتخلص من ذلك القد ثم جئت إلى بلادكم فسكنتها ولي فيها مدة فلما عزمت علي وجئت إليكم رأيت هذا القبيح القواد عندكم في صدر المكان فكيف يستريح قلبي ويطيب مقامي عندكم مع هذا وقد فعل معي هذه الفعال وانكسرت رجلي بسببه ثم أن الشاب امتنع من الجلوس.

فلما سمعنا حكايته مع المزين قلنا للمزين: أحق ما قاله هذا الشاب عنك؟ فقال والله أنا فعلت ذلك بمعرفتي ولولا أني فعلت لهلك وما سبب نجاته إلا أنا ومن فضل الله عليه بسببي أنه أصاب برجله ولم يصب بروحه ولو كنت كثير الكلام ما فعلت معه ذلك الجميل وها أنا أقول لكم حديثاً جرى لي حتى تصدقوا أني قليل الكلام وما عندي فضول من دون إخوتي وذلك أني كنت ببغداد في أيام خلافة أمير المؤمنين المنتصر بالله، وكان يحب الفقراء والمساكين ويجالس العلماء والصالحين، فاتفق له يوماً أنه غضب على عشرة أشخاص فأمر المتولي ببغداد أن يأتيه بهم في زورق فنظرتهم أنا، فقلت: ما اجتمع هؤلاء إلا لعزومة وأظنهم يقطعون يومهم في هذا الزورق في أكل وشرب ولا يكون نديمهم غيري فقمت ونزلت معهم واختلطت بهم فقعدوا في الجانب الآخر فجاء لهم أعوان الوالي بالأغلال ووضعوها في رقابهم وضعوا في رقبتي غلال من جملتهم فهذا يا جماعة ما هو من مروءتي وقلة كلامي لأني ما رضيت أن أتكلم فأخذونا جميعاً في الأغلال وقدمونا بين يدي المنتصر بالله أمير المؤمنين فأمر بضر رقاب العشرة فضرب السياف رقاب العشرة وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة السابعة والثلاثين

قال: بلغني أيها الملك السعيد أن المزين قال: لما السياف ضرب رقاب العشرة وبقيت أنا فالتفت الخليفة فرآني فقال للسياف: ما بالك لا تضرب رقاب جميع العشرة؟ فقال: ضربت رقاب العشرة كلهم، فقال له الخليفة: ما أظنك ضربت رقاب غير تسعة وهذا الذي بين يدي هو العاشر فقال السياف: وحق نعمتك أنهم عشرة قال: عدوهم فإذا هم عشرة فنظر إلي الخليفة وقال: ما حملك على سكوتك في هذا الوقت وكيف صرت مع أصحاب الدم؟ فلما سمعت خطاب أمير المؤمنين قلت له: اعلم يا أمير المؤمنين أني أنا الشيخ الصامت وعندي من الحكمة شيء أكثر وأما رزانة عقلي وجودة فهمي وقلة كلامي فإنها لا نهاية لها وصنعتي الزيانة فلما كان أمس بكرة النهار، نظرت هؤلاء العشرة قاصدين الزورق فاختلت بهم ونزلت معهم وظننت أنهم في عزومة فما كان غير ساعة وإذا هم أصحاب جرائم فحضرت إليهم الأعوان ووضعوا في رقابهم الأغلال ووضعوا في رقبتي غلاً من جملتهم، فمن فرط مروءتي سكت ولم أتكلم بين يديك فأمرت بضرب رقاب العشرة وبقيت أنا بين يدي السياف ولم أعرفكم بنفسي، أما هذه مروءة عظيمة وقد أحوجتني إلى أن أشاركهم في القتل لكن طول دهري هكذا أفعل الجميل.

فلما سمع الخليفة كلامي وعلم أني كثيرة المروءة قليل الكلام ما عندي فضول كما يزعم هذا الشاب الذي خلصته من الأهوال قال الخليفة: وأخوتك الستة مثلك فيهم الحكمة والعلم وقلة الكلام؟ قلت: لا عاشوا ولا بقوا إن كانوا مثلي ولكن ذممتني يا أمير المؤمنين ولا ينبغي لك أن تقرن أخوتي بي لأنهم من كثرة كلامهم وقلة مروءتهم كل واحد منهم بعاهة ففيهم واحد أعرج وواحد أعور واحد أفكح وواحد أعمى وواحد مقطوع الأذنين والأنف وواحد مقطوع الشفتين وواحد أحول العينين، ولا تحسب يا أمير المؤمنين أني كثير الكلام ولا بد أن أبين لك أني أعظم مروءة منهم ولكل واحد منهم حكاية اتفقت له حتى صار فيه عاهة، وإن شئت أن أحكي لك فاعلم يا أمير المؤمنين أن الأول وهو الأعرج كان صنعته الخياطة ببغداد، فكان يخيط في دكان استأجرها من رجل كثير المال وكان ذلك الرجل ساكناً في الدكان وكان في أسفل دار الرجل طاحون،

فبينما أخي الأعرج جالس في الدكان ذات يوم إذ رفع رأسه فرأى امرأة كالبدر الطالع في روشن الدار وهي تنظر الناس فلما رآها أخي تعلق قلبه بحبها وصار يومه ذلك ينظر إلهيا وترك اشتغاله بالخياطة إلى وقت المساء، فلما كان وقت الصباح فتح دكانه وقعد يخيط وهو كلما غرز غرزة ينظر إلى الروشن فمكث على ذلك مدة لم يخيط شيئاً يساوي درهماً، فاتفق أن صاحب الدار جاء إلى أخي يوماً من الأيام ومعه قماش وقال له: فصل لي هذا وخيطه أقمصة فقال أخي: سمعاً وطاعة ولم يزل يفصل حتى فصل عشرين قميصاً إلى وقت العشاء وهو لم يذق طعاماً، ثم قال له: كم أجرة ذلك؟ فلم يتكلم أخي فأشارت إليه الصبية بعينها أن لا يأخذ منه شيئاً وكان محتاجاً إلى الفلس

واستمر ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا القليل بسبب اجتهاده في تلك الخياطة، فلما فرغ من الخياطة التي لهم أتى إليهم بالأقمصة وكانت الصبية قد عرفت زوجها بحال أخي وأخي لا يعلم ذلك واتفقت هي وزوجها على استعمال أخي في الخياطة بلا أجرة بل يضحكون عليه فلما فرغ أخي من جميع أشغالهما عملا عليه حيلة وزوجاه بجاريتهما وليلة أراد أن يدخل عليها قالا له: أبت الليلة في الطاحون وإلى الغد يكون خيراً، فاعتقد أخي أن لهما قصداً بريئاً فبات في الطاحون وحده وراح زوج الصبية يغمز الطحان عليه ليدوره في الطاحون فدخل عليه الطحان في نصف الليل وجعل يقول: أن هذا الثور بطال مع أن القمح كثير وأصحاب الطحين يطلبونه فأنا أعلقه في الطاحون حتى يخلص طحين القمح، فعلقه في الطاحون إلى قرب الصبح.

فجاء صاحب الدار، فرأى أخي معلقاً في الطاحون والطحان يضربه بالسوط فتركه ومضى وبعد ذلك جاءت الجارية التي عقد عليها وكان مجيئها في بكرة النهار فحلته من الطاحون وقال قد شق علي أو على سيدتي ما جرى لك وقد حملنا همك فلم يكن له لسان يرد جواباً من شدة الضرب، ثم أن أخي رجع إلى منزله وإذا بالشيخ الذي كتب الكتاب قد جاء وسلم عليه وقال له: حياك الله زواجك مبارك أنت بت الليلة في النعيم والدلال والعناق من العشاء إلى الصباح فقال له أخي لا سلم الله الكاذب يا ألف قواد،والله ما جئت إلا لأطحن في موضع الثور إلى الصباح فقال له: حدثني بحديثك فحدثه أخي بما وقع له فقال له: ما وافق نجمك نجمها ولكن إذا شئت أن أغير لك عقد العقد أغيره لك بأحسن منه لأجل أن يوافق نجمك نجمها فقال له: انظر إن بقي لك حيلة أخرى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة الثامنة والثلاثين

وفي الليلة الثامنة والثلاثين


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأعرج لما قال للشيخ انظر إن بقي لك حيلة أخرى فتركه وأتى إلى دكانه ينتظر أحداً يأتي إليه بشغل يتقوت من أجرته وإذا هو بالجارية قد أتت إليه وكانت اتفقت مع سيدتها على تلك الحيلة فقال له: إن سيدتي مشتاقة إليك وقد طلعت السطح لترى وجهك من الروشن فلم يشعر أخي إلا وهي قد طلعت له من الروشن وصارت تبكي وتقول: لأي شيء قطعت المعاملة بيننا وبينك فلم يرد عليها جواباً فحلفت له أن جميع ما وقع له في الطاحون لم يكن باختيارها فلما نظر أخي إلى حسنها وجمالها ذهب عنه ما حصل له وقبل عذرها وفرح برؤيتها، ثم سلم عليها وتحدث معها وجلس في خياطتها مدة وبعد ذلك ذهبت إليه الجارية وقالت له: تسلم عليك سيدتي وتقول لك: إن زوجها قد عزم على أن يبيت عند بعض أصدقائه في هذه الليلة، فإذا مضى عندهم تكون أنت عندنا وتبيت مع سيدتي في ألذ عيش إلى الصباح وكان زوجها قد قال لها ما يكون العمل في مجيئه عندك حتى آخذه وأجره إلى الوالي فقالت: دعني أحتال عليه بحيلة وأفضحه فضيحة يشتهر بها في هذه المدينة وأخي لا يعلم شيئاً من كيد النساء.


فلما اقبل المساء جاءت الجارية إلى أخي وأخذته ورجعت به إلى سيدتها فقالت له: والله يا سيدي إني مشتاقة إليك كثيراً فقال: بالله عليك عجل بقبلة قبل كل شيء فلم يتم كلامه إلا وقد حضر زوج الصبية من بيت جاره فقبض على أخي وقال له: لا أفارقك إلا عند صاحب الشرطة فتضرع إليه أخي فلم يسمعه بل حمله إلى دار الوالي فضربه بالسياط وأركبه جملاً ودوره في شوارع المدينة والناس ينادون عليه هذا جزاء من يهيم على حرائم الناس ووقع من فوق الجمل فانكسرت رجله فصار أعرج ثم نفاه الوالي من المدينة فخرج لا يدري أين يقصد فاغتظت أنا فلحقته وأتيت به والتزمت بأكله وشربه إلى الآن فضحك الخليفة من كلامي وقال: أحسنت فقلت: لا أقبل هذا التعظيم منك دون أن تصغي غلي حتى أحكي لك ما وقع لبقية أخوتي ولا تحسب أني كثير الكلام فقال الخليفة: حدثني بما وقع لجميع أخوتك وشنف مسامعي بهذه الرقائق واسلك سبيل الأطناب في ذكر هذه اللطائف.


فقلت: اعلم يا أمير المؤمنين أن أخي الثاني كان اسمه بقبق وقد وقع له أنه كان ماشياً يوماً من الأيام متوجهاً إلى حاجة له وإذا بعجوز قد استقبلته وقال له: أيها الرجل قف قليلاً حتى أعرض عليك أمراً فإن أعجبك فاقضه لي فوقف أخي فقال له: أدلك على شيء وأرشدك إليه بشرط أن لا يكون كلامك كثيراً فقال لها أخي: هات كلامك قالت: ما قولك في دار حسنة وماؤها يجري وفاكهة مدام ووجه مليح تشاهده وخد أسيل تقبله وقد رشيق تعانقه ولم تزل كذلك من العشاء إلى الصباح، فإن فعلت ما أشترط عليك رأيت الخير فلما سمع أخي كلامها قال لها: يا سيدتي وكيف قصدتيني بهذا الأمر من دون الخلق أجمعين فأي شيء أعجبك مني؟ فقال لأخي: أما قلت لك لا تكن كثير الكلام واسكت وامض معي ثم ولت العجوز وسار أخي تابعاً لها طمعاً فيما وصفته له حتى دخلا داراً فسيحة وصعدت به من أدنى إلى أعلى فرأى قصراً ظريفاً فنظر أخي فرأى فيه أربع بنات ما رأى الراؤون أحسن منهن وهن يغنين بأصوات تطرب الحجر الأصم، ثم إن بنتاً منهن شربت قدحاً فقال لها أخي: بالصحة والعافية وقام ليخدمها فمنعته من الخدمة ثم سقته قدحاً وصفعته على رقبته.


فلما رأى أخي ذلك خرج مغضباً ومكثراً الكلام فتبعته العجوز وجعلت تغمزه بعينها ارجع فرجع وجلس ولم ينطق فأعادت الصفعة على قفاه إلى أن أغمي عليه ثم قام أخي لقضاء حاجته فلحقته العجوز وقال له: اصبر عليلاً حتى تبلغ ما تريد فقال لها أخي: إلى كم أصبر قليلاً؟ فقالت العجوز إذا سكرت بلغت مرادك فرجع أخي إلى مكانه فقامت البنات كلهن وأمرتهن العجوز أن يجردنه من ثيابه وأن يرششن على وجهه ماء ورد، ففعلن ذلك فقالت الصبية البارعة الجمال منهن: أعزك الله قد دخلت منزلي فإن صبرت على شرطي بلغت مرادك فقال لها أخي: يا سيدتي أنا عبدك وفي قبضة يدك، فقالت له: اعلم أن الله قد شغفني بحب المطرب فمن أطاعني نال ما يريد، ثم أمرت الجواري أن يغنين فغنين حتى طرب المجلس، ثم قالت الجارية: خذي سيدك واقض حاجته وائتيني به في الحال، فأخذت الجارية أخي ولا يدري ما تصنع به فلحقته العجوز وقالت له: اصبر ما بقي إلا القليل، فأقبل أخي على الصبية والعجوز تقول: اصبر فقد بلغت ما تريد وإنما بقي شيء واحد وهو أن تحلق ذقنك.

فقال لها أخي: وكيف أعمل في فضيحتي بين الناس؟ فقالت له العجوز إنها ما أرادت أن تفعل بك ذلك إلا لأجل أن تصير أمرد بلا ذقن ولا يبقى في وجهك شيء يشكها فإنها صار في قلبها لك محبة عظيمة فاصبر فقد بلغت المنى فصبر أخي وطاوع الجارية وحلق ذقنه وجاءت به إلى الصبية وإذا هو محلوق الحاجبين والشاربين والذقن فقام ورقص فلم تدع في البيت مخدة حتى ضربته بها وكذلك جميع الجواري صرن يضربنه بمثل نارنجة وليمونة وأترجة إلى أن سقط مغشياً عليه من الضرب ولم يزل الصفع على قفاه والرجم في وجهه إلى أن قالت له العجوز: الآن بلغت مرادك واعلم أنه ما بقي عليك من الضرب شيء وما بقي إلا شيء واحد وذلك أن من عادتها أنها إذا سكرت لا تمكن أحداً من نفسها حتى تقلع ثيابها وسراويلها وتبقى عريانة من جميع ما عليها من ثيابها وأنت الآخر تقلع ثيابك وتجري ورائها وهي تجري قدامك كأنها هاربة منك، ولم تزل تابعها من مكان إلى مكان حتى يقوم عضوك فتمكنك من نفسها، ثم قالت له: قم اقلع ثيابك فقال وهو غائب عن الوجود وقلع ثيابه جميعاً، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة التاسعة والثلاثون

وفي الليلة التاسعة والثلاثون

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين قلع ثيابه وصار عرياناً، فقالت الجارية لأخي: قم الآن واجر ورائي وأجري أنا قدامك وإذا أردت شيئاً فاتبعني فجرت قدامه وتبعها ثم جعلت تدخل من محل إلى محل وتخرج من محل إلى محل آخر وأخي وراءها وقد غلب الشنق وعضوه قائم كأنه مجنون ولم تزل تجري قدامه وهو يجري وراءها، حتى سمع منها صوتاً رقيقاً وهي تجري قدامه وهو يجري وراءها، فبينما هو كذلك إذ رأى نفسه في وسط زقاق وذلك الزقاق في وسط الجلادين وهم ينادون على الجلود فرآه الناس على تلك الحالة وهو عريان قائم العضو محلوق الذقن والحواجب والشوارب، محمر الوجه فصاحوا عليه وصاروا يضحكون ويقهقهون، وصار بعضهم يصفعه بالجلود وهو عريان حتى غشي عليه وحملوه على حمار حتى أوصلوه إلى الوالي فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا وقع لنا من بيت الوزير وهو على هذه الحالة، فضربه الوالي مائة سوط وخرجت أنا خلفه وجئت به وأدخلته المدينة سراً ثم رتبت له ما يقتات به فلولا مروءتي ما كنت أحتمل مثله.

وأما أخي الثالث فاسمه فقة ساقه القضاء والقدر إلى دار كبيرة، فدق الباب طمعاً أن يكلمه صاحبها فيسأله شيئاً، فقال صاحب الدار: من بالباب؟ فلم يكلمه أحد فسمعه أخي يقول بصوت عال: من هذا؟ فلم يكلمه أخي وسمع مشيه حتى وصل إلى الباب وفتحه فقال: ماتريد؟ قال له أخي: شيئاً لله تعالى فقال له: هل أنت ضرير؟ قال له أخي: نعم فقال له: ناولني يدك فناوله يده فأدخله الدار ولم يزل يصعد به من سلم إلى سلم حتى وصل إلى أعلى السطوح، وأخي يظن أنه يطعمه شيئاً فلما انتهى إلى أعلى مكان، قال لأخي: ما تريد يا ضرير قال: أريد شيئاً لله تعالى فقال له: يفتح الله عليك فقال له أخي: يا هذا أما كنت تقول لي ذلك وأنا في الأسفل فقال له: يا أسفل السفلة لم تسألني شيئاً لله حين سمعت كلامي أول مرة وأنت تدق الباب فقال أخي: هذه الساعة ما تريد أن تصنع بي؟ فقال له: ما عندي شيء حتى أعطيك إياه قال: انزل بي إلى السلالم، فقال لي: الطريق بين يديك فقام أخي واستقبل السلالم وما زال نازلاً حتى بقي بينه وبين الباب عشرون درجة فزلقت رجله فوقع ولم يزل واقعاً منحدراً من السلالم حتى انشج رأسه فخرج وهو لا يدري أين يذهب فلحقه بعض رفقائه العميان فقال له: أي شيء حصل لك في هذا اليوم؟ فحدثهم بما وقع له قال لهم: يا أخوتي أريد أن آخذ شيئاً من الدراهم التي بقيت معنا وأنفق منه على نفسي وكان صاحب الدار مشى خلفه ليعرف حاله فسمع كلامه وأخي لا يدري بأن الرجل يسعى خلفه إلى أن دخل مكانه، ودخل الرجل خلفه وهو لا يشعر به، وقعد أخي ينتظر رفقاءه فلما دخلوا عليه قال لهم: أغلقوا الباب وفتشوا البيت كيلا يكون أحد غريب تبعنا، فلما سمع الرجل كلام أخي قام وتعلق بحبل كان في السقف، فطافوا البيت جميعه فلم يجدوا أحداً، ثم رجعوا وجلسوا إلى جانب أخي أخرجوا الدراهم التي معهم وعدوها فإذا هي عشرة آلاف درهم فتركوها في زاوية البيت وأخذ كل واحد مما زاد عنها ما يحتاج إليه ودفنوا العشرة آلاف درهم في التراب، ثم قدموا بين أيديهم شيئاً من الأكل وقعدوا يأكلون فأحس أخي بصوت غريب في جهته فقال للأصحاب: هل معنا غريب ثم مد يده فتعلقت بيد الرجل صاحب الدار فصاح على رفقائه وقال: هذا غريب فوقعوا فيه ضرباً، وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة الأربعين

وفي الليلة الأربعين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخي لما صاح على رفقائه وقال: هذا غريب وقعوا فيه ضرباً فلما طال عليهم ذلك صاحوا: يا مسلمين دخل علينا من يريد أن يأخذ مالنا فاجتمع عليهم خلق فتعامى الرجل الغريب صاحب الدار الذي ادعوا عليه أنه لص وأغمض عينيه وأظهر أنه أعمى مثلهم بحيث لا يشك فيه أحد وصاح: يا مسلمين أنا بالله والسلطان أنا بالله والوالي أنا بالله والأمير فإن عندي نصيحة للأمير فلم يشعروا إلا وقد احتاطهم جماعة الوالي فأخذوهم وأخي معهم وأحضروهم بين يديه فقال الوالي: ما خبركم؟ فقال ذلك الرجل: اسمع كلامي أيها الوالي لا يظهر لك حقيقة حالنا إلا بالعقوبة، وإن شئت فابدأ بعقوبتي قبل رفقائي فقال الوالي: اطرحوا هذا الرجل واضربوه بالسياط فطرحوه وضربوه فلما أوجعه الضرب فتح إحدى عينيه فلما ازداد عليه الضرب فتح عينه الأخرى فقال له الوالي: ما هذه الفعال يا فاجر؟ فقال: أعطني الأمان وأنا أخبرك فأعطاه الأمان، فقال: نحن أربعة نعمل حالنا عمياناً ونمر على الناس وندخل البيوت وننظر النساء ونحتال في فسادهن، واكتساب الأموال من طرقهن وقد حصلنا من ذلك مكسباً عظيماً وهو عشرة آلاف درهم فقلت لرفقائي: أعطوني حقي ألفين وخمسمائة فقاموا وضربوني وأخذوا مالي وأنا مستجير بالله وبك وأنت أحق بحصتي من رفقائي، وإن شئت أن تعرف صدق قولي فاضرب كل واحد أكثر مما ضربتني فإنه يفتح عينيه فعند ذلك أمر الوالي بعقوبتهم وأول ما بدأ بأخي وما زالوا يضربونه حتى كاد أن يموت ثم قال لهم الوالي: يا فسقة تجحدون نعمة الله وتدعون أنكم عميان فقال أخي: الله الله الله ما فينا بصير فطرحوه إلى الضرب ثانياً ولم يزالوا يضربونه حتى غشي عليه فقال الوالي: دعوه حتى يفيق وأعيدوا عليه الضرب ثالث مرة، ثم أمر بضرب أصحابه كل واحد أكثر من ثلاثمائة عصا والنصير يقول لهم: افتحوا عيونكم وإلا جددوا عليكم الضرب ثم قال للوالي: ابعث معي من يأتيك بالمال، فإن هؤلاء ما يفتحون أعينهم ويخافون من فضيحتهم بين الناس فبعث الوالي معه من أتاه بالمال، فأخذه وأعطى الرجل منه ألفين وخمسمائة درهم على قدر حصته رغماً عنهم، وبقي أخي وباقي الثلاثة خارج المدينة فخرجت أنا يا أمير المؤمنين ولحقت أخي وسألته عن حاله فأخبرني بما ذكرته لك فأدخلته المدينة سراً ورتبت له ما يأكل وما يشرب طول عمره.

فضحك الخليفة من حكايتي وقال: صلوه بجائزة ودعوه ينصرف فقلت له: والله ما آخذ شيئاً حتى أبين لأمير المؤمنين ما جرى لبقية أخوتي وأوضح له أني قليل الكلام فقال الخليفة: أصدع آذاننا بخرافة خبرك وزدنا من عجرك وبجرك فقلت: وأما أخي الرابع يا أمير المؤمنين وهو الأعور فإنه كان جزاراً ببغداد يبيع اللحم ويربي الخرفان وكانت الكبار وأصحاب الأموال يقصدونه ويشترون منه اللحم فاكتسب من ذلك مالاً عظيماً واقتنى الدواب والدور، ثم أقام على ذلك زمناً طويلاً فبينما هو في دكانه يوماً من الأيام إذ وقف عليه شيخ كبير اللحية فدفع له دراهم، وقال: أعطني بها لحماً فأخذ الدراهم منه وأعطاه اللحم وانصرف، فتأمل أخي في فضة الشيخ فرأى دراهمه بيضاً بياضها ساطع فعزلها وحدها في ناحية وأقام الشيخ يتردد عليه خمسة أشهر وأخي يطرح دراهمه في صندوق وحدها ثم أراد أن يخرجها ويشتري غنماً فلما فتح الصندوق رأى ما فيه ورقاً أبيض مقصوصاً فلطم وجهه وصاح، فاجتمع الناس عليه فحدثه بحديثه فتعجبوا منه ثم رجع أخي إلى الدكان على عادته فذبح كبشاً وعلقه خارج الدكان وصار يقول في نفسه: لعل ذلك الشيخ يجيء فأقبض عليه فما كان إلا ساعة وقد أقبل الشيخ ومعه الفضة فقام أخي وتعلق به وصار يصيح: يا مسلمين ألحقوني واسمعوا قصتي مع هذا الفاجر.

فلما سمع الشيخ كلامه قال له: أي شيء أحب إليك أن تعرض عن فضيحتي أو أفضحك بين الناس؟ فقال له: يا أخي بأي شيء تفضحني؟ قال: بأنك تبيع لحم الناس في صورة لحم الغنم فقال له: يا أخي كذبت يا ملعون فقال الشيخ: ما ملعون إلا الذي عنده رجل معلق في الدكان فقال له أخي: إن كان الأمر كما ذكرت مالي ودمي حلال لك فقال الشيخ: يا معاشر الناس، إن هذا الجزار يذبح الآدميين ويبيع لحمهم في صورة لحم الغنم وإن أردتم أن تعلموا صدق قولي فادخلوا دكانه فهجم الناس على دكان أخي فرؤوا ذلك الكبش صار إنساناً معلقاً فلما رأوا ذلك تعلقوا بأخي وصاحوا عليه: يا كافر يا فاجر وصار أعز الناس إليه يضربه ويلطمه الشيخ على عينه، فقلعها وحمل الناس ذلك المذبوح إلى صاحب الشرطة فقال له الشيخ: أيها الأمير إن هذا الرجل يذبح الناس ويبيع لحمهم على أنه لحم غنم وقد أتيناك به فقم واقض حق الله عز وجل فدافع أخي عن نفسه فلم يسمع منه صاحب الشرطة بل أمر بضربه خمسمائة عصا وأخذوا جميع ماله ولولا كثرة ماله لقتلوه ثم نفوا أخي من المدينة فخرج هائماً لا يدري أين يتوجه فدخل مدينة كبيرة واستحسن أن يعمل إسكافياً ففتح دكاناً وقعد يعمل شيئاً يتقوت منه فخرج ذات يوم في حاجة فسمع صهيل خيل فبحث على سبب ذلك فقيل له أن الملك خارج إلى الصيد والقنص فخرج أخي ليتفرج على الموكب وهو يتعجب من خسة رأيه حيث انتقل من صنعة الأساكفة فالتفت الملك وفقعت عينه على عين أخي فأطرق الملك رأسه، وقال: أعوذ بالله من شر هذا اليوم وثنى عنان فرسه، وانصرف راجعاً فرجع جميع العسكر وأمر الملك غلمانه أن يلحقوا أخي ويضربونه فلحقوه وضربوه ضرباً وجيعاً حتى كاد أن يموت ولم يدر أخي السبب فرجع إلى موضعه وهو في حالة العدم ثم مضى إلى إنسان من حاشية الملك وقص عليه ما وقع له فضحك حتى استلقى على قفاه وقال له: يا أخي اعلم أن الملك لا يطيق أن ينظر إلى أعور لا سيما إن كان الأعور شمالاً فإنه لا يرجع عن قتله فلما سمع أخي ذلك الكلام عزم على الهروب من تلك المدينة وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة الحادية والأربعين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الأعور لما سمع ذلك الكلام عزم على الهروب من تلك المدينة وارتحل منها وتحول إلى مدينة أخرى لم يكن فيها ملك وأقام بها زمناً طويلاً، ثم بعد ذلك تفكر في أمره وخرج يوماً ليتفرج فسمع صهيل خيل خلفه، فقال: جاء أمر الله وفر يطلب موضعاً ليستتر فيه فلم يجد، ثم نظر فرأى باباً منصوباً فدفع ذلك الباب فدخل فرأى دهليزاً طويلاً فاستمر داخلاً فيه فلم يشعر إلا ورجلان قد تعلقا به وقالا: الحمد لله الذي مكننا منك يا عدو الهل هذه ثلاث ليال ما أرحتنا ولا تركتنا ننام ولا يستقر لنا مضجع بل أذقتنا طعم الموت فقال أخي: يا قوم ما أمركم بالله؟ فقالوا: أنت تراقبنا وتريد أن تفضحنا وتفضح صاحب البيت، أما يكفيك أنك أفقرته وأفقرت أصحابك ولكن أخرج لنا السكين التي تهددنا بها كل ليلة وفتشوه فوجدوا في وسطه السكين التي يقطع بها النعال، فقال: يا قوم اتقوا الله في أمري واعلموا أن حديثي عجيب فقالوا: وما حديثك فحدثهم بحديثه طمعاً أن يطلقوه.

فلم يسمعوا منه مقاله ولم يلتفوا إليه بل ضربوه ومزقوا أثوابه، فلما تمزقت أثوابه وانكشف بدنه وجدوا أثر الضرب بالمقارع على جنبيه فقالوا له: يا ملعون هذا أثر الضرب يشهد على جرمك ثم أحضروا أخي بين يدي الوالي فقال في نفسه قد وقعت فأتيت إليه وأخذته وأدخلته المدينة سراً ورتبت له ما يأكل وما يشرب.

وأما أخي الخامس فإنه كان مقطوع الأذنين، يا أمير المؤمنين وكان رجلاً فقيراً يسأل الناس ليلاً وينفق ما يحصله بالسؤال نهاراً، وكان والدنا شيخاً كبيراً طاعناً بالسن فخلف لنا سبعمائة درهم وأما أخي الخامس هذا فإنه لما أخذ حصته تحير ولم يدر ما يصنع بها فبينما هو كذلك إذ وقع في خاطره أنه يأخذ بها زجاجاً من كل نوع ليتجر فيه ويربح فاشترى بالمائة درهم زجاجاً وجعله في قفص كبير وقعد في موضع ليبيع ذلك الزجاج وبجانبه حائط فأسند ظهره إليها وقعد متفكراً في نفسه وقال: إن رأس مالي في هذا الزجاج مائة درهم أنا أبيعه بمائتي درهم ثم أشتري بالمائتي درهم زجاجاً أبيعه بأربعمائة درهم ولا أزال أبيع وأشتري إلى أن يبقى معي مال كثير فأشتري داراً حسنة وأشتري المماليك والخيل والسروج المذهبة وآكل وأشرب ولا أخلي مغنية في المدينة حتى أجيء بها إلى بيتي وأسمع مغانيها هذا كله، وهو يحسب في نفسه وقفص الزجاج قدامه.

ثم قالت وابعث جميع الخاطبات في خطبة بنات الملوك والوزراء واخطب بنت الوزير فقد بلغني أنها كاملة الحسن بديعة الجمال وأمهرها بألف دينار، فإن رضي أبوها حصل المراد وإن لم يرض أخذتها قهراً على رغم أنفه، فإن حصلت في داري اشتري عشرة خدام صغار، ثم اشتري لي كسوة الملوك والسلاطين وأصوغ لي سرجاً من الذهب مرصعاً بالجوهر، ثم اركب ومعي المماليك يمشون حولي وقدامي وخلفي حتى إذا رآني الوزير قام إجلالاً لي وأقعدني مكانه ويقعد هو دوني لأنه صهري ويكون معي خادمان بكيسين في كل كيس ألف دينار فأعطيه ألف دينار مهر بنته وأهدي إليه الألف الثاني إنعاماً حتى أظهر له مروءتي وكرمي وصغر الدنيا في عيني، ثم أنصرف إلى داري فإذا جاء أحد من جهة امرأتي وهبت له دراهم وخلعت عليه خلعة وإن أرسل إلي الوزير هدية رددتها عليه ولو كانت نقيصة ولم أقبل منه حتى يعلموا أني عزيز النفس ولا أخلي نفسي إلا في أعلى مكانة، ثم أقدم إليهم في إصلاح شأني وتعظيمي فإذا فعلوا ذلك أمرتهم بزفافها ثم أصلح داري إصلاحاً بيناً فإذا جاء وقت الجلاء لبست أفخر ثيابي وقعدت على مرتبة من الديباج لا ألتفت بميناً ولا شمالاً لكبر عقلي ورزانة فهمي وتجيء امرأتي وهي كالبدر في حليها وحللها وأنا أنظر إليها عجباً وتيهاً حتى يقول جميع من حضر: يا سيدي امرأتك وجاريتك قائمة بين يديك فأنعم عليها بالنظر فقد أضر بها القيام ثم يقبلون الأرض قدامي مراراً فعند ذلك أرفع رأسي وأنظر إليها نظرة واحدة، ثم أطرق برأسي إلى الأرض فيمضون بها وأقوم أنا وأغير ثيابي وألبس أحسن مما كان علي فإذا جاؤوا بالعروسة المرة الثانية، لا أنظر إليها حتى يسألوني مراراً فأنظر إليها ثم أطرق إلى الأرض ولم أزل كذلك حتى يتم جلاؤها، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة الثانية والأربعين


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين الخامس قال:إني آمر بعض الخدامين أن يرمي كيساً فيه خمسمائة دينار للمواشط فإذا أخذته آمرهن أن يدخلنني عليها لا أنظر إليها ولا أكلمها احتقاراً لها لأجل أن يقال أني عزيز النفس حتى تجيء أمها وتقبل رأسي ويدي وتقول لي يا سيدي انظر جاريتك فإنها تشتهي قربك فأجبر خاطرها بكلمة فلم أرد عليها جواباً ولم تزل كذلك تستعطفني حتى تقوم وتقبل يدي ورجلي مراراً، ثم تقول: يا سيدي إن بنتي صبية مليحة ما رأت رجلاً فإذا رأت منك الانقباض انكسر خاطرها فمل إليها وكلمها ثم غنها تقوم وتحضر لي قدحاً وفيه شراباً ثم إن ابنتها تأخذ القدح لتعطيني فإذا جاءتني تركتها قائمة، بين يدي وأنا متكئ على مخدة مزركشة بالذهب لأنظر إليها من كبر نفسي وجلالة قدري حتى تظن في نفسها أني سلطان عظيم الشأن فتقول يا سيدي بحق الله عليك، لا ترد القدح من يد جاريتك فلا أكلمها فتلح علي وتقول: لا بد من شربه وتقدمه إلى فمي فأنفض يدي في وجهها وأرفسها وأعمل هكذا ثم أرفس أخي برجله فجاءت في قفص الزجاج وكان في مكان مرتفع فنزل على الأرض فتكسر كل ما فيه.

ثم قال أخي هذا كله من كبر نفسي ولو كان أمره إلى أمير المؤمنين لضربته ألف سوط وشهرته في البلد ثم بعد ذلك صار أخي يلطم على وجهه ومزق ثيابه وجعل يبكي ويلطم على وجهه والناس ينظرون إليه وهم رائحون إلى صلاة الجمعة فمنهم من يرمقه ومنهم من لم يفكر فيه، وهو على تلك الحالة وراح منه رأس المال والربح ولم يزل جالساً يبكي وإذا بامرأة مقبلة إلى صلاة الجمعة وهي بديعة الجمال تفوح منها رائحة المسك، وتحتها بغلة بردعتها من الديباج مزركشة بالذهب ومعها عدد من الخدم فلما نظرت إلى الزجاج وحال أخي وبكائه أخذتها الشفقة عليه ورق قلبها له وسألت عن حاله فقيل لها: إنه كان معه طبق زجاج يتعيش منه فانكسر منه فأصابه ما تنظريه فنادت بعض الخدام وقالت له: ادفع الذي معك إلى هذا المسكين فدفع له صرة، فأخذها فلما فتحها وجد فيها خمسمائة دينار فكاد أن يموت من شدة الفرح، واقبل أخي بالدعاء لها ثم عاد إلى منزله غنياً وقعد متفكراً وإذا بدق يدق الباب فقام وفتح وإذا بعجوز لا يعرفها، فقالت له: يا ولدي اعلم أن الصلاة قد قرب زوال وقتها وأنا بغير وضوء وأطلب منك أن تدخلني منزلك حتى أتوضأ فقال لها: سمعاً وطاعة.

ثم دخل أخي وأذن لها بالدخول وهو طائر من الفرح بالدنانير فلما فرغت أقبلت إلى الموضع الذي هو جالس فيه وصلت هناك ركعتين ثم دعت لأخي دعاء حسناً نشرها على ذلك وأعطاها دينارين فلما رأت ذلك قالت: سبحان الله أني أعجب ما أحبك وأنت بسمة الصعاليك فخذ مالك عني وإن كنت غير محتاج إليه فأردده إلى التي أعطتك إياه لما انكسر الزجاج منك فقال لها أخي: يا أمي كيف الحيلة في الوصول إليها؟ قالت: يا ولدي إنها تميل إليك لكنها زوجة رجل موسر فخذ جميع مالك معك فإذا اجتمعت بها فلا تترك شيئاً من الملاطفة والكلام الحسن إلا وتفعله معها فإنك تنال من جمالها ومن مالها، جميع ما تريد فأخذ أخي جميع الذهب وقام ومشى مع العجوز، وهو لا يصدق بذلك فلم تزل تمشي وراءها حتى وصلا إلى باب كبير فدقته فخرجت جارية رومية فتحت الباب، فدخلت العجوز وأمرت أخي بالدخول فدخل دار كبيرة فلما دخلها رأى فيها مجلساً كبيراً مفروشاً وسائد مسبلة.

فجلس أخي ووضع الذهب بين يديه ووضع عمامته على ركبته فلم يشعر إلا وجارية أقبلت ما رأى مثلها الراؤون وهي لابسة أفخر القماش فقام أخي على قدميه فلما رأته ضحكت في وجهه وفرحت به، ثم ذهبت إلى الباب وأغلقته ثم أقبلت على أخي وأخذت يده ومضيا جميعاً إلى أن أتيا إلى حجرة منفردة فدخلاها وإذا هي مفروشة بأنواع الديباج فجلس أخي وجلست بجانبه ولاعبته ساعة زمانية ثم قامت وقالت له: لا تبرح حتى أجيء إليك، وغابت عنه ساعة فبينما هو كذلك إذ دخل عليه عبد أسود عظيم الخلقة ومعه سيف مجرد يأخذ لمعانه بالبصر وقال لأخي: يا ويلك من جاء بك إلى هذا المكان يا أخس الإنس يا ابن الزنا وتربية الخنا فلم يقدر أخي أن يرد عليه جواباً بل انعقد لسانه في تلك الساعة، فأخذه العبد وأعراه ولم يزل يضربه بالسيف صحفاً ضربات متعددة أكثر من ثمانين ضربة إلى أن سقط من طوله على الأرض فرجع العبد عنه واعتقد أنه مات وصاح صيحة عظيمة بحيث ارتجت الأرض من صوته ودوى له المكان وقال: أين الميلحة؟ فأقبلت إليه جارية في يدها طبق مليح فيه ملح أبيض فصارت الجارية تأخذ من ذلك الملح وتحشر الجراحات التي في جلد أخي حتى تهورت وأخي لا يتحرك خيفة أن يعلموا أنه حي فيقتلوه ثم مضت الجارية وصاح العبد صيحة مثل الأولى فجاءت العجوز إلى أخي وجرته من رجليه إلى سرداب طويل مظلم ورمته فيه على جماعة مقتولين فاستقر في مكانه يومين كاملين، وكان الله سبحانه وتعالى جعل الملح سبباً لحياته لأنه قطع سيلان عروق الدم.

فلما رأى أخي في نفسه القوة على الحركة قام من السرداب وفتح طاقة في الحائط وخرج من مكان القتلى وأعطاه الله عز وجل الستر فمشى في الظلام واختفى في هذا الدهليز إلى الصبح فلما كان وقت الصبح خرجت العجوز في طلب سيد آخر فخرج أخي في أثرها وهي لا تعلم به حتى أتى منزله ولم يزل يعالج نفسه حتى بريء ولم يزل يتعهد العجوز وينظر إليها كل وقت وهي تأخذ الناس واحد بعد واحد وتوصلهم إلى تلك الدار وأخي لا ينطق بشيء ثم لما رجعت إليه صحته وكملت قوته عمد إلى خرقة وعمل منها كيساً وملأه زجاجاً وشد في وسطه وتنكر حتى لا يعرفه أحد ولبس ثياب العجم وأخذ سيفاً وجله تحت ثيابه فلما رأى العجوز قال لها بكلام العجم: يا عجوز هل عندك ميزان يسع تسعمائة دينار؟ فقالت العجوز: لي ولد صغير صيرفي عنده سائر الموازين فامض معي إليه قبل أن يخرج من مكانه حتى يزن لك ذهبك فقال أخي: امشي قدامي فسارت وسار أخي خلفها حتى أتت الباب فدقته فخرجت الجارية وضحكت في وجهه.

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


 
وفي الليلة الثالثة والأربعين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المزين قال فخرجت الجارية وضحكت في وجه أخي فقالت العجوز: أتيتكم بلحمة سمينة فأخذت الجارية بيد أخي وأدخلته الدار التي دخلها سابقاً وقعدت عنده ساعة وقامت وقالت لأخي: لا تبرح حتى أرجع إليك وراحت فلم يستقر أخي إلا والعبد قد أقبل ومعه السيف المجرد فقال لأخي: قم يا مشؤوم فقام أخي وتقدم العبد فرمى راسه وسحبه من رجله إلى السرداب ونادى: أين المليحة؟ فجاءت الجارية وبيدها الطبق الذي فيه الملح فلما رأت أخي والسيف بيده ولت هاربة فتبعها أخي وضربها فرمى رأسها ثم نادى: أين العجوز؟ فجاءت فقال لها: أتعرفيني يا عجوز النحس؟ فقالت: لا يا مولاي فقال لها: أنا صاحب الدنانير الذي جئت وتوضأت عندي وصليت ثم تحيلت علي حتى أوقعتني هنا فقالت: اتق الله في أمري فالتفت إليها وضربها بالسيف فصيرها قطعتين ثم خرج في طلب الجارية فلما رأته طار عقلها وطلبت منه الأمان فأمنها ثم قال لها: ما الذي أوقعك عند هذا العبد الأسود؟ فقالت: إني كنت جارية لبعض التجار وكانت هذه العجوز تتردد علي فقالت لي يوماً من الأيام إن عندنا فرحاً ما رأى أحد مثله فأحب أن تنظري إليه، فقلت لها: سمعاً وطاعة ثم قمت ولبست أحسن ثيابي وأخذت معي صرة فيها مائة دينار ومضيت معها حتى أدخلتني هذه الدار.

فلما دخلت ما شعرت إلا وهذا الأسود أخذني ولم أزل عنده على هذا الحال ثلاث سنين بحيلة العجوز الكاهنة فقال لها أخي: هل له في الدار شيء؟ فقالت: عنده شيء كثير فإن كنت تقدر على نقله فانقله فقام أخي ومشى معها ففتحت له الصناديق فيها أكياس فبقي أخي متحيراً، فقالت له الجارية: امض الآن ودعني هنا وهات من ينقل المال فخرج واكترى عشرة رجال، وجاء فلما وصل إلى الباب وجده مفتوحاً ولم ير الجارية ولا الأكياس، وإنما رأى شيئاً يسيراً من المال والقماش فعلم أنها خدعته فعند ذلك أخذ المال الذي بقي وفتح الخزائن وأخذ جميع ما فيها من القماش ولم يترك في الجار شيئاً وبات تلك الليلة مسروراً، فلما أصبح الصباح وجد بالباب عشرين جندياً فلما خرج عليهم تعلقوا به وقالوا له: إن الوالي يطلبك فأخذوه وراحوا إلى الوالي، فلما رأى أخي قال له: من أين لك هذا القماش؟ فقال أخي: أعطني الأمان فأعطاه منديل الأمان فحدثه بجميع ما وقع له مع العجوز من الأول إلى الآخر ومن هروب الجارية ثم قال للوالي: والذي أخذته خذ منه ما شئت ودع مااتقوت به فطلب الوالي جميع المال والقماش وخاف أخي أن يعلم به السلطان فأخذ البعض وأعطى أخي البعض وقال له: اخرج من هذه المدينة وإلا أشنقك فقال: السمع والطاعة فخرج إلى بعض البلدان فخرجت عليه اللصوص فعروه وضربوه وقطعوا أذنيه فسمعت بخبره فخرجت إليه وأخذت إليه ثياباً وجئت به إلى المدينة مسروراً ورتبت له ما يأكله وما يشربه.

وأما أخي السادس يا أمير المؤمنين وهو مقطوع الشفتين فإنه كان فقيراً جداً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا الفانية فخرج يوماً من الأيام يطلب شيئاً يسد به رمقه فبينما هو في بعض الطرق إذ رأى حسنه ولها دهليز واسع مرتفع وعلى الباب خدم وأمر ونهي فسأل بعض الواقفين هناك فقال: هي لإنسان من اولاد الملوك فتقدم أخي إلى البوابين وسألهم شيئاً فقالوا: ادخل باب الدار تجد ما تحب من صاحبها فدخل الدهليز ومشى فيه ساعة حتى وصل إلى دار في غاية ما يكون من الملاحة والظرف وفي وسطها بستان ما رأى الراؤون أحسن منه وأرضها مفروشة بالرخام وستورها مسبولة فصار أخي لا يعرف أين يقصد فمضى نحو صدر المكان فرأى أنساناً حسن الوجه واللحية فلما رأى أخي قام إليه ورحب به وسأله عن حاله فأخبره أنه محتاج، فلما سمع كلام أخي أظهر غماً شديداً ومد يده إلى ثيابه ومزقها وقال: هل أكون أنا ببلد وأنت بها جائع لأصبر من ذلك ووعده بكل خير ثم قال: لا بد أن تمالحني فقال: يا سيدي ليس لي صبر وإني شديد الجوع فصاح: يا غلام هات الطشت والإبريق ثم قال له: يا ضيفي تقدم واغسل يدك ثم أومأ كأنه يغسل يده ثم صاح على أتباعه أن قدموا المائدة فجعلت أتباعه تغدو وترجع كأنها تهيء السفرة، ثم أخذ أخي وجلس معه على تلك السفرة الموهومة وصار صاحب المنزل يومئ ويحرك شفته كأنه يأكل ويقول لأخي: كل ولا تستحي فإنك جائع وأنا أعلم ما أنت فيه من شدة الجوع، فجعل أخي يومئ كأنه يأكل وهو يقول لأخي: كل وانظر هذا الخبز وانظر بياضه وأخي لا يبدي شيئاً، ثم إن أخي قال في نفسه: إن هذا الرجل يحب أن يهزأ بالناس.

فقال: يا سيدي عمري ما رأيت أحسن من بياض هذا الخبز ولا ألذ من طعمه فقال: هذا خبزته جارية لي كنت اشتريتها بخمسمائة دينار، ثم صاح صاحب الدار: يا غلام قدم لنا الكباب الذي لا يوجد مثله في طعام الملوك، ثم قال لأخي: كل يا ضيفي فإنك شديد الجوع ومحتاج إلى الأكل، فصار أخي يدور حنكه ويمضغ كأنه يأكل وأقبل الرجل يستدعي لوناً ب د لون من الطعام ولا يحضر شيئاً ويأمر أخي بالأكل، ثم قال: يا غلام قدم لنا الفراريج المحشوة بالفستق ثم قال: كل ما لم تأكل مثله قط فقال: يا سيدي إن هذا الأكل لا نظير له في اللذة وأقبل يومئ بيده إلى فم أخي حتى كأنه يلقمه بيده وكان يعدد هذه الألوان ويصفها لأخي بهذه الأوصاف وهو جائع، فاشتد جوعه وصار بشهوة رغيف من شعير.

ثم قال له صاحب الدار: هل رأيت أطيب من أباريز هذه الأطعمة فقال له أخي: لا يا سيدي فقال: كثر الأكل ولا تستح فقال: قد اكتفيت من الطعام فصاح الرجل على أتباعه أن قدموا الحلويات فحركوا أيديهم في الهواء كأنهم قدموا الحلويات ثم قال صاحب المنزل لأخي: كل من هذا النوع فإنه جيد وكل من هذه القطائف بحياتي وخذ هذه القطيفة قبل أن ينزل منها لجلاب فقال له أخي: لا عدمتك يا سيدي وأقبل أخي يسأله عن كثرة المسك الذي في القطائف فقال له: إن هذه عادتي في بيتي فدائماً يضعون لي في كل قطيفة مثقالاً من المسك ونصف مثقال من العنبر.

هذا كله وأخي يحرك رأسه وفمه يلعب بين شدقيه كأنه يتلذذ بأكل الحلويات، ثم صاح صاحب الدار على أصحابه أن أحضروا النقل فحركوا أيديهم في الهواء كأنهم أحضروا النقل وقال لأخي: كل من هذا اللوز ومن هذا الجوز ومن هذا الزبيب ونحو ذلك وصار يعد له أنواع النقل ويقول له: كل ولا تستح. فقال أخي: يا سيدي قد اكتفيت ولم يبق لي قدرة على أكل شيء فقال: يا ضيفي إن أردت أن تأكل وتتفرج على غرائب المأكولات فالله الله لا تكن جائعاً. ثم فكر أخي في نفسه وفي استهزاء ذلك الرجل به وقال: لأعملن فيه عملاً يتوب بسببه إلى الله عن هذه الفعال.

ثم قال الرجل لأتباعه: قدموا لنا الشراب فحركوا أيديهم في الهواء حتى كأنهم قدموا الشراب، ثم أومأ صاحب المنزل كأنه ناول أخي قدحاً قال: خذ هذا القدح فإنه يعجبك، فقال: يا سيدي هذا من إحسانك وأومأ أخي بيده كأنه يشرب فقال له: هل أعجبك؟ فقال له: يا سيدي ما رأيت ألذ من هذا الشراب، فقال له: اشرب هنيئاً وصحة، ثم إن صاحب البيت أومأ وشرب ثم ناول أخي قدحاً ثانياً فخيل أنه شربه وأظهر انه سطران ثم إن أخي غافله ورفع يده حتى بان بياض إبطه وصفعه على رقبته صفعة رن لها المكان ثم ثنى عليه بصفعة ثانية.

وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة الرابعة والأربعين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أخا المزين لما صفع صاحب الدار قال له الرجل: ما هذا يا أسفل العالمين؟ فقال: يا سيدي أنا عبدك الذي أنعمت عليه وأدخلته منزلك وأطعمته الزاد وأسقيته الخمر العتيق فسكر وعربد عليك ومقامك أعلى من أن تؤاخذه بجهل فلما سمع صاحب المنزل كلام أخي ضحك ضحكاً عالياً ثم قال: إن لي زماناً طويلاً أسخر بالناس وأهزأ بجميع أصحاب المزاح والمجون ما رأيت منهم من له طاقة على أن أفعل به هذه السخرية ولا من له فطنة يدخل بها في جميع أموري غيرك والآن عفوت عنك، فكن نديمي على الحقيقة ولا تفارقني ثم أمر بإخراج عدة من أنواع الطعام المذكورة أولاً فأكل هو وأخي حتى اكتفيا ثم انتقلا إلى مجلس الشراب فإذا فيه جوار كأن به الأقمار فغنين بجميع الألحان واشتغلن بجميع الملاهي ثم شربا حتى غلب عليهما السكر وأنس الرجل بأخي حتى كأنه أخوه وأحبه محبة عظيمة، وخلع عليه خلعة سنية.

فلما أصبح الصباح عادا لما كانا عليه من الأكل والشرب ولم يزالا كذلك مدة عشرين سنة ثم أن الرجل مات وقبض السلطان على ماله واحتوى عليه فخرج أخي من البلد هارباً فلما وصل إلى نصف الطريق خرج عليه العرب فأسروه وصار الذي أسره يعذبه ويقول له: اشتر روحك مني بالأموال وإلا أقتلك فجعل أخي يبكي ويقول: أنا والله لا أملك شيئاً يا شيخ العرب، ولا أعرف طريق شيء من لمال وأنا أسيرك وصرت في يدك فافعل بي ما شئت فأخرج البدوي الجبار من حزامه سكيناً عريضة لو نزلت على رقبة جمل لقطعتها من الوريد إلى الوريد وأخذها في يده اليمنى وتقدم إلى أخي المسكين وقطع بها شفتيه وشك عليه في المطالبة وكان للبدوي زوجة حسنة وكان إذا أخرج البدوي تتعرض لأخي وتراوده عن نفسه وهو يمتنع حياء من الله تعالى فاتفق أن راودت أخي يوماً من الأيام فقام ولاعبها وأجلسها في حجره فبينما هما كذلك وإذا يزوجها داخل عليهما فلما نظر إلى أخي قال له: ويلك يا خبيث أتريد الآن أن تفسد علي زوجتي وأخرج سكيناً وقطع بها ذكره وحمله على جمل وطرحه فوق جبل وتركه وسار إلى حال سبيله فجاز عليه المسافرون فعرفوه فأطعموه وأسقوه وأعلموني بخبره فذهبت إليه وحملته، ودخلت به المدينة ورتبت له ما يكفيه وها أنا جئت عندك يا أمير المؤمنين وخفت أن أرجع إلى بيتي قبل إخبارك، فيكون ذلك غلطاً وورائي ستة أخوة وأنا أقوم بهم.

فلما سمع أمير المؤمنين قصتي وما أخبرته به عن أخوتي، ضحك وقال: صدقت يا صامت أنت قليل الكلام ما عندك فضول ولكن الآن أخرج من هذه المدينة وأسكن غيرها ثم نفاني من بغداد فلم أزل سائراً في البلاد حتى طفت الأقاليم إلى أن سمعت بموته وخلافة غيره فرجعت إلى المدينة فوجدته مات ووقعت عند هذا الشاب وفعلت معه أحسن الفعال ولولاي أنا لقتل وقد اتهمني بشيء ما هو في جميع ما نقله عني من الفضول وكثرة الكلام وكثافة الطبع وعدم الذوق باطل يا جماعة. ثم قال الخياط لملك الصين، فلما سمعنا قصة المزين وتحققنا فضوله وكثرة كلامه وأن الشاب مظلوم معه أخذنا المزين وقبضنا عليه وحبسناه وجلسنا حوله آمنين ثم أكلنا وشربنا وتمت الوليمة على أحسن حالة ولم نزل جالسين إلى أن أذن العصر فخرجت وجئت منزلي وعشيت زوجتي فقالت: إن طول النهار، في حظك وأنا قاعدة في البيت حزينة فإن لم تخرجي وتفرجني بقية النهار كان ذلك سبب فراقي منك فأخذتها وخرجت بها وتفرجنا إلى العشاء ثم رجعنا فلقينا هذا الأحدب والسكر طافح منه وهو ينشد هذين البيتين:


رق الزجاج وراقت الخمر .......فتشابها وتشاكـل الأمـر
فكأنما خـمـر ولا قـدح ..........وكأنما قدح ولا خـمـر

فعزمت عليه فأجابني وخرجت لأشتري سمكاً مقلياً فاشتريت ورجعت ثم جلسنا نأكل، فأخذت زوجتي لقمة وقطعة سمك وأدخلتهما فمه وسدته فمات فحملته وتحايلت حتى رميته في بيت هذا الطبيب وتحايل الطبيب، حتى رماه في بيت المباشر الذي رماه في طريق السمسار وهذه قصة ما لقيته البارحة أما هي أعجب من قصة الحدب فلما سمع ملك الصين هذه القصة أمر بعض حجابه أن يمضوا مع الخياط ويحضروا المزين وقال لهم: لا بد من حضوره لأسمع كلامه ويكون ذلك سبباً في خلاصكم جميعاً، وندفن هذا الأحدب ونواريه في التراب فإنه ميت من أمس ثم نعمل له ضريحاً لأنه كان سبباً في اطلاعنا على هذه الأخبار العجيبة فما كان إلا ساعة حتى جاءت الحجاب هم والخياط بعد أن مضوا إلى الحبس وأخرجوا منه المزين وساروا به إلى أن أوقفوه بين يدي هذا الملك، فلما رآه تأمله فإذا هو شيخ كبير جاوز التسعين أسود الوجه أبيض اللحية والحواجب مقرطم الأذنين طويل الأنف في نفسه كبر فضحك الملك من رؤيته وقال: يا صامت أريد أن تحكي لي شيئاً من حكاياتك فقال المزين: يا ملك الزمان ما شأن هذا النصراني وهذا بطريق اليهودي وهذا المسلم وهذا الأحدب بينكم ميت وما سبب هذا الجمع فقال له ملك الصين: وما سؤالك عن هؤلاء؟ فقال: سؤالي عنهم حتى يعلم الملك أني غير فضولي ولا أشتغل بما لا يعنيني، وإنني بريء مما اتهموني به من كثرة الكلام.

وأن لي نصيباً من اسمي حيث لقبوني بالصامت كما قال الشاعر:

وكلما أبصرت عيناك ذا لقب ......إلا ومعناه أن فتشت في لقبي

فقال الملك: اشرحوا للمزين حال هذا الأحدب وما جرى له في وقت العشاء واشرحوا له ما حكى النصراني وما حكى اليهودي وما حكى الخياط، فحكوا له حكايات الجميع فحرك المزين رأسه وقال: والله إن هذا الشيء عجيب اكشفوا لي عن هذا الأحدب فكشفوا له عنه فجلس عند رأسه وأخذ رأسه في حجره ونظر في وجهه وضحك ضحكاً عالياً حتى انقلب على قفاه من شدة الضحك وقال: لكل موتة سبب من الأسباب وموتة هذا الأحدب من عجب العجاب يجب أن تؤرخ في المسجلات ليعتبر بما مضى ومن هو آت فتعجب الملك من كلامه وقال: يا صامت إحك لنا سبب كلامك هذا وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة الخامسة والأربعين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك قال: يا صامت احك لنا سبب كلامك هذا فقال: يا ملك وحق نعمتك أن الأحدب فيه الروح ثم إن المزين أخرج من وسطه مكحلة فيها دهن ودهن رقبة الأحدب وغطاها حتى عرقت ثم أخرج كلبتين من حديد ونزل بهما في حلقة فالتقطتا قطعة السمك بعظمها فلما أخرجها رآها الناس بعيونهم ثم نهض الأحدب واقفاً على قدميه وعطس عطسة واستفاق في نفسه وملس بيديه على وجهه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فتعجب الحاضرون من الذي رأوه وعاينوه، فضحك ملك الصين حتى غشي عليه وكذلك الحاضرون وقال السلطان: والله إن هذه القصة عجيبة ما رأيت أغرب منها ثم إن السلطان قال: يا مسلمين يا جماعة العسكر، هل رأيتم في عمركم أحداً يموت ثم يحيا بعد ذلك ولولا رزقه الله بهذا المزين لكان اليوم من أهل الآخرة فإنه كان سبباً لحياته، فقالوا: والله إن هذا من العجب العجاب ثم إن ملك الصين أمر أن تسطر هذه القصة فسطروها ثم جعلوها في خزانة الملك ثم خلع على اليهودي والنصراني والمباشر وخلع على كل واحد خلعة سنية وجعل الخياطة خياطه ورتب له الرواتب، وأصلح بينه وبين الأحدب وخلع على الأحدب خلعة سنية مليحة ورتب له الراتب وجعله نديمه وأنعم على المزين وخلع عليه خلعة سنية ورتب له الرواتب، وجعل له جامكية وجعله مزين المملكة ونديمه ولم يزالوا في ألذ العيش وأهناه إلى أن آتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات وليس هذا بأعجب من قصة الوزيرين، التي فيها ذكر أنيس الجليس قال الملك وما حكاية الوزيرين؟



حكاية الوزيرين التي فيها ذكر أنيس الجليس


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بالبصرة ملك من الملوك يحب الفقراء والصعاليكويرفق بالرعية ويهب من ماله لمن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان يقال لهذا الملك محمد بن سليمان الزيني وكان له وزيران أحدهما يقال له المعين ابن سا وي والثاني يقال له الفضل بن خاقان وكان الفضل ابن خاقان أكرم أهل زمانه حسن السيرة أجمعت القلوب على محبته، واتفقت العقلاء على مشورته وكل الناس يدعون له بطول مدته لنه محضر خير مزيل الشر والضير وكان الوزير معين بن ساوي يكره الناس ولا يحب الخير وكان محضر سوء، وكان الناس على قدر محبتهم لفضل الدين ابن خاقان يبغضون المعين بن ساوي بقدرة القادر ثم إن الملك محمد بن سليمان الزيني كان قاعداً يوماً من الأيام على كرسي مملكته وحوله أرباب دولته إذ نادى وزيره الفضل بن خاقان وقال له: إني أريد جارية لا يكون في زمانها أحسن منها بحيث تكون كاملة في الجمال، فائقة في الاعتدال حميدة الخصال فقال أرباب الدولة: هذه لا توجد إلا بعشرة آلاف دينار.

فعند ذلك صاح السلطان على الخازندار وقال: احمل عشرة آلاف دينار، إلى جار الفضل بن خاقان فامتثل الخازندار أمر السلطان ونزل الوزير بعدما أمره السلطان أن يعمد إلى السوق في كل يوم ويوصي السماسرة على ما ذكره وأنه لا تباع جارية ثمنها فوق الألف دينار حتى تعرض على الوزير فلم تبع السماسرة جارية حتى يعرضوها عليه فامتثل الوزير أمره، واستمر على هذا الحال مدة من الزمان ولم تعجبه جارية فاتفق يوماً من الأيام أن بعض السماسرة أقبل على دار الوزير الفضل بن خاقان فوجده راكباً متوجهاً إلى قصر الملك فقبض على ركابه وأنشد هذين البيتين:

يا من أعاد رميم الملك منـشـوراً .... أنت الوزير الذي لا زال منصوراً
أحييت ما مات بين الناس من كرم
... لا زال سعيك عند الله مشكـورا

ثم قال: يا سيدي إن الجارية التي صدر بطلبها المرسوم الكريم قد حضرت فقال له الوزيرعلي بها فغاب ساعة ثم حضر ومعه جارية رشيقة القد قاعدة النهد بطرف كحيل وخد أسيل وخصر نحيل وردف ثقيل وعليها أحسن ما يكون من الثياب ورضابها أحلى من الجلاب وقامتها تفضح غصون البان وكلامها أرق من النسيم إذا مر على زهر البستان كما قال فيها بعض واصفيها هذه الأبيات:

لها بشر مثل الحرير ومنـطـق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
وعينان قال الله كونا فـكـانـتـا
.... فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
فيا حبها زدني جوى كـل لـيلة
... ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر
ذوائبها ليل ولكـن جـبـينـهـا
... إذا أسفرت يوم يلوح به الفجـر


فلما رآها الوزير أعجبته غاية الإعجاب فالتفت إلى السمسار وقال له: كم ثمن هذه الجارية؟ فقال: وقف سعرها على عشرة آلاف دينار وحلف صاحبها أن العشرة آلاف دينار لم تجيء ثمن الفراريج التي أكلتها ولا ثمن الخلع التي خلعتها على معلميها فإنها تعلمت الخط والنحو واللغة والتفسير وأصول الفقه والدين والطب والتقويم والضر بالآلات المطربة، فقال الوزير علي بسيدها فأحضره السمسار في الوقت والساعة فإذا هو رجل أعجمي عاش زمناً طويلاً حتى صيره الدهر عظماً في جلد.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.


 
في الليلة السادسة والأربعين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجمي صاحب الجارية لما حضر بين يدي الوزير الفضل بن خاقان قال له الوزير: رضيت أن تأخذ في هذه الجارية عشرة آلاف دينار من السلطان محمد بن سليمان الزيني؟ فقال العجمي: حيث كانت للسلطان فالواجب علي ان أقدمها إليه هدية بلا ثمن.

فعند ذلك أمر بإحضار الأموال فلما حضرت وزن الدنانير للعجمي ثم أقبل النخاس على الوزير وقال: عن إذن مولانا الوزير أتكلم فقال الوزير: هات ما عندك فقال: عندي من الرأي أن لا تطلع بهذه الجارية إلى السلطان في هذا اليوم، فإنه قادمة من السفر واختلفت عليها الهواء وأتعبها السفر ولكن خلها عندك في القصر عشرة أيام حتى تستريح فيزداد جمالها ثم أدخلها الحمام وألبسها أحسن الثياب وأطلع بها إلى السلطان فيكون لك في ذلك الحظ الأوفر، فتأمل الوزير كلام النخاس فوجده صواباً فأتى بها إلى قصره وأخلى لها مقصورة ورتب لها كل ما تحتاج إليه من طعام وشراب وغيره فمكثت مدة على تلك الرفاهية وكان للوزير الفضل بن خاقان ولد كأنه البدر إذا أشرق بوجه أقمر وخد أحمر وعليه خال كنقطة عنبر وفيه عذار أخضر كما قال الشاعر في مثله هذه الأبيات:

ورد الخدود ودونه شوك القـنـا
...فمن المحدث نفسه أن يجتـنـى
لا تمدد الأيدي إليه فـطـالـمـا
...شنوا الحروب لأن مددنا الأعينـا
يا قلبه القاسـي ورقة خـصـره
...هلا نقلت إلى هنا مـن هـنـا
لو كان رقة خصره في قـلـبـه
...ما جار قط على المحب ولا جنى
يا عاذلي في حبه كـن عـاذري
....من لي بجسم قد تملكه الضنـى
ما الذنب إلا للفـؤاد ونـاظـري
...لولاهما ما كنت في هذا العنـى

وكان الصبي لم يعرف قضية هذه الجارية وكان والده أوصاها وقال لها: يا بنتي اعلمي أني ما اشتريتك إلا سرية للملك محمد بن سليمان الزيني وإن لي ولداً ما ترك صبية في الحارة إلا فعل بها، فاحفظي نفسك منه وأحذري أن تريه وجهك أو تسمعيه كلامك فقالت الجارية: السمع والطاعة ثم تركها وانصرف.

واتفق بالأمر المقدر أن الجارية دخلت يوماً من الأيام الحمام الذي في المنزل وقد حماها بعض الجواري ولبست الثياب الفاخرة فتزايد حسنها وجمالها ودخلت على زوجة الوزير فقبلت يدها فقالت لها: نعيماً يا أنيس الجليس كيف حالك في هذا الحمام؟ فقالت: يا سيدتي ما كنت محتاجة إلا إلى حضورك فيه، فعند ذلك قالت سيدة البيت للجواري: هيا بنا ندخل الحمام فامتثلن أمرها ومضين وسيدتهن بينهن وقد وكلت بباب المقصورة التي فيها أنيس الجليس جاريتين صغيرتين وقالت لهما: لا تمكنا أحد من الدخول على الجارية فقالتا: السمع والطاعة.

فبينما أنيس الجليس قاعدة في المقصورة وإذا بابن الوزير الذي اسمه علي نور الدين قد دخل وسأل عن أمه وعن العائلة، فقالت له الجاريتان: دخلوا الحمام،و قد سمعت الجارية أنيس الجليس كلام علي نور الدين بن الوزير وهي من داخل المقصورة.

فقالت في نفسها: ياترى ما شأن هذا الصبي الذي قال لي الوزير عنه أنه ما خلا بصبية في الحارة الا وأوقعها والله أني أشتهي أن أنظره.ثم أنها نهضت على قدميها وهي بأثر الحمام وتقدمت جهة باب المقصورة ونظرت إلى علي نور الدين فإذا هو كالبدر في تمامهفأورثتها النظرة ألف حسرة ولاحت من الصبي التفاتة إليها فنظرها نظرة اورثته ألف حسرة ووقع كل منهما في شرك هوى الآخر، فتقدم الصبي إلى الجاريتين وصاح عليهما فهربتا من بين يديه ووقفا من بعيد ينظرانه وينظران ما يفعل، وإذا به تقدم من باب المقصورة وفتحه ودخل على الجارية وقال لها: أنت التي اشتراك أبي؟ فقالت له: نعم، فعند ذلك تقدم الصبي إليها وكان في حال السكر وأخذ رجليها وجعلها في وسطه وهي شبكت يدها في عنقه واستقبلته بتقبيل وشهيق وغنج ومص لسانها ومصت لسانه فأزال بكارتها فلما رأت الجاريتان سيدهما الصغير داخلاً على الجارية أنيس الجليس صرختا وكان قد قضى الصبي حاجته وفر هارباً للنجاة من الخوف عقب الفعل الذي فعله.


فلما سمعت سيدة البيت صراخ الجاريتين مضت من الحمام والعرق يقطر منها وقالت: ما سبب هذا الصراخ الذي في الدار، فلما قربت من الجاريتين اللتين أقعدتهما على باب المقصورة قالت لهما: ويلكما ما الخبر، فلما رأياها قالتا: إن سيدي نور الدين جاء وضربنا فهربنا منه فدخل أنيس الجليس وعانقها ولا ندري أي شيء عمل بعد ذلك، فلما صحا هرب.

فعند ذلك تقدمت سيدة البيت إلى أنيس الجليس وقالت لها: ما الخبر؟ فقالت لها: يا سيدتي أنا قاعدة وإذا بصبي جميل الصورة دخل علي وقال لي: أنت التي اشتراك أبي لي؟ فقلت نعم والله يا سيدتي اعتقدت أن كلامه صحيح فعند ذلك أتى إلي وعانقني، فقالت لها: هل فعل بك شيء غير ذلك؟ قالت: نعم، وأخذ مني ثلاث قبلات فقالت: ما تركك من غير افتضاض.

ثم بكت ولطمت على وجهها هي والجواري خوفاً على علي نور الدين أن يذبحه أبوه.

فبينما هم كذلك وإذا بالوزير دخل وسأل عن الخبر فقالت له زوجته: أحلف أن ما أقوله لك تسمعه قال: نعم فأخبرته بما فعله ولده فحزن ومزق ثيابه ولطم على وجهه ونتف لحيته، فقالت له زوجته: لا تقتل نفسك أنا أعطيك من مالي عشرة آلاف دينار ثمنها، فعند ذلك رفع رأسه إليها وقال لها: ويلك أنا ما لي حاجة بثمنها ولكن خوفي أن تروح روحي ومالي فقالت له: يا سيدي ما سبب ذلك؟ فقال لها: أما تعلمين أن وراءنا هذا العدو الذي يقال له: المعين بن ساوي، ومتى سمع هذا الأمر تقدم إلى السلطان وقال له.. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة السابعة والأربعين




قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال لزوجته: أما تعلمين أن وراءنا عدواً يقال له المعين بن ساوي ومتى سمع بهذا الأمر تقدم إلى السلطان وقال له: إن وزيرك الذي تزعم أنه يحبك أخذ منك عشرة آلاف دينار واشترى بها جارية ما رأى أحد مثلها فلما أعجبته قال لابنه: خذها أنت أحق بها من السلطان فأخذها وأزال بكارتها وها هي الجارية عنده فيقول الملك تكذب فيقول للملك عن إذنك أهجم عليه وآتيك بها فيأذن له في ذلك فيهجم على الدار ويأخذ الجارية ويحضرها بين يدي السلطان ثم يسألها فلا تقدر أن تنكر فيقول له يا سيدي أنت تعلم أني ناصح لك ولكن ما لي عندكم حظ فيمثل بي السلطان والناس كلهم يتفرجون علي وتروح روحي. فقالت له زوجته: لا تعلم أحد وسلم أمرك إلى الله في هذه القضية فعند ذلك سكن قلب الوزير وطاب خاطره.

هذا ما كان من أمر الوزير، وأما ما كان من أمر علي نور الدين فإنه خاف عاقبة الأمر فكان يقضي نهاره في البساتين ولا يأتي إلا في آخر الليل لأمه فينام عندها ويقوم قبل الصبح ولا يراه أحد،ولم يزل كذلك شهراً وهو لم ير وجه أبيه، فقالت أمه لأبيه: يا سيدي هل تعدم الجارية وتعدم الولد، فإن طال هذا الأمر على الولد هج، قال لها: وكيف العمل؟ قالت: أسهر هذه الليلة فإذا جاء فأمسكه واصطلح أنت وإياه وأعطه الجارية إنها تحبه وهو يحبها وأعطيك ثمنها. فسهر الوزير طول الليل فلما أتى ولده أمسكه وأراد نحره فأدركته أمه وقالت له: أي شيء تريد أن تفعل معه؟ فقال لها: أريد أن أذبحه فقال الولد لأبيه: هل أهون عليك؟ فتغرغرت عيناه بالدموع وقال له: يا ولدي كيف هان عليك ذهاب مالي وروحي؟ فقال الصبي: اسمع يا والدي مقال الشاعر:

هبني جنيت فلم تزل أهل النهـي ...يهبون للجاني شماحـاً شـامـلا

ماذا عسى يرجو عدوك وهو فـي ...درك الحضيض وأنت أعلى منزلا


فعند ذلك قام الوزير من على صدر ولده وأشفق عليه وقام الصبي وقبل يد والده فقال: يا ولدي لو علمت أنك تنصف أنيس الجليس كنت وهبتها لك، فقال يا والدي كيف لا أنصفها قال: أوصيك يا ولدي أنك لا تتزوج عليها ولا تضاررها ولا تبعها، قال له: يا والدي أنا أحلف لك أن لا أتزوج عليها، ولا أبيعها ثم حلف له أيماناً على ما ذكر ودخل على الجارية فأقام معها سنة، وأنسى الله تعالى الملك قصة الجارية. وأما المعين بن ساوي فإنه بلغه الخبر ولكنه لم يقدر أن يتكلم لعظم منزلة الوزير عند السلطان فلما مضت السنة دخل الوزير فضل الدين بن خاقان الحمام وخرج وهو عرقان، فأصابه الهواء فلزم الوساد وطال به السهاد وتسلسل به الضعف فعند ذلك نادى ولده علي نور الدين فلما حضر بين يديه قال له: يا ولدي أن الرزق مقسوم والأجل محتوم ولا بد لكل نسمة من شرب كأس المنون وأنشد هذه الأبيات:

من فاته الموت لـم يفـتـه غـدا ...والكل منا على حوض الردى وردا

سوى العظم بمن قد كان محتـقـرا ...ولم يدع هبة بـين الـورى أحـدا

لم يبق من ملك كـلا ولا مـلـك ...ولا نـبـي يعـيش دائمـاً أبــدا

ثم قال: يا ولدي مالي عندك وصية إلا تقوى الله والنظر في العواقب وأن تستوصي بالجارية أنيس الجليس فقال له: يا أبت ومن مثلك وقد كنت معروفاً بفعل الخير ودعاء الخطباء لك على المنابر فقال: يا ولدي أرجو من الله تعالى القبول ثم نطق الشهادتين وشهق شهقة فكتب من أهل السعادة فعند ذلك امتلأ القصر بالصراخ ووصل الخبر إلى السلطان وسمعت أهل المدينة بوفاة الفضل بن خاقان فبكت عليه الصبيان في مكاتبها ونهض ولده علي نور الدين وجهزه وحضرت الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وأهل المدينة مشهده وكان ممن حضروا الجنازة الوزير المعين بن ساوي وأنشد بعضهم عند خروج جنازته من الدار هذه الأبيات:

قد قلت للرجل المولى غسلـه ...هلا أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسـلـه بـمـا ...أذرت عيون المجد عند بكـائه

وأزل مجاميع الحنوط ونحهـا ...عنه وحنطه بطـيب ثـنـائه

ومر الملائكة الكرام بحمـلـه ...شرفاً ألست تراهموا بـإزائه

لاتوه أعناق الرجال بحمـلـه ...يكفي الذي حملوه من نعمـائه


ثم مكث علي نور الدين، شديد الحزن على والده مدة مديدة فبينما هو جالس يوماً من الأيام في بيت والده إذ طرق الباب طارق فنهض علي نور الدين وفتح الباب وإذا برجل من ندماء والده وأصحابه فقبل يد علي نور الدين، وقال: يا سيدي من خلف مثلك ما مات وهذا مصير سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم يا سيدي طب نفساً ودع الحزن فعند ذلك نهض علي نور الدين إلى قاعة الجلوس ونقل إليها ما يحتاج إليه واجتمع عليه أصحابه وأخذ جاريته واجتمع عليه عشرة من أولاد التجار ثم إنه أكل الطعام وشرب الشراب وجدد مقاماً بعد مقام وصار يعطي ويتكرم، فعند ذلك دخل عليه وكيله وقال له: يا سيدي علي نور الدين أما سمعت قول بعضهم من ينفق ولم يحسب افتقر، ولقد أحسن من قال هذه الأبيات:

أصون دراهمي وأذب عنـهـا ...لعلمي أنها سيفـي وتـرسـي

أأبذلهـا إلـى أعـدا الأعـادي ...وأبذل في الورى سعدي بنحسي

فيأكلها ويشـربـهـا هـنـيئاً ...ولا يسخو لي أحـد بـفـلـس

وأحفظ درهمي عن كل شخص ...لئيم الطبع لا يصفو لأنـسـي

أحب إلي مـن قـول لـنـذل ...أنلني درهماً لغـد بـخـمـس

فيعرض وجهه ويصـدعـنـي ...فتبقى مثل نفس الكلب نفسـي

فيا ذل الرجـال بـغـير مـال ...ولو كانت فضائلهم كشـمـس



ثم قال: يا سيدي النفقة الجزيلة والمواهب العظيمة تفني المال فلما سمع علي نور الدين من وكيله هذا الكلام نظر إليه وقال له: جميع ما قلته لا أسمع منه كلمة فما أحسن قول الشاعر:

أنا ما ملكت المال يوماً ولـم أجـد ...فلا بسطت كفي ولا نهضت رجلي

فهاتوا بخيلاً نال مجداً بـبـخـلـه ...وهاتوا أروني باذلاً مات من بـذل

ثم قال: اعلم أيها الوكيل أني أريد إذا فضل عندك ما يكفيني لغدائي أن لا تحملني هم عشائي فانصرف الوكيل من عنده إلى حال سبيله وأقبل علي نور الدين ما هو فيه من مكارم الأخلاق وكل من يقول له من ندمائه أن هذا الشيء مليح يقول هو لك هبة أو يقول سيدي أن الدار الفلانية مليحة يقول هي لك هبة ولم يزل علي نور الدين يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار مجلساً وفي آخره مجلساً ومكث على هذا الحال سنة كاملة فبينما هو جالساً يوماً وإذا بالجارية تنشد هذين البيتين:

أحسنت ظنك بالأيام إذا حسنـت ...ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بهـا ...عند صفو الليالي يحدث الكـدر

فلما فرغت من شعرها إذا بطارق يطرق الباب فقام علي نور الدين فتبعه بعض جلسائه من غير أن يعلم به فلما فتح الباب رآه وكيله فقال له علي نور الدين: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي الذي كنا أخافه عليك منه قد وقع لك قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم أنه ما بقي لك تحت يدي شيء يساوي درهماً ولا أقل من درهم وهذه دفاتر المصروف الذي صرفته ودفاتر أصل مالك، فلما سمع علي نور الدين هذا الكلام أطرق رأسه إلى الأرض وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله فلما سمع الرجل الذي تبعها خفية، وخرج ليسأل عليه وماقاله الوكيل رجع إلى أصحابه وقال لهم: انظروا أي شيء تعملون فإن علي نور الدين قد أفلس فلما رجع إليهم علي نور الدين قد أفلس فلما رجع إليهم علي نور الدين ظهر لهم الغم في وجهه فعند ذلك نهض واحد من الندماء على قدميه، ونظر إلى علي نور الدين وقال له: يا سيدي إني أريد أن تأذن لي بالانصراف، فقال علي نور الدين: لماذا الانصراف في هذا اليوم؟ فقال: إن زوجتي تلد في هذه الليلة ولا يمكنني أن أتخلف عنها واريد أن أذهب إليها وأنظرها فأذن له ونهض آخر وقال له: يا سيدي نور الدين أريد اليوم أن أحضر عند أخي فإنه يطاهر ولده وكل واحد يستأذنه إلى حال سبيله حتى انصرفوا كلهم وبقي علي نور الدين وحده فعند ذلك دعا جاريته وقال: يا أنيس الجليس أما تنظرين ما حل بي وحكى لها ما قاله الوكيل فقالت: يا سيدي منذ ليال هممت أن أقول لك على هذا الحال فسمعتك تنشد هذين البيتين:

إذا جادت الدنيا عليك فجد بهـا ...على الناس طرأ قبل ان تتفلت

فلا جود يفنيها إذا هي أقبلـت ...ولا الشح يبقيها إذا هي ولـت


فلما سمعتك تنشدهما ولم أبد لك خطاباً فقال لها: يا أنيس الجليس أنت تعرفين أني ما صرفت مالي إلا على أصحابي وأظنهم لا يتركونني من غير مؤاساة، فقالت أنيس الجليس: والله ما ينفعونك بنافعة، فقال علي نور الدين: فأنا في هذه الساعة أقوم واروح إليهم وأطرق أبوابهم لعلي أنال منهم شيئاً فأجعله في يدي رأس مال وأتجر فيه وأترك اللهو واللعب.

ثم إنه نهض من وقته وساعته وما زال سائراً حتى أقبل على الزقاق الذي فيه أصحابه العشرة وكانوا كلهم ساكنين في ذلك الزقاق، فتقدم إلى أول باب وطرقه فخرجت له جارية وقالت له: من أنت؟ فقال: قولي لسيدك علي نور الدين واقف في الباب ويقول لك مملوكك يقبل أياديك وينتظر فضلك، فدخلت الجارية وأعلمت سيدها فصاح عليها وقال لها: ارجعي وقول له: ما هو هنا، فرجعت الجارية إلى علي نور الدين وقالت له: يا سيدي إن سيدي ما هو هنا، فتوجه علي نور الدين وقال في نفسه: إن كان هذا ولد زنا وأنكر نفسه فغيره ما هو ولد زنا، ثم تقدم إلى الباب الثاني وقال كما قال أولاً فأنكر الآخر نفسه فعند ذلك أنشد هذا البيت:

ذهب الذين إذا وقفت ببابهـم ...منوا عليك بما تريد من الندى

فلما فرغ من شعره قال: والله لا بد أن أمتحنهم كلهم عسى أن يكون فيهم واحد يقوم مقام الجميع، فدار على العشرة فلم يجد أحداً منهم فتح له الباب ولا أراه نفسه ولا أمر له برغيف فأنشد هذه الأبيات:

المرء في زمن الإقبال كالشجـرة ...فالناس من حولها ما دامت الثمرة

حتى إذا أسقطت كل الذي حملت ...تفرقوا وأرادوا غيرها شـجـرة

تباً لأبناء هذا الـدهـر كـلـهـم ...فلم أجد واحداً يصفو من العشرة

ثم إنه رجع إلى جاريته وقد تزايد همه فقالت له: يا سيدي أما قلت لكإنهم لا ينفعونك بنافعة؟ فقال: والله ما فيهم من أراني وجهه فقالت له: يا سيدي بع من أثاث البيت شيئاً فشيئاً وأنفق فباع إلى أن باع جميع ما في البيت ولم يبق عنده شيء، فعند ذلك نظر إلى أنيس الجليس وقال لها: ماذا نفعل الآن؟ قالت له: يا سيدي عندي من الرأي أن تقوم في هذه الساعة وتنزل إلى السوق فتبيعني وأنت تعلم أن والدك كان قد اشتراني بعشرة آلاف دينار فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا قدر الله باجتماعنا نجتمع، فقال لها: يا أنيس الجليس ما يهون علي فراقك ساعة واحدة، فقالت له: ولا أنا كذلك لكن للضرورة أحكام كما قال الشاعر:

تلجئ الضرورات في الأمور إلى ...سلـوك مـا لا يلـيق بـالأدب

ما حامل نفسه عـلـى سـبـب ...إلا لأمـر يلـيق بـالـسـبـب


فعند ذلك أخذت دموع أنيس الجليس تسيل على خديه، ثم أنشد هذين البيتين:

قفوا زودوني نظرة قبل فراقكم ...أعلل قلباً كاد بالبـين يتـلـف

فإن كان تزويدي بذلك كـلـفة ...دعوني في وجدي ولا تتكلفوا


ثم مضى وسلمها إلى الدلال وقال له: أعرف مقدار ما تنادي عليه فقال له الدلال: يا سيدي علي نور الدين الأصول محفوظة، ثم قال له: أها هي أنيس الجليس الذي كان اشتراها والدك مني بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، فعند ذلك طلع الدلال إلى التجار فوجدهم لم يجتمعوا كلهم فصبر حتى اجتمع سائر التجار وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية فلما نظر الدلال إلى ازدحام السوق نهض قائماً وقال: يا تجار يا أرباب الأموال ما كل مدور جوزة ولا كل مستطيلة موزة ولا كل حمراء لحمة ولا كل بيضاء شحمة ولا كل صهباء خمرة ولا كل سمراء تمرة، يا تجار هذه الدرة اليتيمة التي لا تفي الأموال لها بقية بكم تفتحون باب الثمن، فقال واحد بأربعة آلاف دينار وخمسمائة، وإذا بالوزير المعين بن ساوي في السوق فنظر علي نور الدين واقفاً في السوق فقال في نفسه: ما باله واقفاً فإنه ما بقي عنده شيء يشتري به جواري، ثم نظر بعينيه فسمع المنادي وهو واقف ينادي في السوق والتجار حوله.


فقال الوزير في نفسه: ما أظنه إلا أفلس ونزل بالجارية ليبيعها، ثم قال في نفسه إن صح ذلك فما أبرده على قلبي، ثم دعا المنادي فأقبل عليه وقبل الأرض بين يديه فقال: إني أريد هذه الجارية التي تنادي عليها فلم يمكنه المخالفة فجاء بالجارية وقدمها بين يديه، فلما نظر إليها وتأمل محاسنها من قامتها الرشيقة وألفاظها الرقيقة أعجبتها فقال له: إلى كم وصل ثمنها فقال: أربعة آلاف وخمسمائة دينار، فلما سمع ذلك التجار ما قدر واحد منهم أن يزيد درهماً ولا ديناراً بل تأخروا لمايعلمون من ظلم ذلك الوزير.


ثم نظر الوزير معين بن ساوي إلى الدلال وقال: ما سبب وقوفك، رح والجارية على أربعة آلاف ولك خمسمائة دينار، فراح الدلال إلى علي نور الدين وقال له: راحت الجارية عليك بلا ثمن فقال له: وماسبب ذلك؟ فقال له: نحن فتحنا باب سعرها بأربعة آلاف وخمسمائة دينار فجاء هذا الظالم المعين بن ساوي ودخل السوق فلما نظر الجارية أعجبته وقال لي شاور على أربعة آلاف ولك خمسمائة وما أظنه إلا يعرف أن الجارية لك فإن كان يعطيك ثمنها في هذه الساعة يكون ذلك من فضل الله، لكن أنا أعرف من ظلمه أنه يكتب لك ورقة حوالة على بعض عملائه ثم يرسل إليهم ويقول: لا تعطوه شيئاً فكلما ذهبت إليهم لتطالبهم يقولون: في غد نعطيك ولا يزالون يعدونك ويخلفون يوماً بعد يوم وأنت عزيز النفس، وبعد أن يضجوا من مطالبتك إياهم يقولون أعطنا ورقة الحوالة إذا أخذوا الورقة منك قطعوها وراح عليك ثمن الجارية.


فلما سمع علي نور الدين من الدلال هذا الكلام نظر إليه وقال له: كيف يكون العمل؟ فقال له: أنا أشير عليك بمشورة فإن قبلتها مني كان لك الحظ الأوفر قال: تجيء في هذه الساعة عندي وأنا واقف وسط السوق وتأخذ الجارية من يدي وتلكمها وتقول لها: ويلك قد فديت يميني التي حلفتها ونزلت بك السوق حيث حلفت عليك أنه لا بد من إخراجك إلى السوق ومناداة الدلال عليك فإن فعلت ذلك ربما تدخل عليه الحيلة وعلى الناس ويعتقدون أنك ما نزلت بها إلا لأجل إبراز اليمين، فقال هذا هو الرأي الصائب، ثم إن الدلال فارقه وجاء إلى وسط السوق وأمسك يد الجارية وأشار إلى الوزير المعين بن ساوي وقال: يا مولاي هذا مالكها قد اقبل ثم جاء علي نور الدين إلى الدلال ونزع الجارية من يده ولكمها وقال: ويلك قد نزلت بك إلى السوق لأجل إبرار يميني.

روحي إلى البيت وبعد ذلك لا تخالفيني فلست محتاجاً إلى ثمنك حتى أبيعك وأنا لو بعت أثاث البيت وأمثاله مرات عديدة ما بلغ قدر ثمنك.


فلما نظر المعين بن ساوي إلى علي نور الدين قال له: ويلك وهل بقي عندك شيء يباع ويشترى، ثم إن المعين بن ساوي أراد أن يبطش به فعند ذلك نظر التجار إلى علي نور الدين وكانوا كلهم يحبونه فقال لهم: ها أنا بين أيديكم وقد عرفتم ظلمه، فقال الوزير: والله لولا أنتم لقتلته، ثم رمزوا كلهم إلى بعضهم بعين الإشارة وقالوا: ما أحد منا يدخل بينك وبينه، فعند ذلك تقدم علي نور الدين إلى الوزير بن ساوي وكان علي نور الدين شجاعاً فجذب الوزير من فوق سرجه فرماه إلى الأرض وكان هناك معجنة طين فوقع الوزير في وسطها وجعل نور الدين يلكمه فجاءت لكمة على أسنانه فاختضبت لحيته بدمه وكان مع الوزير عشرة مماليك فلما رأوا نور الدين يفعل بسيدهم هذه الأفعال وضعوا أيديهم على مقابض سيوفهم وأرادوا أن يهجموا على نور الدين ويقطعونه وإذا بالناس قالوا للمماليك: هذا وزير وهذا ابن وزير وربما اصطلحا مع بعضهما وتكونون مبغوضين عند كل منهما وربما جاءت فيه ضربة فتموتون جميعاً اقبح الموتات ومن الرأي أن لا تدخلوا بينهما، فلما فرغ علي نور الدين من ضرب الوزير أخذ جاريته ومضى إلى داره وأما الوزير ابن ساوي فإنه قام من ساعته وكان قماش ثيابه أبيض فصار ملوناً بثلاثة ألوان الطين ولون الدم ولون الرماد فلما رأى نفسه على هذه الحالة أخذ برشاً وجعله في رقبته وأخذ في يده حزمتين من محلفه وسار إلى أن وقف تحت القصر الذي فيه السلطان وصاح: يا ملك الزمان مظلوم، فأحضروه بين يديه فتأمله فرآه وزيره المعين بن ساوي فقال له: من فعل بك هذه الفعال؟ فبكى وانتحب وأنشد هذين البيتين:

أيظلمني الزمـان وأنـت فـيه ...وتأكلني الكلاب وأنت غـيث

ويروى من حياضك كل صـياد ...وأعطش في حماك وأنت غيث


ثم قال: يا سيدي هكذا كل من يحبك ويخدمك تجري له هذه المشاق، قال له: ومن فعل بك هذه الفعال؟ فقال الوزير: اعلم أني خرجت اليوم إلى سوق الجواري لعلي أشتري جارية طباخة فرأيت في السوق جارية ما رأيت طول عمري مثلها فقال الدلال أنها لعلي بن خاقان وكان مولانا السلطان أعطى إياه سابقاً عشرة آلاف دينار ليشتري له بها جارية مليحة فاشترى تلك الجارية فأعجبته فأعطاها لولده فلما مات أبوه سلك طريق الإسراف حتى باع جميع ما عنده من الأملك والبساتين والأواني فلما أفلس ولم يبق عنده شيء نزل بالجارية إلى السوق على أن يبيعها ثم سلمها إلى الدلال فنادى عليها وتزايد فيها التجار حتى بلغ أربعة آلاف دينار، فلما سمع كلامي نظر إلي وقال: يا شيخ النحس أبيعها لليهود والنصارى ولا أبيعها لك، فقلت: أنا ما اشتريتها لنفسي وإنما اشتريتها لمولانا السلطان الذي هو ولي نعمتنا.


فلما سمع مني هذا الكلام اغتاظ وجذبني ورماني عن الجواد وأنا شيخ كبير وضربني ولم يزل يضربني حتى تركني كما تراني، وأنا ما أوقعني في هذا كله إلا أني جئت لأشتري هذه الجارية لسعادتك ثم إن الوزير رمى نفسه على الأرض وجعل يبكي ويرتعد، فلما نظر السلطان حالته وسمع مقالته قام عرق الغضب بين عينيه، ثم التفت إلى من بحضرته من أرباب الدولة، وإذا بأربعين من ضاربي السيف وقفوا بين يديه فقال لهم: انزلوا في هذه الساعة إلى دار ابن خاقان وانهبوها واهدموها وآتوني به وبالجارية مكتفين واسحبوهما على وجوههما واتوا بهما بين يدي فقالوا: السمع والطاعة، ثم إنهم قصدوا المسير إلى علي نور الدين وكان عند السلطان حاجب يقال له علم الدين مضجر وكان من مماليك الفضل بن خاقان والد علي نور الدين فلما سمع أمر السلطان ورأى الأعداء تهيئوا إلى قتل ابن سيده لم يهن عليه ذلك، فركب جواده وسار إلى أن أتى بيت علي نور الدين فطرق الباب فخرج له علي نور الدين فلما رآه عرفه وأراد أن يسلم عليه فقال: يا سيدي ما هذا وقت سلام ولا كلام واسمع ما قال الشاعر:

ونفسك فز بها إن خفت ضيماً ...وخل الدار تنعي من بناهـا

فإنك واجد أرضـاً بـأرض ...ونفسك لم تجد نفساً سواهـا


فقال علي نور الدين: ما الخبر؟ فقال: انهض وفز بنفسك أنت والجارية فإن المعين بن ساوي نصب لكما شركاً ومتى وقعتما في يده قتلكما وقد أرسل إليكما السلطان أربعين ضارباً بالسيف والرأي عندي أن تهربا قبل أن يحل الضرر بكما، ثم إن سنجر مد يده إلى علي نور الدين بدنانير فعدها فوجدها أربعين ديناراً وقال له: يا سيدي خذ هذه الدنانير ولو كان معي أكثر من ذلك لأعطيتك إياه لكن ما هذا وقت معاتبة، فعند ذلك دخل علي نور الدين على الجارية وأعلمها بذلك فتخبلت، ثم خرج الاثنان في الوقت إلى ظاهر المدينة وأرسل الله عليهما ستره ومشيا إلى ساحل البحر فوجدا مركباً تجهز للسفر والريس واقف في وسط المركب يقول: من بقي له حاجة من وداع أو زوادة أو نسي حاجته فليأت بها فإننا متوجهون، فقال كلهم: لم يبق لنا حاجة يا ريس، فعندئذ قال الريس لجماعته: هيا حلوا الطرف واقلعوا الأوتاد فقال نور الدين: إلى أين يا ريس؟ فقال: إلى دار السلام بغداد.


وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الثامنة والأربعين



قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الريس لما قال لعلي نور الدين إلى دار السلام مدينة بغداد نزل علي نور الدين ونزلت معها لجارية وعوموا ونشروا القلوع فساع بهم المركب وطاب لهم الريح. هذا ما جرى لهؤلاء وأما ما جرى للأربعين الذين أرسلهم السلطان فإنهم جاؤوا إلى بيت علي نور الدين فكسروا الأبواب ودخلوا وطافوا جميع الأماكن فلم يقفوا لهما على خبر، فهدموا الدار ورجعوا وأعلموا السلطان فقال: اطلبوهما في أي مكان كانا فيه فقالوا: السمع والطاعة، ثم نزل الوزير معين بن ساوي إلى بيته بعد أن خلع عليه السلطان خلعة وقال: لا يأخذ بثأرك إلا أنا فدعا له بطول البقاء واطمأن قلبه، ثم إن السلطان أمر أن ينادى في المدينة يا معاشر الناس كافة: قد أمر السلطان أن من عثر بعلي نور الدين بن خاقان وجاء به إلى السلطان خلع عليه خلعة وأعطاه ألف دينار ومن أخفاه أو عرف مكانه ولم يخبر به فإنه يستحق ما يجري عليه من النكال، فصار جميع الناس في التفتيش على علي نور الدين فلم يجدوا له أثر. هذا ما كان من هؤلاء.

وأما ما كان من أمر علي نور الدين وجاريته فإنهما وصلا بالسلامة إلى بغداد فقال الريس: هذه بغداد وهي مدينة أمينة قد ولى عنها الشتاء ببرده وأقبل عليها فصل الربيع بورده وأزهرت أشجارها وجرت أنهارها، فعند ذلك طلع علي نور الدين هو وجاريته من المركب وأعطى الريس خمسة دنانير ثم سارا قليلاً فرمتهما المقادير بين البساتين فجاءا إلى مكانين فوجداه مكنوساً مرشوشاً بمصاطب مستطيلة وقواديس معلقة ملآنة ماء وفوقه مكعب من القصب بطول الزقاق وفي صدر الزقاق باب بستان إلا أنه مغلق فقال علي نور الدين للجارية: والله إن هذا محل ملتح فقالت: يا سيدي اقعد بنا ساعة على هذه المصاطب فطلعا وجلسا على المصاطب ثم غسلا وجهيهما وأيديهما واستلذا بمرور النسيم فناما وجل من لا ينام، وكان البستان يسمى بستان النزهة وهناك قصر يقال له: قصر الفرجة وهو للخليفة هارون الرشيد وكان الخليفة إذا ضاق صدره يأتي إلى البستان ويدخل ذلك القصر فيقعد فيه وكان القصر له ثمانون شباكاً معلقاً فيه ثمانون قنديلاً وفي وسطه شمعدان كبير من الذهب فإذا دخله الخليفة أمر الجواري أن تفتح الشبابيك وأمر إسحق النديم والجواري أن يغنوا ما يشرح صدره ويزول همه، وكان للبستان خولي شيخ كبير يقال له الشيخ إبراهيم، واتفق أنه خرج ليقضي حاجة من أشغاله فوجد المتفرجين معهم النساء وأهل الريبة فغضب غضباً شديداً فصبر الشيخ حتى جاء عنده الخليفة في بعض الأيام فأعلمه بذلك فقال الخليفة: كل من وجدته على باب البستان افعل به ما أردت.


فلما كان ذلك اليوم خرج الشيخ إبراهيم الخولي لقضاء حاجة عرضت له فوجد الاثنين نائمين في البستان مغطيين بإزار واحد فقال: أما عرفا أن الخليفة أعطاني إذناً أن كل من لقيته قتلته ولكن هذين ضرباً خفيفاً حتى لا يقترب أحد من البستان ثم قطع جريدة خضراء وخرج إليهما ورفع يده فبان بياض إبطه وأراد ضربهما فتفكر في نفسه وقال: يا إبراهيم كيف تضربهما ولم تعرف حالهما وقد يكونان غريبان أو من أبناء السبيل ورمتهما المقادير هنا. سأكشف عن وجهيهما وأنظر إليهما، فرفع الإزار عن وجهيهما وقال: هذان حسنان لا ينبغي أن أضربهما، ثم غطى وجهيهما وتقدم إلى رجل علي نور الدين وجعل يكبسها ففتح عينيه فوجده شيخاً كبيراً فاستحى علي نور الدين ولم رجليه واستوى قاعداً وأخذ يد الشيخ فقبلها فقال له: يا ولدي من اين أنتم؟ فقال له: يا سيدي نحن غرباء وفرت الدمعة من عينيه فقال الشيخ إبراهيم: يا ولدي اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إكرام الغريبن، ثم قال له: ياولدي أما تقوم وتدخل البستان وتتفرج فيه فينشرح صدرك؟ فقال له نور الدين: يا سيدي هذا البستان من يخص؟ فقال: يا ولدي هذا ورثته من أهلي وما كان قصد الشيخ إبراهيم بهذا الكلام إلا أن يطمئنهما ليدخلا البستان.

فلما سمع نور الدين كلامه شكره وقام هو وجاريته والشيخ إبراهيم قدامهما فدخلوا البستان فإذا هو بستان بابه مقنطر عليه كروم وأعنابه مختلفة الألوان، الأحمر كأنه ياقوت والأسود كأنه أبنوس، فدخلوا تحت عريشة فوجدوا فيها الأثمار صنوان والأطيار تغرد بالألحان على الأغصان، والهزار يترنم والقمر ملأ بصوته المكان والشحرور كأنه في تغريده إنسان والأثمار قد أينعت أثمارها من كل مأكول ومن فاكهة زوجان والمشمش ما بين كافوري ولوزي ومشمش خراسان والبرقوق كأنه لون الحسان والقراصية تذهل عقل كل إنسان والتين ما بين أحمر وأبيض وأخضر من أحسن الألوان والزهر كأنه اللؤلؤ والمرجان والورد يفضح بحمرته خدود الحسان والبنفسج كأنه الكبريت دنا من النيران والآس والمنتور والخزامى مع شقائق النعمان، وتكالمت تلك الأوراق بمدامع الغمام وضحك ثغر الأقحوان وصار النرجس ناظر إلى ورد بعيون السودان والأترج كأنه أكواب والليمون كبنادق من ذهب وفرشت الأرض بالزهر من سائر الألوان وأقبل الربيع فأشرق ببهجته المكان والنهر في خرير والطير في هدير والريح في صفير والطقس في اعتدال والنسيم في اعتلال، ثم دخل بهما الشيخ إبراهيم القاعة المغلقة، فابتهجوا بحسن تلك القاعة وما فيها من اللطائف الغريبة.


وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 
وفي الليلة التاسعة والأربعين


قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشيخ إبراهيم دخل القاعة ومعه علي نور الدين والجارية وجلسوا بجانب بعض الشبابيك فتذكر علي نور الدين المقاساة التي مضت له فقال: والله إن هذا المكان في غاية الحسن، لقد فكرني بما مضى وأطفأ من كربي جمر الغضى، ثم إن الشيخ إبراهيم قدم لهما الأكل فأكلا كفايتهما ثم غسلا ايديهما وجلس علي نور الدين في شباك من تلك الشبابيك وصاح على جاريته فأتت إليه فصارا ينظران إلى الأشجار وقد حملت سائر الأثمار ثم التفت علي نور الدين إلى الشيخ إبراهيم وقال له: يا شيخ إبراهيم أما عندك شيء من الشراب لأن الناس يشربون بعد أن يأكلوا فجاءه الشيخ إبراهيم بماء حلو بارد فقال له نور الدين ما هذا الشراب الذي تريده؟ فقال له: أتريد خمراً؟ فقال له نور الدين: نعم فقال: أعوذ بالله منها إن لي ثلاثة عشر عاماً ما فعلت ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن شاربه وعاصره وحامله، فقال له نور الدين: اسمع مني كلمتين.

قال: قل ما شئت. قال: إذا لم تكن عاصر الخمر ولا شاربه ولا حامله هل يصيبك من لعنهم شيء؟ قال: لا قال: خذ هذين الدينارين وهذين الدرهمين واركب هذا الحمار وقف بعيداً وأي إنسان وجدته يشتري فصح عليه وقل له: خذ هذين الدرهمين واشتر بهما خمراً واحمله على الحمار وحينئذ لا تكون شارباً ولا حاملاً ولا عاصراً ولا يصيبك شيء مما يصيب الجميع.

فقال الشيخ إبراهيم وقد ضحك من كلامه: والله ما رأيت أظرف منك ولا أمحل من كلامك فقال له نور الدين: نحن صرنا محسوبين عليك وما عليك إلا الموافقة فهات لنا بجميع ما نحتاج إليه فقال له الشيخ إبراهيم: يا ولدي هذا كراري قدامك وهو الحاصل المعد لأمير المؤمنين فادخله وخذ منه ما شئت فإن فيه ما تريد، فدخل علي نور الدين الحاصل فرأى فيه أواني من الذهب والفضة والبلور مرصعة بأصناف الجواهر فأخرج منها ما أراد وسكب الخمر في البواطي والقناني وصار هو وجاريته يتعاطيان واندهشا من حسن ما رأيا.

ثم إن الشيخ إبراهيم جاء إليهما بالمشموم وقعد بعيداً عنهما، فلم يزالا يشربان وهما في غاية الفرح حتى تحكم معهما الشراب واحمرت خدودهما وتغازلت عيونهما واسترخت شعورهما فقال الشيخ إبراهيم ما لي أقعد بعيداً عنهما؟ كيف أقعد عندهما وأي وقت اجتمع في قصرنا مثل هذين الاثنين اللذين كأنهما قمران، ثم إن الشيخ تقدم وقعد في طرف الإيوان فقال له علي نور الدين: يا سيدي بحياتي أن تتقدم عندنا فتقدم الشيخ عندهما فملأ نور الدين قدحاً ونظر إلى الشيخ إبراهيم وقال له: اشرب حتى تعرف لذة طعمه، فقال الشيخ: أعوذ باله إن لي ثلاث عشرة سنة ما فعلت شيئاً من ذلك، فتغافل عنه نور الدين وشرب القدح ورمى نفسه على الأرض وأظهر أنه غلب عليه السكر.

فعند ذلك نظرت إليه أنيس الجليس وقالت له: يا شيخ إبراهيم انظر هذا كيف عمل معي قال لها: يا سيدتي ماله؟ قالت: دائماً يعمل معي هكذا فيشرب ساعة وينام وابقى وحدي لا أجد لي نديماً ينادمني على قدحي فإذا شربت فمن يعاطيني وإذا غنيت فمن يسمعني؟ فقال لها الشيخ إبراهيم وقد حنت أعضاؤه ومالت نفسه إليها من كلامها: لا ينبغي من النديم أن يكون هكذا، ثم إن الجارية ملأت قدحاً ونظرت إلى الشيخ إبراهيم وقالت: بحياتي أن تأخذه وتشربه ولا ترده فاقبله واجبر خاطري، فمد الشيخ إبراهيم يده وأخذ القدح وشربه، وملأت له ثانياً ومدت إليه يدها به وقالت له: يا سيدي بقي لك هذا فقال لها: والله لا أقدر أن أشربه فقد كفاني الذي شربته فقال له: والله لا بد منه فأخذ القدح وشربه، ثم أعطته الثالث فأخذه وأراد أن يشربه وإذا بنور الدين هم قاعداً وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
 
وفي الليلة الخمسين

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي نور الدين هم قاعداً فقال له: يا شيخ إبراهيم أي شيء هذا? أما حلفت عليك من ساعة فأبيت وقلت أن لي ثلاثة عشر عاماً ما فعلته? فقال الشيخ إبراهيم وقد استحى: ما لي ذنب فإنما هي شددت علي فضحك نور الدين وقعدوا للمنادمة فالتفتت الجارية وقالت لسيدها: سر يا سيدي اشرب ولا تحلف على الشيخ إبراهيم حتى أفرجك عليه فجعلت الجارية تملأ وتسقي سيدها وسيدها يملأ ويسقيها ولم يزالا كذلك مرة بعد مرة، فنظر لهما الشيخ إبراهيم وقال لهما: أي شيء هذا وما هذه المنادمة ولا تسقياني وقد صرت نديمكما فضحكا من كلامه إلى أن أغمي عليهما ثم شربا وسقياه وما زالوا في المنادمة إلى ثلث الليل فعند ذلك قالت الجارية: يا شيخ إبراهيم عن إذنك هل أقوم وأوقد شمعة من هذا الشمع المصفوف? فقال لها: قومي ولا توقدي غلا شمعة واحدة فنهضت على قدميها وابتدأت من أول اشمع إلى أن أوقدت ثمانين شمعة ثم قعدت وبعد ذلك قال نور الدين: يا شيخ إبراهيم وأنا أي شيء حظي عندك أما تخليني أوقد قنديلاً من هذه القناديل? فقال له الشيخ إبراهيم: قم وأوقد قنديلاً واحداً ولا تتناقل أنت الآخر، فقام وابتدأ من أولها إلى أن أوقد ثمانين قنديلاً فعند ذلك رقص المكان.

فقال لهما الشيخ إبراهيم وقد غلب عليه السكر: أنتما أخرع مني، ثم إنه نهض على قدميه وفتح الشبابيك جميعاً وجلس معهما يتنادمون ويتناشدون الأشعار وابتهج بهم المكان فقدر الله السميع العليم الذي جعل لكل شيء سبباً حيث أن الخليفة كان في تلك الساعة جالساً في شبابيك مطلة على ناحية الدجلة في ضوء القمر فنظر إلى تلك الجهة فرأى ضوء القناديل والشموع في البحر ساطعاً فلاحت من الخليفة التفاتة إلى القصر الذي في البستان فرآه يلهج من تلك الشموع والقناديل فقال: علي بجعفر البرمكي، فما كان إلا لحظة وقد حضر جعفر البرمكي بين يدي أمير المؤمنين فقال له: يا كلب الوزراء أتخدمين ولا تعلمني بما يحصل في مدينة بغداد? فقال له جعفر: وما سبب هذا الكلام? فقال: لولا أن مدينة بغداد أخذت مني ما كان قصر الفرجة مبتهجاً بضوء القناديل والشموع وانفتحت شبابيكه ويلك من الذي يكون له القدرة على هذه الفعال غلا إذا كانت الخلافة أخذت مني، فقال جعفر وقد ارتعدت فرائصه: ومن أخبرك أن قصر الفرجة أوقدت فيه القناديل والشموع وفتحت شبابيكه? فقال له: تقدم عندي وانظر، فتقدم جعفر عند الخليفة ونظر ناحية البستان فوجد القصر كأنه شعلة من نور غلب على نور القمر، فأراد جعفر أن يعتذر عن الشيخ إبراهيم الخولي ربما هذا الأمر بإذنه لما رأى فيه من المصلحة فقال: يا أمير المؤمنين كان الشيخ إبراهيم في الجمعة التي مضت قال لي يا سيدي جعفر إني أريد أن أفرح أولادي في حياتك وحياة أمير المؤمنين فقلت له: وما مرادك بهذا الكلام? فقال لي: مرادي أن آخذ إذناً من الخليفة بأني أظاهر أولادي في القصر فقلت له: افعل ما شئت من فرح أولادك وإن شاء الله أجتمع بالخليفة وأعلمه بذلك فراح من عندي على هذه الحال ونسيت أن أعلمك. فقال الخليفة: يا جعفر كان لك عندي ذنب واحد فصار لك عندي ذنبان لأنك أخطأت من وجهين: الوجه الأول أنك ما أعلمتني بذلك والوجه الثاني أنك بلغت الشيخ إبراهيم مقصوده فإنه ما جاء إليك وقال لك هذا الكلام إلا تعريضاً بطلب شيء من المال يستعين به على مقصوده فلم تعطه شيئاً ولم تعلمني حتى أعطيه. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين نسيت فقال الخليفة: وحق آبائي وأجدادي ما أتم بقية ليلتي إلا عنده، فإنه رجل صالح يتردد إليه المشايخ ويساعد الفقراء ويؤاسي المساكين وأظن أن الجميع عنده في هذه الليلة فلا بد من الذهاب إليه لعل واحد منهم يدعو لنا دعوة يحصل لنا بها خيري الدنيا والآخرة وبما يحصل له نفع في هذا الأمر بحضوري ويفرح بذلك هو وأحبابه، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين إن معظم الليل قد مضى وهم في هذه الساعة على وجه الانفضاض فقال الخليفة: لا بد من الرواح عنده.

فسكت جعفر وتحير في نفسه وصار لا يدري فنهض الخليفة على قدميه وقام جعفر بين يديه ومعهما مسرور والخادم ومشى الثلاثة متنكرين ونزلوا من القصر وجعلوا يشقون الطريق في الأزقة وهم في زي التجار إلى أن وصلوا إلى البستان المذكور فتقدم الخليفة فرأى البستان مفتوحاً فتعجب وقال: انظر الشيخ إبراهيم كيف ترك الباب مفتوحاً إلى هذا الوقت وما هي عادته، ثم أنهم دخلوا إلى أن انتهوا إلى آخر البستان ووقفوا تحت القصر، فقال الخليفة: يا جعفر أريد أن أتسلل عليهم قبل أن أطلع عندهم حتى أنظر ما عليه المشايخ من النفحات وواردات الكرمات فإن لهم شؤوناً في الخلوات والجلوات لأننا الآن لم نسمع صوتاً ولم نر لهم أثراً، ثم إن الخليفة نظر فرأى شجرة جوز عالية فقال: يا جعفر أريد أن أطلع على هذه الشجرة فإن فروعها قريبة من الشبابيك وأنظر إليهم ثم إن الخليفة طلع فوق الشجرة ولم يزل يتعلق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشباك وقعد فوقه ونظر من شباط القصر فرأى صبية وصبياً كأنهما قمران سبحان من خلقهما ورأى الشيخ إبراهيم قاعداً وفي يده قدح وهو يقول يا سيدة الملاح الشرب بلا طرب غير فلاح، ألم تسمعي قول الشاعر:


أدرها بالكبير وبالصـغـير..... وخذها من يد القمر المنـير
ولا تشرب بلا طرب فإنـي..... رأيت الخيل تشرب بالصفير

فلما عاين الخليفة من الشيخ إبراهيم هذه الفعال قام عرق الغضب بين عينيه ونزل وقال: يا جعفر أنا ما رأيت شيئاً من كرمات الصالحين مثل ما رأيت في هذه الليلة فاطلع أنت الآخر على هذه الشجرة وانظر لئلا تفوتك بركات الصالحين، فلما سمع جعفر كلام أمير المؤمنين صار متحيراً في أمره وصعد إلى أعلى الشجرة وإذا به ينظر فرأى علي نور الدين والشيخ إبراهيم والجارية وكان الشيخ إبراهيم في يده القدح فلما عاين جعفر تلك الحالة أيقن بالهلاك ثم نزل فوقف بين يدي أمير المؤمنين فقال الخليفة: يا جعفر الحمد لله الذي جعلنا من المتبعين لظاهر الشريعة المطهرة وكفانا شر تلبيات الطريقة المزورة فلم يقدر جعفر أن يتكلم من شدة الخجل ثم نظر الخليفة إلى جعفر وقال: يا هل ترى من أوصل هؤلاء إلى هذا المكان ومن أدخلهم قصري? ولكن مثل هذا الصبي وهذه الصبية ما رأت عيني حسناً وجمالاً وقداً واعتدالاً مثلهما.

فقال جعفر وقد استرجى رضا الخليفة: صدقت يا أمير المؤمنين. فقال: يا جعفر اطلع بنا على هذا الفرع الذي هو مقابلهم لنتفرج عليهم، فطلع الاثنان على الشجرة ونظراهما فسمع الشيخ إبراهيم يقول: يا سيدتي قد تركت الوقار بشرب العقار ولا يلذ ذلك إلا بنغمات الأوتار فقالت له أنيس الجليس: يا شيخ إبراهيم والله لو كان عندي شيء من آلات الطرب لكان سرورنا كاملاً، فلما سمع الشيخ إبراهيم كلام الجارية نهض قائماً على قدميه فقال الخليفة لجعفر: يا ترى ماذا يريد أن يعمل? فقال جعفر: لا أدري. فغاب الشيخ إبراهيم وعاد ومعه عوداً فتأمله الخليفة فإذا هو عود إسحق النديم، فقال الخليفة: والله إن غنت الجارية ولم تحسن الغناء صلبتكم كلكم وإن غنت وأحسنت الغناء فإني أعفوا عنهم وأصلبك أنت، فقال جعفر: اللهم اجعلها لا تحسن الغناء فقال الخليفة: لأي شيء? فقال: لأجل أن تصلبنا كلنا فيؤانس بعضنا بعضاً فضحك الخليفة، وإذا بالجارية أخذت العود وأصلحت أوتاره وضربت ضرباً يذيب الحديد ويفطن البليد وأخذت تنشد هذه الأبيات:


أضحى التنائي بديلاً من تدانـينـا..... وناب عن طيب لقيانا تجافـينـا
بنتم وبنا فما ابتلت جـوانـحـنـا.... شوقاً إليكم ولا جفت مـآقـينـا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا.... بأن نغص فقال الدهـر آمـينـا
ما الخوف أن تقتلونا في منازلنـا.... وإنما خوفنا أن تأثـمـوا فـينـا

فقال الخليفة: والله يا جعفر عمري ما سمعت صوتاً مطرباً مثل هذا فقال جعفر: لعل الخليفة ذهب ما عنده من الغيظ? قال: نعم، ثم نزل من الشجرة هو وجعفر ثم التفت إلى جعفر وقال: أريد أن أطلع وأجلس عندهم واسمع الصبية تغني قدامي فقال أمير المؤمنين: إذا طلعت عليهم ربما تكدروا وأما الشيخ إبراهيم فإنه يموت من الخوف، فقال الخليفة: يا جعفر لا بد أن تعرفني حيلة أحتال بها على معرفة حقيقة هذا الأمر من غير أن يشعروا باطلاعنا عليهم ثم إن الخليفة هو وجعفر ذهبا إلى ناحية الدجلة وهما متفكران في هذا الأمر وإذا بصياد واقف يصطاد وكان الصياد تحت شبابيك القصر فرمى شبكته ليصطاد ما يقتات به وكان الخليفة سابقاً صاح على الشيخ إبراهيم وقال له: ما هذا الصوت الذي سمعته تحت شبابيك القصر? فقال له الشيخ إبراهيم: صوت الصيادين الذين يصطادون السمك فقال: انزل وامنعهم من ذلك الموضع فامتنع الصيادون من ذلك الموضع فلما كانت تلك الليلة جاء صياد يسمى كريماً ورأى باب البستان مفتوحاً فقال في نفسه: هذا وقت غفلة لعلي أستغنم في هذا الوقت صياداً ثم أخذ شبكته وطرحها في البحر وصار ينشد هذه الأبيات:


يا راكب البحر في الأهوال والهلكة.... أقصر عناك فليس الرزق بالحركة
أما ترى البحر والصياد منتـصـب..... في ليلة ونجوم الليل مـحـتـبـكة
قد مد أطنابه والمـوج يلـطـمـه.... وعينه لم تزل في كلل الـشـبـكة
حتى إذا بات مسروراً بهـا فـرحـاً.... والحوت قد حط في فخ الردى حنكه
وصاحب القصر أمسى فيه ليلـتـه..... منعم البال في خير مـن الـبـركة
وصار مستيقظاً من بعـد قـدرتـه..... لكن في ملكه ظبياً وقـد مـلـكـه
سبحان ربي يعطي ذا ويمنـع ذا... بعض يصيد وبعض يأكل السمكة

فلما فرغ من شعره وإذا بالخليفة وحده واقف بجانبه فعرفه الخليفة فقال له: يا كريم فالتفت إليه لما سمعه سماه باسمه فلما رأى الخليفة ارتعدت فرائصه وقال: ولله يا أمير المؤمنين ما فعلته استهزاء بالمرسوم ولكن الفقر العيلة قد حملاني على ما ترى فقال الخليفة: اصطاد على بختي فتقدم الصياد وقد فرح فرحاً شديداً وطرح الشبكة وصبر إلى أن أخذت حدها وثبتت في القرار فطلع فيها من أنواع السمك ما لا يحصى ففرح بذلك الخليفة فقال: يا كريم اقلع ثيابك فقلع ثيابه وكانت عليه جبة فيها مائة رقعة من الصوف الخشن وفيها من القمل الذي له أذناب ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض وقلع عمامته من فوق رأسه وكان له ثلاث سنين ما حلها وإنما كان إذا رأى خرقة لفها عليها، فلما قلع الجبة والعمامة خلع الخليفة من فوق جسمه ثوبين من الحرير الإسكندراني والبعلبكي وملوطة وفرجية، ثم قال للصياد: خذ هذه والبسها ثم لبس الخليفة جبة الصياد وعمامته ووضع على وجهه لثاماً ثم قال للصياد: رح أنت إلى شغلك فقبل رجل الخليفة وأنشد هذين البيتين:


أوليتني ما لا أقوم بـشـكـره..... وكفيتني كل الأمور بأسرهـا
فلأشكرنك ما حييت وإن أمـت ...شكرتك مني عظمي في قبرها

فلما فرغ الصياد من شعره حتى جال القمل على جلد الخليفة فصار يقبض بيده اليمين والشمال من على رقبته ويرمي، ثم قال: يا صياد ويلك ما هذا القمل الكثير في هذه الجبة? فقال: يا سيدي أنه في هذه الساعة يؤلمك فإذا مضت عليك جمعة فإنك لا تحس به ولا تفكر فيه، فضحك الخليفة وقال له: ويلك كيف أخلي هذه الجبة على جسدي? فقال الصياد: إني أشتهي أن أقول لك كلاماً ولكن أستحي من هيبة الخليفة فقال له: قل ماعندك? فقال له: قد خطر ببالي يا أمير المؤمنين أنك إن أردت أن تتعلم الصيد لأجل أن تكون في يدك صنعة تنفعك فإن أردت ذلك يا أمير المؤمنين فإن هذه الجبة تناسبك فضحك الخليفة من كلام الصياد ثم ولى الصياد إلى حال سبيله وأخذ الخليفة مقطف السمك ووضع فوقه قليلاً من الحشيش وأتى به إلى جعفر. ووقف بين يديه فاعتقد جعفر أنه كريم الصياد فخاف عليه وقال: يا كريم ما جاء بك هنا انج بنفسك فإن الخليفة هنا في هذه الساعة، فلما سمع الخليفة كلام جعفر ضحك حتى استلقى على قفاه فقال جعفر: لعل مولانا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: نعم يا جعفر وأنت وزيري وجئت أنا وإياك هنا وما عرفتني فكيف يعرفني الشيخ ابراهيم وهو سكران? فكن مكانك حتى أرجع إليك.

فقال جعفر: سمعاً وطاعة، ثم إن الخليفة تقدم إلى باب القصر ودقه فقام الشيخ إبراهيم وقال: من بالباب? فقال له: أنا يا شيخ إبراهيم قال له: من أنت? قال له: أنا كريم الصياد، وسمعت أن عندك أضيافاً فجئت إليك بشيء من السمك فإنه مليح وكان نور الدين هو والجارية يحبان السمك فلما سمعا ذكر السمك فرحا به فرحاً شديداً وقالا: يا سيدي افتح له ودعه يدخل لنا عندك بالسمك الذي معه ففتح الشيخ إبراهيم فدخل الخليفة وهو في صورة الصياد وابتدأ بالسلام، فقال له الشيخ إبراهيم: أهلا باللص السارق المقامر، تعال أرنا السمك الذي معك فأراهم إياه، فلما نظروه فإذا هو حي يتحرك فقالت الجارية: والله يا سيدي إن هذا السمك مليح يا ليته مقلي فقال الشيخ إبراهيم: والله صدقت ثم قال للخليفة: يا صياد ليتك جئت بهذا السمك مقلياً قم فاقله لنا وهاته فقال الخليفة: على الرأس أقليه وأجيء به، فقال له: عجل بقليه والإتيان به فقام الخليفة يجري حتى وصل إلى جعفر، وقال: يا جعفر طلبوا السمك مقلياً فقال: يا أمير المؤمنين هاته وأنا أقليه.


فقال الخليفة: وتربة آبائي وأجدادي ما يقليه إلا أنا بيدي ثم إن الخليفة ذهب إلى خص الخولي وفتش فيه فوجد فيه كل شيء يحتاج إليه من آلة القلي حتى الملح والزعتر وغير ذلك فتقدم للكانون وعلق الطاجن وقلاه قلياً مليحاً فلما استوى جعله على ورق الموز وأخذ من البستان ليموناً،وطلع بالسمك ووضعه بين أيديهم فتقدم الصبي والصبية والشيخ إبراهيم وأكلوا فلما فرغوا غسلوا أيديهم فقال نور الدين: والله يا صياد إنك صنعت معنا معروفاً هذه الليلة ثم وضع يده في جيبه وأخرج له ثلاثة دنانير من الدنانير التي أعطاه إياها سنجر وقت خروجه للسفر، وقال: يا صياد اعذرني فوالله لو عرفتك قبل الذي حصل لي سابقاً لكنت نزعت مرارة الفقر من قلبك، لكن خذ هذا بحسب الحال ثم رمى الدنانير للخليفة فأخذها وقبلها ووضعها في جيبه وماكان مراد الخليفة بذلك إلا السماع من الجارية وهي تغني، فقال الخليفة: أحسنت وتفضلت لكن مرادي من تصدقاتك العميمة أن هذه الجارية تغني لنا صوتاً حتى أسمعها فقال نور الدين: يا أنيس الجليس قالت: نعم قال لهاك وحياتي أن تغني لنا شيئاً من شأن خاطر هذا الصياد لأنه يريد أن يسمعك فلما سمعت كلام سيدها أخذت العود وغمزته بعد أن فركت أذنه وأنشدت هذين البيتين:


وغادة لعبت بالعود أنـمـلـهـا.... فعادت النفس عند الجس تختلس
قد أسمعت بالأغاني من به صمم ....وقال احسنت مغنى من به خرس

ثم إنها ضربت ضرباً غريباً إلى أن أذهلت العقول فقال نور الدين للصياد: هل أعجبتك الجارية وتحريكها الأوتار? فقال الخليفة: أي والله فقال نور الدين هي هبة مني إليك هبة كريم لا يرجع في عطائه ثم إن نور الدين نهض قائماً على قدميه وأخذ ملوطة ورماها على الخليفة وهو في صورة الصياد وأمره أن يخرج ويروح بالجارية فنظرت الجارية وقالت: يا سيدي هل أنت رائح بلا وداع إن كان ولا بد فقف حتى أودعك وأنشدت هذين البيتين:


لئت غيبتموا عني فإن محلـكـم..... لفي مهجتي بين الجوانح والحشا
وأرجو من الرحمن جمعاً لشملنا ...وذلك فضل الله يؤتيه من يشـا

فلما فرغت من شعرها أجابها نور الدين وهو يقول:


ودعتني يوم الفراق وقالـت.... وهي تبكي من لوعة وفراق
ما الذي أنت صانع بعد بعدي ...قلت قولي هذا لمن هو باقي

ثم إن الخليفة لما سمع ذلك صعب عليه التفريق بينهما والتفت إلى الصبي وقال له: يا سيدي نور الدين اشرح لي أمرك، فأخبره نور الدين بحاله من أوله إلى آخره فلما فهم الخليفة هذا الحال قال له: أين تقصد في هذه الساعة? قال له: بلاد الله فسيحة فقال له الخليفة: أنا أكتب لك ورقة توصلها إلى السلطان محمد بن سليمان الزيني فإذا قرأها لا يضرك بشيء، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.



 

أحدث المواضيع

أعلى