الإسلام والتنمية والنشوء والارتقاء

ADMIN

Administrator
طاقم الإدارة
إنضم
Sep 10, 2006
المشاركات
23,661
الإقامة
Egypt
موقف الإسلام في التنمية و النشوء والارتقاء

كتب إلي احد قراء «ترجمان القرآن» بما يلي: أن نظرية داروين للارتقاء من الأمور المسلم بها اليوم في الأوساط العلمية، ولكننا إذا قرأنا القرآن، وجدنا أن بينه وبين نظرية داروين تصادم واضح وتناقض سافر. فالإنسان – على حسب بيان القرآن- كان إنسانا منذ أول يومه، خلق بعمل تخليقي في يوم معلوم ثم انتشرت منه السلالة البشرية على وجه الأرض، ولكن الذي تشهد به العلوم الطبيعية التي ندرسها في كلياتنا، أن الإنسان إنما جاء متطورا من مرحلة الحيوانية شيئا فشيئان ومن المحال أن يعين في هذا التسلسل الارتقائي موضوع انتهت عليه مرحلة الحيوانية وابتدأتن مرحلة الإنسانية، موضع يقول عنه القرآن الحكيم«فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» وهذا هو مثال واحد على ما يوجد من التناقض بين بيان القرآن نظرية داروين للارتقاء، وإلا فهناك في كمسألة خلق الإنسان تفاصيل كثيرة يتصادم فيها بيان القرآن مع نظرية داروين. ونظرا لهذه الأمور فان طالبا من طلاب العلوم الطبيعية لا يستطيع أن يحتفظ بإيمانه، فهل لكم أن تحلوا لنا هذه المشكلة الشائكة ؟

إن هذا السؤال الذي تقدم به احد قرائنا الكرام وأجاد في وضعه وعرضه، لا نحتاج للجواب عليه إلى استعراض نظيرة داروين وشواهدها. وإنما الذي يجب التحقيق ففيه، هو كهل أن تصور التطور والارتقاء الذي تقدم به داروين، حقيقة ثابتة أم إنما هو نظرية من النظريات الفكرية ؟ وانه إن كان نظرية وحسب، فهل يستحق- من حيث علو مكانته- إذا عرض لمسلم أن يضطره إلى التفكير:هل يؤمن به أم يبقى مومنا بالقرآن الحكيم ؟

وليكن القارئ على علم عند أول خطوة بصدد الجواب على هذا التنفيح أن نظرية داروين لا تزال في أوساط القرن العشرين نظرية بحثة كما كانت نظيرة صرفة في أواسط القرن التاسع عشر، ولم تثبت بعد حقيقة وأمرا واقعيا، ولا يخفى على احد الفرق بين النظرية والحقيقة، وان الإنسان لا يحتاج إلى إعادة النظر في إيمانه إلا حينما يتصادم إيمانه مع شيء هو حقيقة وأمر واقع لا مجال للريب فيه، وإلا فان الإيمان الذي لا يصمد للقياسات والنظريات البحثة فما يتيمان وإنما هو حسن ظن يمكن أن يتبدل بسوء ظن على أساس مجرد الأوهام والخرافات والإشاعات الفارغة.

هذا، وتعل لنستعرض الآن مرتبة نظرية داروين ودرجتها في ميدان العقل والاستدلال. إن أصعب مسالة من مسائل علم الحياة قد أبهمت على علماء العلوم الطبيعة، هي كما هو مبدأ الحياة؟ أما القرآن فيقول مجيبا على هذا السؤال أن مبدأ الحياة هو أمر الرب سبحانه وتعالى، وأمر الرب هو الذي ينشئ آثار الحياة في مادة ميتة. وأما الذين قد ظلت العلوم التجريبية الحاضرة تنمو وتتقدم على أيديهم في الغرب منذ عصر النهضة«.....»، فما زالوا يحاولون التملص من إقرار وإحساس ذات فوق الفطرة وعلمها كيفما أمكن، وظلوا يتمنون منذ بدء ارمهم لو عثروا في داخل معمل الفطرة- الكون- هذا على القوة التي تعمل فيه وتسيره. فهذا الخطأ الأساسي قد خلق لهم مسائل متعبة ما وجدوا لأنفسهم بدا لحلها من الالتجاء إلى المقياس والفرض والرجم وبالغيب. فبالقياس ورجما بالغيب أرادوا أن يحلو عقدة بدء الحياة، وبالقياس ورجما بالغيب أرادوا يحلوا مسالة ما هو السبب للتنوع في الحياة للتفاعل بين مختلف الأنواع؟ فداروين من أولئك الذين حاولوا تحقيق هذه المسائل على هذا الأسلوب، وهو بنفسه ما قال أبدا انه قد أدرك الحقيقة، وكذلك علماء الطبيعة من القائلين بنظريته لا يقررون قياسهم حقيقة وواقعا، غير أن الدين قد مستهم نفحة من نظرية داروين أو سمعوا بها من بعيد، هم الذين يلهجون بذكرها ويبدؤون فيها القول ويعيدونه كأن الحقيقة قد انكشفت لهم انكشافا ومثلت بين أيديهم مثولا.

ولو أن داروين انطلق في تحقيقه من النقطة التي يبينها القرآن للتحقيق في هذه المسالة، لما انتهى إلا إلى أن هذا التنوع والتفاضل في مختلف أنواع الحياة وأجناسها وصورها، الذي يلمح في كل شيء في هذا الكون من الجزئية وحيدة الخلية إلى الإنسان الكامل بترتيب لا نظير له، إنما هو نتيجة لتخطيط حكيم مدبر،وان تخطيط هذا الحكيم المدبر هو الذي بعد أن هيأ لمختلف أنواع الحياة بيئة تناسبها وظروف توافقها، ما زال يخرجها إلى حيز الوجود بمزاياها المخصوصة المتنوعة تدرجا، ويمحو- مع ذلك- الأنواع التي ما بقيت لها حاجة في تخطيطه، ألا إن هؤلاء- كما قلنا آنفا- يريدون أن يتملصوا بأي وجه ممكن من الاعتراف بوجود واضع هذا التخطيط ولا يحبون أن يروا في معمله آثار عمله، ولذا فان المشاهد التي يجدونها ويحاولوا أن يفسروها في هذا المعمل تظهر لهم انه من الممكن أن يفهموا أن هذا المعمل يقوم بعمله ويتقدم ويترقى بنفسهن ولذا فان داروين فسر التنوع والتفاضل في أنواع الحياة بتلك النظرية للتطور والارتقاء، التي تعرف اليوم باسمه، ولا جلل هذان فانم أوربا التي كانت إلى ذلك الحين إنما تسير إلحادها بدون إقدام، بادرت إلى تلقي هذه الأقدام الخشبية بكل قبول ونصبتها من تحت في كل شعبة من شعب علومها الطبيعية، بل وفي فلسفتها وأخلاقها وعلومها للعمران، لقد كانت ولا تزال في هذا التفسير من الوجهة العلمية والعقلية اضطرابات كثيرة لا يمكن لعاقل أن يقول معها أن هذا التفسير تفسير له وجاهته، وهو من التفاسير القابلة للاعتبار.

وها أنا ذا أحاول الآن أن أبين لكم الضعف الأساسي الحقيقي لنظرية داروين بمثل اضربه لكم متجنبا فيه ما استطعت أسلوب النقد الفني الملتوي والبحث العلمي الدقيق:

هب أن أستاذا للعلوم التجريبية يأتي من المريخ إلى الأرض معية جماعة من تلاميذه والغرض أمامه أن يقوم في هذه الأرض بتحقيقات علمية، وهب كذلك أن في نظر هذا الأستاذ ومن معه من التلاميذ شيئا يحول بينهم وبين أن يروا الإنسان على وجه هذه الأرض، فهم إنما يشاهدون مصنوعاته وأسباب تمدنه ووسائله دون أن يشعروا بوجوده هو، فالمصنوعات الإنسانية التي يشاهدها هذا المحقق على وجه الأرض، يجد فيها فرق الأشكال والأنواع، كما انه يرى أن بعض هذه المصنوعات خير من بعضها، كما انه يعلم أثناء التحقيق ان هناك أشياء لمتكن رائجة من قبل وإنما لاقت الرواج في ما بعد وان هناك أشياء كانت رائجة في الماضي ولا تزال رائجة حتى اليوم، وان هناك أشياء كانت رائجة من قبل ولكن ما بقي لها رواج اليوم. فبقى إلى مدة يرتب في خياله أشياء في هذا المنظر المبعثر وأخيرا يقسم هذه الأشياء المختلفة ويقيم لها الدرجات باعتبار أنواعها، ثم يخطو خطوة أخرى في ميدان التحقيق ويحاول أن يعرف كيف جاءت إلى الوجود هذه الأشياء المتنوعة المتفاضلة وما هي الأسباب والقوانين التي عملت في جعلها متنوعة متفاضلة وفي الإبقاء على بعضها وإفناء بعضها الآخر.

لقد كان من الممكن أن يجيب هذا المحقق على هذه الأسئلة لان الأغلب أن هناك كائنا يعيش على وجه الأرض يصنع هذه الأشياء على حسب مختلف مصالحه وحاجاته فالأشياء التي لا تزال الحاجة باقية إليها، لا يزال يصنعها، وأما الأشياء التي ما بقيت حاجة إليها اليوم فقد امسك عن صنعها، لقد كان من الممكن أن يجيب هذا المحقق المريخي بهذا على هذه الأسئلة، إلا انه يريد- لسبب من الأسباب- أن يتملص من فرض مثل هذا الكائن ويوجه قياسه إلى جهة أخرى ويفسر المنظر الذي وجده على وجه الأرض بنحو أن الأشياء الموجودة ههنا كلها ابتدأت من أصل واحد مبدأ الارتقاء في هذا الأصل إلى أن خرجت إلى عالم الوجود مختلف أنواع الأشياء لسبب كذا وكذا من أسباب البيئة، ثم بدأت هذه الأنواع تتصارع بينها وحاول كل واحد منها أن يسابق غيره لجعل نفسه موافقا لبيئته وللاستفادة من القوى المنتشرة فيها، فكل نوع لقي الفشل في هذا الصراع، انقرض، وكل نوع نجح فيه اصطفته البيئة للبقاء والحياة، وهذا الصراع هو الذي سبب ارتقاء أشكال هذه الأنواع المختلفة وصفاتها، وفي هذا الصراع للبقاء توقفت أشياء من نوع خاص وظلت تتحول شيئا فشيئا إلى نوع آخر.

فيقول معتمدا على قياسه مثلا أن نوع العجلة ما زال يجهد نفسه إلى مدة من الزمان حتى بدأت تظهر التغيرات في هيئة بعض العجلات الذكية وبآخره تبدلت إلى العربات، ثم بدا نوع العربة- كذلك- يقلق ويبذل جهده حتى بدا يحدث التغير في هيئة بعض العربات النشيطة إلى أن تبذلت أخيرا إلى السيارات، ثم إن السيارات لما رأت أشجارا عالية وبيوتا شاهقة وجبالا تناطح السماء، رغبت في الارتقاء عليها والتحليق في الجو فوقها وبدأت تحس في نفسها القلق والاضطراب لذلك إلى أن ظهرت في بعضها الأجنحة وأخيرا تحولت إلى الطيارات.

ويقول من مع هذا المحقق الجليل من تلاميذه: إن التطور والارتقاء إذا كان إنما حصل هكذا تدرجا أي من العجلة إلى العربة نومن العربة إلى السيارة ومن السيارة إلى الطيارة، فلابد أن توجد هناك بين العجلة والعربة، وبين العربة والسيارة، وبين السيارة والطيارة مراكب عديدة تقطع المسافة الواقعة بين كل نوعين من هذه الأنواع، كما انه من اللازم أن توجد على كل خطوة خطوة من هذه المسافة مراكب عديدة بعضها وراء بعض على صورة قافلة مثلا يجب أن أتوجد في المسافة الواقعة بين العربة والسيارة مراكب لا تكون عربات كاملة ولا سيارات كاملة فتكون بعضها لم تخرج بعد من مرحلة العربة وتدخل في مرحلة السيارة بينما تكون بعضها الأخرى خرجت من مرحلة العربة ودخلت في مرحلة السيارة، وهكذا يجب أن توجد هناك مراكب عديدة بين مرحلتي السيارة والطيارة فلا هي سيارة ولا هي طيارة.

والأستاذ المحقق عند ما يسمع من تلاميذه هذا السؤال، يتفكر مليا ثم يقول:نعم يا أعزائي أن هذه المراكب الوسيطة التي تسالون عنها بين كل نوعين من هذه الأنواع، لعلها تكون قد وجدت، انظروا إلى هذه العربة التي أمامكم، أظن أنها تحولت أولا إلى« العربة السيارة» ثم إلى «السيارة العربة» حتى اكتملت سيارة آخر الأمر. ثم تكون السيارة- كما أظن- بذلت جهدها فتحولت إلى« السيارة الطيارة» أو ثم إلى« الطيارة السيارة» بعده إلى أن أصبحت طيارة آخر الأمر كما ترونها الآن فهذه المراكب الوسيطة التي قد سميتها لكم لابد أن توجد في الأرض حتى اليوم فاذهبوا باحثين عنها تحت أكوام التراب.

يقول الأستاذ هذا، ويسكت إما التلاميذ، الذين جاؤوا معه إلى الأرض مضمرين في نفوسهم نوعا من الحقد على الإنسان منذ ذي قبل، فآمنوا بتحقيق أستاذهم الأنيق إيمانا جعلهم يخرجون من كلامه كلمات«لعل»و«ظن» ويبينونه الناس ويشرحونه في خطبهم وكتباتهم بكلمات اليقين والجزم وبدون كلمات«لعل»و«أظن». وها نحن املاء نرى دروسهم العلمية تتخل فيها كلمات«السيارة الطيارة»و«الطيارة السيارة»الخيالية بكثرة كاثرة كأن هذه أشياء موجودة محفوظة في متحفهم يقينا، مع انه أن كان هناك شيء له وجوده في حقيقة الأمر، فإنما هو العجلة والعربة والسيارة والطيارة.

إن هذا المثل لينطبق تماما على نظرية داروين والقائلين بها. انك إذا درست ما لهذه النظرية من الكتب الأساسية، علمت أن هذه النظرية لا يقوم كل بنائها إلا على أساس«لعل»و«أظن» مع إن الأمر الجدير بالاعتبار في العلوم، إنما هو اليقين والأمر الواقع، لا القياس والتخمين والرجم بالغيب، وأقول إن كان هناك نوع من الاعتبار للقياس والتخمين في العلوم فكيف وعلى أي أساس يمكن التفريق بين قياس وقياس ولا سيما إذا كان احد القياسين أقوى واقرب إلى التعقل من الآخر؟ إنكم إذا كنتم مستعدين لان تقبلوا حتى القياس والتخمين في تفسير المشهودات، فكيف لكم أن تردوا قياسي إذا قلت على أساسه بان بدء الحياة والتنوع والتفاضل بين الموجودات إنما يكون قد حصل بأمر حكيم عليم وتدبيرهن وهو اقرب إلى التعقل وأسهل على الفهم وأحظى القبول من قياس داروين، لان قياسي هذا يفسر المشهودات كلها على طريق أحسن من طريق داروين، ولا يترك سؤالا دون أن يرد عليه بجواب شاف، وإنما يقويه ويزيده وزنا- مع هذا- أن ليس هناك في جانب داروين احد يستطيع أن يقول بصدق وأمانة أكثر من القياس والتخمين، وأما في جانبي أنا، فهناك عدد لا يحصى من أصلح الناس خلقا وأطهرهم سيرة يقولون، بكل جزم ويقين أن الأمر الفلاني حقيقته كذا وكذا وإننا لا نقول بشيء إلا بعد أن رأيناه بأعيننا، فما لطلاب العلوم التجريبية اليوم ينحازون إلى جانب داروين دون جانب هؤلاء؟ وهل لذلك سبب غير ذلك المقت للدين والتدين.......... الذي قد ورثه طلاب العلوم التجريبية من القرون الوسطى ؟ وان الأمر إذا كان هكذا فما لهم يسمون النزوات والعواطف علما ومعرفة ؟

وأننا حتى إذا قطعنا النظر عما في هذه النظرية من مكامن الضعف، مواطن الانحلال من الوجهة العلمية والعقلية ونظرنا إلى الفتن التي أثارها هذا التخيل الباطل لإهلاك الإنسان والفتك به بدخوله على الفلسفة والأخلاق والعلوم العمرانية والاجتماعية، فكل واحد إذا كان عنده مسكة من الفهم الصحيح والعقل السديد لا يتردد في القول معنا بان نظرية داروين هذه في قمة رأس النظريات الباطلة التي ناصبت الإنسان العداء في هذا الزمان وعملت للقضاء على إنسانيته، فقد حاولت أن تجعل الإنسان يعتقد بأنه ليس إلا حيوانا كسائر الحيوانات، ومن نتائجها أن بني آدم لا يتعاملون بينهم في أي شعبة من شعب الحياة بكل طمأنينة إلا كما تتعامل الوحوش في الغابة ومن تأثيرها أن الإنسان بدل أن يستمد القوانين والمبادئ والمناهج لحياته من مصدر من المصادر العالية، إنما يبحث عنها في حياة البهائم والوحوش وهي التي قد عرضت على الإنسان نظام الحياة كله كميدان للصراع والقتال، وألقت في روعه إن الصراع والقتال هما من مقتضيات الفطرة الحقيقية بحيث أن كل من هو قوي في هذا الصراع والقتال هو الحي الناجح وهو الصالح الباقي وهو على الحق وان كل من هو ضعيف غير صالح وان فناءه وانقراضه إنما هو من نتائج قوانين الفطرة الصحيحة، ومن بركات هذه النظرية الظالمة إن الجميع- من أفراد البشر، طبقاتهم، وأقوامهم وشعوبهم ودولهم- قد جعلوا الدنيا ميدانا للصراع والقتال وليس مقتضى الفطرة- حسب زعمهم- إلا أن القوى من حقه أن يفنى الضعيف ولا يرى له على نفسه إلا ولا ذمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

المواضيع المتشابهة

أحدث المواضيع

أعلى