قصة لحظة البرق كاملة تأليف محمد أبو معتوق

ADMIN

Administrator
طاقم الإدارة
إنضم
Sep 10, 2006
المشاركات
23,661
الإقامة
Egypt
لحظــة الــبرق

محمد أبو معتوق

من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2002


محمد أبو معتوق
- عضو اتحاد الكتاب العرب –روائي. وقاص. ومسرحي
- الجنسية –عربي سوري- حلب 1950.
- إجازة في اللغة العربية. جامعة حلب.

- صدر له في الرواية:
1-شجرة الكلام –دار الريس لندن 1991.
2-جبل الهتافات الحزين –وزارة الثقافة دمشق 1992.
3-الماء والأسماء –اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1998.
4-الأسوار –رواية تاريخية- دار الريس بيروت 2000.
5-لحظة الفراشات –وزارة الثقافة دمشق 2000.
6-علامات الجثة الضاحكة –وزارة الثقافة (ست روايات قصيرة).

- صدر له في القصة:
1-ليلة المغول –وزارة الثقافة. دمشق- 1998.
-كتب في المسرح ومسرح الطفل وصدرت له (8) كتب مطبوعة فيه.




الفهرس
كرة الماء
مواسم البصل
الحمامة المطوقة
الدَّرج
تحت السيطرة
قانون الجاذبية
الرجل الأخضر
شجرة في المطعم
الإرهاب.. وراء الأبواب
في ذمة البرق
فقاعات البياض.. والسواد
بعيداً عن ابنة الجيران
أب من الورق
شيء يشبه الضباب
أحواض
حُلم طوله سنتمتر واحد
فنجان معتم من القهوة
رجل الحبر الأسود
شجرة على الشرفة



كرة الماء

يخرج الأب كل يوم ويتركها وحيدة.
تخرج الأم كل يوم وتتركها وحيدة.
تدخل النسوة الخاطبات ويراقبن وجهها وجسدها.. ويشهقن من فرط بياضها وعذوبتها.. وعندما يسمعن صوتها يخرجن ويتركنها وحيدة.
إنها تعض على الحروف.. على معظم الحروف.. لذلك تخرج الكلمات من فمها الناصع البليل وقد تآكلت حوافها.. وفقدت رنينها، مثل كرة مملوءة بالماء..
لذلك تنهض النسوة الخاطبات وقد تآكلت أرواحهن من الحسرة على فقدان الجسد الأبيض الجميل.
عندما قامت إحدى الأمهات بوصف الفتاة وبياضها وعذوبتها لولدها وحين وصلت إلى وصف صوتها زفرت وقالت: ولكنها تأكل الحروف..
عند ذلك صرخ الابن بصوت رجّ الزمان والأركان.. وهل سأتزوج امرأة لتغني لي القدود والموشحات. المهم أن تكون بيضاء، فاذهبي واخطبيها وخلصينا من هذه المشكلة.
غير أن الأم التي تتمتع بنظرة عميقة للحروف والأمور ترفض النزول عند رغبات ولدها وتتابع البحث عن فتاة ثانية.
لذلك تظل الفتاة وحيدةً حتى عندما يحضر والدها وتحضر والدتها فعندما تغيب الأم والأب.. تبدأ بتشغيل شريط التسجيل مطلقة لصوتها عنانه وضلاله.. لتتعرف إلى ملكوته وخياناته وكيف يغدر بها وبجسدها المكبل الوحيد. الزفرات وحدها كانت تخرج من فمها ناصعة عميقة غير متآكلة الحواف، ولا تشبه كرة مملوءة بالماء.. تحركها أقدام صبية عابثين، مثل الذين تلمحهم من على شرفة المنزل وهم يملؤون الشارع بالشتائم والصرخات والركلات والنزق الجميل. وكانت ترغب رغم ثدييها المضيئين أن تنزل إليهم وتشاركهم اللعب بالكرة وتبادلهم نشوة الشتائم والصرخات.. دون أمهات ودون آباء، ودون نسوة خاطبات، وبنهدين حرين مثل كرتين مضيئتين مملوءتين بالأصوات الجميلة والرجال.
غير أنها وعندما تبدأ الغناء بصوتها الأعمى.. تحس بالسكينة. وتبادل صوتها الغريب نوعاً من الود الذي لا تقدر على فهمه، وتدخل في الإحساس العميق بالمبالغة لتحس بأن صوتها أكثر جمالاً وحرية من صوت المطرب القابع في شريط التسجيل.
ثم اقتحم حياتها عنصر آخر مفاجئ.. فالبيت الفارغ المجاور لبيتهم لم يعد فارغاً ومعتماً مثل صوتها، فلقد سكنته أسرة جديدة مؤلفة من رجل وامرأة، وكانت المرأة شابة ونحيلة وكان الرجل سميناً مثل كرة مملوءة بالماء.
كانت الزوجة الجديدة وبسبب من غياب زوجها تعاني من الوحدة الشديدة.
لذلك طرقت الباب المجاور ووجدت نفسها مباشرة أمام الفتاة. التي ابتسمت في وجهها كمحاولة للرد على تحية الزوجة المجاورة ثم تحدثت الزوجة بكلام.. معناه.. أن زوجها بسبب سمنته ومشاغله ينسى إحضار بعض الأغراض.. لذلك تضطر أحياناً للاستدانة.
وانتبهت الفتاة إلى صوت الجارة، كان واضحاً وحلواً ولـه رنين.. وقد تمنت أن تستمر الجارة في الكلام، وتستمر هي في الإنصات.. لكن واجب الضيافة دفعها للرد فقالت جملة من الكلمات لم تفهمها الجارة. لذلك اضطرت الفتاة للإعادة واضطرت الجارة للانتباه والإنصات حتى تتمكن من فك رموز الكلمات الغريبة الغائمة.
وبعد أن بذلت الزوجة جهداً واضحاً وفهمت معاني الكلمات التي دحرجتها الفتاة نحوها.. مدت ذراعيها واستلمت الأغراض ثم قالت لنفسها:
-هذه الفتاة تشبه زوجي السمين.. ثم انغلق الباب خلفها.
كان الزوج السمين يتحدث إلى زوجته كلاماً قليلاً غامضاً تحار في فهمه، كما احتارت في فهم كلام الفتاة التي تسكن البيت المجاور.
وكانت عندما تطالب زوجها بإعادة الكلام ليكتمل لديها الفهم، كان الزوج يضطرب ويزداد سمنة وحزناً لذلك تحس الزوجة بأنها وحيدة، بحضور زوجها وفي غيابه أيضاً.. ولذلك اضطرت أن تربط وحدتها بالفتاة الوحيدة وصارتا تلتقيان يومياً.
وقد استطاعت الزوجة ومن فرط تأملها لبشرة الفتاة الناصعة أن تفهم لغتها الضائعة.. وتفهم لفتاتها وتقلبات روحها وذراعيها.
وكانت الفتاة الوحيدة تصغي عميقاً لكلام جارتها، وتنتبه لإيقاعاته، وتحس أن الهواء الذي يصلها من كلمات جارتها يزيد في التماعة بشرتها، وتورد لفتاتها وحرية حركاتها، لذلك تطالب بالمزيد من الكلام، ولأن الزوجة أنفقت كل الكلام الذي يخص نفسها وتاريخها، لذلك بدأت.. بالحديث عن زوجها، الذي تحبه، وعن جسده الثقيل، وكلماته الغامضة، عن شروده حتى ليكاد أن يرتطم بالجدار، عن تقلبات جسده وشخيره وكأنه يتعرض للعقوبة، عن نشرات الأخبار التي يلهث وراءها ثم ينهض غاضباً ليضرب بقبضته الهواء.. عن رغبته في تأخير الإنجاب بسبب التلوث وصفارات الإنذار، ثم أسرفت في وصفه حتى وصلت إلى تعداد انحناءات الشحم على خطوط جسده، وتقلبات مزاجه، وظلت في ذلك حتى وقعت الفتاة الوحيدة في حبه، ثم وقعت في البكاء. لذلك قالت الزوجة:
-معك حق.. إن زوجي مثل كلامك.. لا يمكن فهمه بسهولة. ويكاد أن يكون مدوراً مثل كرة مملوءة بالماء وهو يحبني رغم أنه لا يصغي إلي.. وقد نصحته كثيراً أن يحاول تخفيض وزنه لكنه يرفض ويقول لي:
-جسدي لا يفهمني ولا أفهمه ولا أحتمل وزنه ولو أنه يفهمني لهرب مني وتركني معلقاً على الجدار.
لذلك أشعر بالخوف على زوجي وأطالبه بالمحافظة على وضعه، ووزنه حتى لا يهرب أحدهما مني. يقول زوجي:
-الرجل الثقيل مثل ثور مقدس، والمرأة النحيلة مثل حلم راكض في البرية..
تقول الفتاة الوحيدة:
-مثل هذا الحلم يخطر على بالي.. لكنني أخاف أن أسمعه من فتاة سواي ثم تصمت صمتاً بعيداً حتى لتكاد أن تموت.
كان الزوج السمين.. يأتي إلى المنزل فيشاهد الفتاة الوحيدة فيحييها.. ويقعد في حضرة بياضها وحيرة عينيها، ويلتفت إلى زوجته ولمعان صوتها، وطولها الرهيف، ثم ينهض ليغير قناة التلفزيون، وهو يقول:
-المشكلة أنهم يتحدثون في التلفزيون كلاماً مفهوماً لذلك لا أحس بجدواه ومعناه.. كأنهم يلقون إلى وجوهنا كرة مملوءة بالماء.
ثم ينهض إلى أحد الكتب.. ويبدأ بتقليب صفحاته فتنتبه الفتاة القاعدة إلى حواف الكتاب البيضاء، وتود لو أنها هي بين كفيه وليس الكتاب، وعندما لا يلتفت إليها تزفر وتنهض مودعة.
وفي اليوم التالي تعود مرة ثانية ليس لتصغي إلى كلام الزوجة، وإنما لتصغي بروحها والتفاتاتها إلى حركة الباب وهو يعلن عن قدوم الجار السمين.
أيام مرت والزوجة تزداد انتباهاً إلى حيرة الفتاة وتقلباتها، وقد تمنت في مرة من المرات أن يقع زوجها السمين في غرام الفتاة ويبادلها الكلام والانتباه.
قالت الزوجة في نفسها، وعلى غير طبيعتها:
-الرجال السمان يحملون قلباً كبيراً يتسع لحب امرأتين دفعة واحدة، غير أنني أخاف أن يفعلها زوجي.. ويهرب وزنه منه ويصبح نحيلاً ولا يتسع قلبه حتى ولا لامرأة واحدة مثلي.
لذلك صمتت، ثم نهضت إلى المطبخ لمتابعة بعض الشؤون.
ثم بدأت تنظر إلى الفتاة الوحيدة بارتياب.. وعندما تلزمها بعض الأغراض كانت تؤجل الأمر وتنساه حتى لا تطرق الباب المجاور، فلماذا خلق الله الأبواب المجاورة، أليس من أجل أن يطرقها الناس.
الفتاة الوحيدة المجاورة أحست بتحولات الزوجة الوحيدة المجاورة وزوغان عينيها وكلماتها، لذلك صارت تقعد في البيت لتملأه بصراخها وحاجاتها دون أن يكون في الجوار من يفهمها. ثم تقول لنفسها، ليتني أصبح باباً.. حتى يطرقني الناس، وأفتح لهم. ثم جاءت المبادرة، أو هكذا خُيّل إليها.
كانت الفتاة الوحيدة في الحمّام، وكان جسدها حاراً وعيناها مبللتين ثم خطر ببالها أن تزيد في غليان الماء في الخزان، فرفعت وتيرة انصباب الوقود. من نقطة سريعة متتالية إلى خيط شديد التدفق.
كانت تعرف أن الرجل السمين المجاور قد دخل بيته، لذلك بدأ جسدها ينفلت منها ويتدفق، ولم تكن ترغب أن تمنعه وتحمِّله ما لا يطيق، ثم انتبهت، بدأ الوقود يتسرب من أسفل موقد الحمام.. وبدأ خيط النار يخرج على حصار الموقد ويتدفق إلى جهة خيط الوقود. وقد تأملت ذلك كله بدهشة وحنين، عندها.. ودون أن تعلم لماذا.. استدارت ووضعت المنشفة الكبيرة على بعض جسدها وفتحت باب الحمام ثم فتحت باب المنزل وركضت إلى البيت المجاور، وأطراف من جسدها بادية للعيان، ثم طرقت الباب المجاور طرقات صريحة مفهومة فانفتح الباب، وكان الجار السمين أمامها، فلم تتمالك نفسها من الخوف والانفعال، سوى أن عانقته وتركت حلمتيها تنغرسان في صدره وروحه، وبدأت تغمغم بكلام يعجز الرجال السمان والرجال الطوال والرجال النحيلون عن فهمه، وقد انتبهت الزوجة للمشهد، وصورة العناق المباغت وطبائعه فاقتربت لتستطلع الكلام.. وعندما أعادته مرة ثالثة فهمت الزوجة القصد وهي تتأمل فزع الفتاة وفزع أعضائها، ثم قالت الزوجة:
-في بيت جيراننا مشكلة، يبدو أن الحمام يحترق.
-وما هو المطلوب؟ تساءل الزوج، والفتاة بين ذراعيه.
-المطلوب أن تنزل الفتاة من بين ذراعيك وتذهب لإيقاف النار.. كما يفعل الرجال السمان في الدنيا كلها.
ثم كان ما أرادته الزوجة، وتم إنزال الفتاة الفزعة وإنزال لمعانها وأجزاء جسدها المكشوفة معها، ليتمكن الزوج السمين من القيام بواجبه في إطفاء النيران، فانطلق الرجل إلى الأبواب المفتوحة المجاورة وعاين النيران، وسمع غليان الماء، كان المشهد يغري بالتعرق والتأمل، ولم يكن الرجل السمين بسبب الحرارة والنيران قادراً على إيقاف التدفق والغليان، لذلك أغلق باب الحمام وعاد إلى بيته ليتابع مخاوف الجسد الجميل وارتعاشاته.. ثم دوى صوت انفجار وتدفقت المياه الساخنة وأغرقت النار المجاورة وأطفأتها.
لحظتها وقعت الفتاة على الأرض، وتدحرجت إلى الباب وخرجت منه مثل كرة مضيئة تسيل على أطرافها خطوط الماء.




مواسم البصل

بعد أن بلغ والدنا من العمر عتياً، بدأت تنتابه أمواج من الحكمة والتشتت.. وصار يحكي لنا قصصاً غريبة لم يكن يتحدث بمثلها في غابر الأيام.
وقد اختلفنا نحن الأولاد في تحليل الظاهرة، الأخ الأكبر اعتبرها نوعاً من الهذر والخَرَف أصاب الأب العجوز، أما الأخ الأصغر فقد اعتبر ما يصيب والدنا.. حالة من حالات الكشف والبصيرة، التي تتجاوز برزخ المحسوس لتصل إلى الرؤيا الكلية الشاملة، وهي ظاهرة استثنائية ولا تحصل مع الكثير من الآباء.
فاضطربنا لهذا التباين في الرأي وانقسمنا نحن الأخوة إلى فريقين، وأخذ كل فريق يدافع عن رأيه وينال من رأي الفريق الآخر بأفدح الكلمات، والأب العجوز يعاين اضطرابنا ويتابع سرد حكايته على الأسماع:
-صباح هذا اليوم يا أولاد وكان صحن الفول أمامي.. والفول كما تعرفون طعام ثقيل وحزين، وقد حذرني الأطباء من أكله ولكنهم لم يحذروني من تأمله، وبخاصة عندما يكون مدمساً بالطحينة التي تعطي للفول لونه ومعناه.
-المهم يا أولاد أنني نظرت إلى الصحن وإلى حبات الفول التي تشبه أجنّةً غامضة وقعت في غير مياهها وماتت، فتأملتها بأبوة وتذكرت شيئاً عزيزاً تعرفونه.
هزَّ الأخ الأكبر رأسه باستعلاء عميق وقال: لا بد وأنك تذكرت أمنا المتوفاة.
رفع والدنا رأسه وقال: لا.. عندما تأملت صحن الفول لم أتذكر أمكم، وإنما تذكرت البصل.
لذلك لم يكن ممكناً أن لا نحزن، ونحن نتذكر والدتنا الميتة التي كانت واحدة من أحسن نساء الحارة في صنع الفول وتحضيره، ربما.. ربما كان تذكر والدنا للفول جزءاً من الحنين المبطن لوالدتنا المرحومة التي ليس بوسع أي فول أن يعزينا عن غيابها.
ومع الموت والبصل ورائحته القوية يميل الأبناء للبكاء، غير أننا لم نمل وانصرفنا لمتابعة حكاية والدنا، الذي تابع حديثه عن البصل فقال:
-والبصل يا أولاد كائن ينغلق على نفسه بتكتم وانضباط كما تفعل الصَدَفة بالجوهرة.
قال الابن الأوسط مصححاً: مثلما تفعل الصدفة باللؤلؤة. فاللؤلؤ كما هو معروف يستخرج من الأصداف أما الجواهر فتستخرج من المقالع والمناجم.
فما كان من والدنا سوى أن رفع كفيه إلى الأعلى ونظر إلى جهة الصوت وقال:
-يا رب.. لقد ابتليتني بالأولاد فاحتملتهم، وها أنا ذاهب للموت لأتركهم. فترفق بغبائهم..
ثم عاد برفق للحديث عن البصل.
-غير أن البصل في آخر الأيام جافاني وانقلب عليّ.
وكان هذا مدعاة لضحكنا، وحتى لا نثير انتباه الوالد عاجله أخونا الأوسط بسؤال قائلاً:
-ولماذا انقلب عليك البصل وجافاك؟
-ذلك هو السؤال الذي كنت أنتظره.
قال والدنا كلمته ثم تابع الكلام.. فلحقنا به.
-حين نظرت إلى الفول ولم أشاهد البصل إلى جواره، شعرت بالاضطراب والحنين، فنهضت بسنيني ويقيني ومضيت إلى المطبخ بحثاً عن بصلة، وبعد بحث طويل لم أجد سوى بصلة واحدة، فحملتها وذهبت بها إلى جوار صحن الفول.
وكانت البصلة زرقاء موشحة بخطوط بنفسجية غامضة كأنما تعرضت للضرب والتعذيب.. ثم أمسكت السكين ونزعت ترسها فقفزت من كفي وبدأت تتخبط على الأرض مثل حمامة في شرك، ثم استوت وارتفعت إلى أن استقرت أمام ناظري وبدأت أوراقها تنحسر وتتلوى وتشكلت في هيئة وردة، ثم برز من وسطها شيئان غامضان.. وأخذا معاً بالتضخم والانتفاخ حتى استويا أمامي كائنين تامين يرتديان ثياباً مثل ثياب رجال الشرطة.. عندما نزل الشرطيان من قلب البصلة دمعت عيناي من الدهشة والراحة، ودون إذن تقدم الشرطيان وتحلقا حول صحن الفول وبدآ معاً بالتهامه بنهم، كما يفعل رجال الشرطة مع كل شيء يرونه. وكنت مستغرباً، كيف يجرؤ البصل ويفعلها، وهو ما هو عليه من الفتنة والتناظر والترتيب وبياض الأوراق.
عندما أنهى رجلا الشرطة يا أولاد التهام الفول نظرا إليّ باستهانة، واقتاداني معهما إلى مكان بعيد فتابعت السير مع الشرطيين حتى دخلت مفاصلي في الغروب، ثم أُلقي بي في مكان يشبهني وتأملت. كانت أكياس البصل تملأ القاووش، فصرخت يا أولادي هلموا إليّ.. غير أن البصل والشرطيين المجاورين.. حالا دون وصول صوتي إلى مثواه الأخير.
بعد ذلك فُتح الباب وأُخرجت من الحجز إلى غرفة الرئيس وكانت الرائحة واخزة. حين انتزع رئيس المخفر قبعته وجلس. بدا لي مثل بصلة بلا ترس، ثم قال:
-هل تعرف هذا الشاب؟
فنظرت إلى جهة الشاب.. فوجدت أمامي كائناً أشبعته الأيام هزالاً وتبريحاً فقلت:
-هؤلاء هم الذين أعرفهم.
-ذلك جزء من السؤال.. (قال رئيس المخفر باستخفاف).
-فما هو الجزء الثاني؟ يا سيدي.
-ما دمت قد عرفته فهل تتذكر بأنك في يوم من الأيام قد اشتريت منه شيئاً؟
-أنا يا سيدي وفي هذا العمر لا أشتري شيئاً.. إنني أبيع بأرخص الأثمان، وأعد نفسي وأيامي للتناثر والغياب.
-وما الذي تركته لنا لنعده لك؟
-لم أفهم؟
قلت لرئيس مخفر البوليس:
-ولكنك عرفت الرجل واشتريت منه..
-وماذا اشتريت؟
-اشتريت منه في غابر الزمان، كيساً من البصل.

-ربما فعلت، فأين الخطأ؟
-الكيس الذي اشتريته منه بأبخس الأثمان، كيس مسروق، والرجل الماثل أمامك سارق، وفي العرف والقانون المشتري من اللص شريك لـه في الجرم، وشريك في العقوبة.
حين أدخل والدنا الحجز تحركنا جميعاً لافتدائه، ثم تحدثنا مع المسؤولين طويلاً عن شيخوخته وتهافته، وكدنا بعد أن لمحنا من المسؤولين تشدداً وميلاً لتطبيق القوانين، كدنا أن ننكر والدنا حتى لا تطالنا الشبهات.
في الحجز حصلت مع والدنا أشياء لم تكن بالحسبان، فقد تراجعت الشيخوخة عن كاهله، ودبّ فيه النشاط ولم يعد يلتزم بالمحاذير والممنوعات، وعاد إلى التدخين بهمة ومواظبة وصار يشتري علب الدخان من رجال الشرطة بأثمان مضاعفة، ويوزع السجائر على اللصوص والرجال المجاورين، وأخذ يقص على المحتجزين حكايات زوجته الغائبة، ثم تدمع عيناه بغزارة مثلما يحصل بعد أن يفرم الرجل كيساً من البصل على عينين ذابلتين. وقد أخذه البصل إلى الفول المدمس فصار يأكل منه ثلاث وجبات بعد أن يحضِّره لـه رجال الشرطة الذين يعبرون الممرات.. وكان يفعل ذلك دون أن يعبأ بالنتائج التي حذره منها الأطباء، وأخذ البصل يتبوأ مكانته العظيمة عنده حتى بعد خروجه من الحجز، لكننا أصبنا جميعاً بالدهشة والمفاجأة، عندما بدأ والدنا يتحدث عن الانشطارات والمخاوف، وكيف أنه يقبع داخل كل بصلة رجلان من رجال البوليس. يشبهان ملكين من ملائكة النهايات.. وهما ينتظران الفرصة، للانقضاض وخاصة عندما تموت الزوجة العظيمة، وتضيع رائحة الأبناء.
 

المواضيع المتشابهة

رد: قصة لحظة البرق كاملة تأليف محمد أبو معتوق

الحمامة المطوقة

عندما تكون شرفة مقابل شرفة، وتكون على الشرفة المقابلة فتاة وحيدة، وفي مواجهتها على الشرفة الأخرى رجل وحيد.. فلا بد وأن يكون صمت ونظرات واحتمالات تحرك الحديد.
والحديد جزء من كيان الشرفة، يسمح بالوحدة والتأمل، ولكنه يحول بين اليد واليد المقابلة أن تمتد لتعبث بالأزرار والأجساد والمحاذير.
فلماذا تحط الحمامة المطوقة على شرفة الفتاة، ولا تحط على شرفة الرجل، ثم تلتفت بحذر إلى الجهات والفضاء البعيد. وتبدأ بالهديل.
ربما لأن فتاة الشرفة الأخرى مريضة، ولا تسمح لها العادات المتبعة بالوقوف الطويل.
ربما لأن الرجل مملوء بالمشاغل والحذر، لذلك تحط الحمامة المطوقة في مواعيد بين الفجر الطالع، والغروب العميق.. ثم تهدل بصوت لـه إلفة وإيقاع ومنقار دقيق.
أما الرجل الوحيد على الشرفة الأخرى، فقد حاول بعد تأمل أن يذهب إلى رفوف مكتبته ويخرج كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم، ليقرأ فيه.. (الحب أعزّك الله أولـه هزل، وأخره جِد، دقت معانيه لجلالها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة.. وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة..) وليس مستحيلاً على الشرفات والأفاريز.
عندما وصل الرجل إلى هذا المعنى، قرر أن تكون لـه حمامة مطوقة، ليتمكن من نفسه ويقدر على الفهم. لذلك بدأ البحث عن حمامة وقفص، فالحمام الحر عصي على الرجال والكتب وتقلبات القراءة والتأويل.
خلال بحث الرجل عن القفص والحمامة.. خرجت الفتاة إلى الشرفة عدة مرات، ورأت الرجل، وتأملت عناصره ووحدته ومعناه، ثم حلت أزرار قميصها حتى برقت حلمتاها لتعينه على الفهم.. وقد فعلت ذلك عدة مرات.. والرجل صامت وبعيد. وظلت على هذا الحال حتى لم يعد يحتمل حزنها إفريز الحديد. فانحنى الإفريز وانحنت الفتاة معه وسقطت على أرض الشرفة، بعد أن خذلها نهداها وعجزت أن ترفّ بهما مثل الحمامة لتطير.
عندما نجح الرجل في إحضار حمامة مطوقة، ووضعها في القفص على الشرفة، غمرت الشهقات الفتاة حتى ذابت في ثيابها، ثم غابت عن الأنظار كأن عاصفة اختطفتها.
والرجل واقف على الشرفة يتابع الحمامة في القفص والحمامة المقابلة وكيف تحط وتطير.
مرت أيام كثيرة.. ذهبت فيها الفتاة وبقيت الحمامة.. لذلك امتدت يد الرجل إلى القفص، وأخرج الحمامة المطوقة وأطلقها في الهواء لتتطاير وتغيب. وبدأ يزداد شغفاً بالحمامة الأخرى المقابلة، والشرفة الفارغة.. ثم بدأ بإغواء الحمامة الأخرى.. فوضع رفاً واسعاً أمام الشرفة وبدأ يلقي بالحب.. حتى اطمأنت لـه الحمامة المطوقة، وغادرت شرفتها وبدأت تقف على شرفته لتنقر الحب، وتذكِّر الرجل بفتاة الشرفة الغائبة، ثم أحضرت الحمامة حمامات أخرى.. والرجل منشغل بكتاب ابن حزم وسير العشق والعاشقين.
بعد مدة ظهر رجل غريب على الشرفة المقابلة.. وعندما لمح الحمامة المطوقة والحبَّ على الشرفة الأخرى صنع رفاً على شرفته ونثر الحبَّ.. حتى أحست نحوه الحمامة المطوقة بالإلفة وصارت تنتقل بين الشرفتين دون حذر وأصبح عالياً صوت الهديل، ثم وبلمحة.. خرج الرجل الغريب وقبض على الحمامة المطوقة وبسرعة أمسك رأسها وفصله عن جسدها وغاب، ولم تكن داخل بيت الرجل الغريب رفوف، ولم يكن على أحدها كتاب طوق الحمامة الذي يحكي عن قصص الحب والمحبين.






الدَّرج

عندما تذَّكر الرجل الحكمة المنسية (العدل أساس المُلك)، كان واقفاً مقابل الدرج الواسع الطويل. والواجهة الهائلة (للقصر العدلي). القصر الشامخ الذي يقف قبالة قلعة حلب ليناظرها ويقلق أيامها ونظراتها. وبعد تأمل طويل صعد الرجل الدرج بعد أن تخفف من حذره وما يقلق خطواته. خطوة اثنتان ثلاث.. مئة، وانتبه إلى أنه لا يزال في موقعه معلقاً على الدرجات الأولى، وتساءل، هل يعرف الدرج مقاصده وخبايا عينيه، حتى يهرب من تحت قدميه ويتصاعد بعيداً عنه كأنما ليصل إلى الغيم المضطرب البعيد.
وما دام القصر مكاناً للعدل، فلا بد وأن الدرج درج للعدل أيضاً. لذلك يحاول الدَّرَج أن يقتص منه ويهزأ من خطواته ويتطاول عليه، لذلك تراجع قليلاً حتى صار في الباحة أسفل الدرج، ثم وقع على ركبتيه، وبدأ الابتهال الموجَّه للدرج الطويل.
(أيها الدرج العظيم، الراسخ في الأرض والراسخ في القصاص والعدل، لقد قصدتك وتجرأت على درجاتك، لأثأر من نفسي وولديّ، وأطلِّق زوجتي. ولم أرتكب إثماً ولم أتطاول، ولم أغتب أحداً من القضاة والمحامين، فاحملني إلى الغرفة الثالثة في الطابق الأرضي، لأتم قصدي وأحلف أيماني وأرتكب أبغض الحلال عند الله، وأسهله عند الناس هذه الأيام.
وأنت درج من الحكمة والموعظة، تحمل اللصوص والقتلة والمارقين وتمسك المظلومين والتائهين والقضاة والمحامين، وتدفع كل واحد منهم إلى منصته وهاويته وأحضان زوجته، وبذلك يقع الجميع في البراثن إلا من كان منهم على قدر من البلادة والحذر العظيم. فاحملني إلى هاويتك قبل أن يقع العالم في هاويتي وإثمي).
ثم نهض الرجل وصعد وكرر الخطوات والارتقاء حتى وصل إلى الباب وكان الجميع يدخلون ويخرجون وعلى وجوههم خيط شفيف من الدم.. فالتفت الرجل عنهم ودفع جسده ليختلط بهم لكنه لم يقدر، كأنما كان الباب المفتوح يعانده. وكان الجميع يدخلون ويخرجون ووحده لم يكن يقدر، كأن زجاجاً بالغ الرقة والخشوع، يحول بينه وبين قَدَرِهِ وحاجته إلى الدخول، وقد أعياه الأمر فحار في تأويله ومعرفة مراميه، وعندما وجد في أدنى الأرض رجلاً يعرفه ركض إليه ليفتيه في الأمر ويدله إلى الطريقة. ويفضح لـه السر، وبعد عناق وسؤال عن الأحوال، أخبره الصديق بأن باب العدل مرصود وعليه أن يدفع رسماً محدداً ليتمكن من فك الطلسم والدخول إلى الأروقة بحرية كما يفعل القتلة وشهود الزور، وبعد أخذٍ ورد وتذكير بالصداقة والأيام، قرر الصديق أن يأخذ من صديقه نصف المبلغ المحدد، ليعطيه التعويذة، ليتمكن بواسطتها من فتح الباب، والدخول إلى المعابر والبوابات، وهكذا دفع الرجل نصف المبلغ، فوضعه الصديق في جيبه ثم اقترب من أذن الرجل وهمس لـه بالتعويذة فاستغرب الرجل وقال:
-هل يعقل أن تكون الجملة الشهيرة (افتح يا سمسم) هي التعويذة التي تفك الأقفال وتفتح البوابات وتجعل قصر العدل يفتح الباب وينصاع.
فقال الصديق غاضباً: لو لم أكن على عجل لتبرأت منك، وأعدت لك المبلغ.
ثم ودعه ومضى على استعجال بعد أن لمح رجلاً آخر يغالب الهواء والظلال ولا يقدر على اجتياز العتبة والباب.
افتح يا سمسم.. تلك التعويذة اللطيفة التي رددها علاء الدين وسمعها طويلاً في برنامج تلفزيوني للأطفال، وحفظها أولاده ورددوها دون أن يغضب منهم زعيم اللصوص والعيارين، ها هو يدفع ثمنها ويرددها في سره، لماذا لم تصمت زوجته قليلاً وتنتبه إلى برامج الأطفال لتحفظ الأغنية فتصمت وتنام، لو أنها فعلت، لما حصلت القطيعة ولما ارتطمت البوابات.
عندما عاود الرجل صعود الدرج، شعر بالخفة والروح الطيبة، وعندما وصل إلى الباب وردّد التعويذة، أحس بيد خفيفة تدفعه كأنما هو علاء الدين، وقد دخل إلى مغارة الكنز وبدأت عيناه تغرق بالفتنة واللمعان دون أن تلمح المصباح.
ثم تأمل السقف العالي.. وبرَّحه الشوق إلى العناكب والشباك الواهية، وكانت أبواب المحاكم المختلفة متآكلة الحواف. مثل أفواه ضارية.. وقد تجمع أمامها خلق كثير.. وفجأة خرج من بين الجمهرة رجل وارتمى على طرف الممر وانخرط بالبكاء، فتقاطر حوله الناس، وارتمت عليه امرأة لتخلصه مما هو فيه، ثم تعالت حول بكاء الرجل الصرخات:
-يحيا العدل.. يحيا العدل.
فتساءل الرجل عن الأسباب، فاقتربت منه امرأة مطلقة وقالت لـه بأن الرجل المستلقي يبكي فرحاً بعد أن أنصفه القاضي وأعلن براءته، فما كان من الرجل الواقف سوى أن شعر بالدهشة فترك المرأة وارتمى على الرجل المستلقي واحتضنه وأغرقه بالقبلات ثم سأله:
-ألا توجد طريقة أخرى للتعبير عن الفرح بالبراءة سوى الدموع وأصوات البكاء؟..
فالتفت إليه الرجل المستلقي بغضب بعد أن مسح عن وجهه صنبوراً تالفاً من الماء، وصاح:
-لا أريد لأحد أن يفسد عليَّ بهجتي.
ثم دفعه بقبضتيه فطار الرجل المتسائل وارتطم بالجدار..
فنهض صاحب التعويذة من سقطته وتفقد نفسه وجنسه وسجاياه، وعندما أحس بالرطوبة، شعر بأن الحياة ما زالت واقفة على الأبواب، فتحرك بين الممرات وأمام كل محكمة عالية الشأن والأركان، تساقط أمامه بغتةً رجل واحد أو رجلان وانخرطا بالبكاء كل واحد على وتيرة أو مقام، وكل منهما يعبر عن فرحته بالبراءة بما يقدر عليه من لوعة وارتفاع صوت واحتقان.
لعل الأماكن تغير السجايا، أو لعل الرجال لا يعرفون تحديد الأهداف ويحارون في التفريق بين القضبان والممرات.
وهكذا تابع الرجل المتسائل النزول حتى وصل إلى الطابق الأرضي الذي لا يصله بالهواء نسب، ولا تربطه بالضوء ضرورات، وهناك في الزاوية التي لا يستطيع الرجل أن يحدد فيها أهدافه، شاهد زوجته وأمها واقفتين لـه بالمرصاد، فاقترب منهما وحياهما وقال لهما:
-أنا جاهز لجميع الطلبات.
فتأملته زوجته بغضب وعندما أفلتت منها دمعة، التفتت إلى الجدار، وغادرتها الرغبة في الشتائم والكلام.
فاستغرب الرجل هذا التحول من زوجته، وقال في نفسه:
-لو أنها صمتت في مواقف كثيرة كما تفعل الآن، لما كان للعدل ضرورة، ولما اضطر الكائن للوقوف بين يدي القضاء والقدر والقلعة والحكام.
ولكن الصوت الجائر والصراخ العنيف، يهتك الأسوار، ويزين للرجال التراجع والاستسلام.
وبينما الرجل منصرف للتحليل والتأويل، والتعريف والتنكير، سمع الصرخة التي تذهل الناس، حين أطلق الحاجب الواقف على باب المحكمة صوته، وأعلن اسم الرجل واسم زوجته، وطلب منهما الدخول والمثول بين يدي القاضي، فامتثلا ودخلا... وكان القاضي في غرفة ضئيلة وخلف طاولة هائلة، فنظر إليهما نظرتين متناوبتين وزفر وتعجب ثم قرأ أوراقاً أمامه.. ورفع رأسه وسأل الرجل عن أسبابه فتأمله الرجل وقال:
-ليس للموت أسباب.. وإنما هو صرخة تذهل الناس وتوقعهم في الريبة واليباب، وقد أحببت أن أفعل ذلك وأطلِّق زوجتي ليتعظ سواي.
فتلون القاضي وتحير، واستدار إلى الزوجة وسألها عن أسبابها فمسحت دمعة وقالت:
-الرجال جميعاً أولاد حرام، يغويهم الجسد فيعتنقونه، وعندما ينتهون منه، لا يلتفتون لصاحبته، لذلك تقع في الريبة وتميل للشتائم والصراخ وتفقد الزوجة خصائصها كأنما انتشلت من الرغام، كأنما ليست زوجة وشريكة وأماً لها صوت يفتت الحديد والرجال.. كأنني لست على قدر من الفتنة تلوي عنق الجدار، لقد وافقت عن تطليق هذا الرجل.. بعد أن عجز جسدي العظيم على تعليمه فضائل الانصياع والإصغاء.. فحاول يا سيدي أن تعيد الواحد منا إلى ما ينقصه من الوحدة والغباء.
وبعد أن دمعت عينا القاضي، قرر أن ينزل القصاص بالرجل والمرأة ويلقي بهما إلى الممرات كأنما لم تكن بينهما جنة ولم يكن تعارف وتفاح وكلام، ثم أطلق المرأة واستوقف الرجل وقال له:
-كيف تجرأت وفعلت، وطلقت امرأة على هذا القدر من الحكمة والجمال؟
فقال لـه الرجل: لو أنك عرفت قصة السمكات يا سيدي القاضي لما سألت مثل هذا السؤال.
ثم تركه الزوج ومضى إلى الممرات، وعندما لمح زوجته السابقة وعلى محياها قدر ضئيل من الماء والهواء اقترب منها وتأمل فتنتها، فنظرت إلى وجهه وقالت له:
-سيأتيك زمان تعرف فيه قدر امرأة مثلي، عند ذلك لن يجديك توسل ولن ينصفك قضاة وأيام.
في تلك اللحظة، أحس الرجل بفتنة المرأة فهرع إليها وهمس في أذنها ليغويها، ثم طلب منها أن تنفق معه ليلة واحدة.. ليلة واحدة فقط.. ليتّعظ ويعاود الوقوع في الجب ويتقوض من الهيام.
ولكن المرأة انتهرته وصاحت فيه: أي نوع أنت.. من الرجال تنكرني زوجة وتتجاهل جوعي ووحدتي.. ثم تحاول إغوائي بعد أن حلفت عليَّ ثلاثة أيمان تفتت الجبال.
وعندما ألح الرجل بالطلب.. انتهرته المرأة.. ودفعته بقوة.. فسقط على الدَرَج وتدحرج، وظلَّ يتدحرج.. وخلال الدحرجة الطويلة حاول الرجل أن يتذكر التعويذة ليمنع الدرج الطويل من التوالد والانهيار، غير أنه لم يتذكر..
لم يتذكر.. .. .. ..



تحت السيطرة

كانت الزوجة تنهض من نوعها فزعة.. ولديها اعتقاد أن زلزالاً يرجُّها ويودي بطمأنينتها، وربما ينوي اختطافها.. إلى هاوية لا تعرف أبعادها.. بعد أن تستيقظ تتأمل المرأة نوم زوجها العميق، وتقعد إلى جواره في السرير منتظرة يقظته حتى تسأله.
وكان الزوج يؤكد لزوجته بغضب، بعد أن يزيل بقايا النوم عن أطراف عينيه، بأنه لم يشعر بأية هزة، وعندما يستوضح الزوج من زوجته عن أبعاد الزلزال وطبيعته.
تؤكد الزوجة بعيون رطبة، أن الزلازل التي تحسها.. زلازل غامضة لها أبعاد ولكن لا يمكن وصفها.
ثم تتالت الأيام والهزات وحصل الاضطراب الكبير، ونهضت البنات فزعات وركضن إلى غرفة نوم الأم والأب فوجدن الأم غارقة في الحيرة. والأب غارقاً في النوم، فهززنه حتى تحرك واستيقظ. وأزاح بقية النعاس عن أطراف رجولته. وأعاد مشاعر الغضب إلى أطراف فمه وذاكرته وبدأ الصراخ والتنكيل، ثم صرخت إحدى البنات الأربع انظروا إلى الجدار، فنظر الجميع وبهتوا، عندما لمحوا شرخاً طويلاً فيه يمتد من أعلاه إلى الخط الفاصل بين يقظة الأم وأصوات شخير الأب.
وكان الزوج في موقف صعب، لذلك نهض وتأمل الشرخ ومدّ كفّه لملامسة حوافه، ثم راودته نفسه فدس أصابعه فيه.
كان الشرخ عميقاً وكانت نظرات الزوجة غائمة ومضطربة.
بعد ذلك سحب الزوج أصابعه من قلب الشرخ وارتدى ثيابه باستعجال ومضى، وظلت صرخاته القديمة تدوي في رأس الزوجة. مطالباً إياها أن تلد لـه صبياً ذكراً لتكتحل به رجولته، مؤكداً لزوجته بأن البنات الأربع شيء فوق الاحتمال.
ثم هددها في إحدى المرات بالطلاق.
وقد أكدت لـه المرأة أن التحكم في الإنجاب شيء خارج عن السيطرة.
في المساء أحضر الزوج مهندساً لمعاينة الشرخ ومعالجته، فتأمل المهندس الشرخ وحار فيه، ورغبة منه في التعرف على أسباب الشرخ، قام بزيارة عدد من الشقق المجاورة، والشقق في الطوابق العليا والسفلى وسأل أصحابها، عن وجود شروخ مماثلة، أو إحساس بهزات مشابهة، وقد أنكر أصحاب الشقق المجاورة وجود الشقوق، واستنكروا نوعية الأسئلة لأنها تضر بسمعة البناء وتؤدي إلى اضطراب سعر الشقق في السوق.
حين عاد الزوج والمهندس إلى الشرخ، أكد المهندس ضرورة بناء جسر متين في الأعلى ينهض على عمودين راسخين وذلك لحماية السقف من الانهيار، وبذلك وحده يتم وضع الشرخ تحت السيطرة.
وقد استجاب الزوج لهذا الحل، وبدأ العمل الحثيث لمحاصرة الشرخ.
في إحدى الأمسيات وبينما الزوج والأم والبنات قاعدون أمام التلفزيون.. وبعد انتهاء المسلسل اليومي، حصل اللقاء المنتظر وظهر وزير السدود والمرافق العامة على الشاشة، ليؤكد أن بناء سد جديد.. سيضع النهر والماء والهواء والأسماك والبويضات تحت السيطرة.
حين التقت الزوجة بالقابلة التي أشرفت على ولادة بناتها الأربع، سألتها إن كان يمكن وضع البويضة في رحم المرأة تحت السيطرة، ودفعها لتنجب ولداً ذكراً لا مُرية فيه ولا عيب، ولد يقلق نوم الأب ويدفعه للانتباه إلى بناته وزوجته.
أكدت القابلة، أن هذا شيء خارج حدود معرفتها، غير أنه توجد نساء قادرات على التحكم، والتأثير، بحيث تنصاع لهن بويضاتهن ويستجيب لهن نسلهن، ولا يشعرن بأي هزة أو شرخ.
وهل أستطيع أن أكون واحدة منهن؟
بعد الجهد والتدريب تستطيعين. فمادام الإنسان يستطيع أن يتحكم بحركة يده أو رفة عينه، وتقلبات لسانه وخواطره، فلا بد وأنه يستطيع أن يتحكم في الأشياء الأخرى. ثم نهضت القابلة ومضت. دون أن تخطئ في تحديد الطريق.
لذلك بدأت الأم ترى ظلال بويضتها، وكيف تتشكل وتستدير وتتلون، وكانت تحس كأنما تمسك شغاف البويضة وتقلبها ذات اليمين وذات الشمال حتى تأخذ نصيبها من الأمومة والعتمة الجارفة، وحين استوت البويضة شيئاً كامل البريق والموران، حدثت الأم بويضتها كأنما تحدث ابنة عاقلة.
ويا ابنتي، كوني معي، وتأملي نبضي وجرحي، وتعسف الرجال إلى جواري، ويا بنيتي لا تظاهري نفسك وجنسك بل التفتي إلى جهة الرجال، وحين يداهمك حوين منوي أنثوي نبيل، أغلقي نفسك وجلدك في وجهه، ووفري نفسك للمداهمة التالية، مداهمة العلق الذكوري البطيء واركضي إليهم، ولوّحي لهم بأكف الفتنة والغواية حتى يخرجوا من كسلهم وتشتتهم ويلتفتوا إليك، عند ذلك انطلقي إليهم ولا تنتظريهم، وعندما يستديرون عنك انقضي عليهم وأدْخِلي واحدهم في جلدك ونبضك والتفي عليه حتى تعييه وتحوليه إلى هباء، بعد ذلك ستتشكلين أنت نفسك، وليس شيئاً آخر سواك، في هيئة صبي لي، يخلصني من نفسي ومن أبيه.
ثم ركضت الأم إلى الشرخ واستقلت إلى جواره فالتفت إليها الزوج وأزال ما يمنعه منها وبدأ معها اللهاث الطويل.
تسعة شهور حتى جاءها المخاض، وحين لم يعد بوسع الأشياء أن تظل تحت السيطرة، تدفق الدم والحلم، وخرجا إلى الهواء في هيئة صبي تام البكاء والتفاصيل، وكانت المفاجأة، حين نهضت الأم واحتضنت الصبي الوليد وهربت به إلى الأفق البعيد حيث يمكنها أن تخرج عن السيطرة، وحين وصلت إلى الحافة، سمعت بكاء بناتها البعيدات.. فرجعت إليهن مترنحة، وخيط من الدم الزاهي يرافق مسيرتها ويرسم لها الطريق.

 
رد: قصة لحظة البرق كاملة تأليف محمد أبو معتوق

قانون الجاذبية

في الليالي الحارة، وبسبب غياب أجهزة التكييف، وعدم احتمال عداد الكهرباء لضغط النفقات، يضطر الناس للتواصل والإلفة. فيفتحون نوافذهم وشرفاتهم على الشارع الضيق ويزفرون بحنين عميق.. عسى أن تنجح الزفرات بتحريك اللواعج والنظرات المعلقة على الشرفات المقابلة مثل نوع إلهي من الغسيل.
.. ثم كان صمت.. ما لبث جارنا أن قطعه وهو يصيح على زوجته الشابة: لتغلق الباب وتدخل، فيأتيه الرد من الشرفة:
-الواحدة منا ما عادت تحتمل جلدها.
-إذا كانت جلودنا لا تحتمل هذا الحر فكيف سنحتمل نار جهنم، ثم تنصفق الأشياء على بعضها بعد أن تزفر الزوجة زفرتين هائلتين.
-إذا ظلت برامج التلفزيون على هذا الحال.. فلن يغلبني أحد بلعبة الشيش بيش.
يقول الجار في الجهة المقابلة، وهو يصيح: أحضري القهوة يا سعاد.
ويتابع اللعب مع صديقه على الشرفة المضاءة.
ويتوقف الهواء.. كأنما يعيش حالة إصغاء لحوار الناس، كأنما يحس مثلهم بضيق المكان والأرواح..
الحي الذي نسكنه، حي محدود الدخل.. شرفاته ضيقة متشابهة، غسيله متغضن بسبب ميل النسوة للتوفير في المنظفات.
في آخر الليل.. وفي غفلة الناس، يحاول بعض السكان تأكيد اعتقادهم بقانون الجاذبية فتنفتح بعض الشرفات.. بهدوء ودراية.. ثم تنقذف منها الأكياس، لتنفجر على الطريق وتتناثر محتوياتها ونفاياتها. بعدها تنطلق من نوافذ أخرى شتائم وأصوات عالية مستنكرة.. وعندما يفشل أصحابها في تحديد هوية الجناة وجهة شرفاتهم.. تتعالى الأصوات في حالة قصاص من الهواء، والطواحين (متخلفون أوباش ناس زبالة).. فتندهش الجدران، وبراميل المازوت على الشرفات، والحيوانات الليلية السارحة.. ثم يخفت كل إيقاع.. عدا الإيقاعات الهامسة، إيقاعات قانون الجاذبية. عند ذلك أخرج من مخبأي إلى الشرفة لأتابع شكل الحياة الآخر.. وأنا أتأمل السماء المرصعة بدهشة النجوم، منصتاً لحركة الشفاه على شرفتين متقابلتين.. فوق شرفتي..
-تأخر أهلي حتى ناموا.. (قالت الفتاة)..
اضطررت لإلقاء كيسين من النفايات حتى خرجتَ.. لماذا تأخرت؟..
-لم أنتبه لصوت الكيس الأول.. أجاب الفتى.
-لم تعد عندنا نفايات.. فكرت بإلقاء زجاجة ماء بارد لتنتبه. لكنني خفت أن يؤذي الزجاج المكسور القطط والكلاب السارحة في الليل.
-كنت أتابع الدراسة والامتحانات أصبحت قريبة. قال الشاب.
-أنت ستصبح طبيباً وأنا لا أستطيع الخروج من البيت.
-بالأمس قدمت طلباً للمصرف للحصول على قرض من أجل تغطية مصاريف الدراسة في الجامعة، الكتب غالية، والمواصلات..
-أنت تركب المواصلات وأنا لا أستطيع الخروج من البيت.
-اختصاصي في دراسة الطب صعب.. الدكتور مدِّرس مادة التشريح طلب منا أن نحضر عظام موتى لنرسمها ونطبق عليها بعض الدروس، أحد أصدقائي ذهب إلى المقبرة ليشتري عظاماً، وقال بأنه سيعيرني إياها.
-عظام الموتى تخرج من مقابرها وأنا لا أستطيع الخروج من البيت.
-بعد التخرج ستظل أمامي مشاكل كثيرة، العيادة، والدعاية والمنافسة، الأفضل الذهاب إلى بلد أجنبي للتخصص.
-أنت ستذهب إلى بلد أجنبي، وأنا لا أستطيع الخروج من البيت.
-ما دمت لا تستطيعين الخروج من البيت الأفضل أن لا نتابع لقاءاتنا على الشرفة.. والأفضل أيضاً أن لا تلقي بأكياس القمامة على الطريق، هذا شيء غير حضاري، وأهل الحارة ينزعجون، ألم تسمعي صراخهم وشتائمهم؟
-أكياس القمامة لا.. لا أستطيع.. سأتابع إلقاءها حتى ولو لم تخرج إلى الشرفة وتتحدث إلي.
-ولماذا؟
-عندما تذهب وتغلق نافذتك وتنام، أظل أنا صاحية، أفكر بالكلام وأتأمل الطريق، عندما يسقط الكيس وينفجر على الأرض.. وتتناثر فضلات الطعام والعظام والقشور، تأتي القطط والكلاب الضالة وتأكل منها، الأبنية العالية والأبواب المغلقة والجدران لا تسمح لهذه الحيوانات بالدخول إليها والحياة فيها، لذلك تخرج الحيوانات في الليل، وأنا لا أستطيع الخروج.. ثم تأكل من الأكياس، بدون الأكياس الممزقة ستموت الحيوانات من الجوع.
-ولكن السكان ينزعجون من صوت الأكياس.
-الانزعاج أسهل من الموت.. وأنا لا أستطيع الخروج.
-حاولي أن تخرجي.
-مرة حاولت.. لكن شرفتنا عالية.. لذلك تراجعت وخفت.
-حاولي الخروج من الباب.
-بابنا سميك ومتين، ولا ينفتح لسوى للرجال.
ثم أغلقت شرفة.. وصمتت شرفة مقابلة.. وبقيت وحدي في الانتباه والغرابة والحاجة إلى الهواء.. بعدها نظرت إلى الأرض.. كانت طلائع القطط والكلاب قد بدأت تتوارد إلى الأكياس.. يدفعها جميعاً قانون الجاذبية والحياة العظيمة التي تتعرض للتهديد.




الرجل الأخضر
يحاول الرجل بالابتسامات الخفيفة أن يخفي نابيه الخجولين وعدد الخراف التي التهمها في حياته. وعندما يفشل.. يذهب إلى المرآة ليتأمل جسده الكامل هناك.. وبسبب الوزن الزائد يصاب بالتعرق والتقلصات ويقرر أن يصبح كائناً نباتياً.. ويقول للمرآة محذراً:
-سأتجاهل نوبات النهم التي تنتابني، غير أنني لا أستطيع أن أتحول دفعة واحدة، إلى النباتات.. ومن الواجب علي أن أستعين برجل صاحب خبرة، وليكن هذا الرجل طبيباً..
وقد حاول أن يترك المرآة ويذهب لزوجته ليستشيرها، فاستغربت منه طرح مثل هذا الأمر وتساءلت عن الدوافع والضرورات.
فقال الزوج: أنيابي، إنني أشعر بالخطيئة والتقلصات، عندما أمر قرب قطيع يساق إلى الذبح، وأخاف أن تتفاقم الحالة وتتعالى الضغائن.
كانت الزوجة مستغربة، ولم يكن الأمر مفهوماً لها بصورة كافية، غير أن كلمة أنياب أثَّرت في أنوثتها وبريق بشرتها، فقالت لزوجها في محاولة لترميمه وإعادته إلى نهمه السابق، وسخريته اللاذعة:
-إنني لا أخشاك، ولا أخاف أنيابك.. فالنهم واللحوم تعينان الرجل لحظة المجاسدة والقيام بالواجبات.
فقال الزوج: ولكنني ولكنهم، إنني أشعر أن قطيعاً من الخراف يعبر سريرنا كل ليلة، ويحاول أن يفرِّق بين جوعي وجوعك لذلك أرتعد من الخشية، وأستدير بظهري إليك حتى لا تدهسنا القطعان، ثم إنك لم تلاحظي حزن هذه الحيوانات، وهي مربوطة إلى السكاكين، وتتأمل رفاقها آونة الذبح ثم تنظر إلى الله بعينين أكبر من طبيعتهما وأشد تساؤلاً.
عندما وصل الزوج إلى هذه النقطة في الحوار، نظرت إليه زوجته نظرة غاضبة، وتابعت الكلام بعد أن أبعدت كتاب الأنثربولوجيا من أمام عيني زوجها وقالت له: لم أفهم.
فقال الرجل: كنت متسرعاً في التعبير عن فكرتي.. كأن الأمر قد اختلط علي.. فالأنبياء والمبشرون، حاولوا أول الأمر أن يبعدوا عن الإنسان الأذى، ويحولوه من أضحية إلى كائن يقدم الأضاحي، غير أن الإنسان ذهب بعيداً وحاول بالتجمع والعمران أن ينجز مفهوم الحظيرة ويطلق عليها اسم المدينة.. وأخذ الافتراس يعبِّر عن نفسه في أشكال كثيرة.. لذلك بدأت أحس بالجوع، وأفكر فيه، وأضطرب له، وأُولم لنفس لكي أتخطاه.. ولم تكن جملة (ليس بالأنياب وحدها يحيى الإنسان) تخطر ببالي لذلك بدأت أنتفخ وأخرج على طبيعتي ومعناي ولم أعد أكترث كثيراً ببريق جوعك وتأهب نهديك.. إنني.. إنهم.. غير أن الحياة فقدت مجراها العميق.
استمعت الزوجة بارتباك إلى كلام الزوج ثم تراجعت وأعادت ارتداء ثيابها..
بعد هذا الحوار.. قررا معا.. أن الزوج بحاجة إلى طبيب.
قالت الزوجة: ربما.. ربما بوجود طبيب نفساني.. يمكن لزوجي أن يستعيد جوعه، وبداهته، عندها سأمنحه نفسي وجسدي لكي يرتبط بي.. مثل خروف.
في العيادة تأمل الطبيب الرجل المريض، وتأمل رغباته بالتحول إلى كائن نباتي، ثم أجابه بطريقة لم تكن تصدر عن الأطباء ولا المشعوذين:
-أنت رجل محير.. ثم كيف وصلت إلى هذا القرار رغم أنك في أول الشباب. الكهول وحدهم يبحثون عن مثل هذه الخيارات، فلماذا تعتقد أن النباتات الخضراء ليست أشياء حية، تولد وتكبر وتموت، وأن التهامنا لها لا يثير الريبة والأحزان، لقد حاولت منذ مدة أن أتحول إلى كائن نباتي مثلك وبذلت من أجل ذلك الجهد والاحتمال.
النباتات أشياء جميلة وحزينة، ولكنها لا تفي بالحاجة، اسأل الزوجات.. الرجل النباتي رجل لا ينصاع لزوجته.. لأنه لا يجوع إليها.. لذلك تدخل الزوجة في الحزن والشتات.. وتضيق بالفلسفة والمقولات، وعندما تحاصرها النباتات تهرب إلى الحقول المجاورة وتبدأ بالمواء مثل قطة في شهر الإخصاب.
ثم هل تريد لبشرة زوجتك أن تذبل سريعاً كما تذبل الخضراوات.
-أبداً.
قال الطبيب: فلتذهب إذاً إلى بشرتها لتهمس لها بآخر الأسرار. فالولد يصبح خروفاً عندما يكتفي بالنباتات الخضراء، وعندما يأكل خروفاً.. يصبح رجلاً.. فحاول بالابتسامات الخجولة، إخفاء الأنياب.. حتى لا يعرف أحدُ كم حياة أزهقت من اجل الاحتفاظ بالحياة.





شجرة في المطعم

كيف يمكن، وبصورة مفاجئة، أن ينخرط الصديق بالبكاء رغم أنه رجل فاتر المشاعر، أفقدته الأيام روحه وخصائصه، فأصبحت ردود أفعاله بطيئة وتميل إلى الصفرة والامتعاض. وقد ظل على هذه الحال من الحكمة والصمت حتى أوصل نفسه إلى ذروة لا تليق سوى بالكهنة والتماثيل، وكان يقسم لي بأن حرباً عالمية ثالثة أو زلزالاً.. لا يحركان فيه خلية واحدة.
*ذلك هو صديقي، وتلك هي طبيعته التي غدرت به ودفعته لينخرط فجأة بالبكاء، وقد حدث ذلك عندما كنت قاعداً وإياه حول طاولة في المطعم العمالي.. وكان على الطاولة.. زجاجات وكاسات.
*كان السبب في اجتماع شملي إلى شمل صديقي رغبتي في الحصول منه على رأي قانوني، فالصديق الذي يغبط الديناصورات على مصيرها يحمل شهادة في القانون، وله اجتهادات في الحق والواجب.. توقع الأخلاق السائدة والأخلاق البائدة في الذهول، وقد اضطررت للاتصال بصديقي الحقوقي بعد قطيعة طويلة، أملتها ظروف والتزامات مشابهة للظروف التي أدّت إلى انقراض الديناصورات.
*عندما التقينا على أطراف الطاولة، كان منه ترحيب فاتر، ونظرات هائمة، ثم طلب مني بترفع أن أسرد الموضوع وأختصر ليتمكن من أن يقول قولاً فيه. وقبل أن تداهمه اليقظة التي تدمر الصداقة وتقوض الأصدقاء، كانت لهجته أقرب ما تكون إلى لهجة القضاة القاعدين وراء قوس المحكمة ويهمون بإطلاق النار على الأبرياء والجناة.
*حين قعدنا وهممت بالكلام، كان الوقت عصراً، والسماء ملبدة بغيوم فاترة لا مطر فيها ولا نبوءة بمطر.. وقد جلسنا معاً في الطرف الشتوي للمطعم العمالي المعروف بأشجاره الباسقة التي تشكل جزيرة خضراء وسط محيط من الحجارة والضجيج، وكان القسم الشتوي للمطعم يطل بنوافذ كبيرة على القسم الصيفي الأخضر، لذلك كنا نضطر لأن نلتفت إلى الخضرة المجاورة. غير أن الفتاة والشاب القاعدين في عمق المطعم كانت أحوالهما مختلفة، ولم يكونا مضطرين للالتفات، ولكن المرأة وبعد همسات وانفعالات اضطرت أن تنهض بغضب، وترفع يدها وتصفع الشاب القاعد قبالتها على الطاولة، ثم تمضي وحدها إلى باب المطعم بخطوات مضطربة ونظرات مملوءة بالماء والكبرياء، وظل الشاب وحيداً خلف الطاولة.
كانت الأمور سريعة وحاسمة، ولم نسمع صراخاً تمهيدياً يسبق الصفعة، لذلك كنا نلتفت التفاتات خاطفة لنتأمل ساقي الفتاة اللامعين وهما يتحركان بانفعال تحت الطاولة، وكان وجود شاب مع فتاة يردعنا عن التحديق الطويل ويشي بامتلاء برنامج الفتاة غير أنها وقد رفعت كفها وصفعت، ثم خرجت وحيدة، فهذا يدل دلالة أكيدة على أن الفتاة، قد أضاعت برنامجها، ودخلت في الوحدة والشتات.
قلت لصديقي الحقوقي: الصفعة تدل دلالة أكيدة على وقوع الفتاة في الحب.
نظر إلي الحقوقي نظرة أفقدتني انتصاري وقال بازدراء وتأفف: هل أنت جاد؟
قلت: نعم.
قال: أرجوك.. أن تبتعد عن التحليل والتأويل.
قلت بانفعال: لماذا؟
قال: سأصارحك.. فأنا من مدة طويلة.. أرغب أن ألتقي بامرأة من هذا الصنف، ولكن بعد أن أقوم، بربط كفيها إلى أطراف السرير، ثم أبدأ معها بإزالة الأسباب الموجبة لسوء الفهم ومن جملتها الثياب السميكة.. ثم أحاول إقناعها بتأجيل الصفعات إلى مطلع القرن الجديد.
ولم يكن المكان والزمان ملائمين للضحك، لذلك التفتنا معاً إلى جهة الأشجار، بعد أن سمعنا صوتاً قوياً.
في الموقع المجاور لنافذتنا الواسعة، كان عامل يحمل منشاراً كهربائياً يحاول بواسطته أن يقطع شجرة.. وقد تمكن بضربتين اثنتين أن يوقع الشجرة أرضاً.. وكادت أطراف أغصانها أن تصل إلى زجاج النافذة بعد أن مالت ووقعت. وتذكرت صديقي الأديب الذي يكتب على مؤلفاته إهداءً دائماً، يقول فيه (الأشجار تموت واقفة) وكدت أن أبتسم، فها هي الأشجار ما عادت تموت واقفة أو قاعدة كما كانت تفعل في القرون الغابرة، إنها تموت فجأة وبعد ذلك لا نلمح لموتها ووقوفها أي أثر.
بعد صمت ونظرات تأنيب من صديقي قلت: ليت للشجرة قدرة على الرد بصفعة مدوية من أحد أغصانها كما فعلت الفتاة الغاضبة مع الشاب.
ثم بدأنا نتباسط في الحديث عن الأشجار والثمار حتى أوصلنا الحديث إلى الصحراء، ثم أوصلتنا الصحراء إلى شعراء المعلقات، فشعرنا بفضائل التصحر ودوره العظيم في صنع مخيلة نشطة للبشر، وبأن البلدان والمسافات الخضراء، قد عجزت عن إنجاز نصوص عظيمة كما فعلت الصحراء، وكدنا بسبب الحماسة أن ننزل إلى الساحة الصيفية للمطعم لنناشد الرجل المسؤول ليهمَّ بقطع شجرة أخرى لتنشيط مخيلة الناس، ولكننا أقلعنا بعد أن انتبهنا إلى الجماعة المحتشدة وقد تحلقت حول الشجرة المجاورة وبدأت بمدِّ أصابع الاتهام نحو خضرتها الهائلة وجذعها العظيم.. وقد تبرع المدير المسؤول بشرح فوائد قطع الشجرة بصورة أرعدتنا، فلقد كنا نخلط الجد بالهزل ونحن نتحدث عن الصحراء والأشجار ومعجزة المخيلة والشعر، أما وأن الجد قد اشتد.. فلا بد من التدخل لمنع المجزرة، قال صديقي الحقوقي:
-اقعد بلا مسخرة، فالمدير المسؤول عن المطعم، رجل ذو منصب ونفوذ، ويستطيع بإشارة منه أن يجعل الشجرة تقع من الذعر دون أن يستعمل معها المنشار.
ثم رفع كأسه وقلبها في فمه وتغضن وتحير، وطلب كأساً رابعاً، ثم طلب مني الإسراع في سرد الموضوع الذي دعوته من أجله لأنه لم يعد يمتلك قدرة على الاحتمال، فأخبرته بأنه لا يوجد أي موضوع، وقد رغبت أن ألتقي به، لأننا انقطعنا عن اللقاء معاً منذ فترة طويلة من الزمان، ثم وبصورة مباغتة، سألني عن أبي فنظرت إليه وقلت:
-مات منذ أيام.
في تلك اللحظة.. تعالى صوت المنشار في الجوار.. فالتفتنا أنا وصديقي الذي اصطفت أمامه سبع كاسات فارغات، ثم سمعنا معاً صوت السقوط العميق.. فانتبهنا إلى الشجرة فوجدناها وقد طرحت أرضاً وطرحت معها خضرتها العريقة وما تختزنه من فتنة وشهقات.
فتأمل صديقي المشهد، ثم انخرط بالبكاء بقوة مثل الأطفال. فتبسمت وقلت لـه مستغرباً:
-كيف تمكنت؟ وبينك وبين البكاء خصومة وارتياب.
فمسح صديقي عينيه وقال: الذين يعملون بالقوانين، وبعد سبع كاسات فارغات، وصفعة مدوية، وامرأة وموت مفاجئ.. يميلون للبكاء.
فضحكت بقوة، وأمعنت بالضحك.. حتى انتبهت الطاولات والأشجار، ثم وبصورة غير مفهومة نهض صديقي وصفعني صفعة قوية ليمنعني من الاستمرار.. ثم مضى بخطوات مترنحة إلى الباب.
فأطرقت رأسي لأخفي حرجي أمام الزبائن والندلاء، وبعد مدة رفعت رأسي وتلفتُّ حولي.. كان الرجل الذي صفعته المرأة جالساً في موضعه وحين التقت أنظارنا.. ابتسم لي ورفع كأسه، فرفعت كأسي مثله وتبادلنا على البعد الأنخاب.
وقربنا في العراء الفادح.. كانت الشجرة مستلقية تعد نفسها لمغادرة المكان.. مثل امرأة جميلة تعرضت للاغتصاب.






الإرهاب.. وراء الأبواب

تؤكد الصحف ووكالات الأنباء، أن الصخب الحاصل في الشارع لـه أسباب عديدة، فقد صعد الشاب (س) الذي يتكلم العربية باضطراب، إلى أحد مراكز البوليس في المدينة العملاقة نيويورك ليعلن أن عدداً من الشبان الغامضين، يدخلون ويخرجون دون تحية أو كلام.. وأنهم يحضرون علباً كرتونية، لا تشبه علب الهامبرغر، ولا أرغفة البيتزا، وهم بالإضافة إلى ذلك، مضطربون، وتكاد الأحزان والمشاعر المتباينة أن تطفر من عيونهم، كما وأنهم لا يحاولون التحرش ببائعات الهوى على الطرف الآخر من الطريق، وهم عندما يدخلون إلى غرفتهم المشتركة، يصمتون ويغلقون خلفهم الباب. وتلك ظواهر توحي بالعزلة والتطرف. والعزلة والتطرف شيئان مريبان في المدينة العملاقة.. العزلة تصوغ المدن العظيمة والكائنات، أما التطرف فيقوض المدن والناطحات، ويشغل الرأي العام ووكالات الأنباء.
وحتى لا يفقد الشاب المبلّغ إقامته وسمعته، فقد ذهب متطوعاً ليقدم الأخبار إلى مركز البوليس القريب.
وكان التوقيت ملائماً. والسيارات متأهبة، ورجال الشرطة متحفزين، وبسبب التحفز والاستعجال انطلقت السيارات، وارتطمت ببعضها، وبعد دقائق جاءت الرافعات ونقلت السيارات المحطمة والأنقاض وتابعت مسيرة السيارات السليمة الباقية طريقها لمحاصرة المقر المشؤوم، حيث يقبع الفتية المتطرفون.
بائعات الهوى الواقفات على الرصيف المقابل اللواتي يعرضن مفاتنهن في الهواء، ذعرن من وقوف سيارات البوليس المفاجئ وأصوات الاحتكاك العنيف بين سواد الدواليب وسواد الإسفلت، لذلك انفعلت إحدى البائعات بمشهد الاحتكاك وصاحت بعنف، عنصريون، قتلة، دون أن تحدد من هم العنصريون، رجال البوليس أم الشبان المتطرفون في الطابع التاسع.
المهم أن رجال البوليس فتحوا الأبواب ونزلوا من السيارات، وتحركوا كما تتحرك فصيلة من النمل الفزع لحظة خروجها من مستعمرة مهددة، وبدأ التحفز والانتشار، دون الالتفات للمصعد. وبدأت الأقدام المتناظرة تتقافز بحركات إيقاعية على الأدراج، وفي ذهن الجميع، أن الحرب العالمية الثالثة واقفة خلف الأبواب.
كان رجال البوليس المدربون والمدججون، يتوقعون الأعاجيب، وعندما وصلوا إلى الباب، أخرجوا المكبرات وبدؤوا التهديد، ثم تعاونوا مع الشاب المبلغ وطلبوا منه أن يترجم غضبهم وتحذيرهم إلى اللغة العربية ليرتدع المتطرفون ويسلموا أنفسهم.
بعض من بائعات الهوى وبعد أن انفعلن بالمداهمات ابتعدن قليلاً. وأخرجن سكاكينهن المخبأة قرب مؤخراتهن، وهاجمن بعض المارة المندهشين وطلبن منهم إفراغ جيوبهم من النقود، تحت سمع رجال البوليس وبصرهم، أما رجال البوليس فلم يحاولوا التدخل لمنعهن، وذلك لأنهم جاؤوا من أجل مهمة محددة وهي التصدي للإرهاب.
أما المارَّة الذين يحاولون عدم الرضوخ للتهديد، فكانوا يدفعون ثمناً باهظاً. لأن العاهرات كن يصرخن أصواتاً رهيبة مما يدفع رجال البوليس للتدخل وعندما يتدخلون.. تحاول البائعات اتهام الرجال العابرين بالتحرش الجنسي، ويكشفن عن أجزاء من أجسادهن مملوءة بالخدوش ومعدة لمثل هذه المناسبات، لذلك يصاب الرجل المتهم بالفزع فيقوم بإفراغ جيوبه ومحفظته وأمعائه، من الدهشة.
وهكذا اتخذ القرار ولم يكن من كسر الباب بد. فتقدم أحد الخبراء وألصق مكعباً من الديناميت بالباب، ثم أعطيت الأوامر بالتراجع، وأعطيت الأوامر بالتفجير. واصطكت الأبواب والجدران والأسنان من قوة الصوت وهيبته، بعدها تجمع الرجال المدججون أمام الباب المحطم واقتحموا الشقة وانتشروا في أرجائها مع الدخان، وخرجوا بعد دقائق ومعهم ثلاثة شبان مكبلين بالخوف والدماء.
في هذه اللحظة، حضرت وكالات الأنباء، وأعلن قائد فرقة الاقتحام، أن المخربين الثلاثة، أبدوا مقاومة عنيفة، مما اضطر فريق الاقتحام لتبادل النيران معهم، وإلى إصابة بعضهم بخدوش وجروح كبيرة، لكنها لا تمنع من البدء معهم بالاستجواب.
وعندما سألت إحدى شبكات التلفزيون إحدى بائعات الهوى عن رأيها بما يجري، أكدت لهم بما لا يدع مجالاً للشك بأن الشبان الثلاثة لم يحاولوا في أية مرة الابتسام في وجه العاهرات، لذلك لا يمكنهم أن يكونوا مسالمين.
أما بائعة الهوى الثانية، فقد مسحت دمعتين دلالة على الخوف الشديد، وقالت، إن الفزع الذي أصابني بسبب المخربين يشبه الفزع الذي أصاب جنودنا في حرب الخليج، لذلك أطالب الحكومة بالتعويض.
وعندما سألتها المذيعة عن المبلغ، أكدت لها.. يجب أن يكون المبلغ محترماً.. حتى نتمكن أنا وزميلاتي من متابعة الحياة بشرف واحترام بعيداً عن رجال البوليس.
*ثم عُصّبت عيون الشبان الثلاثة، فتسربت إلى خيوط العصائب شذرات من الدماء، وتمّ دفعهم على الأدراج للوصول بسرعة إلى مقر البوليس.
وعندما اقتربت السيارات، وحشر الشبان الثلاثة، حشراً حاولت واحدة من بائعات الهوى أن تدس جسدها معهم، غير أن رجال البوليس منعوها من تحقيق غاياتها، لذلك نظرت إلى وجوه البوليس بغضب وصرخت:
-اتركوا هؤلاء الشبان، رجال البوليس والرجال البخلاء.. وحدهم الإرهابيون وليس هؤلاء.
*عند ذلك انطلقت السيارة بغضب، ووقعت بائعة الهوى، في دوامة من البكاء والنشيج، واجتمعت حولها صديقاتها مستغربات، في الوقت الذي غابت فيه السيارات في المنعطف البعيد.
*كان حاكم الولاية مبتهجاً عندما وصله خبر القبض على خلية إرهابية، لذلك أشاد باليقظة والحذر اللذين تتمتع بهما الشرطة الفيدرالية والشرطة الكونفدرالية، ثم طالب بمتابعة التحقيق مع الخلية الإرهابية. وتكثيف دوريات الحراسة على بوابات المترو، والأماكن المكتظة، ومراقبة الداخلين والخارجين، حتى لا يتضرر إيقاع الحياة في ولايته..
ثم قال محذراً علماء الهندسة الوراثية، يجب الانتباه إلى هذه الخلية الإرهابية وعدم استنساخ نظائر لها.. حتى لا نوقع مراكز الأبحاث والنعجتين دولي ومولي في الحرج الشديد.
*حين حصلت البعثات الإعلامية على إذن بمقابلة المخربين، سألت مندوبة الواشنطن بوست عن العلاقة التي تربط المخربين بمنظمتي حماس والجهاد.. فاغتاظ قائد مركز البوليس من السؤال، ظناً منه، أن المنظمتين المذكورتين تعملان في كولومبيا. والعلاقة مع كولومبيا آخذة في التحسن ولا داعي لإثارة غضب ومخاوف تجار المخدرات الكولومبيين، لأن ذلك يقلل من أرباح رجال المافيا والبوليس.
فاضطرت رئيسة بعثة الواشنطن بوست للتوضيح، ورفع التهمة عن كولومبيا والتأكيد بأن منظمتي الجهاد وحماس منظمتان شرق أوسطيتان لا تربطهما أية علاقة بالمخدرات.
*فاضطرب المكان لهذا التوضيح، وغرق الإعلاميون والفضوليون بالضحكات وشعر رجال البوليس بالحرج الشديد.
*حين انتشر الخبر في الصحف ونشرات الأخبار وشاشات التلفزيون، تحدث الجميع عن خطة محكمة للإيقاع بالمدينة الهائلة، وإغراقها بالدماء، وبدأ التحليل والتأويل، الشجب والتنديد.
بعد مدة من الحجز الاحترازي.. أُخرِج السيد (س) الذي يتحدث العربية باستحياء من غرفة التوقيف، وأعطي بطاقة (الغرين كارت) جزاء خدماته، ثم قال لـه رئيس مركز البوليس:
-نحن آسفون، فعندما لا نجد إرهابيين حقيقيين يجب أن نخترعهم لتعزيز مكانتنا، ولقد ساعدتنا على القيام بعمل جيد يحرك الرأي العام.
لذلك دمعت عينا السيد (س) وتحركت أمعاؤه.. فقبض على الغرين كارت وركض باتجاه المغاسل.
*أما الإرهابيون الثلاثة فلم تحاول السلطات المعنية إخضاعهم لأي استجواب، غير أن السلطات أجلستهم على نوع خاص من الكراسي الكهربائية، وربطت معاصمهم ورؤوسهم بأجهزة نادرة، يصلهم من خلالها ذبذبات تشبه الدغدغة، وبعد نصف ساعة من الذبذبات، أعطيت الأوامر بفك ارتباطهم بالكراسي وظلت الذبذبات تتحرك فيهم وبدأ المخربون بالحركة والابتسام، ولم يعد الواحد منهم يتذكر اسمه وتاريخه.
*وفي المقابلة التلفزيونية التي أجريت معهم، أجاب المخربون بكلمة نعم على كل سؤال.
-هل أنتم مخربون؟
-نعم.
-هل شاركتم بعمليات إرهابية في جنوب لبنان؟
-نعم.
-هل أنتم راضون عن أفعالكم؟
-نعم.
-هل تعودون للإرهاب ثانية إذا أطلقنا سراحكم؟
-نعم.
-وعندما وردت أشياء عن كولومبيا
صاح الجميع: نعم.
*عند السؤال الأخير، غرقت العاهرات والإعلاميون والإرهابيون بالضحكات والذبذبات.
*أما رجال البوليس، فقد ذهبوا إلى الغرف المجاورة وأغلقوا خلفهم الأبواب.





في ذمة البرق

أحياناً أصاب بضربة برق، ما ألبث بعدها أن أغادر طبيعتي الديناصورية لأتحول إلى إنسان، وضربة البرق هذه تحتاج لحدث جليل مفاجئ يغير في طبيعتي وهيكلي وحراشفي وبعض ما أختزنه تحت جلدي السميك من جوع وصراع وذكريات.. وها أنا ألمح ضربة البرق، وأتغير.. ولكنني لا أتذكر السبب. لذلك أقف في جسدي الجديد ولهاثي، وأبدأ بتجميع النقاط وكلما تكاثرت النقاط يتفاقم اللهاث، وتتشكل ظلال الصورة، ويتحول الجدار إلى غرفة، وتظهر في طرف الجدار لوحة زيتية غائمة ما تلبث أن تتضح خطوطها ومساحات الضوء والعتمة فيها، ثم ينفرج المشهد في اللوحة عن منظر ريفي فيه أشجار وظلال وفتية صغار يلعبون في طرف اللوحة وفوقهم سماء قريبة تكاد أن تلامس طفولتهم، وبين الغيوم خط من البرق يكشف السر ويؤلف بين السماء والأرض، وفي عمق اللوحة.. فلاحات واجمات وحولهن بقرات وحقل، واللوحة بمجملها تكاد تكون نسخة منقولة عن لوحة لرسام من القرون الوسطى.
واللوحة غريبة عن وسطها وما يجاورها في الغرفة من بشر وجدران ومفروشات، ثم فُتح الباب فجأة ودخلت فتاة معاصرة الملامح والثياب وعبرت المكان دون أن تنتبه لأحد.. وعندما وصلت إلى اللوحة، تسمرت وتأملت، وبسبب من طبيعتي المعلقة بخط البرق.. انتبهت إلى تقاطيع جسد الفتاة الشابة ومعناها وما يسوله حضورها في داخلي من صرخات. ولم تكن الفتاة تعبأ بشيء سوى بتأمل اللوحة، ثم وبلمحة مثل البرق مدت يدها إلى خط البرق في اللوحة بغبطة وصاحت:
-يا الله كم أحب أن أعيش في مثل هذا الزمان والمكان.
ثم غام المشهد وتلاشت الحركة، وأصبح العالم في شتات. ولم ينتبه أحد لما قالته الفتاة، ولم ينتبه أحد إلى اللوحة التي مدت يدها إليها ثم انطفأ المشهد وتفرق الناس وعبر كل منهم أمكنة وأزمنة متوالية نسي فيها كل شيء.
ولم يعد البرق يلامس حواف النجوم ويستوطن خيوط الفتنة التي تهطل من السماء، وقد دفع انحباس البرق والمطر بعض الناس لإقامة طقوس صلاة الاستسقاء، فاتجهوا بوجوههم وأكفهم إلى السماء وانصرفوا للتلاوة والنشيد.
يا ذا العطا.. يا ذا الرجا..
اسق العطاش تكرما..
وظلوا منصرفين للنشيد حتى حصل التجاوب والجذب.
في نقطة التقاطع بين طبعتين وشارعين وساحة، كانت السماء مملوءة بالغيوم وقريبة من الأرض، بصورة تذكر الناظر إليها باللوحة السابقة المعلقة على الجدار والموشحة بظلال وانفعالات من القرون الوسطى.
ثم وبلمحة ظهر البرق الهائل وتبعه الهزيم، وامتلأت الساحة بالعصف والمطر وبسبب البرق، تحول الكائن الواقف في نقطة التقاطع من ديناصور حَذِر إلى إنسان من لحم ودم، وركض تحت المطر دون محاذير وظل يركض حتى أغرق خطوط الماء التي تسيل على وجهه وأطراف لهاثه.
حين أخذ الرجل المبلل بالارتجاف في منتصف الطريق بدأت تتلامح في ذاكرته صورة عن برق سابق رآه، برق تحف به غيوم متثاقلة.. تقرب بين السماء والأرض، لذلك وقف طويلاً.. وبدأ التحديق في سماء الساحة، وتابع التحديق حتى تشكلت في ذهنه ملامح اللوحة السابقة، وكان في اللوحة خط من البرق وغيوم متثاقلة تقرب بين السماء والأرض وكان خلف اللوحة جدار.. وحول الجدار أثاث متنافر وكائنات ذاهلة.. وفي مواجهة اللوحة فتاة.
-أين حصل ذلك كله وفي أي زمان.
وقد حاول أن يتذكر. وضع في ذهنه عشرات الأماكن والاحتمالات، وقام بزيارتها، دون أن يلمح اللوحة والفتاة في أي سماء.
وها هو يدور ويدور، هائماً ومتثاقلاً.. كأن طبيعته الإنسية مهددة بالتحول.. إذا لم يتمكن من جمع خيوط البرق من سماوات الساحة واللوحة والأثاث المتنافر، والزمان والمكان، ليلتقي بفتاة البرق من جديد.






فقاعات البياض.. والسواد

*يبدأ الشتاء في البيت بصورة مفاجئة.
*يبدأ عندما تعلن الزوجة عن موعد تركيب المدفأة.
والمدفأة كيان فاتن.. يقرّب بين الفصول والدرجات. أما الهباب الذي تنتجه.. فهو يقرب بين الألوان والأعراق.
*غير أن تركيب المدفأة.. أمر بالغ التعقيد وهو يدمر الإلفة ويهدد بالتفريق بين الأزواج والزوجات.
*بعد أن يستمع الرجل لتعاليم زوجته.. يزفر زفرة كثيفة، لم تتجرأ على مثلها المداخن والحمامات. ويمضي لإنجاز العمل وتركيب المدفأة.
*وبسبب الحَذَر الشديد الذي جُبِل عليه الرجل.. يهرع إلى الكفوف والكمامات ليعزل نفسه عن الهواء، ويبدأ فصل التعزيل والخبط والتنظيف.. وعندما يفعل ويتطاول حوله السواد والهباب.. تتغير صفاته وملامحه وتصير لـه هيئة غرائبية ووجه متباين الصفات والألوان.. يشبه التباين القائم بين الأفراد والقارات.. وبسبب تماسك الكمامة وانضباطها.. يضطر الزوج لرفعها ليسرق نفسين عميقين من الهواء المجاور ثم يعيد الكمامة ويتابع العمل والاحتقان.
حين يرفع الزوج كمامته.. يفتضح أمره.. فتهرع الزوجة المتأهبة.. بمنديلها الورقي إلى حبيبات العرق على جبهة زوجها، لتزيلها بضربة واحدة.. فيتشكل تحت المنديل الأبيض خط شاسع من السواد.
*عندما يتم الزوج عمله يهرع إلى الحمام، مطوحاً بالكمامة والكفوف البلاستيكية، ثم يستند على جدار الحمام ليتمكن من تناول الهواء بروية وانتباه.. بعد ذلك يعرِّض مسامه وروحه للماء الساخن.. فيتشكل حوله عالم هائل من البخار.
*بعد أن يتم الزوج طقوس الماء وتدفق صفاته وهيولاه، يخرج من الحمام كأنما أتم ولادة جديدة غادر بفضلها جلده السالف وما ينغصه من تلون وهباب.
ثم يرتدي ثيابه على عجل بعد أن يتذكر الموعد الذي سيلتقي فيه بفتاة.
الفتاة لم يكن يعرفها، ولم يتمكن من تحديد ملامحها رغم محاولتها الاتصال به عدة مرات.
وعندما نجحا معاً بتحديد موعد، أصبح الطيران إلى الموعد من أول الواجبات.
*عندما اقترب الرجل من (الكافيتيريا)، انتبه إلى أصابعه، وعرف بأم عينيه أن الهباب قد نجح ليس في التسرب إلى دمه ورئتيه، وإنما تمكن من أن يستوطن أجزاء غامضة من أطراف أصابعه وبقاياه.
*تحت أظافر كفيه وحولهما وفي الأجزاء الخشنة من بصماته تشكلت خطوط متباينة من السواد. لم يستطع الصابون والكثير من أنواع المنظفات إزالتها.
*عندما دخل الرجل المكان بتهيب.. شاهد كفاً تشير لـه من إحدى الطاولات البعيدة.. فمضى إلى المكان وفوجئ بلون بشرة الفتاة.
كانت على بياض ناصع ونظرات ساطعة. وزمان يخلو من الدخان والهباب.. وعندما نهضت الفتاة إليه ومدت يدها نحوه.
شعر بأهمية الملائكة وما يتوجب أن تكونه الحوريات في الأحلام، فصافحها بصورة خاطفة وغادرها معتذراً إلى المغاسل ليعيد ترتيب كفيه وخلاياه.. وعندما لمح قطعة الصابون انقض عليها وبدأ بكفيه فركاً وتلويعاً وتقريعاً، وعندما تفاقمت الرغوة البيضاء وكادت أن تصل إلى الباب، فتح الرجل الصنبور ليزيل كفيه عنه ويحتفظ بظلال الرغوة والبياض، ولكن رغوة الصابون انحسرت وبقي الكفان مثل شيئين ضالين خرجا لتوهما من قلب المدفأة والهباب.. فماذا يفعل الرجل.. والفتاة التي تنتظره بيضاء بيضاء.. كأنما هي حلم لامع في مخيلة السماء.
*عندما أعيت الرجل المحاولة.. عاد بكفين رماديين وعليهما خطوط واهنة من السواد.
وعندما وصل إلى الطاولة وقعد.. حاول أن يضع كفيه في جيبيه ويتصنع الابتسام. بعد مدة من الصمت.. نظرت الفتاة إلى الرجل وقالت:
-الأصابع. أول المعرفة واللقاء. فلا تحاول أن تواري كفيك عني. لقد ابتكر الإنسان الطاولة.. ليضع كفيه عليها وليس ليجلس خلفها كما يفعل الخائفون.. والأزواج الأوفياء.
فقال الرجل: أنت أكثر بياضاً مما تحتمل أصابعي.. التي تعيش الآن محنة تدفعني للحيرة والسواد.
قالت المرأة: الأصابع التي تدفع للحيرة تشغلني فأخرج أصابعك لأكون لك.
وبسبب اضطراب الرجل، وضغط مخيلته وحبات العرق التي تشكلت على رماد جبهته.. حاول أن يخرج كفيه.. حاول بقوة.. وعندما نجح.. ظهر كفاه على وجه الطاولة بصورة لم يألفها.. ظهرا أبيضين.. أبيضين كأنما لم يمسسهما سوء أو هباب.. وعندما تأملت الفتاة كفي الرجل وارتباكهما، نهضت منفعلة وهي تتأمل الكفين وقالت:
-ما الذي سأفعله بكل هذا البياض.
ثم غادرت المكان.. وكانت المدفأة تستعرض ألوانها ونيرانها في الجوار.






بعيداً عن ابنة الجيران

ها أنا ذا أقعد يا سيدي، متربعاً مثل مريد. لأكتب لك رسالتي.. ولأبثك فيها مواجد روحي، وضعف وسيلتي، إنني يا سيدي أصطدم في كل ساعة بظاهرة محيرة، ظاهرة لا يقدر على احتمالها القديسون ولا قطاع الطريق، ظاهرة تختلط بها الرؤيا الفاتنة بالعماء التام. وتنتابني حالة من الهذيان، أحس من خلالها بأنني خارج من القنبلة الذرية رغم أنني يا سيدي لا أحمل للموتى أية ضغينة.
*إنني أحس يا سيدي بما لا يدع مجالاً للحيرة والشك، بأنني أكثر منك علماً وأشد حماسة لما نذرت إليه نفسك، وتكاد هذه الحماسة أن تدفع بي بعيداً لأعمل على تقويض مناهجك ومريديك. أيها الغارق في مياه لا تعرفها وفي أفعال لا تنجيك.
-لقد ولدت وترعرعت في أسرة عنيدة، نذر رجالاتها أنفسهم لمواجهة المصطلحات الغريبة، ديدنهم في ذلك النظرات المريرة والصوت المتهجد العميق.. وعندما لمحت في المراهقة البعيدة أول ابتسامة أطلقتها ابنة الجيران نحوي، انتبه والدي إلى تبدل أحوالي فطرحني تحت رحمة العصي والحبال، ودفعني دفعاً للاكتفاء بعالم الرجال. ولأنني لا أقدر على احتضان ذكريات قديمة دون أن تعبر تنهدات ابنة الجيران طريقي، أحاول يا سيدي أن أكتب لك.. فعندما لا تكون المرأة كائناً متاحاً.. عندها أي شيء يكون.. أي شيء يكون.
*بعد أن عدت من باريس إلى حلب حاملاً شهادة الدكتوراه في علوم اللسانيات، تفاقمت رائحة فمي وكلماتي.. ورغم ذلك رغبت الإذاعة المحلية.. في إجراء لقاء معي في برنامجها المفتوح. وقد اهتممت بالأمر وأعددت لـه العدة، لكنني وبعد أن وصلت المذيعة المكلفة بإجراء المقابلة وهي تصطحب أنوثتها وجهاز التسجيل، لم أعد أعرف ما أصابني.. وشعرت بأنني أفقد صوتي وخصائصي وتتداخل ركبتاي في التهجد والصليل، وانتابني صراخ أبي ولعناته، وأحسست بمعرفتي وقد تطايرت أمام بلاغة جسد المذيعة وقسماتها، وكدت من فرط نعومتها أن أغص برجل يشبهني. رجل لم يغادر جسده ولا وطنه ولا محاذير أهله وأستاذه وذويه. لذلك نهضت غاضباً من شيء لا أعرفه وطلبت منها قبل أن أقع مغشياً علي، أن تذهب إلى الجحيم. فذعرت الآنسة ونهضت دون أن تمتلك القدرة على احتضان جهاز التسجيل، بعدها ذهبت إلى الأرض وحاولت أن أبكي فوق اتساعها مثل ولد ضرير. إنني يا سيدي أحاول التذكر لأستعيد ما أصابني حتى أقدر على ما أصابك فأدنو كثيراً إلى ظلالك، وأتماثل عميقاً فيك.
*عندما كنت في باريس أتابع غسل الصحون في المطاعم، والدراسة في الجامعة، كان هذا الأمر يقلقني.. فمتى يمكن لباريس أن تكون بين يدي مثل صحن حتى أتمكن من غسلها عن بكرة أبيها.
فهي مدينة من الغرابة، تجاهر بالمعصية وتحض عليها، وأنا كائن من الأصابع والنظرات الجائرة، أشير إلى ضلال المدينة بيد، وأمارس المعصية باليد الأخرى، لذلك تتغضن روحي فأهجم على الأوعية مغرقاً نفسي ومناهجي بالفقاعات والتمتمات.
-آه يا سيدي.. لو أنك دخلت في التجربة مثلي لتمنيت أنك صائر من يومك وساعتك واحداً من أتباعي. ولكن كيف لك أن تكون في مثل طبيعتي وتجربتي وأنت لم تذهب في زمانك كله إلى باريس ولو ليوم واحد. ولم تواجهك النظرات ولا الصحون المكدسة. المفتوحة مثل عيون ضلت الطريق.
لقد غسلت أهرامات من الصحون، دون أن تمتد يد واحدة إليَّ لتغسل روحي ووحدتي.. وفي باريس تأملت الحياة والتجارب والتحولات دون أن أجرؤ على إطلاق صحن واحد في وجه تجربتي.
في المساء كنت أذهب لحضور المحاضرات والندوات، وعندما حل يوسف إدريس ضيفاً على باريس وألقى فيها بعضاً من قصصه سألته بعد أن أنهى قراءته لماذا لا يكتب فصلاً في الجحيم، وعندما أنهيت السؤال استدارت الرؤوس إلى بلاغتي المفاجئة وأمطرتني بنظرات غريبة، لحظتها تمنيت أن يكون أمامي على المدرج جبل من الصحون حتى أقذف كل رأس استدار إلي بصحن يمنعه من التلفت والانتباه، وهكذا دخلت الصحون في برامجي لتملأ حياتي. لذلك أحس نحوها بالود والتردد.. صحون بيضاء لامعة، وتفتح صدورها أمام محنتي مثل حليب لا يفارقني. غير أنه حليب صلب. أطلقه نحوي نهد ابنة الجيران ليذهلني ويستردني من أقاصي اللغة والزمان.
*أنا لا أشك يا سيدي بأنك واقع في التجربة، وليس لك من سعيك وزمانك ما يعينك على المجالدة، فبعد أن عدت إلى حلب.. أحسست يا سيدي بوحدتك وعاينت ضياع أمرك، وها أنا وقد حاولت الالتفاف عليك مستعيناً بالمناهج الوضعية المحدثة من علوم الدلالة واللسانيات التي تعلمتها في باريس.. لم أزل أحس بالأرض والناس، وبك وكأنكم أوسع من قبضتي التي فقدت بلاغتها بعد انحسار أصابعي وتحولها إلى ثآليل.
إنني أرسل إليك يا سيدي هذه الرسالة.. لتعيدني إلى ابنة الجيران لأسترد نفسي، وأتخلص من مريديَّ وأصدقائي الذين يُطلق عليَّ بعضهم لقب الكاردينال، كأنما أنا إنجاز مقلوب من منجزات الحروب الصليبية.






أب من الورق

بأصابع حذرة أنجزَ (ب.س) روايته الأولى وكان الأب في الرواية شديد التسلط. وكان الأبناء في غاية الحيرة والاضطراب.
بعد أن أنجز (ب.س) الرواية من الجلد إلى الجلد ضغطها حتى استوت في هيئة كتاب، ثم حملها إلى صديقه الناقد (و.س) البعيد الغور والغارق في الحكمة والتأملات، وقدم لـه، رواية عمره الأولى، قدمها إليه كما يقدم المريد روحه لمعلمه. أو كما يقدم العبد قرباناً لخلاصه، ودون أن ينتبه أحد إلى الدم الذي يتقاطر على أصابع المؤلف، تقبل الصديق الناقد الرواية بانتباه، ووعد صديقه المؤلف بالقراءة والتدقيق.
ثم افترقا ومضى كل إلى جهة.. وفي الطريق شعرت اليد التي تخلت عن الرواية بالأسى والفراغ، وبدأت الذراع برمتها تخرج على صاحبها وتتطاير عنه. كأنما فقدت طفلها الوحيد. لذلك حاول المؤلف أن يلجم أصابع كفه ولهاثه ويضعها في جيبه وعندما فعل دوى في رأسه صوت أبيه.
*الجيب يا ولدي أكثر حكمة وتعقلاً. وهو يمسك الأوراق والمعادن ويعيد المصائر الضالة إلى مرجعها وحاجاتها. وليس من قبيل المصادفة أن يكون الورق أول الخطيئة وأقصد بذلك ورق الكتابة، والورق أول النجاح وأقصد بذلك ورق النقود، الورق الأول، يخرج من قلبك ويتألب عليك، والورق الثاني ينحاز إليك من خارجك ويلتصق بك ويداريك.
*فَكف عن الورق الأول، وتقرب من الورق الثاني حتى ينتبه إليك طريقك وتستقيم رؤياك وتصل إلى بيتك دون أن تضل الطريق.
*بعد أن تراجع الصوت. انحاز (المؤلفُ) إلى الجدار بعد أن كاد اللهاث أن يودي به وصاح من قعر وحدته وبرده صوتاً أفزع أوراق النقود المجاورة لكفه العصية عليه، وقال:
-أرجوك يا أبي اتركني لما نذرت لـه نفسي..
ثم أخرج كفه العاتية من جيبه فتهدلت لبرهة إلى جواره وتلفتت إلى الطريق وعندما أنست في العابرين انصرافاً وتجاهلاً، تركت صاحبها وهربت عنه إلى جهة الرواية والناقد البعيد.
*كان الصديق الناقد قرب الطاولة، وكانت الرواية أمام عقله وعينيه، وكان الدخان إلى جواره. ثم تقلبت الصفحات وعلى طرف الطاولة كانت اليد التي هربت عن صاحبها المؤلف تصغي لتقلبات الناقد وتتلوى مثل شيء يتعرض للعقوبة.
عندما لامست كف الناقد الصفحة الأخيرة طفرت من فهمه ابتسامة مائلة، ثم نهض إلى علبة الدخان الثانية وبدأ يستلهم منها التريث والعزاء. ثم بدأ يلهث بالكلام:
-مثلما تتشكل جماعة للطباعة والتنضيد، يجب أن تتشكل جماعة أخرى للإطاحة والتمزيق.
لو أنه يخرج الأب من الرواية ويرسله إلى الدروب التي لا تعيد أحداً، لكان أجدى للنص وللمريدين، ثم بدأت كفه تختلج إلى جواره وتتلفت عنه.
أيام كثيرة صرفتها الأصابع في عدّ الأوراق، لذلك تصبح القراءة قصاصاً عن شيء تهاونّا فيه. عندما قرعت الزوجة الباب منذرة ببدء النوم، التفت إليها المؤلف وصاح:
-ليس بالورق وحده يحيا الإنسان (ثم أخرج النقود من جيبه وبعثرها في الجهات).. منذ الغد حاولي نيابة عني استلام المصروف.
والتفت إلى كفه فأحسها قد فهمت قصده، لذلك ألقى أمامها كومة من الأوراق الفارغة والأقلام، فعاودتها الطلاقة والنبض. وأحست بالألفة والملكوت.
*في اليوم التالي اجتمع الصديقان على طاولة في المقهى، واستلقت بينهما الرواية والأكف.
وبعد صمت قال الصديق: لقد قرأت الرواية.. وأجد أن الكتابة مثل الأب.. ويجب احترامها.. وبعد صمت.
حمل المؤلف الرواية ومزقها.. ووضع القطع الممزقة على الطاولة. ثم انتبها معاً إلى صوت غريب. كأنما كان الأب الذي في الرواية يتعرض للتعذيب.




 
رد: قصة لحظة البرق كاملة تأليف محمد أبو معتوق

شيء يشبه الضباب

*عندما فقد الرجل القدرة على تحريك يديه، أحس بضرورة أن يحرك لسانه.. وانتبه. كان الكلام يخرج منه ويخرج عليه، متقاطعاً وغريباً ويفتقر للعلاقات. وأصبحت اللغة شيئاً ليناً يشبه الضباب، وانفلتت المفردات من عقالها، وأصبحت كيانات مضادة لا سياق لها ولا إلفة، وبدأ يشعر بالتضاد، فعندما يقول أحدهم: بأنه قد جاء يحس الرجل بأنه مضى، وعندما يصعد أحدهم إلى منصب أو مكان عال.. يشعر الرجل وكأن هاوية تتشكل في الجوار. لذلك يركض لاهثاً حتى يمنع العالم من السقوط.
وعندما يصل إلى بقعة نائية، يلتفت إلى ظله ليعاتبه، وعندما لا يلمح ظلاً، يمعن في التلفُّت حتى يرتبك الناس العابرون في الجوار.
*في إحدى المرات التقى الرجل صديقه، وهمس لـه بأشياء تخص محنته ورؤياه.
*فتأمله الصديق وقال: أنت بصراحة فقدت الروابط والعلاقات واضطربت لديك الحركات والدلالات. ثم انصرف الصديق لضرب الأمثلة ليؤكد وجهة نظره، فقال:
-أنت تقول في معرض كلامك، بأنك عبرتَ المنديل.. وحملت الشارع وطويته ووضعته في جيبك، ثم تقول في مكان آخر.. بأنك تصفحت السرير، وتمددت على الكتاب، أنت بكل صراحة فقدت العلاقة بين الدال والمدلول، وليس من المستبعد أن تفقد أصدقاءك وزوجتك وأطفالك، واحترام السيد المدير. ولن تجد مكاناً يؤويك، سوى المقهى والمكتبة العمومية والرصيف.
عندما سمع الرجل الذي أضاع الدلالات.. كلام صديقه ذهب إلى القلعة ليحتمي بها مما يصيبه من شتات.. وعندما وصلها.. دار حولها مثنى وثلاث ورباع، وحين أحس بالإعياء وقف ورفع كفيه إلى السماوات حتى يستلهم التعاضد والعزاء.. وظل في حالة رفع وابتهال حتى مال عنه هيكله وكاد أن يسقط في خندق القلعة المجاور، وهكذا وجد الرجل الفرصة ملائمة ليتأمل خندق القلعة ويحار فيه.
-ما دامت القلعة على هذا القدر من الهيبة والجلال. فلماذا لا يفكر المهندسون ودعاة العمران.. ببناء خندق القلعة في الأعلى، وبناء قاعة العرش في الأسفل قرب الطحالب والبوابات. لقد أصبح كل شيء متاحاً وصار بوسع المضخات أن توصل الماء إلى الغيوم.
*وقد أعجبت الفكرة الرجل.. فذهب إلى صديقه ليسأله ويستفتيه. فأجابه الصديق بثقة وتأنيب:
-بعد أن تداخلت في رؤياك الأبعاد صرت تخلط ببراعة بين الأسفل والأعلى، والماضي والحاضر، وتحاول عن طريق مضخات الماء أن ترأب الصدع، وترفع الخندق وتهوي بقاعة العرش ومعنى السلطة والاستقرار.. وأنا أخاف أن يقع عليك السور..
*بعد صمت.. مطَّ الرجل رأسه إلى جهة صديقه وسأله:
-هل ماتت أمك أيضاً؟
*فاستغرب الصديق السؤال، ونظر إلى الرجل وقال:
-وهل يغير موت الأم من دلالة الأشياء. ثم التفت عن الرجل ومضى إلى زوال.
*وهكذا ظل الرجل واقفاً إلى جوار الخندق في موضع لا يبارحه، ثابت الكتلة والنظرات.
*وعندما انتهكته الرطوبة وقطرات المطر. تأمل العابرين وقال:
-كانت أمي تشبه نوعاً لا أفهمه من النساء، لذلك وطنت نفسي على فهم زوجتي.
وقبل أن يقع من الإعياء.. ردد ثلاثاً.. الزوجة شيء لا بد منه.. فانتبه إليه المارة وحملوه إلى بيته، وعندما فتحت الزوجة الباب نظرت إلى زوجها وصاحت:
-تغيب ثلاثة أيام فقط.. هل تظنني أمك حتى أحتمل هذا النوع من الغياب.
*وكان مع الزوجة بعض الحق، فلقد طلبت من زوجها أن يغيب عن ناظريها أسبوعاً لتتمكن من نسيان صفاته وملامحه وما أنفقه معها من أيام.
وقد شعر الزوج بتسرعه وخروجه على الاتفاق فنظر إلى زوجته وقال:
-لم يعد أحد يحتملني حتى قدماي.. وأنا لم أكن أعتقد أن الأمهات بعد الموت يقصرن في الاهتمام بالأبناء. إنني من جهتي لم أفكر بالعودة، ولكن الراكضين والذاهلين والمشاة تجاهلوا المدة المحددة، وأحضروني إليك بعد ثلاثة أيام وقد حاول أحد الرجال الذين ساهموا في حمل الرجل، التدخل وشرح الأسباب. فازدادت الزوجة غضباً.. ثم دخلت إلى المطبخ وأحضرت لزوجها بعض الطعام ليتمكن من الإصغاء إليها والتعرف إلى الذنب العظيم الذي ارتكبه بحقها.
*بعد أن تناول الرجل الطعام، أصبح طويلاً وشفيفاً، وصار بمقدوره الخروج والاحتمال.
*في أيام المراهقة، تعرف الرجل على الفتاة التي أصبحت فيما بعد زوجته.. ولم تكن وسيمة، غير أنها كانت الفتاة الوحيدة التي ابتسمت لـه، لذلك وقع في حبها، وعندما يقع الرجل في الحب.. لا ينتبه لما أصابه من غبار وتراب. ويمضي إلى الهدف الكبير دون شفقة وتمهل.
وكان الفتى العاشق يمتلك صوتاً لا يبارى لذلك كان أصدقاؤه يحملونه أيام الثورات والأحلاف والمؤامرات ويضعونه على أكتافهم ليملأ الهواء بالغضب والهتاف.
*وكان يشترط على المشاركين في التظاهرة، المرور من أمام شرفة حبيبته وعندما يصل إلى الشرفة ينسى الغضب والشعارات، ويبدأ بإنشاد قصائد الغزل الملموءة باللوعة فيردد الحشد النداء، وكانت الفتاة على الشرفة تفهم القصد والغاية من الهتاف. فتلّوح بيدها وتبتسم، ويغمرها شعور عميق بأنها جميلة وغالية. وأن الحشود تتحشد والصرخات تتعالى من أجل عينيها وشرفتها. وكان عدد كبير من المشاركين في التظاهرة، ينتبهون إلى الشرفة والفتاة ويمعنون في الصراخ والصفير والهياج بصورة تهدد العاشق المقدام بالسقوط.
*لذلك تحس زوجتي بأنها جميلة وقوية رغم بلوغها الخمسين. وأحس بنفسي طويلاً ونحيلاً مثل المداخن التي تحتمي بها العصافير.
*بعد الزواج بمدة قصيرة تمكنت الزوجة من أن تفقد أنوثتها ودلالتها، فاضطر الرجل للتقرب من أمه، ليحتمل ويعيش. أما وقد ماتت فلم يعد من ملاذ آمن سوى الرصيف، لذلك وقع عليه وهو يرتعش فانتبهت إليه السيارات وحملته، وعندما ثاب إلى رشده وجد نفسه ممدداً على سرير في المشفى الحكومي، ثم اقتربت إلى جهته ممرضة شابة، ومعها طبق ساخن من الحساء. حين ارتطمت الملعقة بأرض الصحن شعر الرجل بالحياة والامتلاء، وبدأت اللغة العاقلة تراوده وتثوب إليه وصار الدالُّ والمدلول يتجاوران إلى بعضهما ليشكلا طبقاً آخر من الحساء.
*بعد عدد من الأيام والصحون، طلب الرجل من الممرضة أن تترفق وتحضر لـه ورقة وقلماً ليكتب عليها بيانه الختامي، حيث سيعلن للناس وصاياه وبقايا ما يشتعل في ذاكرته ورؤياه، وحين حضرت الأوراق والأقلام، قال: بعد صحن ساخن من الحساء، وممرضة شابة متعاونة، يحس الرجل بنفسه مكتملاً رغم اللهاث، ويشعر بالسلالات تركض إليه، وبالملوك وهم يختبئون في دمه.
ويستطيع بصحنين إضافيين من الحساء، أن يؤلف شعباً وطريقاً واسعاً يتراكض فيه الناس. طريقاً لا يمكن لأحد أن يطويه ويضعه في جيبه كمنديل.
ثم شعر الرجل كأن تفاحة في يده، فركض إليها، وقضم، فامتلأ لسانه بالأخطاء.
*وعندما هوى إلى الأرض.. تراكضت إليه الحوريات، وتساقطت حوله الأوراق والبيانات.
وتراكض الدّال والمدلول في الدروب والشرايين، باحثين عن هواء.






أحواض

(أ)
لا بد من المقارنات... لتقع الأشياء في المصيدة.
*في مرحلة الشباب كنت مولعاً بالسباحة. وكان المسبح الذي أتردد عليه يلتزم بقواعد الطهارة والتعقيم رغم أنه مسبح مختلط للجنسين.
وكنا بعد أن نتحلل من ثيابنا ونظراتنا الخجولة، نعبر حوض الطهارة المملوء بماء غائم فيه قدر كبير من مادة الكلور لتعقيم الأقدام وتطهيرها... وعندما نخرج من الحوض، نشعر بالخفة والتطاير... كأنما أفلح الحوض ومادة الكلور بتخليصنا من قدر كبير من آثامنا.. وما أن نخرج من الحوض الصغير حتى نتجه إلى حوض أعمق ماءً وأكثر زبداً وهياجاً. لنلقي بعطشنا وجوعنا فيه حتى لا يكتشف أحد أعداد أجساد النساء التي تتماوج في نظراتنا.
فعندما يكون الرجل والمرأة في حوض واحد، لا أحد يقدر على فضِّ الأسرار ولا معرفة أسباب بهجة الماء وتصاعد الفقاعات.
وهكذا يصبح الحوض الصغير المملوء بالكلور.. حداً فاصلاً بين عالمين. عالم الثياب الكتيمة وعالم الأخيلة والتباريح..
(ب)
بعد زمان عميق.. اتجهت في رحلة جماعية لزيارة بلغاريا.. عبرنا الحدود السورية ودخلنا تركيا.
*عبرنا طرقات طويلة واستوقفتنا محطات ومدائن كثيرة ورغم اختلاف اللغة، لم نشعر بالفوارق الكبيرة.
*عندما اجتزنا القسم الأوروبي لتركيا ووصلنا إلى حدود بلغاريا... استوقفنا الحوض مرة ثانية، على الحدود أقام البلغار حوضاً من الماء والكلور المكثف ولكن ليس لتطهير أقدام المسافرين، وإنما لتطهير دواليب السيارات القادمة من تركيا.
دون أن تكون قرب أحواض الكلور، أحواض كبيرة للماء النقي، لإطلاق الزبد.. والنظرات الهائلة.. وتابعت الحافلة الطريق بحذر كأنما شعرت بأن حوض الطهارة والتعقيم لم يفلح في تخليصها من آثامها وحمولتها المضنية، وأن أمامها وهاداً ومرتفعات عالية ومنحدرات توهن الحديد.
*عندما شاهدت الحوض، وانتبهت إلى الدواليب وهي تغوص فيه دون أن تطلق رعشاتها وشهقاتها، شعرت بالألفة والراحة، وبأننا أصبحنا أكثر من أي وقت مضى، مؤهلين للوصول إلى صوفيا دون أن تنفجر من التلوث الدواليب.
*غير أنني أحسست وبعد اجتيازنا لمسافة من الطريق الموصل إلى صوفيا.. أن النسبة العالية للمادة المطهرة.. التي غمرت دواليب السيارة، غير قادرة على أن تحول بين نظراتي وصدر الثوب المفتوح للمرأة النائمة في الطرف المجاور.
*حين عبرت الدواليب حوض الكلور.. شعرت بالعمق والنشوة. وبأن الحضارة تبدأ برموز صغيرة، يمكن اختزالها في حوض مؤسس على اتحاد عميق بين الماء والكلور ورجال الجمارك واللغة المستعصية.
*خلال الرحلة الممتعة، فكرت في طريقة للتخلص من شكوك زوجتي ونظراتها الجائرة لكنني فشلت.. وبدأ يضغط عليَّ.. صدر المرأة النائمة الأخرى.
*حين أنهينا رحلتنا السياحية وصلنا في طريق العودة إلى الحدود البلغارية، وانتبهت لم يكن عند بوابة المغادرة حوض من الكلور في انتظارنا ليقوم بتخليصنا من شرورنا وأدراننا فاختلط الأمر علي، ودارت بي الأرض والدواليب. وتفككت في رؤياتي الأزرار والدلالات. وتفاقم الزبد والماء. وأصبحت أحواض الكلور فاصلاً عميقاً من الغربة بين الأرض والناس والصفات والحضارات.
وبدأت أصرخ رغماً عني في (البولمان) الحوض قطيعة. الحوض موت.. وبالغت في الصراخ.. حتى استيقظت المرأة النائمة في الجوار.. وهرعت إلى صدرها وأزرارها فأغلقتهم عن بكرة بريقهم.. لتعيدني ثانية إلى الحصار.
*خلال زيارتنا للمدينة الساحلية (فارنا) تعرفت إلى شاب عربي يتابع دراسته في بلغاريا.. وقد منحنا من وقته الكثير بعد أن انتبه إلى ضلالنا وتخبطنا.. وفي طريق العودة إلى صوفيا.. دعانا إلى بيته لتكون بيننا مودة ورحمة، وأخبرنا أن زوجته البلغارية بالانتظار وهي ترغب أن تتعرف علينا.
وبعد مشاورات وافقت زوجتي التي أعجبتها فكرة الأحواض وفلسفتها فقررت أن تحيطني بحوض من الريبة والترصد لتحول بيني وبين الهواء.
*عندما وصلنا إلى بيت الصديق.. داهمنا نباح عميق.. فالتفت الشاب المضيف إلينا وقال: لا تخافا.. هذا كلبنا ثم أدار المفتاح وفتح الباب وكانت الزوجة تغلق الفتحة بجسدها. وكان الكلب يبذل جهوداً ليتسرب من الفتحات بين ساقيها كأنما لينقض علينا.
كان وجه الزوجة مرتبكاً، وهي تردد كلمات الترحيب بلغة مضطربة.. ثم انحنت إلى الكلب وأمسكته من عنقه ودفعته إلى الخلف.. في تلك اللحظة خيل إلي أن حوضاً من الكلور يتمدد على فتحة الباب بانتظارنا ليمنحنا الإذن بالعبور.
*في غرفة الجلوس كان الكلب في حالة هياج وكانت الزوجة تبذل جهداً مضاعفاً لتحول بينه وبيننا وهي تصرخ فيه راجية ومؤنبة ليتوقف عن النباح ويهدأ..
*بعد زمن وجهد هدأ الكلب وصمت، وبدأ ينظر إلينا نظرات مملوءة باللهاث والارتياب..
كأنما كانت الزوجة تحاول أن تفهم الكلب.. بأننا ننحدر من ثقافات وأحواض مغايرة.. وليس من صالحه أن يرحب بنا ويرتمي في أحضاننا خوفاً عليه من التلوث.
وبسبب ذلك تملكتني ردة فعل مفاجئة.. فمددت يدي للكلب مرحباً به فاقترب مني وبدأ يتمسح بي، ولساني يقول. (في كل ذي كبد رطبة أجر) كأنما فهم الكلب قصدي فجلس إلى جواري وأخذ يحرك أذنيه وذيله حركات حنونة متضامنة.
وعندما رجعت الزوجة ومعها بعض الضيافة.. صاحت في الكلب ليبتعد.. فنهض وابتعد قليلاً وعاد.. إلى جواري وكأن لسان حاله يقول.. أنا أعرف منك بالناس ومعادنهم.
بعد الانتهاء من الزيارة، ونحن في طريق العودة إلى الفندق ومعنا مضيفنا.. قال لي معتذراً عن تصرف زوجته مع الكلب، وبأنه السبب. فقد بالغ معها في تصوير مفهومنا للطهارة وطبيعة علاقتنا الحذرة مع الكلاب.. وهي عندما فعلت ذلك كانت تفعل ذلك لصالحنا.. ولتحول بين الكلب وبين أن يحتك بنا فيزعجنا.
*بعد مدة، وأنا أستعيد تفاصيل الحادث والطريقة الحارة التي ودَّعنا بها الكلب وكأنه يطالبنا بالعودة مرة ثانية، شعرت بالحيف الذي أوقعت به زوجة صديقنا البلغارية، عندما فسرت موقفها بأنه محاولة للنيل منا، وعرفت بأنني أنا من يقوم هذه المرة.. بحفر حوض من الشك والمياه الغامضة. لأمنع الأرواح والحضارات من عبور الطريق.





حُلم طوله سنتمتر واحد

كانت الفتاة ذات طول محير وسمرة لامعة، لذلك وقعت في الحيرة والاضطراب.
ولأنها تعتقد بأن كتابة الشعر تجعلها أكثر طولاً، لذلك كانت تركض إلى غرفتها، لتقيس نفسها بعد كل قصيدة. وبسبب من المعاني الفاضحة التي تتضمنها قصائدها. فقد حمل عليها الأدباء الشباب، والنقاد المسنون، معتبرين أن اللغة الفاضحة شيء يخصهم ولا يخص الفتيات الجميلات اللواتي يمتلكن طولاً محيراً ونهوداً تدعو للاضطراب.
يجب على الفتيات أن يتفرغن للمطابخ والرجال المسنين وليس لكتابة الشعر الفاضح، هكذا أوضح أحد النقاد بعد أن تصفّح باستعلاء الديوان الأول للشاعرة ثم ألقى به على الطرف القصي من الطاولة.
لذلك أصيبت الشاعرة بالحزن وبدأت تفقد بعضاً من طولها وبلاغة نهديها. وصارت تنظر إلى جسدها بخوف وارتياب.
وبعد أن خرجت من حزنها وغيبوبتها، بدأت تحلم بالطيران، وتتحرك حركات رشيقة وهي تقول:
-إنني أحس بأن الطيور جميعاً. كائنات تستطيع أن تفلت من ملاحظات النقاد.
وقد حاولت أن تطير عدة مرات، ولولا تدخل الأم والأب لمنعها من القفز من شرفة منزلهم العالية، لكانت استطاعت أن تحقق أهدافها وتطير. قالت لها صديقتها بعد أن قرأت لها آخر قصائدها:
-ما دمت تحبين الطيران، فحاولي أن تقدمي طلباً للعمل لدى شركات الطيران.
عند ذلك مزقت القصيدة.. وذهبت إلى مكاتب الطيران للبحث عن وظيفة شاغرة.. معتقدة بأن الاتصال بالمطارات والطائرات، من شأنه أن يخفف من حدة اندفاعها لإفريز الشرفة في منزلها.
وهكذا عملت في أحد مكاتب الطيران، ظناً منها أنها تستطيع أن تذهب للمطار وتركب الطائرة مرة في الشهر.. أو في العمر.
غير أن المسؤول في المكتب منعها من الاسترسال، وأوضح لها بأن عملها في المكتب لا يتيح لها الطيران، ولا الذهاب للمطار لمشاهدة حركة الهبوط والإقلاع.
لذلك دخلت الفتاة في الاضطراب وبدأت تكتب شعراً عنيفاً، يكتظ بالحوادث والطائرات. وبدأت تنظر إلى والديها بوصفهما القوة الوحيدة الغامضة التي تمنعها من الاقتراب من سياج الشرفة، وقد استمرت الأمور على هذه الحالة، حتى قرأت على واجهة إحدى شركات الطيران إعلاناً عن إجراء مسابقة لقبول مضيفات جويات برواتب مغرية، وفي الإعلان، حديث عن المقاييس تتعلق بالوزن والشكل والطول، وكان الطول المطلوب، (165) سم..
عندما قرأت الفتاة الشاعرة الإعلان، صاحت يا الله، واغرورقت عيناها بالأجنحة والطائرات. ثم ركضت إلى غرفتها وبدأت بقياس طولها. فلقد كانت تعرف أن طولها المحير ربما يخرج على إرادتها ويخذلها..
-الطول المطلوب (165) سم.
-وطولها الحاضر (164) سم.
وقد قامت بقياس طولها عدة مرات، والنقطة المثبتة على الجدار تشهد، وشريط القياس المرتعش بكفها يؤكد. يا للأسى، لو أنها كتبت عدة قصائد، فيها لهاث وأطراف متطاولة إلى الذروة والانعتاق لساهم ذلك في إيصال طولها إلى الطول المنشود.
غير أنها تخاف أن يخذلها طولها وينحسر أمام اللجنة الفاحصة فتفقد عدة سنتمترات هي في أمس الحاجة إليها، مما يحول بينها وبين الطيران. ألم يكن طولها طوال أيامها محيراً، ويتبدى لها كل يوم في صورة وهيئة مغايرة، كأنما هو طول لا يخصها ولا ينصاع لمشيئتها.
فهل تتابع اللجوء للشعر، أم تلجأ للتعاويذ، أم تمتد بعنقها إلى السماء لتبدو أطول من طاقتها.؟
في اليوم المنشود، يوم الوقوف أمام اللجنة، قام المسؤول بقياس طولها بحذر شديد.. ثم هز رأسه هزات مشؤومة أسهمت بتذكيرها بالنقاد المسنين.
قبل أن تنتظر صدور النتائج.. ذهبت إلى المدير المسؤول عن المسابقة وأوضحت بانفعال: بأن طولها يتضاءل أمام اللجان الفاحصة، وأنها أطول مما يعتقد. وإنها وبعد أن يتم قبولها في الوظيفة ستصاب بفرح شديد من شأنه أن يزيد في طولها بصورة تضطر معها لأن تحني رأسها في ممر الطائرة، لم يكن رئيس اللجنة مؤهلاً لفهم مثل هذه الحالة. غير أنه شعر بالتعاطف بسبب صغر حجم نهديها واضطرابهما، واختلافهما عن نهدي زوجته الفادحين.
وبعد تأمل أكد للفتاة، أنه سيقوم باللازم، وسيغتفر لها إضافة (سنتمتر واحد.. وربما اثنين) من طولها ليؤكد لها تضامنه مع حالتها، غير أنني أخاف من شيء آخر.
-وهل يخاف رؤساء اللجان أيضاً، تساءلت الفتاة بفزع.
-طبعاً يخافون.. فالشروط التي نلتزم بها صارمة ولا تعين الناس على التضامن والفهم.
-وما هي أسباب الخوف؟
-شركة الطيران التي نعمل فيها يا آنسة، تحاول أن تقلص من عدد المضيفات الفلبينيات بسبب طولهن، وأنت كما يبدو لي تشبهين فتاة فلبينية.
-أنا أشبههن؟ لا يمكن.. لا أعتقد، فأنا تنتابني رغبة جارفة في الطيران تدفعني لأن ألقي بنفسي من النافذة. ولا أعتقد بأن الفتيات الفلبينيات تنتابهن مثل هذه الرغبة.
فكر الرجل بانبهار في كلام الفتاة وطلاقة نهديها.. وقال:
-ولكنهم، ولكنني، ثم إن القانون في بلدنا لا يحمي الفلبينيات.
-ما دام الأمر على هذه الصورة، هل تضمن لي أن أطير لمرة واحدة، فربما تمكنت من تجاوز الحالة.
-مرة واحدة يمكن، لكن أكثر من ذلك لا أضمن، ثم أخذها إلى غرفته الجانبية.. ليعينها على الفهم والاحتمال.
في الطائرة.. كانت تتحرك بحذر شديد.. وهي تتأمل الركاب والكراسي وتقوم بتقديم الطلبات. ولم يكن مكانها في المطبخ والممرات يتيح لها مشاهدة بحر الغيوم الذي يمتد طويلاً في السماء تحت الطائرة لذلك امتدت برأسها وجسدها الصغير وعبرت أكتاف وأعناق الركاب، لتصل إلى النافذة الصغيرة للطائرة، وحين شاهدت بحر الغيوم، ولامست بعينيها البياض الباهر، لم تجد بحوزتها دهشة كافية لتطلق فرحتها.. ثم وبصورة مفاجئة اضطرت للارتداد بقسوة إلى الممر بعد أن وخزتها أكف ونظرات الركاب المتضررين. وتذكرت، كانت نظرات الركاب إلى دهشتها، تشبه نظرات نقاد الشعر المسنين.
.. لذلك غمرها حزن عميم وبدأت تتساءل كيف لواحدة مثلها أن تعيش بعيداً عن هذا البياض؟ وعوضاً عن أن تزداد طولاً داخل الطائرة كما وعدت رئيس اللجنة، فقد بدأت بالتلاشي والانحسار بسرعة غريبة، ثم وبلمحة واحدة، تمكنت من التسرب من ثقب صغير مجاور للباب. وهكذا أصبحت خارج الطائرة وأصبح بحر الغيوم المشتعلة بالبياض في متناول عينيها، لذلك وقبل أن تترك الطائرة التي كانت تطير إلى جوارها، حاولت أن تضرب النوافذ الصغيرة كلها.. لتلفت انتباه الركاب إلى حضورها.. لتلوح لهم بكفيها مودعة.. غير أن أحداً من الركاب لم ينتبه إلى بياضها وجسدها الطويل..
 
رد: قصة لحظة البرق كاملة تأليف محمد أبو معتوق

فنجان معتم من القهوة

الكهرباء ترهقه، لذلك يركض إلى العتمة ليتوارى فيها. وفي النهار المضيء، يتأمل الجدران.. عسى أن يرى زراً هائلاً ليمتد بيده إلى النهار ويطفئه.
حتى بناته الثلاث، الصغيرات التزمن بمشيئته وبدأن يشعرن بالكراهية نحو الكهرباء، رغم أنهن وفي قرارة أنفسهن كن يكرهن العتمة أيضاً ويتمنين أن لا يكون في الحياة ليل وغيلان وجنيات.
*ابنته الصغرى وحدها لم تكن تفهم، وكانت تطالب بالضوء، والضوء ضروري للفتيات الصغيرات مثل ضرورة الأمهات والآباء، فهو يعينهن على مواجهة الغيلان والأشباح المرعبة في الليل الذي لا يرفق بالطفولة ولا بالأسئلة الغضة والأجساد البريئة اللامعة.
*قال الرجل مخاطباً القمر: سأمنحك فرصة صغيرة، اذهب إلى ابنتي الصغيرة ولوِّن لها أحلامها بالضوء لتراها، وامسح عن روحها المخاوف واليتم المرير، وبعد ذلك عد إلى مكانك لأطفئك.
غير أن القمر لم يكن يستجيب، ولم يكن يبارح موضعه عملاً بنصيحة الرجل أو خوفاً من تهديده، لذلك وضع الرجل القمر في خانة الأعداء وبدأ يشعر نحوه بالضغينة، وقد صعد إلى سطح المنزل عدة مرات وبدأ يقصف القمر بالحجارة ليصيبه بعطب دائم لا يقدر بعده على الشماتة واللمعان.. وحين فشل، فكر أن يستعير مسدساً من أحد أصحابه ليطلق على القمر النار، وعندما سيمتلئ وجه القمر بالثقوب، أين ستسقط الفضة السائلة التي ستتسرب منه، ربما انهمرت الفضة على المدينة وأضاءت ليلها الطويل بعد ذلك كيف سيقدر على اقتلاع الفضة ورميها في الهاوية المعتمة البعيدة، قد تفرح ابنته إذا غمرت الفضة المضيئة عمرها وأحلامها ولياليها، لكن هل تقدر الفضة على إعادة زوجته إلى أمومتها ونبضها لتضيئَ البيت والأيام بحركتها ولفتاتها، وتملأ الفراش والأيام بحنانها.
*كان يعمل في السراي الحكومي مستخدَماً، يقدم القهوة والشاي للموظفين والرؤساء والرجال المتنفذين ولم يكن يشعر نحوهم بالضغينة، غير أنه وبعد أن عرف أن مديرية الكهرباء تأخذ الأوامر برفع التوتر وخفضه بإشاعة الضوء والعتمة بين الناس بقرار من المسؤولين الذين يعمل بين ظهرانيهم ويدخل كل يوم إلى مكاتبهم لتأمين الطلبات، عندما عرف ذلك، أحس بالرعدة والمزاورة وبدأت اللفتات المريبة تحرك رأسه ودمه إلى الجهات. وبعد بحث عرف موطن العداوة في المبنى. في آخر الممر الأرضي المعتم توجد غرفة الكهرباء، حيث يمكن التحكم بمصير المبنى وعلامات الضوء والعتمة فيه، لذلك قرر أن يتسلل كل يوم دون أن تلمحه الأبصار إلى غرفة الكهرباء، ويقوم بعدها بإنزال القاطع الكبير، حيث يغرق المبنى بالعتمة وتغرق الأجهزة الكهربائية التابعة في العطالة والعماء. ليعيش بعدها المبنى الحكومي في عزلة جارحة وكأنه بناء مشيد في البرية بعيداً عن الحضارة والعمران، حين تكرر انطفاء الكهرباء في مبنى السراي الحكومي.. غضب المسؤولون الكبار والتابعون، وحصل الاستنفار وأبلغت شركة الكهرباء، ووضع المبنى تحت الرقابة الصارمة للكشف عن الأسباب التي بدت للجميع وكأنها من فعل الأرواح، لذلك أحس الرجل بالحرج والخطورة، وبدأ يخفف من برنامج القطع الذي تصدى لتنفيذه حتى يبعد عن ذاته الشبهات.
*في نهاية الدوام.. يترك عمله كنادل في السراي الحكومي، ويذهب إلى المقهى المجاور للقلعة، وقد استولت عليه رغبة ملحة وهي أن تكون لـه طاولة وكرسي وفنجان قهوة يأتيه من نادل آخر، لذلك كان مواظباً على التدخين وشرب القهوة في المقهى المجاور للقلعة، وكان يقدم للنادل إكرامية مجزية حتى يعامله كما يعامل النادل الذوات والوجهاء من الناس، وكان يشعر بلذة غامرة عندما يأتيه الفنجان واللهب المقدس يتصاعد منه، والنادل الشبيه ينحني لـه بتقدير زائد. وكان هذا الفعل يعيده إلى التوازن والحب والمروءة فيرجع إلى بيته وزوجته بروح طيبة وكلام لطيف، لكن بعد أن حصل الزلزال، ما عاد يستقر به الحال على كرسي أو طاولة، واضطربت عيناه وتعلقتا بلوحة الكهرباء عند المغاسل، بعد أن كانتا معلقتين بقلعة حلب المواجهة للمقهى.. لذلك يقعد متربصاً، وعندما يحس بفراغ المغاسل يتسلل إلى اللوحة في الليل ويقوم بقطع الكهرباء لتغمر العتمة المقهى والناس ثم يتسلل عائداً إلى طاولته وفنجانه والعتمة التي تريحه وتجاوره، وبعد انتظار يغادر المقهى لاهثاً وكأنما قام بعمل مجيد.
*بعد مغادرته للمقهى يتجه إلى المطعم الكائن في مركز انطلاق الباصات، وحين يقعد في الركن المعتم يطلب الطعام والشراب ويبدأ بالشرب حتى تبدأ الأشجار المجاورة لـه بالحركة والترنح والزوغان بعد ذلك ينهض متسللاً إلى مصابيح الكهرباء في المغاسل فينتزعها وينسل خارجاً من الباب المجاور.
فعل ذلك عدة مرات حتى أُلقي عليه القبض متلبساً، ولم تُفده الأعذار والمبررات ولا الترنح الشديد واللغة الممطوطة، وتم الاتصال بالمخفر المجاور بعد أن ملأ ندلاء المطعم وجهه بالزرقة والكدمات، وظل في غرفة الإدارة محتجزاً حتى حضرت سيارة الشرطة واقتيد إلى المخفر وإلى حضرة الضابط المناوب.
قال الضابط المناوب بغضب: الكهرباء حضارة، والكهرباء روح، كيف تجرأت ولماذا فعلتَ.. ما فعلتْ.
*عندما سمع الرجل المملوء بالزرقة والكدمات حديث الضابط عن الكهرباء والروح، رفت إلى وجهه روح زوجته واستغاثاتها وزرقتها، وغيابها المرير، فدمعت عينه المتورمة، ولحقتها العين الأخرى، وظل الرجل معتماً وصامتاً مثل بيت مهجور فيه ثلاث بنات صغيرات.
-أخبرني عن السبب (زأر الضابط المناوب وهو يضرب قبضته على الطاولة).
ثم أحسَّ الضابط المناوب بمحنة الرجل وضياع أمره، وشعر بوجود مشكلة.. وسوء فهم، فطلب منه الجلوس.
-احكِ لي قصتك.
-لا أستطيع.
-ولماذا؟
-أطفئ النور حتى أحكي لك.
ثم عمت الظلمة المكان.
*كان في البيت زوجة وثلاث بنات.. وكانت الحياة مضيئة ومملوءة بالكهرباء وكانت الأم تتحرك بنشاط قرب الغسالة الكهربائية وفجأة أمسكت الكهرباء الأم وأوقعتها على الأرض المبللة بالماء، فانتفض جسدها طويلاً وعميقاً حتى غادر الحياة. حين دخلت المنزل رأيت جسدها المستلقي وفزع البنات الصغيرات حولها فزاغ بصري وصارت العناكب والغيلان وأضواء يوم القيامة تتراقص في عيني.
كأنَّ برقاً من الكهرباء اشتعل في رأسي وأصاب دمي بالزرقة والزوغان. بعد ذلك التفتُ إلى البنات الصغيرات وعجزت أن أكون أماً لهن، وضوءاً يعينهن، لذلك لذت بالعتمة وتواريت، هل تقدر أن تدلني على مكان معتم لا ضوء فيه ولا بنات صغيرات، ولا زوجة أكلتها الكهرباء.
*ليتكم تلقون بي في الجب، مع طاولة وكرسي وفنجان قهوة ونادل مستعد لتقديم الطلبات.
*إن ضوء الشمعة يفقدني زماني.. ليت الكهرباء من أول الخلق لم تكن موجودة. ليتها ظلت ضائعة في السماوات، حتى تظل عيون الأرض متجهة إليها لنحس بفتنة النجوم والمجرات. إنني أخاف على الناس أن تمسكهم الكهرباء وتفقدهم أيامهم وتقتلعهم من الحياة اقتلاعاً بضربة واحدة، بعدها من سيتفرغ للفتيات الصغيرات ليعينهن على النهوض ومواجهة العتمة بثبات.
لذلك أفعل بالكهرباء ما أفعل حتى لا أقع أمام نظرات بناتي الصغيرات. يا سيدي يا سيدي. هل تريد أن أصنع من أجلك فنجاناً معتماً من القهوة.






رجل الحبر الأسود
(إلى عبد القادر عنداني..
الروح الغائبة)

*يا أبانا الذي في الجريدة. أنت تكتب كلاماً في أوراقك الخاصة في البيت، ثم تكتب كلاماً مغايراً في زاويتك اليومية في الصحيفة.. فكيف تستطيع صعود الدرج.. وكيف تستطيع مواجهة رئيس التحرير. يا أبانا الذي في الجريدة.
*في البيت.. عندما ينظر الأولاد إلى وجهي بعد أن يقرؤوا الكلام الذي أكتبه في الجريدة والكلام الذي أكتبه على أوراقي الخاصة. يشعرون بالغضب والغرابة.. فالتفت إليهم لأقرأ أفكارهم كما أفعل مع جريدة نبيلة مفتوحة.. ثم أبتسم، وأخرج السيجارة المحلية فتتلامع مقدمتها بالنار.. وأسحب نفساً وأخرج دخاناً عالياً لأحتمي به من بريق عيون الأولاد وغرابة أسئلتهم، ثم أذهب إلى الغرفة وأبدأ الكتابة.
*يا الله، لقد أنفقت أنهاراً من الحبر الأسود، حتى جفَّ مداد روحي.. ووصل رصاص القلم إلى نُقى عظامي وما انتهت كلماتي. وها هي الزاوية اليومية في الصحيفة ترمقني، فأفتح صدري للهواء.. ثم أقع مغشياً علي..
يقول الطبيب: يجب أن تنتبه، أنت مصاب بالسُكّر.
-أقول للطبيب: السكر لم يصبني في يوم من الأيام.. أنا مصاب بالمرارة، ألم تقرأ الزاوية اليومية التي أكتبها في الصحيفة.
ويتساءل الطبيب: أية صحيفة.
أجيبه مستغرباً: الصحيفة المحلية الموجودة على الطاولة القصيرة في غرفة الانتظار عندكم في العيادة.
يبتسم الطبيب قائلاً: الصحيفة المحلية من اختصاص الممرضة.. لكن لا بأس من فحص المرارة.. فالمرض أصبح طلسماً.. واكتشافه مثل النبوءة، وعلينا أن نتعاون مع المريض.
-هل لك أولاد يا حضرة الطبيب.
نظر الطبيب إلى المريض بغرابة وقال: لي ولد وحيد يدرس في أوروبا لم أشاهده منذ عشر سنوات.
-وأنا لي ولد. ولكنه لا يدرس في أوروبا ولم أشاهده منذ أكثر من عشر سنوات. لذلك أحس بالمرارة، وأشعر بأنني مصاب بها.
هل تصدق بأنني لا أقرأ الزاوية اليومية التي أكتبها. إضافة إلى ذلك أشاهد أحلاماً وكوابيس كل ليلة.
-وما هي طبيعة الكوابيس التي تشاهدها.
-أشاهد نفسي وأنا أغوص في الحبر الأسود حتى ركبتيَّ.
ورغم الظمأ الشديد أتابع الغوص حتى يصل الحبر إلى ورقة التوت التي أغلق بها فمي. وفجأة أنهض من نومي فزعاً لأكتب الزاوية اليومية هل تعتقد أن الحبر الذي يجري في عروقي لـه لون أحمر.
-طبعاً.. (يجيب الطبيب) وإلا لما كنت استطعت الوصول إلى عيادتي.
-أرجوك أن تتأكد.
-كيف، يتساءل الطبيب مستغرباً؟!
-اسحب عينة من الوريد حتى أطمئن، لدي اعتقاد بأن قلمي يكتب بالأحمر.. ودمي يتدفق بالأسود.. ألا تؤثر المرارة على الدم، فتحوله إلى اللون الأسود.
بعد ذلك يصمت الطبيب، ويستعجل بكتابة الدواء. ثم يضغط الجرس فتدخل الممرضة، ثم يطلب منها أن تدخل المريض التالي بسرعة.
-عندما أصل إلى البيت أذهب إلى الورق وأبدأ الكتابة. لماذا كتب (ستندال) روايته الشهيرة (الأحمر والأسود) وهو لم يعمل في الصحافة ولم تكن لـه زاوية يومية.. ولا أسبوعية، ولا سنوية. بعدها أطالب الله أن تكون لي زاوية بعيدة لأنفرد بها بروحي ودمي حتى أعيد صياغة حبري وكلماتي..
ثم تقعد زوجتي قبالتي.. وألمح بعض الدموع على أطراف ثوبها الأسود فأتلمس الثوب.. وأشعر بالزمان البعيد.. ثوبها أسود أيضاً لكأنها تعيش حداداً مبكراً علي. فأين هو الأحمر يا (ستندال) وقد ذهب الزمان، والبحار والأشجار ولم تنته كلماتي.
وفوق ذلك، تداهمني نوبات مرض السكَّر، فيصاب إبهام قدمي بالسواد، ثم تتبعه بقية الأصابع والكاحل والساق والركبتان فأصرخ إنه الحبر.. أعطوني ورقاً لأتمم كتابة الزاوية اليومية بعدها أغفو، ويتلامح الأولاد الطليقون أمامي (الحاضرون منهم والغائبون) مثل ورق أبيض نبيل.. وأنا أحس بأنني ذاهب إلى الزاوية البعيدة، لأنفرد بها بروحي ودمي، حتى أعيد صياغة حبري وكلماتي.





شجرة على الشرفة

كثيراً ما تمنيت أن تكون لبيتي شرفة، وأن يكون أمام الشرفة شجرة، وقد تحققت أمنيتي بعد عقد من السنين تمكنت خلالها من استبدال بيتي الغامض ببيت صغير آخر، لكن الذي يميزه أن لـه شرفة وأمامها شجرة، وقد قررت بعد أن أمتلكه أن أقعد على الشرفة يومياً لأتأمل السماء والشجرة المجاورة، غير أنني وبعد أيام من الجلوس المتواصل شعرت بالملل، ولم أعد أحس بفتنة الشرفة والسماء والشجرة المجاورة، لذلك انكفأت إلى الداخل وبدأت مع الجدران والأنوار الكهربائية رحلة السكون والمتابعة، كأنما ألفت الأمكنة المغلقة وألفتني، وصار الخروج إلى الهواء والضوء يربك طبيعتي ويفضح مقاصدي، فالشرفات في حينا أماكن مسيجة بأسيجة تحجب النور والهواء وتمنع التواصل، لذلك لا يستطيع القاعد على هذه الشرفات أن يلمح كائناً أليفاً، أو شعراً متطايراً، أو عينين تواقتين.
لم أكن أتوقع أن تكون الشرفة على هذا الخواء، ولو أنني عرفت.. لكنت اشترطت عند شراء المنزل الجديد أن يكون للبيت شرفة وشجرة وامرأة جميلة يقتلها الشوق والهيام تقف على الشرفة المقابلة.
لأجلس مقابلها وأتأمل وأعيش. وعندما تفاجئني زوجتي وأنا أقوم بهذه الأفعال.. أحاول إقناعها بأن الكتابة والسماء والشجرة.. وحدهم من يدفعني للجلوس والذهول وليس المرأة الفاتنة في الجهة المقابلة.
ثم جاءت الكارثة، وربما المعجزة.. وأخرجني من ذهولي صوت ارتطام، فنهضت فزعاً وخرجت إلى الشرفة، وكان ما كان،... سيارة هائلة، تحمل الأحجار انحدرت من أعلى الشارع وانحرفت واصطدمت بالشجرة الواقفة مقابل شرفتي وكسرتها، حين نزلت وتأملت الشجرة المستلقية وقد انكشفت سرَّتها وأحزانها فتبدت مثل امرأة جميلة تعرضت للاغتصاب. حين نزلت وتأملت، أحسست أن الشرفات المتجاهلة الأخرى، لن تحزن على الشجرة أبداً، لأنها لم تكن تراها.. لذلك تجمهر الناس وانصرفوا لإنقاذ السائق الذي انحشر جسده في مقدمة السيارة المهشمة دون أن يلتفتوا لما أصاب الشجرة، ورغبة مني في التكفير.. فقد استلقيت إلى جوار الشجرة وتداخلت معها في عناق حميم، أدهش الجيران وأوقعهم في الريبة، فدخلوا إلى بيوتهم وأغلقوا أبوابهم غاضبين.
بعد أيام من الحادث، خرجت إلى الشرفة، وتبعتني زوجتي، وعندما حدثتها عن الشجرة، أخبرتني، أن الغسيل وبعد أن ذهبت الشجرة، سيجف بسرعة أكبر، لأن الشجرة كانت تحجب عنه الشمس، وحين دخلت زوجتي لمتابعة شؤونها، وقفت على الشرفة المقابلة لشرفتنا، امرأة جميلة، وكانت خصلاتها حرة وكانت تلتفت بطلاقة إلى كل الجهات.
تبسمتُ، وأنا أتابع المرأة ولفتاتها، وجهات الهواء التي تحرك خصلاتها، فها هي امرأة جميلة تظهر لي فجأة، كأنما ذهبت الشجرة وتركت شجرة خلفها تضاهيها، شجرة تقف على الشرفة هذه المرة، في وقت كانت فيه الشجرة السابقة تقف وحيدة وحائرة على الطريق، غير أن المرأة الجميلة وبعد أيام من الوقوف والتأمل دخلت وأغلقت الباب ولم تعد للظهور كأنما اختطفها رخ أو عنقاء. بعد مدة من غياب المرأة، تأملت الشرفة الفارغة بانزعاج وتمنيت أن تأتي شاحنة مسرعة، لتزيل الشرفات والجدران لأتمكن من متابعة المرأة الجميلة المقابلة دون حواجز وأبواب، كما يفعل البشر البدائيون في الفلوات والغابات.
 

أحدث المواضيع

أعلى