عالم الأزل::...

همسات حائرة

عضو ذهبي
إنضم
Apr 25, 2011
المشاركات
6,323
الإقامة
أم الدنيـــــــــــا
عـــــــــــالم الأزل::...

basm-all.gif


قصص الأنبياء الكرام:::
050212200514hq9u4a1vyu.png


لمحـــــة عامــــة::...
الحمد لله رب العالمين وصلاة الله وسلامه على المرسلين الذين تفوَّقوا على كافة البشر بخلقهم العظيم، وسبقوا في حبِّهم ومعرفتهم بربِّهم سائر العالمين فكانوا بذلك أهلاً لأن يصطفيهم الله تعالى لتلقي رسالاته وجديرين بأن يكونوا هادين لعباده.

وبعد...

فقد ذكر لنا تعالى في القرآن الكريم طائفةً من قصص الأنبياء تتجلَّى فيها طهارة تلك النفوس المؤمنة التي عُصمت بإقبالها الدائم على ربِّها من كل معصيةٍ، ويتراءى من خلالها ما قام به أولئك الرجال من جليل الأعمال ليبيِّن لنا قابلية الإنسان للسير في طريق الفضيلة والكمال، وليكون لنا ذلك مثل أعلى نحذوا حذوه، وقدوة حسنة نقتدي بها.

غير أنَّ أيدياً أثيمة كافرة بالله ورسله تناولت هذه القصص منذ مئات السنين فكتبت ما يُسمُّونه بالإسرائيليات، وأوَّلت هذه القصص بخلاف ما أراد الله تعالى، وزادت عليها ما لم ينزِّل به الله، وألصقت بالرسل الكرام أعمالاً يترفع عنها أدنى الناس،

وهم يريدون من وراء ذلك كلّه أن يبرهنوا على أنَّ الإنسان مجبول على الخطأ، وأنه لا يمكن أن يسير في طريق الفضيلة
ليصدّوا الناس عن سبيل الله وليبرِّروا ما يقعون به من أعمال منحطة لا يرضى بها الله،
وقد ضلُّوا بذلك وأضلُّوا كثيراً،
إذ تناقل الناس جيلاً عن جيل تلك التأويلات الباطلة فدارت على ألسنة الخاص والعام وأدَّى الأمر ببعض المفسرين إلى أن أدرجوها في طيات تفاسيرهم

وبذلك نظر الناس إلى الرسل الكرام نظرة نقص وانقطعت نفوسهم عن محبة رسل الله وتقديرهم، وفسدت اعتقادات الكثيرين وساءت أعمالهم، وفي الحديث الشريف: «إنَّما أخافُ على أمتي الأئمة المُضلِّينَ» الجامع الصغير /2563/ (ت).

ولذلك وإظهاراً للحقيقة، وتعريفاً بكمال رسل الله الكرام أقدمت على شرح هذه القصص شرحاً مستنداً إلى الآيات القرآنية ذاتها، متوافقاً مع المراد الإلهي منها، مبيِّناً كمال أولئك الرجال الذين جعل الله تعالى في قصصهم عبرةً لأولي الألباب،

وضرب في طهارتهم وشرف نفوسهم مثلاً للعالمين، قال تعالى: {أُوْلئِكَ الذينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ..} سورة الأنعام (90).

وتتميماً للفائدة، وتعريفاً للإنسان بذاته وبخالقه الكريم الذي كرَّمه وفضَّله على كثير ممن خلق تفضيلاً أحببت أن أبدأ بكلمة وجيزة أتكلم فيها عن المُراد الإلهي من خلق الكون كلّه مبيِّناً شرف الإنسان ومنزلته العالية بين سائر المخلوقات، تلك المخلوقات التي عرض عليها ربها عرضاً ثميناً عالياً فخافت وأشفقت من التصدي لحمله وما تقدم له إلاَّ الإنسان وشاركه الجان وغامر كل منهما مغامرة وقطع على نفسه عهداً عرَّض فيه نفسه لتحمُّل أكبر المسؤوليات وأعظم المخاطر والتبعات طمعاً فيما يفوز به من النعيم المُقيم والخير اللامتناهي الكثير،

فإن هو أوفى بما عاهد عليه الله فقد أفلح ونجح وسَعد سعادة أبدية وفاز بمنزلة من القرب الإلهي لا يدانيه فيها أحد من العالمين

وإن هو نكث عهده ونقضه كان أحط الخلق جميعاً، وشقي شقاءً أبدياً وكان من الخاسرين.

أما وقد قدَّمت هذه المقدمة فلأبدأ ببيان المراد الإلهي من خلق المخلوقات، وما توفيقي إلاَّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
 

المواضيع المتشابهة

عالم الأزل ـ الحلقة الأولى::...

عالم الأزل ـ الحلقة الأولى::...
قبل أن نمضي السير في حلقات قصة أبينا آدم عليه السلام، لا بد لنا من وقفة هامة نتعرف فيها على بداية الخلق في عالم الأزل، وتصدي الإنسان لحمل الأمانة، وما أعقب ذلك من خلق الكون بما فيه من عوالم مكلفة وغير مكلفة.

وسنستعرض في هذه الحلقة النقاط التالية حسب تسلسل حدوثها:
- الله تعالى وبدء الخلق

- العدل الإلهي وتساوي الخلق في عالم الأزل

-سبب الخروج إلى الدنيا

- أثر العمل في تسامي النفس وقربها من خالقها

- أثر الشهوة في توليد الأعمال وإعطائها قيمها




الله تعالى وبدء الخلق

كان الله تعالى ولم يكن معه شيء، فلا أرض ولا سماء، ولا شمس ولا قمر، ولا هواء ولا فضاء، ولا ليل ولا نهار، ولا زمان ولا مكان، ولا إنسان ولا حيوان، ولا مَلَك ولا جان، فهو تعالى الأول، أول بلا بداية، فمهما قلت أول فهو أول وأول وليس لوجوده تعالى أول ولا شيء قبله.. وهو تعالى عظيم وكبير فمهما قلت عظيم فهو أعظم وأعظم ومهما قلت كبير فهو أكبر وأكبر، لا حدَّ لعظمته ولا انتهاء، آخر بلا نهاية ولا شيء بعده، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.

وقد أراد تعالى وهو معدن الجود والإحسان، والرحمة والفضل والحنان والعظمة والجمال والجلال، وغير ذلك من الأسماء الحُسنى الدالَّة على الكمال، أراد تعالى أن يخلق المخلوقات ليُذيقها من رحمته وليغمرها بفيض من برِّه وإحسانه، وإن شئت فقل أراد تعالى أن يخلق المخلوقات ليعرِّفها بذاته العلية كيما تسبح متنعِّمةً في شهود جماله وجلاله وتتمتع مستغرقةً في رؤية كماله، وفي الحديث القُدسي الشريف: «كنتُ كَنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق وعرَّفتهم بي فبي عَرفوني». (وقد وافق على صحة الحديث الشيخ علي ملا القاري مستنداً إلى تأويل ابن عباس لقوله تعالى: {وَمَا خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيعْبُدُونِ}: أي ليعرفوني. وقد اعتمده الصوفية وابن عربي وبنوا عليه أُصولاً).

وتفصيلاً لمعنى الحديث الشريف نقول:

الكنز: هو الشيء الغالي الثمين الجميل الذي خفي عن الأنظار والمشاهدة، فإذا ما عثر عليه امرؤ وظهر له، فرحَ وسعدَ لما يراه فيه من الخير والنعيم. والمراد به في الحديث الشريف ذلك الجمال الإلهي العظيم والكمال العالي الرفيع.

المخفي: الذي لا يعرفه أحد.

وهكذا فالكمالات الإلهية كنزٌ، ما شاهدها مُشاهد إلاَّ واستغرقت نفسه في مشاهدتها استغراقاً يجعلها تغيب عن كل شيء وتفرح بها أكثر من كل شيء، وتستأنس بمعاينتها أعظم من كل شيء، فما المال والبنون ولا الزوجات الحِسان ولا الحدائق والجِنان ولا المُلك العظيم والسلطان، بأحبَّ للنفس من المشاهدة لكمال الله والاستغراق في رؤية العظمة والرحمة والحنان والرأفة وغير ذلك من الأسماء، وفي الحديث القدسي الشريف: «ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فِتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء»(1).
(1)الزبور ـ إحياء علوم الدين: الجزء الرابع ـ صفحة (469)، بلفظ: (من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني، فقال أبوالدرداء: أشهد أني لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا).

وبالحقيقة ما الكون كلّه بما فيه من حسن ومتعة وجمال، إلا ذرَّة من بحر لا بل أثر من آثار صاحب الجمال والكمال. وإذا كانت المخلوقات كلُّها بما فيها من حسن وجمال وكمال، لا يعدل حسنها مثقال ذرة من ذلك الأصل، فماذا حوى شيءٌ واحد، أم ماذا نال مخلوق من ذلك الكنز وذلك الأصل؟

إنك إذا ذهبت تفكر وتتعمَّق في الأمر، أدركت طرفاً من الفرق بين الأصل والفرع، وعلمت أنَّ الخالق جلَّ جلاله تعالى لن يُقاس أو يُقارن بالمخلوق، وعلمت أنَّ التسبيح الصحيح إنَّما هو سبح في مشاهدة ما يمكن أن يراه المخلوق، من كمال إلهي وعظمة ليس لها انتهاء، وأنَّ الإنسان إذا وصل إلى ذلك الأصل حطَّ رحاله عنده واستغنى به عن كُلِّ شيء، لأنه أحبّ إليه من كُلِّ شيء، كما أنك تُدرك من معنى الحديث الشريف «كنت كنزا مخفياً...»، لأنك ظفرت بشيء من هذا الكنز وسعدت بما حصلت عليه من هذا الكنز.

وتعلم لِمَ تنام أعين الأنبياء ولا تنام قلوبهم في ليل أو نهار، وفي يقظة أو منام، ولا تغفل عن مشاهدة هذا الكنز والتمتُّع والترقي في رؤيته من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام.

إنك تُدرك معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات (56).

وتعلم أنَّ العبادة إنما هي: تطبيق تلك الدلالة والخضوع لتلك الأوامر التي تنتهي بك إلى مشاهدة هذا الكنز، والوصول إليه والتمتُّع به والاستغراق والتنعُّم في شهوده شهوداً متزايداً متتالياً، لا ينقطع ولا يمكن أن ينقطع عن الواصل إليه والمتمكِّن فيه طرفة عين، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} سورة النور (37).

فأحببت أن أُعرف: فتشير إلى كرمه تعالى وكبير فضله لأنَّ من شأن الكريم أن يُظهر كرمه وفضله، ويفيض برّه وإحسانه.

فخلقت الخَلْق: أي ليتنعَّموا بشهود ذلك الجمال الإلهي وليستغرقوا في رؤية ذلك الكمال الذي لا يتناهى، وهي تُشير هنا إلى إيجاده تعالى المخلوقات في ذلك العالم الذي يُسمّونه بعالم الأزل.

عرَّفتهم بي: أي أشهدتهم عظمتي وفضلي عليهم في خلقهم.

فبي عرفوني: أي عن طريق رؤيتهم لأنفسهم توصلوا لمعرفتي فتمتَّعوا برؤية ذلك الكنز العالي إذ شاهدوا طرفاً من جمالي وكمالي.




العدل الإلهي وتساوي الخلق في عالم الأزل

وقد كانت المخلوقات أوَّل ما خلقها الله تعالى في ذلك العالم "عالم الأزل" نفوساً مجرَّدةً عن الصور والأجساد، فالإنسان والحيوان، والسماء والأرض والمَلَك والجان وإن شئت فقل كل المخلوقات كانت يومئذٍ من نوع واحد وذات صفةٍ واحدة لا فرق ولا تفاوت بينها في شيء وقد تمتَّعت هذه الأنفس كلها يومئذٍ برؤية ذلك الكنز وشغفت حبّاً وهياماً بمشاهدة ذلك الجمال الإلهي العظيم.




سبب الخروج إلى الدنيا

على أنَّ وقوف هذه المخلوقات عند درجة واحدة من الرؤية للجمال الإلهي الذي شهدته تجعلها فيما بعد تَمَلُّ الحال الذي هي فيه مهما كان عالياً ولا بدَّ لها حتى يكون النعيم والفضل تامّاً من أن تترقَّى في الرؤية من حال إلى حال أعلى بصورة لا تتناهى، وتقريباً لذلك من الأذهان نقول:

"لو أنَّ رجلاً يجلس في بستان جميل لم ترَ مثله العين وظلَّ مقيماً فيه أمداً طويلاً فلا شك أنه يمَلّه ولا يعود يرى بعد حين ما فيه من متعة وجمال ولا بدَّ له حتى يدوم له النعيم من أن ينتقل إلى بستان آخر أجمل مما هو فيه".

وحيث أنَّ المخلوق لا يستطيع أن يترقَّى في رؤية الجمال الإلهي من حال إلى حال أعلى إلاَّ إذا كانت له أعمال طيبة تجعله واثقاً من رضاء خالقه عنه وتكون له بمثابة مدارج يستطيع أن يتقرب بها إلى الله تعالى زلفى لذلك عرض تعالى على هذه الأنفس جميعاً الخروج من ذلك العالم الذي لا عمل لها فيه إلى دار تكون لها فيها أعمال عالية تساعدها على الإقبال على خالقها والسعي إلى ذلك الكنز العالي لِتَعُبّ من بحر الجمال والكمال عبّاً كثيراً متواصلاً لا متناهياً.




أثر العمل في تسامي النفس وقربها من خالقها

ولبيان أثر العمل في تسامي النفس وقربها من خالقها نضرب على ذلك مثلاً فنقول:

لنتصور قائداً خاض بجنوده معركةً من المعارك، فيا ترى هل كل هؤلاء الجنود يعودون من المعركة في حال نفسي واحد؟؟!!. لا شك أنَّهم سيكونون على درجات.. فالجندي الأكبر تضحيةً وإقداماً والأحسن عملاً يرجع وهو أقرب من قائده نفساً وأدناهم لديه منزلةً وأوفرهم بالسعادة النفسية حظاً.

وكذلك ينطبق هذا المثل على الأبناء تجاه والدهم، والطلاب تجاه معلِّمهم، والمريدين مع مرشدهم، والعباد مع خالقهم، إذ من قوانين النفس الثابتة أنَّها لا تستطيع أن تقبل على آخر إقبالاً معنوياً ما لم يكن لها عمل صالح تقدِّمه بين يديها فتستند عليه في إقبالها. وكلَّما كانت تضحياتها أكبر وعملها أعلى وأرفع كان إقبالها أعظم.

إنَّ هذه الناحية النفسية وأعني بها الثقة التي يولِّدها العمل الصالح في نفس صاحبه فيجعلها تسير قُدماً وتعرج متساميةً إلى خالقها فتسعد بالقرب منه، وتنعم بالإقبال عليه تعالى نعيماً متناسباً مع عملها، هذه الناحية الهامة وإن شئت فقل هذه الثقة التي هي أساس القرب وسر السعادة، هي التي جعلت من هذه الدار الدنيا دار العمل ممراً وطريقاً للدار الآخرة حيث الجنَّات والنَّهَر في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.


أثر الشهوة في توليد الأعمال وإعطائها قيمها

والآن بعد أن بيَّنا قيمة العمل وكونه أساساً للسعادة والنعيم لا بدَّ لنا من معالجة نقطة ثانية، تلك هي الشهوة التي بدونها لا ينطلق المخلوق للعمل ولا يندفع إليه، الشهوة التي تجعل المخلوق يتقدم إلى العمل راغباً ويسعى إليه مسروراً، ولولا هذه الشهوة لما كان للمخلوق رغبةً في السعي إلى عمل من الأعمال ولظلَّ خامداً ساكناً لا يجد ذوقاً ولا لذةً ولا يعرف للنعيم طعماً.

وإذاً فالشهوة هي الدافع والمحرِّك وبها يكون الذوق والنعيم، وإلى جانب هذا كلّه، الشهوة هي التي تُضفي على العمل قيمته وبدونها لا يكون للعمل في نظر صاحبه شأن ولا تكون له قيمة وكلَّما كان الشيء مُحبَّباً للنفس ومرغوباً لديها كلَّما كانت التضحية به أكبر قيمةً وأعظم في النفس تأثيراً، فلو أنَّ الإنسان كان لا يرغب بالمال ولا يشتهيه فعندئذٍ لا يكون للصدقة في نظره معنى ولا يجد في إنفاقه وصدقته رُقيّاً نفسيّاً ولا إقبالاً وكذلك الأمر في غضِّ البصر والتعفف عن المحرَّمات، فلو أنَّ النفس كانت لا تميل إلى النساء لما كان للعفة وغض البصر معنىً ولما وجد المؤمن المتعفف تلك المعاني السامية التي يجدها في نفسه بسبب عفته وطهارته.

وهكذا تجد الشهوات تُعطي الأعمال الطيبة قِيَماً متناسبة معها، فكلَّما كانت الشهوة التي يُضحِّي بها محببة إلى النفس كلَّما كان العمل الناشئ عنها في نظر صاحبه عظيماً وكان رُقي النفس وتساميها بهذه النسبة كبيراً أيضاً.

والحمد لله رب العالمين
 
عالم الأزل ـ الحلقة الثانية::...

عالم الأزل ـ الحلقة الثانية
سنتعرف في الحلقة الثانية من (عالم الأزل) على النقاط التالية:

أثر حرية الاختيار في قيم الأعمال

عرض الأمانة وتصدِّي الإنسان في عالم الأزل لحملها

من هم الملائكة الكرام

الحيوانات والنباتات والجمادات


أثر حرية الاختيار في قيم الأعمال

أما وقد بيَّنا قيمة العمل وأثر الشهوة من حيث الذوق واللذة ومن حيث الدفع إلى الأعمال وتوليدها إيَّاها ومن حيث إعطاؤها العمل قيماً متناسبة معه فمن اللازم علينا أن نتكلم عن حرية الاختيار، تلك الحرية التي تجعل المخلوق يُباشر العمل مريداً مختاراً لا مرغماً مقهوراً، وبالحقيقة لا يستطيع المخلوق أن يتقرب بعمله إلى خالقه خطوة وليس يمكن أن يجد له قيمة إذا لم يكن لهذا المخلوق في عمله حرية واختياراً، وتوضيحاً لذلك نُقدِّم المثال الآتي فنقول:

هب أنَّ أميراً كان يسير في الطريق يوماً وحدَّثته نفسه بأن يشتري متاعاً فتقدَّم أحد حاشيته منه وحمل له ذلك المتاع متطوعاً مختاراً، فيا ترى هل يكون حال هذا الرجل الذي حمل المتاع للأمير متطوعاً كحاله فيما لو لم يتقدَّم هو بذاته وأكرهه الأمير على القيام بذلك العمل إكراهاً؟! لا شك أنه في حال تطوعه وقيامه بذلك العمل بناء على اختياره يكون أقرب إلى أميره نفساً وأكثر عليه إقبالاً.

وإذاً فمباشرة الأعمال مباشرة مبنية على الحرية والاختيار تجعل لهذه الأعمال قيماً عالية تستطيع أن تستند عليها النفس في إقبالها على خالقها فتسعد بالقرب من جنابه الكريم وتستغرق في مشاهدة جماله وكماله بقدر ما قدَّمت من أعمال.





عرض الأمانة وتصدِّي الإنسان في عالم الأزل لحملها

لا بدَّ لنا لفهم المراد من كلمة (الأمانة) من أن نقدِّم مثالاً فنقول:

لو أنِّي كنت أملك متاعاً من الأمتعة وأودعته صديقاً لي شريطة أن أسترده منه بعد حين، فهذا المتاع الذي هو ملكي ما دام عند صديقي فهو أمانة في يده.

وكذلك المخلوقات إرادتها في الأصل مُلك لخالقها ومُوجدها وهي مرهونة لأمره تعالى فلا تملك إرادة ولا اختياراً. وقد أراد تعالى كما قدَّمنا آنفاً أن يعطي الأنفس أكبر عطاء فبيَّن الوسيلة التي تصل بها إلى نيل هذا العطاء وذلك بأن عرض عليها أن يجعل إرادتها التي هي مُلكه تعالى أمانة بين يديها وأن يجعلها حرّةً في اختيارها السير إلى أعمالها المتولِّدة عن شهواتها.

إنَّ إعطاء هذه الإرادة والحرية في الاختيار هي ما نقصده بكلمة (الأمانة) التي مرَّت بنا في هذا العنوان.

نعم لقد عرض تعالى الأمانة في عالم الأزل على الأنفس جميعها بلا استثناء ثمَّ بيَّن لها أن حمل الأمانة، وإن شئت فقل حرية الاختيار في السير إلى الأعمال، أمر ذو خطر عظيم. فإذا كان المخلوق يستطيع بهذه الوسيلة أن يرقى بعمله ويصل إلى مرتبةٍ دونها سائر المخلوقات فهو إلى جانب ذلك قد يهوي به عمله إلى درجة لا يمكن أن ينحط إليها أحد من العالمين. ولذلك ورحمة من الله تعالى بمخلوقاته بيَّن لها أنَّها إذا هي رضيت بحمل الأمانة وخرجت إلى الدنيا فسيرسل لها كتاباً يكون نبراساً ومرجعاً لها في أعمالها، فإذا هي استنارت بنوره تعالى لدى مباشرتها العمل المتولد عن الشهوة واستهدت به سبحانه واستلهمته الرُشد في سيرها فسيكون صراطها مستقيماً وسيرها مأموناً، وعملها متطابقاً مع طريق الحق الذي يبيِّنه كتابه تعالى وبذلك تُعصم من الزلل وتُحفظ من الوقوع في الأذى والضرر ويكون عملها سبباً في رُقيّها وتساميها فإذا هي جاءته تعالى بعد موتها كان لها من أعمالها العالية الإنسانية سند تعتمد عليه في وجهتها، ومتكأ تتكىء عليه في إقبالها على ربِّها وهنالك تفوز بالقرب من جنابه الكريم وترقى رقيّاً أبديّاً متتالياً في جنَّات النعيم.

أمَّا إذا هي حملت الأمانة ثم جاءت إلى الدنيا ولم تستنر بنوره تعالى ولم تستهد بهداه لدى سيرها إلى أعمالها فلا شك أنَّها ستخطئ طريق الحق الذي يصل بها إلى السعادة وستكون أعمالها كلّها أذى وإضراراً بالخلق فإذا هي جاءت خالقها بعد خروجها من الدنيا فعندئذٍ تقف بين يديه خجلى من أعمالها، ذليلة بما تحمله بين يديها من لؤمها ودناءتها وإنه ليحجبها عملها الدنيء عن الإقبال عليه تعالى فتغضي منه حياءً وخجلاً ولا تستطيع أن تقبل عليه بوجهها، ثمَّ أنها لتتذكَّر ما شهدته في عالم الأزل وتنظر إلى تفريطها في جنب الله وخسرانها ذلك الكنز العالي فتحرقها الحسرة حرقاً لاذعاً مؤلماً فلا تجد لها مأوى إلاَّ جهنم فترتمي بها لتغيب بألم النار وعذاب الحريق عن ألمها وعذابها النفسي الشديد.

وفي الحديث الشريف: «إنَّ العارَ ليلزمُ المرءَ يوم القيامةِ حَتى يقولَ: يا ربِّ لإرسالُكَ بي إلى النار أيسرُ عليَّ مما ألقى، وإنه ليعلمُ ما فيها من شِدَّةِ العذاب...» الجامع الصغير /2059/ (ك).

ذلك كله بيَّنه تعالى للأنفس يوم عرض عليها الأمانة فعرفته وعقلته، رأت ما وراء حمل الأمانة من الخيرات وما في خيانة الأمانة وما وراء التفريط من الحسرات.

وهنالك وفي هذه اللحظة التي تجلَّى فيها الفضل الإلهي وتبدَّت العدالة الإلهية لسائر المخلوقات، أقول: في هذه اللحظة الحاسمة تقهقرت جميع المخلوقات ورهبت من التقدم لهذا الامتحان لما قد يتبعه من الفشل والشقاء وإن كان وراءه من السعادة والخيرات.

نعم إنَّ الأنفس كلها أبت حمل الأمانة وأشفقت منها ولم يتقدم لحملها إلاَّ فئة واحدة غامرت مغامرة عظيمة، وعاهدت ربها على ألاَّ تنقطع عنه لحظة واحدة وهناك قَبِلَ ربها عهدها وميثاقها وأكبر مغامرتها ووعدها بجنة الخُلد إن هي وفَّت بعهدها. وإلى ذلك العرض وذاك العهد يُشير القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا أيُّها الذينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وقُولُوا قَولاً سَديداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوزاً عَظِيماً، إِنَّا عَرَضْنا الأمَانة عَلَى السَّمواتِ وَالأرضِ والجِبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحمِلْنها وَ أشْفقنَ مِنها وَحملَها الإنسان إِنهُ كَانَ ظَلوماً جَهُولاً} سورة الأحزاب (70 ـ72 ).

وينطوي تحت كلمة {السَّمواتِ وَالأرضِ والجِبَالِ} ما فيهن من أنفس وما اشتملت عليه من مخلوقات. وتشمل كلمة {الإِنسَانُ} بحسب ما يُشير إليه القرآن الكريم في مواضع أخرى على أفراد النوع الإنساني والجان. أمَّا كلمة {إِنهُ كَانَ ظَلوماً جَهُولاً} فهي لا تعني إثبات الظلم والجهل للإنسان إنَّما هي كلمة مدح وإكبار، وقد جاءت في صيغة الاستفهام الاستنكاري محذوفة أداته زيادة في تقرير المعنى المُراد. إنَّها تقول:

أكان الإنسان ظالماً لنفسه بعهده هذا؟ وهل كان جاهلاً ما وراء حمل الأمانة من الخيرات، أم أنه عرف ما وراء ذلك من سعادة لا تتناهى فتقدَّم وغامر وكان بذلك أكرم المخلوقات، ذلك كان موقفك أيُّها الإنسان في ذلك اليوم العظيم وتلك هي منزلتك بين سائر العالمين.

لقد رضيت بالخروج إلى الدنيا دار العمل لتعمل صالحاً، وطلبت الشهوة لا لذاتها وما فيها من متعة بل لتكون دافعاً لك إلى الأعمال وغامرت إلى جانب ذلك كله في حمل الأمانة ليكون لأعمالك في نظرك شأن وقيمة عالية فرضيت بأن تكون حراً في اختيارك وأن تعطى إرادتك فينفِّذ لك ربُّك ما تريد ويهبك القوة على القيام به ثمَّ عاهدت ربَّك على أن تظل مستنيراً دوماً بنوره لتكون إرادتك متوافقة مع ما شرعه في كتابه ولئلا تزلَّ بك القدم أثناء اختيارك، نعم لقد طلبت ذلك كله لتكون أحظى المخلوقات بمعرفته تعالى وأوفرهم حظاً بمشاهدة جمال هذا الكنز العظيم والنظر إلى وجه ربك الكريم.

الملخَّص:

سأل الله تعالى الخلق: ألست بربكم؟

انقسموا إلى أربعة أقسام بالمنازل والدرجات:

1 فأناس نالوا الشهادة: وهم الرسل والأنبياء وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم نال أعلى درجة.

2 من بعدهم المؤمنون: وهم أقل درجةً «إنَّما بُعثت لأتمِمَ مكارمَ الأخلاق» أخرجه أحمد والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة.

3 في الدنيا يسمو بصاحب القابلية، والعمر حتى إذا اجتهد ينال. فهنالك الراسبون إن نظروا وفكَّروا بهذا الكون وبالبداية والنهاية لهذا الخلق ينجحون، بل وينافسون السابقين.

هؤلاء ينفعهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما بُعثت معلِّماً» أي معلِّماً للإيمان وطريق الإيمان بالله.

4 الذي لا جدوى له: جعل الله تعالى عمره قصيراً، دون البلوغ يموت قال تعالى: {...وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ...} سورة الأنعام (165).

لـمَّا خلق الله تعالى الأنفس بيَّن لها الطريق:

إن جئتم للدنيا وسلكتم طريق الحق ما انقطعتم عني واستنرتم بنوري ربحتم ربحاً عظيماً... وإن لم تفعلوا خسرتم خسارة كبرى.

فالإنس والجن قالوا نحن لها ولمَّا دبَّ تعالى الشهوة فيهم، أناس صدقوا وأناس في نفوسهم شهوة خبيثة، ونظر الله تعالى إلى الخلق ساعتئذٍ: فالذي صدق كسب الكمال... سيخرج للدنيا ويظهر بكماله، هذا نجح. والذي لم يصدق وبقيت الشهوات في نفسه يُخرجها له ثمَّ يضيّق عليه لعلَّه يتوب ويرجع إلى رُشده.

كمدرسة: أناس نجحوا في الدورة الأولى نجاحاً نهائياً... وأناس لم ينجحوا في الدورة الأولى لذلك هذه الدنيا لهم بمثابة دورة ثانية ليتلافوا أمرهم. وهنا تفيد كلمة: {...إنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَحيمٌ} سورة الأنعام (165).




من هم الملائكة الكرام

وهناك فئة ثانية من هذه الأنفس عزفت عن الدنيا وشهواتها ولم تجرؤ أن تتقدَّم لما تقدَّم له الإنسان فلم تطلب لنفسها إرادة ولا اختياراً، بل ملَّكت إرادتها لخالقها وبذلك سُمِّيت (ملائكة)... وضحَّت بالشهوة في سبيل بقائها قريبة من ربِّها فكان لها من عملها هذا وتضحيتها سبيل ووسيلة تُقرِّبها من خالقها. وإن كان الإنسان الصادق بمجابهة شهوته وتوجيهها وفق إرادة خالقه وقيامه بالأعمال بناءً على اختياره أعلى من هذه الفئة منزلةً وأكثر منها في هذا المضمار سبقاً.



الحيوانات والنباتات والجمادات

وأخيراً نريد أن نتكلَّم عن فئةٍ لم تطاوعها نفسها على العزوف عن الشهوة ولم تشأ أن تضحِّي بما وراءها من لذةٍ ومتعة، وهي إلى جانب ذلك لم تجرؤ على حمل الأمانة وملك الإرادة ولذلك طلبت الشهوة شريطة أن تكون مقيَّدة الإرادة... وينطوي تحت هذه الفئة صنوف الحيوانات والنباتات والجمادات.

فهذه الصنوف الثلاثة طلبت من خالقها أن يخرجها إلى الدنيا وأن يمنحها الشهوة التي تتذوق بها فضله تعالى وأن يجعل شهوتها مقرونة بوظيفة تؤديها في خدمة هذا الإنسان ليكون لها من خدمة هذا المخلوق الكريم عمل ووسيلة تقرِّبها من خالقها وهنالك عرض ربها عليها الكون وما فيه من الوظائف والخدمات التي يتأمن منها سير الحياة الدنيا، فاختار كل مخلوق من هذه المخلوقات وظيفة فطلب الجمل مثلاً أن يكون مسخراً مذللاً لحمل الإنسان وحمل متاعه. واختارت بعض النباتات أن تكون له طعاماً وغذاءً... كما اختارت الشمس أن تكون للإنسان سراجاً وهّاجاً.

وهكذا اختار كل مخلوق وظيفة وعملاً وهناك اقتضت إرادته تعالى أن يكون لكل نفس من هذه الأنفس الأعضاء والحواس المعينة لها على القيام بمهمَّتها والثوب المتناسب مع وظيفتها فجاء الكون الذي نراه الآن قائماً على أبدع حال وأكمل نظام يشهد لك كل ما فيه بحكمة الحكيم وعلم العليم وقدرة القدير ورحمة الرحمن الرحيم. قال تعالى: {...مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحمنِ مِنْ تَفَاوتٍ فَارجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى من فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتينِ يَنقلبْ إليكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيْرٌ} سورة الملك (3ـ4).

أقول... وإلى هذه الناحية، وأعني بها تسخير هذه الفئة من المخلوقات وجعلها مذللةً في خدمة الإنسان تشير طائفة من آيات القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعلَ لَكمُ الأَرضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي منَاكبِها وَكُلُواْ مِن رِزقهِ وإليْهِ النُّشُورُ} سورة الملك (15).

{هُوَ الذي خَلَق لَكُم مَا فِي الأَرضِ جَميعاً ثُمَّ اسْتوى إِلى السَّمَاءِ فَسوَّاهُنَّ سَبعَ سَمَواتٍ وَهُوَ بِكلِّ شَيءٍ عَليمٌ} سورة البقرة (29).

{الله الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأخرَجَ بهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزقاً لكمْ وَ سخَّر لَكمُ الفُلكَ لتجرِيَ في البَحرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّر لَكمُ الأَنهَارَ، وَسَخَّرَ لَكمُ الشَّمسَ وَ القَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكمُ الليلَ والنَّهارَ} سورة ابراهيم (32-33).

فانظر أيها الإنسان كيف أن الكون كلّه يتقرَّب بخدمتك إلى خالقه زلفى فإن أنت وفَّيت بعهدك فقد تفوَّقت وسَموْتَ على المخلوقات جميعاً. وإن أنت أعرضت عن خالقك ومِلت إلى شهوتك ساء عملك وصِرت أحطّ من الحيوان شأناً، قال تعالى: {إنَّ الذينَ كَفَرواْ مِنْ أَهلِ الكِتَابِ والمُشرِكينَ في نارِ جَهنَّمَ خَالدينَ فيها أُولئكَ هُمْ شرُّ البَريَّةِ، إنَّ الذينَ آمَنُوا وعمِلواْ الصَّالحاتِ أوْلَئكَ هُمْ خَيرُ البَريةِ، جَزاؤهُمْ عِندَ رَبِّهمْ جَنَّاتُ عَدنٍ تجرِي منْ تَحتِها الأنْهَارُ خَالدينَ فِيها أَبداً رَضيَ الله عَنْهمْ وَرَضواْ عَنْهُ ذَلكَ لِمنْ خَشيَ رَبَّهُ} سورة البينة (6-8).

والحمد لله رب العالمين

 
عالم الأزل ـ الحلقة الثالثة::...

عالم الأزل ـ الحلقة الثالثة
في الحلقة الثالثة من بحث (عالم الأزل) سنتعرف على المسائل الهامة التالية:

-تفاضل الناس وتسابقهم في عالم الأزل
-القضاء والقدر


-من هم أنبياء الله ورسله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين)






تفاضل الناس وتسابقهم في عالم الأزل

والآن بعد أن عرفنا في الحلقات السابقة منزلة الإنسان بين سائر المخلوقات نقول:

لم يكن بين أفراد هذه الفئة يومئذٍ سابق ومسبوق ولا فاضل ومفضول ولم يكن بينهم ساعتئذٍ نبي ولا رسول، فآدم عليه السلام ومن سواه كلهم كانوا يومئذٍ بين يدي خالقهم سواء. إذ لم تكن لهم بعد من أعمال يتفاضلون بها وليس يميز أحداً عن أحدٍ بين يدي هذا الإله العادل ما دام الخلق جميعاً عباده سوى الأعمال. ولذلك وتشميلاً لمبدأ العدالة، ولئلا يكون لأحد من الناس على الله حجةً، عرض تعالى على بني آدم جميعاً (كما ذكرنا من قبل) كما عرض على الجن أيضاً أنه سيضع فيهم الشهوة وذكَّرهم بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم بأن ينظروا للشهوة بنور خالقهم الكريم، وحذَّرهم من الانقطاع عنه طرفة عين، ثمَّ إنه تعالى عرض عليهم الدنيا وما فيها وألقى في نفوسهم الشهوة وذكَّرهم بعهدهم منادياً:



050212210556f6ich0uubi7vbl0v7d.jpg



{أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} أي: ألست الذي خلقتكم وأوجدتكم، بإمدادي قيامكم وحياتكم، ألست المتفضل عليكم. أفيمكن لكم بعد هذا أن تنقطعوا عني وتنظروا إلى الشهوات دون الاستنارة بنوري؟ وما إن سمعوا كلمة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} حتى أجابوا جميعاً بكلمة {بَلى} أي: أنت ربّنا، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِمْ ذُرّيَّتهُم وَأَشْهَدَهُمْ عَلىْ أنْفُسِهِمْ: ألَسْتُ بِربِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلى...} سورة الأعراف (172).

غير أن كلمة {بَلى} لم تكن ساعتئذٍ صادرةً من ألسنة واحدة وإنَّما تمايز بنو آدم وانقسموا أقساماً وصاروا على درجات:

ـ فمنهم من نظر إلى شهوته فاستهواها واستغرق فيها فغمرته وسترته عن خالقه المتفضِّل عليه بها، وكان من هذه الأنفس أنفس الكفَّار جميعاً، إذ الكفر هو الستر، فهؤلاء سترتهم شهواتهم عن خالقهم فانغمسوا بها ونسوا عهدهم الذي عاهدوه.

ـ وهناك أنفس ذكرت عهدها لخالقها فقالت: بلى، أي أنت ربنا ولا ننقطع عنك... فما أن رأوا الشهوة حتى افتتنوا بها ونسوا عهدهم أيضاً وينطوي تحت هذه الفئة المنافقون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.

قال تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ}: يا محمد. {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}: ساعة الموت، ساعتها يحسّ. وكل مخلوق تنكشف له الحقائق عند خروج الروح. {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ}: ظلم نفسه، رماها في الشقاء. {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}: ولكن لا تأخير، إذا حلَّ الأجل فلا يتأخر. {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}: نسمع كلامهم. {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ}: عاهدتموني في الأزل على دوام الإقبال وعدم الانقطاع "أقسمتم في الأزل أن تأتوا إلى الدنيا وتستنيروا بنوري" ثم نكثتم. {مَا لَكُم}: الآن. {مِّن زَوَالٍ}: عن هذا الحال الذي لبسكم، عملك ملازم لك، وليس لك من زوال. كل شيء خُلق لا ينعدم.

ـ وهناك أنفس أخرى نظرت إلى الشهوة فاستحلتها ومالت إليها، غير أنَّها ذكرت عهدها لخالقها فعادت إليه تائبةً من تقصيرها، وتشمل هذه الفئة على العصاة الذين إذا جاؤوا إلى الدنيا مالوا إليها، فإذا ذكَّرتهم ذكروا وعادوا تائبين من تفريطهم نادمين على تقصيرهم فيما مضى.






050212200514fcw7u0w0972im8qt2n57.jpg



050212210556acnjz583jbsqggjr1fkrjd.jpg



050212210556emk3c2ufj6el.jpg


0502122105565cwnx2aax8jznn.jpg




0502122105565pk0e25p1pk8b29e25n2afq8.jpg


قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} سورة آلعمران (14).



ـ أمَّا الأنفس التي ذكرت عهدها ولم تنظر إلى الشهوة إلاَّ بنور خالقها ولم تتحوَّل عنه أبداً فتلك هي الأنفس المؤمنة حقاً، لقد رأت الشهوة فرأت فضل خالقها عليها بها فشكرته على فضله وحمدته على نعمته. وتشمل هذه الفئة على الأنبياء والمرسلين وكُمَّل المؤمنين، فهؤلاء جميعاً قالوا بلى ونفوسهم مشغوفة بحُب خالقها إقراراً بفضله وحمداً له على نعمته، وكان أسبق هؤلاء في ذلك إلى الله تعالى وأحمدهم له على نعمته وفضله سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم... وبذلك صار للعالمين سيداً وللمرسلين إماماً.

ونظر الله تعالى إلى بني آدم في تلك الساعة من بعد أن احتل المكانة التي احتلها فعلم سبحانه أنَّ فئة الكافرين والمنافقين الذين أعرضوا عن ربِّهم ولم ينظروا إلى شهواتهم بنور خالقهم، هؤلاء قد امتلأت نفوسهم بذلك الإعراض خبثاً وأمراضاً ولا بدَّ لهم من الخروج إلى الدنيا ليخرج من نفوسهم خبثها ومرضها. كما علم أنَّ فئة المؤمنين الذين نظروا إلى شهواتهم بنور خالقهم وعرفوا فضل ربهم. هؤلاء قد امتلأت نفوسهم بإقبالها على ربها خيراً ولا بدَّ لهم من الخروج إلى الدنيا أيضاً ليُظهروا ما في نفوسهم من كمال.



لا بد وأن تظهر في هذه الحياة الدنيا مكنونات كل نفس بشرية بناءعلى ما اكتسب ونال في عالم الأزل

إما طهارة وخيراً، أو رذيلة وخبثاً





050212210556tdkz6dsn3fe14pq617hektb.jpg




050212200514sxqo642shcyenwyxx5om65g77.jpg





قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءاللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَايَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} سورة الزمر (9)






القضاء والقدر



0502122105563xur2esrd1jyf.jpg


لا بدَّ لنا لفهم معنى (القضاء والقدر) من أن نقدم مثالاً فنقول:

لو أنَّ معلِّماً كان لديه عدد من الطلاّب فنظر إليهم نظرة قبل الفحص الذي يجري عادةً آخر العام فلا شك أنه بما يعلمه من أحوالهم وسيرهم خلال السنة الدراسية يستطيع أن يحكم على فريق منهم بالرسوب حتماً كما يحكم على آخرين بالنجاح فهذا الحكم القطعي الذي يحكمه والذي لا يمكن أن يتطرق له الخطأ نستطيع أن نسمِّيه قضاء مأخوذة من قضى بمعنى حكم في الأمر وبتَّ.

ثمَّ إنَّ هذا المعلم يستطيع أن يقدِّر درجة كلٍّ من هؤلاء الطلاّب الناجحين فيقول مثلاً: فلان ستكون درجته كذا وفلان درجته كذا.

فهذا اليقين والتقدير لدرجة كل واحد من هؤلاء الطلاب نستطيع أن نسمِّيه قدراً وزيادة في إيضاح معنى كلمة (القدر) نقدِّم مثالاً آخر فنقول:

لو أنَّ سائقاً نظر إلى مستودعات البنزين في سيارات عديدة وشاهد الأرقام التي وصلت إليها سوية البترول في كل سيّارة منها فقال: هذه السيارة تستطيع أن تقطع عشرين كيلومتراً وهذه أربعين وهذه لخلوها من البترول لا تستطيع أن تسير أبداً، فهذا الحساب الذي يحسبه، وذلك التقدير الذي يقدِّره لكل سيارة بناء على علمه بما فيها من وقود هو ما نستطيع أن نسمِّيه قدراً وهكذا فالله تعالى قدَّر لكل إنسان منزلةً بعد أن اطَّلع على ما في نفسه وعلم ما فيها.

وهذا المثال الذي قدَّمناه يُبيِّن لنا أنَّ الله تعالى لم يجبر أحداً على السير في طريق دون طريق لكنَّه علم حال الخلق ومنازلهم علماً وقدَّر ذلك تقديراً.

وإذا كان الإنسان قد يُخطئ في تقديره لقصر علمه عن الإحاطة بدقائق الأمور وخفاياها فالله تعالى لا يمكن أن يتطرق لتقديره خطأ لأنَّ تقديره مبني على علم كامل وشامل.

إنَّ هذه الأمثلة التي قدَّمناها ليست إلاَّ تقريباً للأذهان لمعنى كلمة (القضاء والقدر). فالله تعالى لمَّا نادى الخلق في عالم الأزل بكلمة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} وأجابوه جميعاً بكلمة {بَلى} نظر تعالى إليهم فعَلِمَ ما كمن في نفوس أولئك الذين نظروا إلى شهواتهم بنوره تعالى من الخير وما امتلأت به نفوسهم من كمال، كما علم ما كمن في نفوس الذين لحقوا شهواتهم معرضين عنه تعالى وشهد ما استقر في نفوسهم من خبث وأمراض. علم تعالى ما في نفوس هؤلاء وهؤلاء فقضى أي فحكم بما سيكون من هؤلاء المقبلين إذا جاؤوا إلى الدنيا من خير وما سيظهر منهم من كمال، كما قضى بما سيكون من أولئك المعرضين إذا جاؤوا إلى الدنيا من خبث ولؤم وما سيحلُّ بهم من الخُسران.

لقد قضى تعالى أي حكم حُكماً ثابتاً لما علمه في الفريقين كما قدَّر لكل واحد منزلته التي سيصل إليها بعمله تقديراً متناسباً مع إقباله.

ومن هنا نستطيع أن نرد أقوال أولئك الذين يقولون كذباً، إن الله خلق أُناساً سعداء وآخرين أشقياء، وإنه خلق أناساً للجنة وأناساً للجحيم، فالله تعالى لم يفرِّق بين مخلوق ومخلوق إذ الخلق جميعاً عباده، لكن الذين أصغوا إلى وصية خالقهم ونظروا إلى الشهوة بنوره تعالى، أولئك هم الذين سعدوا فإذا جاؤوا إلى الدنيا كانت الدنيا مظهراً لحقيقتهم ومرآة لما انطبع من الكمال في نفوسهم. والذين أعرضوا عن خالقهم، أولئك هم الذين شقوا فإذا هم جاؤوا إلى الدنيا تبيَّن للناس خبثهم وشهدوا بأعمالهم على أنفسهم. ذلك هو القضاء والقدر، وتلك هي عدالة الله في خلقه وما الدنيا إلاَّ مِحك للنفوس فلا بدَّ للكامل من أن يظهر فيها كماله ولا بدَّ للمعرض من أن يظهر لؤمه وخبثه. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الأَرضِ زِينةً لَها لِنَبلُوهُم أَيُهمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} سورة الكهف (7).

{الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُترَكُوا أن يَقُولواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقدْ فَتَنَّا الذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعْلمَنَّ اللهُ الذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذبِينَ} سورة العنكبوت (1-3).

{إنَّ رَبَّك هُوَ أَعلمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ} سورة القلم (7).

ومن علامة السُعداء أنَّك إذا ناديتهم إلى الإيمان أجابوا. ومن علامة الأشقياء أنَّهم إذا ذُكِّروا لا يذكرون وإن يروا سبيل الرُشد لا يتّخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً.

إنَّ هذه الحقائق التي أوردناها في بحثنا هذا مما تتجلَّى به عدالة الله تعالى في خلقه ورحمته بعباده، هذه الحقائق التي شهدها المؤمنون فزادوا بها حباً بخالقهم وغفل عنها الغافلون المحجوبون عنها بشهواتهم ستظهر بعد الموت جليةً واضحةً للناس جميعاً وهنالك يعترفون بفضل خالقهم عليهم ويُقرّون بعدالته ورحمته ويحمدونه على عنايته بهم. قال تعالى: {...وَآخِرُ دَعْوَاْهُمْ أَنِ الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ} سورة يونس (10).

غداً يوم القيامة، أصحاب الجنة وأصحاب النار، الفريقان يحمدانالله رب العالمين على ما ساق لهم من فضل وخير وعدل ورحمة في الدنيا





050212210556n11je4p09msxzqo0uo.jpg




050212210556zx123xwabcbqkqaj2errp0t.jpg




قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} سورةالشورى (7).



فالبشر المكلَّفون على ثلاثة أقسام:

1 قسم في الأزل نال الشهادة النهائية وهُم الأنبياء والرُسل الكرام.

2 قسم إكمال، ناقص عليه بعض الدرجات، في الدنيا يتلافى أمره «إنَّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» أخرجه أحمد والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة.

3 قسم رسب، إن اجتهد في الدنيا نجح وطريقه الإيمان بواسطة الكون على طريق إيمان سيدنا إبراهيم عليه السلام «إنَّما بُعثت معلِّماً» أي: للإيمان. وبلفظ آخر: «بعثت داعياً ومبلِّغاً»: داعياً للإيمان، ومبلِّغاً لمن بَلَغ. (أخرجه ابن عدي 3/39)

وكل إنسان لديه أهلية تامة وكل واحد إن فكَّر نبغ وكل امرئٍ وله طريق ففتش عن الشيء الذي إن فكَّرت به رُقيت... الإنسان مُهيَّأ لهذا الرقي.




من هم أنبياء الله ورسله الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين)



0502122105565qvwbhp8ku5z7n.jpg


الأنبياء والمرسلون أُناس مثلنا ولدوا كما ولدنا وأخرجهم الله من بطون أُمهاتهم كما أخرجنا، وقد جعل الله لهم أزواجاً وذُريةً. وهم والحالة هذه لا يختلفون عن البشر من حيث أصل الخليقة والتركيب الجسمي في شيءٍ، فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة: {وَقَالُوا مالِ هَذَا الرَّسولِ يَأْكلُ الطَّعَامَ وَيَمْشي في الأسْوَاقِ...} سورة الفرقان (7). وأيضاً قوله جل شأنه: {وَمَا أرْسَلنا قَبلَكَ مِنَ المُرسَلينَ إلاَّ إنَّهمْ لَيَأكُلونَ الطَّعامَ وَيمْشونَ في الأسْوَاقِ...} سورة الفرقان (20).




0502122105561vnz080f8vwterazm81.jpg



وإذا كان الأنبياء والمرسلون لا يختلفون عن الناس من حيث أصل الخلقة والتركيب الجسمي في شيءٍ، فلِمَ امتازوا على غيرهم حتى أصبحوا جديرين بتلقي رسالات ربهم ودعوة أقوامهم إلى خالقهم؟؟

أقول: لمَّا كان الإنسان في عالم الأزل قد تصدَّى وحده لحمل الأمانة طمعاً في بلوغ تلك المنزلة العليا التي عرضها الله تعالى على المخلوقات كلها، لذلك ميَّزه تعالى بجوهرة ثمينة وخصَّه بجهاز عظيم يستطيع إذا هو استفاد منه حق الاستفادة أن يتوصل إلى تلك المنزلة التي تصدى لها، ويتفوق على العالمين. وما هذه الجوهرة، وما ذاك الجهاز... سوى التفكير!

بهذه الجوهرة الثمينة، أي: بهذا التفكير تميَّز الإنسان على الحيوان وسائر المخلوقات، وبالتفكير يستطيع أن يتوصل إلى معرفة خالق الكون معرفة لا يُدانيه فيها أحد من المخلوقات، وبالتفكير يستطيع الإنسان أن يهتدي إلى الطريق القويم والصراط المستقيم، وبه يتفاضل النّاس ويُصبحون على درجات فمن كان أكثر تفكيراً كان أكثر سبقاً ورُقيّاً. وما الأنبياء والمرسلون إلاَّ أُناس تميَّزوا عن سواهم باستفادتهم من هذه الجوهرة الثمينة أتم استفادة، فقد بدأوا منذ أن بدأ وعيهم يظهر يُفكِّرون في أنفسهم وفيما حولهم، فنظروا في الأرض وما عليها، والسماء وما فيها، نظروا في الشمس والقمر والنجوم نظرات ملؤها التأمل والتفكير والإعجاب والتقدير فأوصلهم نظرهم وتأملهم وهداهم تفكيرهم إلى وجود قوةٍ عظيمةٍ ساهرة، ويد حكيمة مسيِّرة، تمد هذا الكون كلّه بالحياة والتربية وتدبِّر أموره كلّها، فلا تنقطع عنه طرفة عين ولا تغفل عنه لحظة.








050212200514bfpytj13qw7ikg1h3g3.jpg
050212200514hll5p8md63sf54jprvq8q53mm.jpg
050212200514nlp4vtjixcncr6wwgped4di3.jpg

05021220051446t3kk0m6tzcnh.jpg
050212200514u4ob0ii91kpx2gb8s.jpg


هنالك خشعت نفوسهم لهذا الخالق الكبير إجلالاً وتقديراً وسجدت لهيبته خشيةً وتعظيماً، وعكفت في أبواب محبته ومشاهدة كماله لا تبرح لحظة ولا تغيب برهة، فهم دوماً في اتجاه وإقبال وهم دوماً في مشاهدة أنوار ذي الجلال والجمال، وفي الحديث الشريف: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا...» أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/136 عن عطاء.

إنَّ هذا الإقبال الدائم على الله وهذه الاستنارة المتواصلة بنور الخالق تعالى جعلت في قلوب هؤلاء الرجال بصيرة نافذة فرأوا بنور الله تعالى الحق من الباطل، وميَّزوا الشر من الخير، وشاهدوا الطريق السوي، واهتدوا إلى الصراط المستقيم.

وكانت هذه الرؤية المستمرة والمشاهدة المتواصلة سبباً في عصمة نفوسهم من الزلل وحفظها من الخطأ، وطهارتها من الأدران ووقايتها من الوقوع في السيئات، كما كان إقبالهم الدائم على خالقهم سبباً في اشتقاق الفضيلة والكمال وامتلأت قلوبهم بالرأفة والرحمة والعطف والحنان، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمةٍ مِنَ الله لِنتَ لَهُمْ...} سورة آل عمران (159).



050212200515lysbtxb1dhmr7j0g50wk0.jpg


وبمثل هذه التقوى والإقبال على الله، وبمثل هذه الصفات الكاملة التي تحلَّت بها نفوسهم وتلك الرحمةِ التي اكتسبوها من الله صاروا أهلاً لأن يصطفيهم خالقهم وجديرين بأن يختارهم ويجتبيهم ربهم ليكونوا هُداة لخلقه قائمين بتلقي رسالته وتبليغها لعباده. قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانهُ بَلْ عِبادٌ مُكرَمُونَ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقولِ وَهُم بِأَمرِهِ يَعْمَلُونَ} سورة الأنبياء (26-27).

{وَجَعَلْنَاهُم أئمةً يَهدونَ بِأمرِنَا وَأوْحَيناْ إليْهِم فِعلَ الخَيرَاتِ وإقَامَ الصَّلاة وإيتَاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ} سورة الأنبياء (73).

والحمد لله رب العالمين:::
 
رد: عـــــــــــالم الأزل::...

050212210556zwzw0k3w6d0.png

قصة سيدنا آدم عليه السلام ـالجزء الأول

0502122005144g8972xb068ldi.jpg





آدم عليه الصلاة والسلام

أبو البشرية ومعلّمها


بعد أن نظَّم الله تعالى الدنيا على الكمال...

أراد خلْق آدم عليه الصلاة والسلام ليُسعده هو وذرِّيته...


"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"




سنبدأ في الجزء الأول من قصة سيدنا آدم عليه السلام بالتعرف على النقاط التالية:



- من هو آدم عليه السلام؟ ولماذا اصطفاه تعالى؟
- هل حقّاً اعترضت الملائكة على خالقها لمنحه مقام الخلافة لآدم عليه السلام
- ما حقيقة الأسماء التي علّمها الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم؟


- آدم عليه السلام ينبئ الملائكة بأسمائهم
- معنى الغيب
- توضيح لا بد منه




من هو آدم عليه السلام؟ ولماذا اصطفاه تعالى؟




05021220051441vfs4tzscq.jpg


آدم هو أوَّل إنسان أوجده الله تعالى على سطح هذه الأرض، وجعله أباً للبشر جميعاً، فمنه نسل النَّاس كلّهم وإليه ينسبون، وهو صلى الله عليه وسلم أوَّل الأنبياء والمرسلين، وبه بدأ الله تعالى النبوة والرسالة كما ختمها بسيدنا محمَّد صلوات الله عليه، قال تعالى في سورة آل عمران (33): {إنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}: هذه الأسر اصطفاها على العالمين ليرشدوا الخلق إلى الله.

كيف هذا الاصطفاء! لقد بيَّن الله عز وجل: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}: كلهم في الأصل واحد، كلهم أولاد آدم، لكن {وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: ما اصطفاهم جزافاً، بل إنه سميع لقولهم، عليم بحالهم ونيتهم، كلامهم عالٍ وحالهم عالٍ لذلك اصطفاهم، فكل من تكلم بحق الأنبياء، معناه أنه ينفي كلمة أن الله سميع عليم، فكأن الله لا علم له بآدم حتى اصطفاه. وهذا غير صحيح. الله تعالى اصطفاهم لعلوِّ نفوسهم وكمالهم: المرشد يجب أن يكون كاملاً.

فالذي يتكلم بحق الأنبياء معناه أنه لا إيمان عنده ولو حصل له إيمان بأن الله سميع عليم لما تكلَّم سوءاً بحق رسل الله. لأن الله سميع بكلِّ مخلوق عليم بحاله: اصطفاهم لطهارتهم وعلوِّ نيّتهم.

وقد خلق الله تعالى سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم على الأرض من تُراب ثمَّ سواه ونفخ فيه الروح فإذا هو إنسان كامل وبشر سوي، قال تعالى: {إنَّ مَثَلَ عِيسى عِندَ اللهِ كَمَثلِ آدمَ خَلَقهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} سورة آل عمران (59).

{الذي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ} سورة السجدة (7).

وقد بدأ الله تعالى خلق الإنسان من تراب أي من الأرض لتكون هناك موافقة بينه وبين الأغذية التي منها بناء جسمه وعليها نماؤه، فالنباتات والفواكه والأغذية كلها إنما تنشأ من التراب وإليه تعود، وكذلك جسم الإنسان نشأ في أصله من التراب وإليه يعود... وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {مِنهَا خَلَقنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} سورة طه (55).

050212200514sgqnrk4hqnkxhc0vmmw73.jpg



"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّنتُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}

سورة الروم (20)



وبما أنَّ الإنسان في عالم الأزل تصدَّى لذلك المقام العالي الذي يصل به إلى أسمى درجات المعرفة بربِّه ويُصبح جديراً بنيل أكبر قسط من تجلِّيه تعالى وحيث أنَّ آدم صلى الله عليه وسلم كان في ذلك اليوم العظيم من أولئك الرجال الصادقين الذين اشتقوا بإقبالهم العالي على الله العدل والحكمة والرأفة والرحمة وسائر صفات الكمال لذلك اختاره ربُّه بما علمه فيه من صدقٍ وسبقٍ في ميادين الحبّ والإقبال، وبما علمه فيه من الاستعداد للكمال لأن يكون خليفته في أرضه يُبلِّغ النّاس بالنيابة عنه تعالى شريعته التي فيها خيرهم وسعادتهم كما يكون لهم سراجاً منيراً يشهدون بصحبته كمال وجمال من هو في الأصل منبع كل جمال وكمال ذلك هو مقام الخلافة الذي كان عليه آدم صلى الله عليه وسلم حقيقاً به وأهلاً له، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {وإذْ قَالَ رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ في الأرضِ خَلِيفَةً} سورة البقرة (30).



هل حقّاً اعترضت الملائكة على خالقها لمنحه مقام الخلافة لآدم عليه السلام!

الملائكة: جمع مَلَك، وهم نوع من المخلوقات لمَّا عرض الله تعالى على الأنفس في عالم الأزل أن يمنحها حرية الاختيار أحجموا كما أحجم غيرهم عن الدخول في ذلك الميدان الذي دخله الإنسان ورضوا أن لا يكون لهم إطلاق وحرية في الاختيار. لقد ملَّك هؤلاء اختيارهم لله ولذلك سُمُّوا ملائكة. وبما أنهم ليس لهم أجسام كما للإنسان ولذلك فهم مجرَّدون عن هذه الشهوات المادية التي يميل الإنسان إليها، وليس لهم تلك الحاجات الجسدية، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون ولا يتوالدون ولا يميلون لشيء من هذه الأشياء.

ولمَّا قال ربُّك للملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} طمعوا أن ينالوا ذلك المقام لأن الخليفة معناه ذلك المخلوق العالي الذي يكون أهلاً للنيابة عن الله تعالى في تبليغ عباده أوامره وتعريفهم به تعالى والدخول بهم عليه، فبما اكتسبه سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم من خالقه من رأفة ورحمة وعلم وحكمة وعدل وحب للحق وسموٍّ في الخُلُق وغير ذلك من صفات الكمال صار أهلاً لأن يقوم بذلك المقام فيكون خليفة الله في أرضه ويُقيم العدل ويحكم بين الناس بالحق وينشر الخير والصلاح في الأرض.

وقد أشارت الآية الكريمة إلى ذلك في قوله تعالى مخاطباً داوود عليه السلام: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ...} سورة ص (26).

والخليفة كما يتولَّى منصب الحكم يتولى منصب الدلالة والإرشاد، قال تعالى في سورة الأنعام (89): {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ والحُكْمَ والنُّبُوَّةَ...}، إذ بما اكتسبه من دلالات ربه وأسمائه الحسنى وبما انطبع في قلبه من حب لخالقه وشغف به أضحى خليقاً بأن يكون وسيطاً بين الخلْق وبين الله يبلِّغهم أوامره تعالى ويعرِّفهم بكمالاته وأسمائه الحسنى ويرشدهم إلى طريق معرفته، فإذا ما ارتبطت نفوسهم به وأقبلت بمعيَّته دخل بتلك الأنفس على الله تعالى وكان لها سراجاً منيراً ترى به طرفاً من تلك الأسماء الإلهية وتشاهد الكمال الإلهي فتحبّه وتعشقه وهنالك تقتبس به من الله نوراً ترى به الخير خيراً والشر شرّاً.

050212200514qh4dq94z7wp.jpg



الرسل الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) خلفاء الله في أرضه، والوسطاء للعروج بالأنفس المؤمنة إلى الحضرة الإلهية العلية




فالخليفة والحالة هذه هو من الخلْق بمنزلة الأب العطوف على بنيه أو الأخ الراشد من إخوته وذويه، أشفقهم وأعطفهم عليهم وأرأفهم وأرحمهم بهم وأنفعهم لهم وهو بهذا أحب الخلْق إلى الله وأحظاهم عنده وأرفعهم شأناً إليه وأقربهم زلفى لديه. ذلك هو مقام الخلافة الذي أهَّل الله تعالى له الإنسان وطمعت به الملائكة الكرام.

وقد أخبر تعالى ملائكته بهذا الإخبار تعريفاً لهم بمكانة هذا المخلوق الكريم لترتبط نفوسهم بهِ وتُقبل على خالقها بصحبته فتزداد بهذا الخالق معرفة وفي الكمال الإلهي شهوداً.

وحيث أنَّ الملائكة رأوا ما فعله إبليس وذريته من قبل وما ظهر من الفساد في الأرض بإعراضهم عن الله، لأن خلْق الجن قد سبق خلْق الإنسان وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} سورة الحجر (26-27).

050212200514clk988i97kvmud2e0ei8pz8.jpg



"وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}

سورة الجن :6




ولذلك خاطب الملائكة ربَّهم بنفوسهم قائلين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}: أي أيصدر من هذا المخلوق ما صدر من الجن ويفعل ما فعله إبليس وذريته من الفساد في الأرض وسفك الدماء من قبل؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}: أي نجعل نفوس عبادك تسبح في فضلك بما نلقيه فيها من التعريف بإحسانك وما تُحمد عليه من عظيم عنايتك. فالمَلَك يُلقي الإلهام بنفسك: يا عبد الله ارجع إلى الله، فكِّر ابحث عن سعادتك، يا نفس اسمعي كلام الله، انظري في الكون استدلي على الله. {وَنُقَدِّسُ لَكَ}: أي: وبهذا نجعل نفوسهم طاهرة بإقبالها عليك، أي: نطهِّر نفوسهم لك، نسبِّحهم بما تُحمد عليه ونطهِّر قلوبهم لتكون صالحة للإقبال عليك. فإن جعلتنا خلفاء ظهر منا الخير لعبادك وكنا وسطاء في إيصال نفوسهم إليك والدخول بها عليك.

وهنالك خاطبهم ربُّهم بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}: أي: إني أعلم من قابلية هذا الإنسان وأهليته ما لا تعلمون. آدم أعلى منكم وأرقى منكم وكذلك المؤمن الكامل أرقى من الملائكة الكرام. فالإنسان لديه أهلية لأن يكون أعلى من كل شيء، لكن الكافر أحطُّ من كل شيء، هذا والحيوان جاء وأدَّى الوظيفة فهو يُجازى في الدنيا على شذوذه عنها، وغداً لا نار له، جزاؤه هنا فقط، لكن الكافر غداً للنار: فالكلب خير من كثير من الخلْق ممَّن كفروا.




ما حقيقة الأسماء التي علّمها الله عز وجل لآدم صلى الله عليه وسلم؟



050212200514k1b4ukeh565fdwvah5.jpg


وخلق الله تعالى سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم وأخرجه إلى هذا الوجود، وقد عظَّم صلى الله عليه وسلم فضل خالقه عليه وقدَّر إحسانه إليه وبهذا التقدير والتعظيم اتَّجهت نفسه إلى الله تعالى مقبلة عليه. وبما أن النفس البشرية مثلها كمثل المرآة الصافية حيثما وجَّهتها انطبعت فيها آثار ما اتَّجهت إليه، لذلك انطبعت في نفس سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم انطباعات من الأسماء الإلهية وبهذا صار له علم بها كلها وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}: الرحيم، العليم، القدير، الحليم... أسماء الله الحسنى: تلك هي الأسماء التي علَّمها الله تعالى سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم إنما هي أسماء الحضرة الإلهية التي تجعل ممَّن سيكون خليفة الله في الأرض حقيقاً بذلك المقام جديراً بهذا المنصب، فإنَّ من صار له علم باسم الله تعالى الرحمن بما انطبع في نفسه من الرحمة الإلهية يضحي جديراً بأن يكون خليفة الله في خلْقه، قال تعالى مشيراً إلى هذه الناحية مخاطباً رسوله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} سورة آل عمران (159).

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} سورة التوبة (128).

فبما انطبع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرحمة التي اكتسبها بإقباله على خالقه صار ليّناً مع الخلْق، لطيفاً في معاملتهم، حريصاً على هدايتهم ودلالتهم، رؤوفاً رحيماً بهم وذلك ما يتطلَّبه مقام الخلافة من صفات تحقَّقت في نفس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفي نفس سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم من قبل، لا بل في نفس كل رسول ونبي ومرشد كلٌّ على حسب إقباله على خالقه وقربه منه، ومن لم يحصل له الإقبال على الله ولم تنطبع في نفسه تلك الأسماء الإلهية فلم يكتسب من خالقه الرحمة والرأفة والعدل والحلم والحكمة وغير ذلك من الصفات الكاملة فليس أهلاً لأن يقوم في ذلك المقام.



0502122005146wol5nd0pmmiw7rmesaedctm.jpg


وقد أشار تعالى إلى تحقُّق هذه الصفة في نفوس أصحاب رسوله الكرام في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...} سورة الفتح (29).

ونعود إلى الكلام عن سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم فنقول: لقد صار لسيدنا آدم صلى الله عليه وسلم علم بأسماء الله تعالى الرحمن والعادل والرؤوف والحليم والغفور... إلى غير ذلك من الأسماء الإلهية بما انطبع في نفسه الصافية منها، فكان رحيماً وكان عادلاً وكان حليماً وكان وكان... وبذلك استحق لأن يكون أهلاً لذلك المقام.

أما ما يذهب إليه أناس من أن الله تعالى علَّم سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم القصعة والقصيعة وأسماء الحيوانات والنباتات وغير ذلك من الموجودات، فذلك بعيد كل البعد عن ذلك المعنى العالي التي تشير إليه الآية الكريمة، كما أنَّ مسرى الآيات ينفي ذلك نفياً قطعياً، فإن المقام الذي يقوم فيه سيكون خليفة الله في أرضه وهادياً ومرشداً لعباده لا يتطلَّب منه أن يعلِّمه الله اسم القصعة والقصيعة إنما يتطلَّب منه أن يكون مصطبغاً قلبه بالرأفة والرحمة وغير ذلك من الصفات الكاملة.






آدم عليه السلام ينبئ الملائكة بأسمائهم
ثم إن الله تعالى أمر سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم أن يعرض على الملائكة الأسماء الإلهية التي اصطبغت نفسه بصبغتها وانطبعت بانطباعات منها.

وعرض سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم على الملائكة تلك الأسماء وذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ}: فسألهم سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم عن معاني أسماء الله الحسنى: القدير، الحليم، العليم، الرحيم...

0502122005140cru1y10hu10b.jpg





وقد طلب تعالى من الملائكة أن ينبؤوه بما تدلُّ عليه تلك الأسماء: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ}: أي: أخبروني بمدلولات ومعاني الأسماء التي عرضها عليكم آدم، فما المعنى المنطوي مثلاً تحت اسم المهيمن والجبَّار والقهَّار... إلى غير ذلك من الأسماء، اسماً بعد اسم. {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}: في أنكم أهل للخلافة. فما كان منهم إلاَّ أن: {قَالُوا سُبْحَانَكَ}: ما أعظم كمالك وما أعظمك! {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}: أي: لا علم لنا أكثر ممَّا علَّمتنا، فقد أجبنا بحسب ما علمناه بإقبالنا عليك وبحسب صدقنا معك. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ}: بنا وبدرجة علمنا بأسمائك. {الْحَكِيمُ}: عملك كله ضمن حكمة. فأنت الحكيم بفعلك واختيارك. فما قلنا ما قلناه اعتراضاً إنما طمعاً في ذلك المقام، طمعاً بغية التقرُّب إليك وأنت أدرى وأعلم بمن هو بهذا المقام أجدر وَأَلْيَق.

هنالك أمر الله تعالى سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم أن يُعرِّف الملائكة بتلك الأسماء الإلهية التي عرضها عليهم، {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}: تكلَّمْ عن أسمائي الحسنى التي شرحوها وتكلَّموا عنها: أي: عرِّفهم بالأسماء التي عرضتها عليهم.

{فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}: فلمَّا عرَّفهم آدم صلى الله عليه وسلم بالأسماء الإلهية المعروضة عليهم مفصِّلاً مبيِّناً عِلْمَه بتلك الأسماء الإلهية وتفوُّقه على الملائكة في ذلك العلم والبيان فبيَّن ما ينطوي فيها من كمالات الله تعالى بحسب إقباله العظيم على ربِّه كلاماً سبق به الملائكة أجمعين فظهر تفوّقه عليهم، هنالك خاطبهم ربُّهم بما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}: آدم أعلى منكم. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}: الآن من الإقرار بالحق لآدم. {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}: من طلبكم الخلافة لأنفسكم.
 
رد: عـــــــــــالم الأزل::...

معنى الغيب

الغيب: كل ما غاب علمه عن المخلوق. فكل ما وقع وما سيقع، وكل ما أوجده الله تعالى وما سيوجده في السماوات والأرض مما لا علم للمخلوق به ولا إطلاع له عليه إنما هو غيب. والله تعالى يعلم غيب السماوات والأرض لأنه تعالى هو الخالق الموجد وكل ما فيهما قائم به تعالى مستمد الحياة منه، متوقِّف بقاؤه ووجوده وحدوثه على دوام إمداد الله وتجلِّيه.


050212200514lufre6htgiuv6mt2f.jpg
050212200514g9uo7duwey2rcw7nkfm0lda.jpg










وهو تعالى عليم بكل نفس وبما انطوت عليه، فقد علم تعالى ما انطوت عليه نفوس الملائكة من العلم والوظيفة التي تتناسب مع علمهم، كما علم تعالى أهلية هذا الإنسان العظيم صلى الله عليه وسلم وقابلياته.

أما المخلوق فلا علم له إلاَّ بما يُطلعه الله تعالى عليه، فقد يغيب عنه مثلاً ما في نفسه وقد تخفى عليه درجة علمه ومعرفته كما وقع للملائكة لمَّا طلبوا الخلافة، إذ ظنُّوا أن لديهم الأهلية لذلك المقام وغاب عنهم ما عليه سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم من سبق وتفوُّق في ذلك المضمار، وهنالك أراهم الله تعالى الحقيقة وبيَّن لهم درجة علمهم وأوقفهم على جلية الأمر.

ويتبيَّن لنا من كلمة {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} الواردة في قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أن قول الملائكة عندما قالوا: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} إنما كان قولاً نفسياً. فقد قالوا ذلك في سرِّهم وكتموه في أنفسهم فاطَّلع الله تعالى عليه وخاطبهم به وأراهم من علم سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم ما أراهم حتى جعل نفوسهم تقرُّ بحكمته تعالى وتخضع لاختياره وعلمه، مستسلمة له مذعنة إليه.

وكما أن كلمة {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تبيِّن لنا علمه تعالى بما أبداه الملائكة الآن من الإقرار بالحق لآدم صلى الله عليه وسلم، وأظهروه من التسليم لله والإقرار بحكمته في اختياره، فكذلك كلمة {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} من طلبكم الخلافة لأنفسكم، وتبيِّن لنا علمه تعالى بما كتموه وأسرُّوه في أنفسهم.

وقد ذكر لنا تعالى هاتين الكلمتين ليبيِّن لنا أن علمه بالسر الذي يخفيه المخلوق في نفسه لا يختلف عند الله تعالى عن الجهر الذي يبديه بلسانه، فالجهر والسر عند الله تعالى سيَّان. قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} سورة طه (7).

{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} سورة الملك (13-14).



توضيح لا بد منه

والآن وبعد أن بيَّنا المراد من كلمة {الأَسْمَاء} الواردة في الآيات السابقة لا بدّ لنا من الإجابة على سؤال نستطيع أن نلخِّصه بما يلي:

فإذا أوَّلنا قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}: أي: أنبئهم بأسمائي التي عرضتها عليهم، مع أن الكلمة قد وردت في الآية الكريمة {بِأَسْمَائِهِمْ} ولم ترد بأسمائي فنقول:

رأينا أن الهدف التي ترمي إليه القصة والغاية التي وردت من أجلها إنما هي بيان سمو سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم وتفوّقه على الملائكة الكرام في العلم بأسماء الله، ذلك التفوُّق الذي جعله خليقاً بمقام الخلافة. وقد كنا بيَّنا أن ذلك الهدف يقضي بأن يكون المراد من كلمة {الأَسْمَاء} الواردة في هذه القصة إنما هو الأسماء الإلهية، وإن مسرى القصة ينفي ما سوى ذلك من المعاني التي تتناولها كلمة {الأَسْمَاء} نفياً قطعياً، ولهذا فتكرار كلمة {الأَسْمَاء} في هذه القصة إنما يعني الأسماء الإلهية دون سواها، إذ هي موضوع الخطاب ومحور القصة.

وكلمة {بِأَسْمَائِهِمْ} لا تعني والحالة هذه أسماء الملائكة، إنما تعني الأسماء الإلهية المعروضة عليهم لأن معرفة سيدنا آدم صلى الله عليه وسلم بأسماء الملائكة لا يزيده عند الله رفعة ولا يجعله أسمى من الملائكة منزلة.

ولعلَّك تقول:

لماذا لا نؤوِّل كلمة {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي: بما عرفوه هم من أسماء ربهم فنقول:

لو أوَّلنا معنى الآية بهذا التأويل لما كان لسيدنا آدم صلى الله عليه وسلم تلك المكانة التي سما بها متفوِّقاً على الملائكة جميعاً لأنه إنما أنبأهم بشيء عرفوه من قبل وأدركوه، وبهذا لا يكون خليقاً بأن يستحق الخلافة ويكون أسمى منهم مقاماً لأنه لم يزد على شرح الملائكة للأسماء المعروضة عليهم شيء، وما هو بذلك البيان إلاَّ كواحد منهم، ولكنه إنما أنبأهم بتلك الأسماء الإلهية المعروضة عليهم مبيِّناً فيها بياناً عالياً تفوَّق به عليهم جميعاً.

بقي علينا أن نبيِّن الفرق في المعنى بين كلمة {بِأَسْمَائِهِمْ} حسبما وردت في الآيات الكريمة، وبين كلمة "بأسمائي" التي جعلناها موضوعاً لسؤالنا الذي نحن بصدده فنقول:

لو أن الخطاب في الآية الكريمة قد جاء "أنبئهم بأسمائي" بدلاً من {أنبئهم بأسمائهم} لاختلف المعنى اختلافاً كلِّياً، لأن كلمة "أنبئهم بأسمائي" معناها أنبئهم بكل اسم من أسمائي على وجه الإحاطة.



050212200514dbw59vansns0mvto2ppqr.jpg


وبما أنه ليس يستطيع مخلوق أن يحيط باسم الرحمن فيعلم مبلغ رحمة الله تعالى فيُنبِّئ الخلْق بها، وليس يستطيع أن يحيط أحد باسم العليم فيعلم علم الله تعالى وينبئ الخلْق به وكذا سائر الأسماء الإلهية، ولذلك لم ترد الآية "أنبئهم بأسمائي" إنما وردت {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} أي: بأسمائهم التي عرضتها عليهم والتي شرحوها هم مبيِّناً مبلغ علمك منها، وما ينطوي فيها من الكمال بحسب إقبالك العظيم.

والحقيقة أنه لا يعلم أسماء الله إلاَّ الله تعالى ولا يحيط أحد بها علماً، إذ لا حدَّ لها ولا انتهاء، وكل ما في الأمر أن الأسماء الإلهية إنما يشاهد الإنسان منها بقدر قربه من الله تعالى ويتوسَّع في تعريف غيره برحمة الله ورأفته وعلمه وسائر أسمائه وذلك إلى حدٍّ ما والله واسع عليم.

فكلَّما وصلت إلى درجة من العلم بأسماء الله فهي أوسع وأوسع، وكلما بلغت مرتبة في ذلك المضمار فربّك سبحانه أعلى وأرفع وفوق كل ذي علمٍ عليم.

والحمد لله رب العالمين


 

أحدث المواضيع

أعلى